الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على أبواب مؤتمر البعث: لا قدرة للمعارضة على تفكيك النظام

حازم نهار

2005 / 6 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


ينعقد في أوائل حزيران المقبل المؤتمر العاشر لحزب البعث الحاكم في سوريا، المختلف عن مؤتمراته السابقة سواء من حيث ظروف انعقاده أو من حيث النتائج التي سيتمخض عنها. ويترك هذا الانعقاد انطباعات عامة في الأوساط الثقافية والسياسية في سوريا، شكلت نوعا من البلبلة الفكرية السياسية. فالبعض لا يقيم وزنا للمؤتمر ويرى فيه شأنا يخص البعث وحده، و هذا بشكل أو بآخر رد على الإهانة المضمرة من قبل السلطة للجميع برهنها مستقبل البلاد بمؤتمر حزب واحد. والبعض الآخر يعول عليه الكثير باعتبار أن حزب البعث ليس حزباَ عادياَ، فهو الحزب الحاكم والحزب "القائد للدولة والمجتمع"، أما عند عموم المواطنين السوريين فالسائد هو نزعات من الأمل والقلق في آن واحد.
ينبني على هذه الانطباعات مواقف محددة إزاء الحزب، فمنهم من يرى فيه مسؤولا عن سوء الأوضاع وكل ما جرى من ترد خلال أربعين عاماَ، ومنهم من يرى فيه ضحية الاستبداد والنظام الأمني. فما جرى على المجتمع والقوى السياسية الأخرى جرى في المقابل على البعث ذاته. جميع هذه الانطباعات والمواقف وغيرها أيضاَ صحيحة إلى حد ما، لكن المشكلة تكمن، كما سائر المشاكل الأخرى، في التناول الجزئي للظواهر والأحداث. فإذا انتقلنا من حيز الانطباعات والمواقف السريعة إلى ميدان التحليل السياسي ينبغي لنا أولا تحديد موقع حزب البعث في النظام السياسي السائد في سوريا.
حزب البعث هو الركيزة الإيديولوجية للنظام السياسي، لكنه لا يحكم. الحكم الفعلي في سوريا طوال أربعين عاما توازعته ثلاث مؤسسات هي الرئاسة والأمن والجيش. وهذا لا يتناقض مع كون حزب البعث "الحزب القائد للدولة والمجتمع" ، فالمادة الثامنة من الدستور لم تكن لأجل رفع شأن البعث بقدر ما كانت لقطع الطريق على الأحزاب الأخرى وتشكل معارضات ذات وزن. حزب البعث لم يمارس السياسة فعلا إلا عندما كان في المعارضة، أي قبل 8 آذار 1963، واقتصر دوره في ما بعد ليكون واجهة إعلامية إيديولوجية لتغطية الفساد الحاصل والممارسات الاستبدادية، لكن هذا لا يعني أن الحزب لا يتحمل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في سوريا، خاصة بعض قياداته المسؤولة عن ترهل الحزب وتكلسه ، والمشاركة في الفساد وحالة الفشل المزمن.
ما من حزب أيديولوجي عبر التاريخ كان قادراَ على إصلاح ذاته، وما من نظام استبدادي استطاع تفكيك بنيته من تلقاء ذاته، وما من نظام سياسي بهذه المواصفات إلا كان مستعدا لفعل أي شيء من أجل الاستمرار، وهذا أمر مخيف. فهل ما جرى حتى الآن يوحي بأن التجربة السورية تختلف عن مثيلاتها؟
أيديولوجية البعث المكثفة بالوحدة والحرية والاشتراكية، فقدت بريقها منذ زمن بعيد في الداخل السوري، ليس بسبب الأهداف المطروحة، لكن بشكل أساسي بسبب الممارسات التي تتنافى معها بالدرجة الأولى، والجديد اليوم هو أن هذه الإيديولوجية وخطابها السياسي ما عادت تجد قبولا خارجيا، خاصة بعد أن أصبح الخارج جزءاَ من الداخل وأحد الفاعلين الأساسيين فيه، وبات استمرارها نشازا في مسيرة التغيرات العالمية.
حاول النظام السياسي منذ العام 2000 وحتى وقت قريب، إعطاء دفع معنوي إعلامي لخطابه وممارساته، إلا أن رحلة السنوات الخمس الماضية كانت رحلة سقوط الشعارات المطروحة، فقد أعلن المسؤولون مرارا وتكرارا أن الإصلاح يسير على قدم وساق، مع أن واقع الحال آخذ في التردي بشكل متسارع، مما أدى لانتشار حالة عامة من فقدان الثقة بالوعود المعلنة اليوم.
شبكة المصالح كانت أقوى من رغبات البعض، إذ التقت مصالح بعض "الحرس الجديد" بمصالح بعض "الحرس القديم"، وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة، في ما يبدو، كي لا تصاب بنية النظام المغلقة بشقوق وتصدعات قاتلة تؤدي إلى الإخلال بتوازناته الداخلية ومحاصصاته. هذه البنية المغلقة أيديولوجيا وسياسيا واقتصاديا عصية على الإصلاح بحكم الممانعة الأمنية والبيروقراطية الكبيرة ودفاع أصحاب المصالح.
يأتي انعقاد المؤتمر في لحظة سياسية يواجه فيها النظام السياسي في سوريا بأعمدته كافة، ومنها عموده الإيديولوجي، أي حزب البعث، تحديات جديدة وخطيرة، تجعل مستقبل البلد مفتوحا على احتمالات عديدة، لكن ثمة محددات واضحة وأصبحت من معطيات الواقع، فالثابت الرئيسي هو أن النظام يستحيل عليه البقاء ما كان، وأن تجديده على الأسس ذاتها أصبح غير ممكن وواحدا من الأوهام التي تؤدي إلى الكوارث.
إفلاس النظام الاستبدادي واقعيا ومعنويا جعل من المحال ممارسة سياسة التضليل القائمة على لعبة الكلمات، فما عادت المفردات المستخدمة لتوصيف الأهداف والوقائع بذات شأن (تطوير، تحديث، إصلاح إداري، إصلاح اقتصادي... إلخ)، فالأساس هو ما يجري على الأرض، خاصة بعد التبدلات المتسارعة في البيئة الدولية والإقليمية الجيوسياسية التي أفقدت النظام القدرة على المناورة السياسية واللعب بالأوراق الإقليمية، وبعد أن أصبح الوضع الداخلي السوري تحت عين الرقيب الدولي منظمات ودولا، وهو ما جعل من الإصلاح مطلبا خارجيا إضافة لكونه مطلبا داخليا بالأساس، وبما يعني عدم القبول بوجود نظام خارج عن نواميس العالم، إضافة الى انتعاش المجتمع المدني الداخلي وبدء حدوث تقارب سياسي بين القوى السياسية المعارضة المختلفة إيديولوجيا.
ما جرى في سياق الإعداد للمؤتمر وانتخاب أعضائه لا يوحي أن أصحابه يدركون المحددات السابقة، أو يدركونها لكنهم يعتقدون بقدرتهم على المناورة وتجاوز اللحظة الراهنة بكل متطلباتها وتأجيل الاستحقاقات الداخلية. وما جرى حتى الآن لا يبشر بالخير، إذ استبعد النظام الحوار مع القوى السياسية قبل المؤتمر، ولم يطرح المشاكل والقضايا الأساسية على الرأي العام. حتى أنه لم توزع مشاريع تقارير المؤتمر على تنظيمات الحزب لمناقشتها والتحاور حولها بما يسمح بإجراء انتخابات حقيقية تكون تجسيدا لتيارات فكرية سياسية أو للرؤى والتصورات والخيارات السائدة في الحزب. فقد تدخلت، كالعادة، الاعتبارات الشخصية والقبلية والعشائرية والمصالح الخاصة وغيرها، ليصل الجميع إلى المؤتمر دون بلورة رؤى وخيارات واضحة. ويأتي توسيع "الجبهة الوطنية التقدمية" لتضم الحزب السوري القومي الاجتماعي (الشق الموالي فيه)، ليقدم مؤشراً إضافياً على أن الآليات المعتمدة ما زالت كما هي، وان النظام ما زال مصراً على العناوين التي شكلت عماد تجربته.
المؤشرات والمعطيات السابقة تعني أن المؤتمر لن يخرج بشيء ذي وزن حقيقي مؤثر في مستقبل البلد. ويبدو أن الهاجس الرئيسي للنظام هو إعطاء إشارات بوجود إصلاحات جدية للخارج الضاغط، وقد يكون ذلك على صعيد السياسة الخارجية بإبداء مواقف "مرنة" إزاء القضية الفلسطينية، وفي ما يتعلق بالمتطلبات الأميركية في ما يخص العراق. أما على الصعيد الداخلي فيمكن إجراء بعض العمليات التجميلية في القسمات والملامح تحت شعار "التطوير والتحديث"، مثل جندلة عدد من الشخصيات الهرمة والفاسدة لتكون أكباش فداء المرحلة الجديدة، والتي لا يؤثر غيابها على تماسك بنية النظام ولا تخل بتوازناته الداخلية، والإتيان ببعض الوجوه الجديدة التي لا تختلف عن سابقتها إلا بالشكل، فالعبرة بالأساس في الآليات.
سيتم الإبقاء على صيغة "الجبهة الوطنية التقدمية" بكل عقمها، مع إمكان إعطاء الأحزاب الأخرى المنضوية تحتها هامشاً أوسع، ومحاولة ضم عدد آخر من القوى من طريق تقديم بعض الإغراءات والرشى السياسية ، أو تحت مزاعم "الدفاع عن الوطن" و"مقاومة الصهيونية" و"المشروع الأميركي في المنطقة".
إذا تفاءلنا قليلاَ، يمكن أن نتوقع تقييداً جزئياً لقانون الطوارئ، وتوجهاً مستقبلياًَ بإقرار قانون للأحزاب السياسية يسمح بتعددية شكلية غير مؤثرة في الوضع السياسي على شاكلة ما حدث في مصر، بما يسمح بإطالة عمر النظام ومصالحه إلى أقصى فترة ممكنة، والتشجيع على إنشاء تشكيلات سياسية جديدة موالية كحزب إسلامي بهدف قطع الطريق على التيار الإسلامي المعارض.
النتائج السابقة المتوقعة والمحبطة، بالإضافة الى الضغط الأميركي المتزايد، والتراجع المستمر في المستوى الاقتصادي والاجتماعي، يتوقع منها أن تؤدي في المدى القريب لحدوث تغيرات يصعب الإحاطة بها أو محاصرتها. فعلى صعيد حزب البعث ذاته، سيعيد قسم لا بأس به النظر في حزبهم، وهم في غالبيتهم ليسوا خارج الهم الوطني ويعانون من الأزمات والمشاكل ذاتها، وقد تنسحب أعداد متزايدة منهم لتبحث عن أماكن أخرى وتشكل تالياً جزءا من القوى الهادفة للتغيير. وقد يؤدي الإحباط وتردي الوضع الاقتصادي إلى حدوث بعض الإشكالات المجتمعية التي لا يمكن التكهن بمداها واتساعها، وستزداد رقعة المعارضة الشعبية متجاوزة حدود الخوف الموروث، وتبدأ بالتساؤل عن وجود المعارضة المنظمة والمؤطرة ، وهذه الأخيرة ستقترب أطيافها من بعضها بعضاً، وستظهر تدريجياً حالة من الاستقطاب السياسي المفتوح الاحتمالات.
المؤتمر وما بعده سيحملان معهما إمكان تشكل قوى سياسية وهيئات مدنية جديدة أقرب للمعارضة، بما يعني أن البشر أصبحوا في ساحة الحدث، ويقطع إمكان العودة إلى الوراء، وعاجلاً أم آجلاً ستشارك القوى الاقتصادية المتأذية من نظام النهب في هذا الاستقطاب، لتقترب من تيارات المعارضة الأربعة داخل سوريا، أي المعارضة الوطنية الديموقراطية التقليدية (التجمع الوطني الديموقراطي والقوى الأخرى القريبة منه أو التي يتوقع أن تنضم إليه مستقبلاَ)، والتيار الإسلامي المتنور ممثلاً بالإخوان المسلمين، وبعض القوى الوطنية الكردية التي حسمت خيارها في المعارضة (بعد حالة من التوتر والتردد ما بين الاقتراب من السلطة لتحقيق بعض المطالب والتوجه المعارض غير المضمون الكلفة)، وعدد غير قليل من الجمعيات المدنية والحقوقية، وستتوصل هذه القوى رغم اختلافاتها إلى عدد من القواسم المشتركة والتوافقات والخطوات السياسية.
هذا الاستقطاب المحتمل سيزيد من الضغط الواقع على النظام، وهنا تصبح الاحتمالات مفتوحة، إذ يصعب القول بإمكان استجابة النظام بإجراء تغييرات جذرية، أو حتى بقدرة النظام على إعادة الأوضاع إلى سابق عهدها، أو بقدرة المعارضة المتنامية على تفكيك آليات النظام السياسي السائد، إذ إن جميع هذه الاحتمالات رهن بالوضع الاقتصادي وتوجهات الرأي العام في سوريا وبالخارج الذي يتحين الفرص المناسبة.
كل ما سبق من تكهنات لها ما يسندها في الواقع، بدءاً من المؤشرات السابقة لانعقاد مؤتمر البعث، وانتهاء بالتوقعات الخاصة بتطور الوضع الداخلي ما بعده، وليس لها علاقة بالتشاؤم أو التفاؤل، لكن تاريخ البشر يعلمنا أن السياسة والإرادات السياسية قد تخلق مفاجآت لا تخطر ببال أحد، و يمكن أن يكون لها الوزن الأكبر في رسم صورة الحاضر والمستقبل، مثلما يعلمنا أيضا أن الغد كان دائما حليف الآخذين بالمبادرة وليس الجالسين في غرف الانتظار.
كاتب سوري – أمين سر منتدى جمال الأتاسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان


.. أثناء زيارته لـ-غازي عنتاب-.. استقبال رئيس ألمانيا بأعلام فل




.. تفاصيل مبادرة بالجنوب السوري لتطبيق القرار رقم 2254