الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الماركسية إلى أين؟

صالح بوزان

2005 / 6 / 1
ملف - الماركسية وافق البديل الاشتراكي


لا يمكن الكتابة عن الماركسية دون الدراسة المنهجية المعمقة لتجربة الحركة الشيوعية عامة وأحزابها خاصة. لأن أي فكر بشري له علاقة بحياة الناس اليومية تظهر مصداقيته من خلال فاعليته لدفع حياة الناس إلى التقدم والرفاهية. ومن المستحيل فصل الفكر، بما في ذلك الفكر الماركسي، عن تطبيقاته لأن الفصل هنا عملية عبثية.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي برزت محاولات عديدة، خصوصاً من قبل الساسة الشيوعيين الذين مازالوا في قيادات أحزابهم، تربط هذا الانهيار بالخطأ في التطبيق. مع العلم أن غالبية الذين يقولون هذا الكلام، لم يقولوه قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. وربما يعود ذلك إلى ضعف التفكير النقدي لديهم أو أنهم يريدون إيجاد تبرير لبقائهم بأسلوب أصولي إذا جاز التعبير .
لا شك أن هذه الحالة معروفة في تاريخ الفكر البشري. فانهيار الجانب المادي لأي فكر، يدعي أصحابه في البداية أن الخطأ حدث في التطبيق. وخير مثال على ذلك الكتب المكدسة والآراء التي لم تنقطع حتى الآن للمفكرين والساسة الإسلاميين. فهم أيضاً يدعون أن ابتعاد الأنظمة الإسلامية عن جوهر الإسلام يعود إلى الحكام المسلمين الذين لم يطبقوا الإسلام على حقيقته. وأعتقد أن هذا الكلام تضليل بتضليل. فابتعاد الحكام المسلمين عن جوهر الإسلام، بما في ذلك محمد نفسه بعد انتصاره وتشكيل دولته، يعود إلى أن جوهر الإسلام هو الذي اصطدم مع مصالح الناس. وبما أن الإسلام فكر مقدس لكونه دين، تم الخروج عن وصاياه دون توجيه النقد له وإزاحته نهائياً عن جميع جوانب حياة الناس.
والآن، تختار الحركات الإسلامية الراهنة، وعبر التاريخ، من الإسلام ما يتفق مع توجهاتها المرحلية. فالمتشددون يختارون آراءهم من بعض الآيات مع تجاهل آيات أخرى، والمعتدلون يختارون بشكل آخر، والذين يسعون إلى إيقصاء غيرهم من الواقع مادياً أو من خلال تفكيرهم، يجدون ضالتهم أيضاً، كذلك يختار الذين يقبلون بالتعددية السياسية والفكرية وتبادل السلطة آياتهم وأحاديثهم النبوية من التراث الإسلامي. وثمة وجهة نظر تقول أن معظم الأحاديث النبوية تم تأليفها عبر مراحل زمنية مختلفة، ولا علاقة لمحمد بها. ويبدوا أن هذا الكلام صحيح، ويدل على المسعى البراكماتي للمسلمين في تخفيف التناقض بين جوهر الإسلام المطلق وتطور حياة المجتمع.
هذا ما يجري اليوم بالنسبة للشيوعيين أيضاً، فهناك الماركسيون اللينينيون الستاليون مازالوا يهتفون بشعاراتهم، وهناك ماركسيون لينينيون، وماركسيون فقط. والجميع يجدون في تراث الفكر الماركسي وتجربته العيانية حاجتهم.
أعتقد أن الحديث عن الماركسية من خلال السؤال المطروح:" هل الماركسية كمنهج علمي تمر في أزمة، أم الأحزاب والتنظيمات السياسية التي تبنتها؟" هو طرح أصولي لا يختلف عن الأصولية الإسلامية التي سبقت الاشارة إليها. فالماركسية كل مترابط ديالكتيكياً، والتجسيد التنظيمي لها برز من خلال تجربة الأحزاب الاشتراكية الدولية والأحزاب الماركسية اللينينية التي كان نموذجها الأبرز الحزب الشيوعي السوفييتي.
لقد كشف الواقع العملي أننا في هذا الشرق اعتبرنا الماركسية ديانة من حيث ندري ولا ندري. وعندما انهار الدعم السوفييتي المادي والفكري لنا وأصبحنا ملزمين بالتفكير المستقل، انصبت أبحاثنا لإيجاد تبريرات هزيلة لبقاء حلم الاشتراكية في ذهن الشعوب والمثقفين البسطاء. أقصد أننا نسعى إلى تضليل الناس بتوجيه تفكيرهم في مسألة الانهيار الكبير إلى خارجها" نظرية المؤامرة" ولعل هذا المسعى شديد الحيوية في العالم المتأخر اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً، أقصد في العالم الذي عرف تحت مصطلح الثالث.
لكي نستطيع أن نبحث في الفكر الماركسي كمنهج وكتنظيمات سياسية سادت في القرن الماضي، يجب أن نفعّل النقد الفكري للماركسية بعيداً عن حالتنا الإيمانية المسبقة بها. أي أن نستخدم منهج ماركس وإنكلز نفسه، حين وضعا كل الفكر البشري للنقد والتحليل. فهذان العملاقان في الفكر لم يعتبرا أن ثمة مقدسات في الفكر البشري" والإلهي" لا تقبل النقد. وبالتالي علينا أيضاً أن نتحرر من قدسية الفكر الماركسي وتجربة أحزابها في الكفاح وفي بناء الاشتراكية ومن ثم انهيارها.
الخطأ الكبير في منهجية تفكيرنا الماركسي الراهن أننا مازلنا ننظر إلى الرأسمالية كما جاء في "رأس المال"، وإلى الإمبريالية كما كتب عنها لينين في كتابه" الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية". لقد تجاوز واقع المجتمع البشري تفكيرنا الساكن. وعندما نستشهد بمقولة ماركسية أو لينينية للبرهنة على واقعة راهنة، فإننا في الحقيقة نرحل هذه الواقعة إلى زمن ماركس أو لينين ليحكم هذان المفكران عليها وليس نحن.
لقد كانت الهيغلية ثورة كبيرة في الفكر الفلسفي البشري، ولكن الهيغلية الجديدة لم تكن امتداداً ديالكتيكياً لها. وبالتالي فالأطروحات التي تدعي تجديد الماركسية أو تطويرها هي مقولات بائسة، لأنها لاتستند إلى أبحاث جادة، بل أن معظم قائليها لا يدرون ماذا يقولون. لأن الخروج من المأزق الفكري الماركسي الراهن لا يتم من خلال شعارات وجمل باهتة المعنى. فالخروج من الواقع الراهن للفكر الماركسي يبدأ بالدراسة والنقد العلمين لكل التراث الماركسي واللينيني الفكري وتجربة أحزابه الشيوعية في التنظيم والنضال وبناء الاشتراكية. خصوصاً أن بعضهم مازال يعتبر أن انهيار الاتحاد السوفيتي ينحصر في أخطاء وقع فيها ستالين أوخروشوف أوبريجنيف أوغورباجوف.
بما أن الموضوع المطروح يحتاج إلى بحوث رزينة وشاملة، ولا أعتقد أنني قادر على الإجابة للسؤال المطروح، فما أقوله في هذه المقالة القصيرة ينحصر في أن المسألة أعمق من اختزالها في السؤال المطروح . زد على ذلك لدي اعتقاد بأن زمن بروز مفكر يستطيع الإجابة بشكل فردي على أسئلة من هذا النوع ولى. لقد أصبحنا في زمن المؤسسات، بما في ذلك على الصعيد الفكري. لكنني سأذكر في هذه العجالة مسألة واحدة تتعلق بمبررات وجود الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث.
نعلم أنه تم تشكيل الأحزاب الشيوعية في "العالم الثالث" بعد ثورة أكتوبر. وكان المبرر النظري لتشكيل هذه الأحزاب مقولة لينين أن البلدان المتخلفة نستطيع بناء الاشتراكية بمساعدة البروليتاريا المظفرة في دولة العمال والفلاحين والتي كان يقصدها الاتحاد السوفيتي. وفي برامج الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث كانت مساعدات الاتحاد السوفيتي في بناء الاشتراكية لها الدور المفصلي. فكلنا يعلم أن منغوليا التي كانت تعيش في المرحلة الشبه الرعوية لما كانت ستنعم بالاشتراكية لولا الاتحاد السوفييتي.
والآن، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتخلي الصين الشعبية عن الأممية البروليتارية، كيف ستنجز هذه الأحزاب الشيوعية، في العالم الثالث، المهمة التاريخية في تحقيق الاشتراكية عندما تصل إلى السلطة، سواء إن وصلت إليها عن طريق الثورة أو بالانتخابات؟ خصوصاً أن الرأسمالية في مرحلة العولمة الراهنة لا تسمح من الناحية الاقتصادية بقاء بقع اقتصادية صغيرة مغلقة أمامها، وهي قادرة على إزاحتها بقوة اقتصادها قبل قوتها العسكرية.
إذا ادعى أحدهم أن الأحزاب الشيوعية هي أحزاب وطنية بالدرجة الأولى، فأين سيبقى عندئذ الهدف المركزي في الفكر الماركسي اللينيني لهذه الأحزاب بتغير المجتمع ثورياً وبناء الاشتراكية التي هي حلم الكادحين.
نحن في العالم الثالث لم نستورد الحضارة المادية من العالم المتحضر فقط، بل كذلك الفكر الماركسي والقومي ومناهج البحث وغير ذلك. وبما أن بيئتنا كانت متخلفة جداً عن هذه الأفكار، فقد فشلت الأحزاب الشيوعية هنا قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، كذلك فشلت الأحزاب القومية. لقد مزجت الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث فكراً حضارياً وإنسانياً بالدرجة الأولى مثل الفكر الماركسي بالفردية والطغيان كما ظهر نموذجه الأبشع في كمبوديا بول بوت، وحتى كوبا الثورة التي ما زالت مستمرة على اشتراكيتها تتميز بحكم فردي محصور بكاريزما كاسترو، وربما، وهذا الأرجح، ستصبح اشتراكيتها في مهب الريح بعد رحيل كاسترو. كما أن الفكر القومي التنويري الأوروبي تحول عندنا إلى فكر استبدادي وفاشي وسلطة دكتاتورية ارتكبت أبشع الجرائم الإنسانية بحق شعبها، مثل النظام القومي البعثي في عراق ما قبل الاحتلال.
لدينا في سورية تجربة مريرة بالنسبة للحزب الشيوعي السوري. فكل المحاولات التي استهدفت تقيم تاريخ الحزب وسياسته أدت إلى انشقاقات مؤلمة، بغض النظر إن كان الذين طالبوا بذلك كانوا على مستوى القيام بهذه المهمة أم لا. والتجربة تبين أنهم لم يكونوا كذلك لا فكرياً ولا سياسياً ولا تنظيمياً، ولذلك جاءت جميع الانشقاقات دون خلفية فكرية باستثناء بعض الملامح الفكرية في حركة رياض الترك. لقد حدث عقم فكري وسياسي في الحزب، وكان مجرد بروز مثقف يسعى إلى التفكير بشكل مستقل عن تعليمات الحزب كافياً لإخراجه بعيداً عنه، طبعاً لا يعني هذا أن هؤلاء المثقفين كانوا مصيبين في أطروحاتهم. والسؤال الذي يطرح نفسه: من أين جاءت هذه المنهجية الحزبية تجاه الفكر والتنظيم؟ هل جاءت من خارج الفكر الماركسي اللينيني ؟ لا أعتقد ذلك، فجوهر الفكر اللينيني هو هكذا. وامتزج ذلك بخصائص البيئة والتراث، إلى جانب مخلفات الاستبداد الشرقي الذي لم يجر تحطيمه لا فكرياً ولا اجتماعياً ولا سياسياً حتى اليوم. والحياة الداخلية للحزب الشيوعي السوري وتياراته المتشظية يدل على أن التحكم الفردي والاستبداد وعدم قبول الآخر يكمن في جوهر بنيته التنظيمية والفكرية، هذه البنية التي وجدت في الستالينية مبرراتها "الثورية".
وفي الختام أعتقد من الأجدر أن نفتح ملف أحزابنا الشيوعية في الوطن العربي أو على الأقل في المشرق العربي. وربما من خلال تقيم التجربة هذه الأحزاب نصل إلى فكر اشتراكي يفيد بلداننا وشعوبنا دون الغوص السطحي في مسألة فكرية كبيرة مثلما يطرحه السؤال.


































التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح