الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرهان القومي- أكتوبر 1917:انقلاب أم ثورة اجتماعية؟ مشروعية الثورة الروسية- الفصل الثالث

إرنست ماندل

2013 / 10 / 20
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



الفصل الثالث: الرهان القومي

لقد تمت إطاحة النظام القيصري في شباط/فبراير 1917، أي قبل ثورة أوكتوبر بثمانية أشهر. في ذلك الحين، بالضبط، ولدت السوفييتات، مجالس العمال، والجنود. مع ذلك، لم يكن البلاشفة، في بداية تلك المرحلة الحاسمة، يحوزون الأكثرية في السوفييتات ولم يكونوا في مواقع السلطة. إن قوى سياسية، برجوازية ليبرالية ومنشفية، هي التي شكلت الحكومة المؤقتة وسنحت لها الفرصة لإثبات قيمتها. والحال أنها تكشفت عاجزة عن حل المشكلات الشائكة التي طرحها الوضع إن هذا العجز هو الذي يفسر تزايد نفوذ البلاشفة التدريجي وظهور وضع جديد ثوري في الخريف.

لم يكن السلم الفوري المهمة الوحيدة التي واجهت الحكومة المؤقتة. كان السكان يحسون بإلحاح مشكلات أخرى، وكانت السوفييتات قد التزمت بحلها من دون إبطاء [دون أن يعبر ذلك دائما عن نفسه بالتحاق واعٍ بسلطة السوفييتات من جانب الجماهير].

كان ذلك صحيحا بوجه خاص على صعيد مسألة الأرض، ومسألة البؤس العمالي، ومسألة المؤسسات السياسية.

ففي هذه الميادين الثلاثة الرئيسية للحياة الاجتماعية-السياسية، كانت روسيا تجر خلفها إرثاً من الهمجية، والتخلف، تنضاف إليه انعكاسات تصنيع شديد السرعة، ومتوحش، ومفروض بعصا الاستبداد السلطوي.

إن فضل ثورة أوكتوبر التاريخي يكمن في أنها أتاحت التنظيف السريع لزرائب أوجياش (*)، التي أنتجتها القصيرية، وكانت تعاني منها الغالبية العظمى للشعب الروسي، أسير شروط لا إنسانية.

يكفي أن نصف هذه الشروط لنلاحظ مجدداً نفاق، لا بل سخرية كل من يحمِّلون ثورة أوكتوبر مسؤولية البؤس الذي امتد في روسيا وتوسع حتى بداية العشرينات.

المسألة الزراعية

لقد تلازم إلغاء القنانة في عام 1861 مع عبء ثقيل جداً جرى تحميله للفلاحين. كان يمكن تقدير أن المردود المرمل للأراضي التي تلقاها الفلاحون آنذاك يصل إلى 648 مليون روبل ذهبي. لكن فُرض عليهم مبلغ إجمالي للتخالص هو 867 مليون روبل. وكان على الفلاح أن يدفع فضلاً عن ذلك ضريبة زراعية بقيمة 1.56 روبل بالدسياتين (الدسياتين قياس مساحة يساوي 2.7 أكر). وهو ما يساوي بصورة إجمالية 170 مليون روبل، في حين أن الملاكين الخاصين النبلاء والبرجوازيين لم يكونوا يدفعون، من جهتهم، إلا 0.23 روبل كضريبة بالدسياتين.

وفقا لتحقيق عام 1902 تراوحت المبالغ التي كان على الفلاحين أن يدفعوها ما بين 50 و100% من الدخل الصافي للمزرعة، بحب قياسات هذه الأخيرة.

فضلاً عن ذلك، فخلال توزيع الأراضي، كان الملاكون العقاريون قد تملكوا أراضي جيدة، كانت في السابق بتصرف الفلاحين، حيث أنهم لم "يمنحوا" هؤلاء، في أغلب الأحيان، غير حق شراء الأراضي الأقل خصباً.

مقابل هذه الضريبة الباهضة، لم يحصل الفلاحون عملياً على شيء من الدولة القيصرية. ففي المناطق الداخلية من روسيا الوسطى بقيت شروط الحياة والعمل على ما كانت عليه قبل ألف سنة. لم يكن مردود الهكتار فيها غير ربع قيمته في بريطانيا العظمى، وأقل من الخمس بالنسبة لمتوسط المزارع الفلاحية (أي من دون أن نأخذ بالحسبان الحقول التي يستثمرها النبلاء والبرجوازية) (1).

ضمن هذه الشروط، كان ضغط الريع والضريبة المرفوض دفعها، عاماً بعد عام، يمنع الفلاحين من تخزين احتياطي. وهو الأمر الذي أدى من جهة، إلى استنفاد تدريجي لخصب الأرض عن طريق فرط الاستثمار [نرى هكذا أن تاريخ المشكلات البيئية لا يعود إلى العهدذ الستاليني!] وتسبَّب من جهة أخرى بمجاعات دورية، لدى كل موسم سيّئ. والأسوأ كان موسم عام 1891.

ولقد كان أخطر بكثير من هذا العبء المالي، غير الممكن احتماله بحد ذاته، النقص في الأرض. فقلد أمكن تقدير أن مساحة مزرعة قادرة على تأمين الغداء لعائلة فلاحية كانت 6.5 إلى 7 دسياتين. [لكن] الفلاحين المشتغلين بتلك الأراضي التي كانت في السابق ملكاً للنبلاء أو أميرية لم يحصلوا إلا على 3.17 و4.9 دسياتين. ونظرا للحركة الديمغرافية والنزوح الريفي المحدود جداً، كان متوسط مساحة الأرض الموجودة بتصرف كل فلاح راشد يصل إلى 4.83 دسياتين عام 1861 و3.1 دسياتين عام 1905. حوالي خمسة ملايين راشد في الريف لم يكونوا قادرين فعلاً على استخدام قوة عملهم، حتى عند أسفل مستوى من الإنتاجية المتوسطة. كان الفلاحون بحاجة إجمالا لـ 60 إلى 70 مليون دسياتين أرض إضافية.

والحال انه، في عام 1905، وإزاء المئة واثني عشر مليون دسياتين تقربا التي كانت في تصرف الفلاحين، كان هنالك 101.7 مليون دسياتين بين يدي النبلاء، والإكليروس والبرجوازية، و145 مليوناً أراضي دولة وأراضٍ أميرية. أما المشاريع الزراعية التي يزيد الواحد منها عن 50 دسياتين (15 مرة أكبر من المزرعة الفلاحية المتوسطة) فكانت تَشغَل لوحدها ما مجموعه 80 مليون دسياتن.

والخلاصة واضحة: لم يكن في وسع الفلاحين أن يحصلوا على الأرض التي تنقصهم إلا بالإلغاء الجذري للملكية الكبرى للنبلاء والبرجوازيين.

طالما بقيت تلك الثورة الزراعية من دون تحقيق، لم يكن في وسع الفلاحين إلا أن يستمروا في استئجار أراضٍ عائدة للملاكين الكبار. وفي نهاية القرن التاسع عشر، في المنطقة المسماة "الأرض السوداء" (قلب روسيا)، أجر هؤلاء 50% من أراضيهم للفلاحين، وما بين 30 و40% في الجزء الباقي من البلد. كان سعر إيجار الأرض مرتفعاً جداً، ويبلغ أحياناً 50% من الموسم.

إذ أضفنا ثمن إعادة الشراء، وعبء الضريبة وعبء الريع، نحصل على عبء إجمالي على الفلاحين يستتبع الإفقار المحتوم لغالبية العائلات في الريف. لقد انخفض ما بين 1888 و1898 عدد الأحصنة التي يمتلكها الفلاحون من 19.6 إلى 17 مليونا؟ً، وعدد الأبقار من 34.6 إلى 24.5 مليوناً. وزاد عدد المزارع المفتقرة إلى حصان بنسبة 22% خلال الفترة نفسها (كل هذه الأرقام مأخوذة من تحقيقات رسمية في تلك الفترة).

يصحِّح تيودور شانين برويّة، بلا ريب، الإحصاءات التي استخدمها لينين في نصه العائد لعام 1908، بعنوان "البرنامج الزراعي للاشتراكية-الديمقراطية خلال الثورة الروسية الأولى"، فيقدم الجدول التالي لتوزّع الفلاحين في وروسيا الأوروبية حوالي عام 1905 وفقاً للملكية:

- 15.8% من عائلات الفلاحين موسورين تملك 15 دسياتين أو أكثر.
- 51.8% من عائلات الفلاحين تملك ما بين 7و15 دسياتين.

- 32.4% من عائلات الفلاحين الفقراء تملك أقل من 7 دسياتين.

(يتعلق الأمر في كل مرة بالملكية بالعائلة لا بالفرد من السكان).

وهو يستخلص أنه كان هناك في روسيا كمعدل في الفترة ما بين 1897 و1905.

بين 0.8 و1.2% من المزارعين الرأسماليين (من 5.1 إلى 7.6% من السكان الفلاحين).

بين 8 و6% من العمال من دون أرض (من 3 إلى 4% من السكان الفلاحين)

- بين 2.6 و3.9% من الفلاحين الأغنياء

- بين 12.4 و10.7% من الفلاحين الموسرين

- 51.8% فلاحون متوسطون

- بين 24.2 و26.4% من الفلاحين الفقراء (2).

كان الفقراء يمثلون إذاً ثلث سكان الأرياف.

كانت الهمجية والبؤس اللذان كان الفلاحون يعيشون فيمهما في ظل القيصرية يعبران عن نفسيهما بوضوح في مستوى استهلاكهم. فعلى أساس الشخص الواحد، كانت المزرعة الفلاحية المتوسطة تخصص، خارج نفقات الغداء والسكن، 5.5 روبل في العام للبس، و2.5 روبل للحاجات الثقافية-الروحية، و1.4 روبل لحاجات مادية أخرى. كانت عائلتان فلاحيتان مؤلفة كل منهما من ستة أشخاص، أي ما مجموعه 12 نسمة في الريف القيصري، تستهلكان القدر نفسه الذي يستهلكه عامل أمريكي واحد (من دون عائلته) حوالي عام 1905. أي فرق من 1 إلى 12 (وفي تلك الفترة، كان استهلاك عامل أمريكي، بالطبع، أدنى بكثير مما هو اليوم).

إن تصدير روسيا الكثيف للقمح، وكان مصدراً رئيسا لعملاتها الصعبة قبل تصدير النفط، لم يكن ممكناً إلا لأن ضغط الريع والضريبة كان يجبر الفلاح على بيع القمح حتى إذا لم يكن يأكل حين يجوع. ولو كان أمكن القمح أن يغطي كلياً حاجات الاستهلاك لديه، لكانت روسيا أصبحت بلداً مستورداً لا مصدِّراً له.

في الكتاب حول روسيا الذي بات كلاسيكيا، والذي كتبه المحافظ جداً السير دونالد ماكنزي والاس، ممثل الاستبليشمانت البريطانية لواقع تحت إغرائها، يلخص هذا الأخير تدهور وضع الفلاحين الروس بالمعطيات الآتية: إن متأخرات الضرائب السنوية (أي مقدار الضرائب غير المدفوعة) ارتفع من 0.9 روبل بالشخص الذكر عام 1882 إلى 6 روبل عام 1893، فإلى 22 روبلاً عام 1899 في المقاطعات السبع لمنطقة الأرض السوداء (3).

البؤس المديني

لم يكن البؤس العمالي والمديني أقل حدة. وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى شروط السكن. إن أناتول كوب يستند إلى المؤلف السوفييتي ج. بوزيس ليؤكد انه في الـ131 مدينة القائمة على الأرض التي شكلت الجمهورية الاشتراكية الاتحادية لسوفييتات روسيا (ج.ا.ا.س.ر):

"كان 9% فقط من البيوت موصولا بشبكة [مجارير]. ومن أصل 195 ألف بيت، الموجودة في 213 مدينة في ج.ا.ا.س.ر. والتي كانت لها قبل الثورة شبكة توزيع للماء، 12.5% منها فقط كانت موصولة بالشبكة" (4).

في عام 1912، كان عدد الأشخاص بالشقة 8.7 في موسكو، وحوالي 8 في بتروغراد، مقابل 3.6 في برلين، و4.2 في فيينا، و2.7 في باريس (5).

كان يوم العمل المتوسط يبلغ معدل عشر ساعات، من دون حسبان ساعات إضافية عديدة. وبحسب المؤرخ بروكوبوفيتش، كانت بتروغراد تحتاج عام 1909 إلى ثلاثة أضعاف الأجر السنوي المتوسط لإعالة أسرة بشكل محتشم. كان البؤس العمالي كبيراً جداً إذاً. ففي عام 1908، كانت أسرة عمالية تنفق 48% من مداخيلها على الغذاء (غير الكافي في كل حال)، و21% على السكن (البائس عموما)، و15% على الألبسة. ولتلبية الحاجات الأخرى وقبل كل شيء العناية الطبية والتعليم، حتى البدائي، لم يكن بقي إلا بالكاد 15% من الأجر الهزيل.

كان بوكروفسكي يقدِّر أنه بين 1892 و1902، انخفض الأجر الفعلي للعامل الروسي بنسبة 20% (6). وفي طبعة لاحقة موسعة لمؤلفه، يصنف هذا المؤرخ الشيوعي، الذي امتدحه لينين كثيراً، شروط الحياة البائسة للعمال الروس في نهاية القرن التاسع عشر:

"63.7% من العمال كانوا أميين [...] وفي فبارك موسكو، كانت شغيلة النسيج مجبرين دائما تقريبا على النوم على نولهم. كانت كل العائلة تنام في الواقع على تلك الأنوال التي طولها متران ونصف وعرضها متران. كان عليهم أن ينظفوا الغرف الوسخة بثيابهم. وكان أرباب العمل يقولون للطبيب إن الشغيلة "يحبون" العيش هكذا [...]".

"إن الطبيب الذي حصلنا منه على [هذه] المعلومات عن عمال النسيج أصبح مفتشاً، ولنقل عابرين إن هذا الواقع الجديد غيَّر موقفه فوراً. فبعد عامين، وصف السكن العمالي لغالبية منشآت حكومة فلاديمير على الشكل التالي: تلوث، هواء رديء، عائلتان في غرفة لها أو نافذتان [...]"

"كان العامل [الروسي] يتغذى آنذاك بشكل اقل جودة من [الألماني] بعد الحرب الامبريالية، وسط الحرب الأهلية والحصار. كان غذاؤه المعتاد يتكون من اللحم المملح، والسمك المدخن. اللحم الطازج الوحيد المتوفر كان جلد الذبيحة وأكارعها وبطنها [...] ضمن شروط الحياة والسكن هذه، كانت الأمراض تصيب العمال. وفي ورش النسيج في موسكو، كانت 134 امرأة من أصل ألف مصابة بالسل. فضلاً عن ذلك، كان هناك "وباء" يسميه الأطباء "رضياً" و"بروليتارياً" بالكامل: إنه الجروح [...]. وفي منشأة نسيج [كبرى]، لم تكن تبقى، في مهلة ثلاث سنوات، غير عاملة من أصل ثلاث لم تصب بجروح" (7).

كان معدل موت الأطفال في الأحياء العمالية بشكل أساسي في بتروغراد يصل على الأقل إلى ضعف معدل موتهم في الأحياء "المختلطة". وحوالي ربع الأطفال المولودين في العاصمة كانوا يموتون قبل بلوغهم العام (8).

إذا اعتبرنا أن هذه الأوصاف ذات المصادر الماركسية مبالغ بها، هاكم حكم مؤرخ برجوازي معتدل جداً:

"غالباً ما يؤكدون أن أكواخ بريطانيا بلغت درجة من اللاإنسانية لا يمكن أي مجتمع آخر أن يضاهيها. وهذا صحيح بمقدار ما كان البؤس الأشد في انكلترا، وسكوتلندا، يتناسب مع الشرائح الاجتماعية الدنيا [...] لكن كل العمال البريطانيين لم يكونوا ينتمون إلى الشرائح الدنيا، في حين أن تلك كانت حالة كل الشغيلة الروس تقريباً [...]. لم يكن ثمة تدرج في روسيا: كان العمال عبيداً مأجورين بالمعنى الأدق ولم تكن أجورهم تسمح بإعالة أسرة" (9).

لقد كتب الأستاذ الجامعي من أصل روسي، نيوكلاس ف. ريازانوفسكي، الذي يروج استخدام مؤلفاته في الجامعات الغربية ما يلي:

"[...] رغم تشريع العمل، ورغم واقع أن الأجور زادت، في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى (وهذا ما يصر المؤرخون السوفييتيون على نفيه بحدّة)، كان العمال الروس يبقون يائسين على وجه العموم. إن بروليتاريي روسيا الإمبراطورية، الذين كانوا يحصلون على أجور سيئة، ويسكنون في أكواخ مزدحمة بصورة لا يمكن تصورها، شبه أميين ومحرومين من أي غنم، كانوا يقدمون مثلاً ممتازاً على تلك اليد العاملة الفقيرة والمستغلة، الممِّيزة لمراحل الأولى من الرأسمالية، والتي وصفها ماركس بالكثير من القوة في رأس المال" (10).

ويورد الأستاذان الانكليزيان كوشان وأبراهام، فضلاً عن ذلك واقعاً يكاد يمكن تصديقه:

"[...] كان توجيه نشره ديليانوف، وزير التربية عام 1887، يحظر دخول المدارس الثانوية على الأولاد من الشرائح الاجتماعية الدنيا: [...] إن أولاد الخدم، والطباخين، والكواءات، وصغار التجار وأشخاصا من النوع نفسه، ما عدا ربما أولئك الذين يكونون موهوبين بشكل استثنائي، لا ينبغي، بالتأكيد، سحبهم من البيئة الاجتماعية التي ينتمون إليها" (11).

كان فرط استغلال العاملات خطيراً بوجه خاص. ففي عام 1914، كانت أجور اليد العاملة النسائية توازي نصف قيمة أجور اليد العاملة الذكورية. وفي عام 1916، كانت قد هبطت إلى أقل من 40% (12).

هل يمكن أن نجادل بصورة جدية في أن ثورة أوكتوبر قامت بعمل مفيد وصحي بأن أزالت هذه المخازي جذرياً؟

الدولة القيصرية

كان لدور الدولة القيصرية القائم على الاضطهاد بعد مالي دقيق: 80% من نفقات الموازنة كانت مخصصة للجيش وجهاز القمع. هذا البزل الطفيلي من الدخل القومي كان يتم بشكل أساسي على حساب الفلاحين (لكن أيضا على حساب العمال، عبر الضريبة غير المباشرة). كان تمويل الصناعة يتم قبل كل شيء بفضل تثميرات أجنبية.

لم تكن الصناعة الروسية قادرة على المنافسة في السوق العالمية. إن ضيق السوق القومية، بفعل فقر غالبية السكان اللاحقة، لم يكن يمكنه هو الآخر أن يضمن أسواقاً كافية. فضلاً عن ذلك، كانت المنتجات المستوردة أرخص من منتجات الصناعة الروسية، وذات نوعية أفضل. من هنا كانت تنتُج سياسية حماية مبالغ بها ونزعة إلى التوسع العسكري الثابت باتجاه الشرق والجنوب الشرقي. كانت بلدان كتركيا، وإيران، وأفغانستان، والصين، وكوريا، مجبرة بالتهديد أو بقوة السلاح على شراء منتجات روسية. لقد جرى الكلام في هذا الصدد، بحق، على "رأسمالية (امبريالية) على الطريقة القوقازية". وانتهت الأمور بشكل سيئ مع الحرب الروسية –اليابانية، في تزوشيما، حين انهزمت الجيوش الغربية.

لكن الجانب الأكثر اضطهاداً والأشد قمعاً في القيصرية كان يعبر عن نفسه في مجمل المؤسسات (أو غياب المؤسسات) التي شكلتها الأوتوقراطية وما كانت تمثله بالنسبة لشعوب الإمبراطورية: غياب الحقوق والحريات الديمقراطية، العسف البيروقراطي الأقصى، الاضطهاد المتفاقم:

"مع ظهور انتليجنسيا قومية في كل شعوب الأقليات تقريباً، كان على الحكومة إما أن تعترف بالحاجة إلى حكم ذاتي محلي ما في المناطق الحدودية سهلة المكسر، أو أن تحاول اكتساب هذه القوى الجديدة لمعتقداتها الخاصة بها. وفي الأخير، بدأت سياسة روسية نشيطة جداً. ففي أوكرانيا، وروسيا البيضاء، وليتوانيا وبولونيا، جرى الحد من تعليم اللغة المحلية في المدارس أو حظره، وفرض استخدام الروسية. وفي المقاطعات البلطيقية [...]، وحفزت الحكومة تمييزاً مشابهاً ضد السكان الألمان [...]".

"من المرجّح أنه كان قد جاء الآن دور اليهود الروس ليعانوا أسوأ أنواع العذاب. [حصلت مذابح رهيبة] يبدو أن ثلث اليهود هلكوا، وثلثهم هاجروا، وثلثهم جرى استيعابهم، وفقا لبوبيد ونوستيف [الممثل العلماني لكنيسة الأورثذكسية وأحد أمثلة قصة دوستويفسكي، المحق الكبير]".

"إن النصر الظاهري على النزعة القومية الإسلامية في ما وراء القوقاز لم يفعل غير إعطاء ثقة كافية لإنتليجنسيا جورجيا وأرمينيا كي تنخرط في التحريض الثوري. وفي آسيا، لم يكن يمكن الدعم المتزايد الذي أعطته الحكومة لحركة تبشير عدواني إلا أن يغيظ التقليديين المسلمين ضمن السكان المحليين [...]. كانت آسيا الوسطى والشرق الأقصى أرضاً مختارة لمغامرين إمبرياليين روس، ومستفيدين مشبوهين وحكام مزيفين [...]" (13).

هل ثمة ما يدهش في أنه، خلال ثورة شباط/فبراير 1917، أطلق الفلاحون والعمال والقوميات المضطهدة صرخة إجماع: كفى! كفى! كفى! الأرض، وحق تقرير المصير، ويوم العمل من ثماني ساعات والرقابة العمالية، حالاً! لكن الحكومة المؤقتة راوغت، وترددت، ومددت المهل، وأجلت حل هذه المسألة حتى ما بعد أعمال الجمعية التأسيسية، التي جرى تأخير الانتخابات الخاصة بها بلا انقطاع.

هل ثمة ما يدهش في أن الجماهير أخذت، ضمن هذه الشروط، مصيرها بيديها، أكثر فأكثر، وسعت لأن تحل بنفسها مشكلاتها الحيوية، وتعرفت إلى نفسها في السياسية البلشفية وسلطة السوفييتات، في حين أن هذه الأخيرة حلتها بين ليلة وضحاها؟






إحالات

(*)أوجياس ملك أسطوري في اليونان في اليونان القديمة نظف هيراقليس زرائبه الشاسعة بتمرير نهر ألفي فيها (م)

(1)كل هذه المعطيات نجدها في كاب تروتسكي، 1905، باريس 1969، ص 34 وما يليها.

(2)ت.شانين، Russia as a ’developing society الجزء الأول، لندن 1985، ص 98، 101.

(3) د.ماكنزي والاس، Russia on the Eve of War and Revolution، إصدار سيريل أ.بلاك، نيويورك، 1961، ص 346.

(4)أ.كوب، Changer la vie, changer la ville، باريس، 1975، ص 261.

(5)جايمس هـ.بايكر، St. Petersburg and Moscow on the eve of the revolution ص 50، دانييل هـ.كايزر The Workers" Revolution in Russia, 1917 - The view from below كامبريدج يونيفرسيتي برس، 1987.

(6)م.بوكروفسكي، Geschichlelands، هيرشفيلد، لا يبزيغ 1929، ص 275.

(7)م.بوكروفسكي، Russiçche Geschichie، بوشر جيلد غوتنبرغ، برلين 1920، ص 249-252.

(8)س.أ.سميث، مرجع مذكور، ص 13 .

(9)إدوارد كرانكشا و، The Shadow of the Winter Palace، هارموندسوورث، 1978، ص 344.

(10)ن.زيازانوفسكي Histoire de la Russie، باريس 1987، ص 463-464.

(11) ليونيل كوتشان وريتشارد إبراهام The Making of Modern Russia, هارموند سوورث، 1983، ص 223.

(12)س.أ سميث، مرجع مذكور، ص 47-48.

(13)كوتشان-أبراهام، مرجع مذكور، ص 223-224، 196-197.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري