الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كارما التأريخ

وليد مهدي

2013 / 11 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


(( ان توجه نابليون شرقاً الى روسيا في حروبه قد توازن تلقائياً باتجاه الشعب الروسي نحو الغرب .. ))
تولستوي / الحرب والسلام

العالم في حقيقته محكوم في بنيته الذرية الاساس بقوانين الكوانتا ( الكم ) ، التي هي في اوضح وجوهها قوانين الكارما الفيدية الهندوسية القديمة ، حيث لكل حدث هناك حدث مقابل ولو في زمن آخر ...
فالحجر حين يسقط في بركة راسماً تموجات الماء وهي تتجه من المركز نحو الخارج ، سترتد هذه الموجات حتماً حين تصل الجرف ولو بعد حين ..
وعلى وقع اصداء هذا المعتقد " الحدسي " الشرقي القديم ، ساد لدى كثير من المؤرخين القدامى ان تناغماً ما يحصل في احداث التاريخ ، وعلى الرغم من تلاشي مثل هذه الاعتقادات لدى المؤرخين المعاصرين ، لكن ، لم تزل هناك ثمة اصداء له في عموم ثقافتنا كما نقرأ هذا لتولستوي اعلاه ورؤية هيجل " الميتافيزيقية " للتأريخ ..

عند فحص هذا الاعتقاد اليوم من زاوية معرفية علمية سببية ، نجد بانه يتوافق مع الهيكلية الاساس في تكوين وتخليق عالمنا برمته ، ولهذا السبب اعتبر شخصياً ان ذلك الاعتقاد " حدسي " وامض من باطن العقل البشري و نابع من خبرة الانسان الشرقي القديمة لا في حوادث التاريخ الكبرى فحسب ، بل في حوادثه الشخصية كفردٍ أيضاً ، وليست الكارما برايي مجرد معتقد خرافي ايهامي يرتبط بمبادئ الثواب والعقاب الاجتماعية الدينية فقط ..

فحسب نظرية الكم في الفيزياء ( علم الطبيعة ) ، انطلاق فوتونين بنفس التردد باتجاهين مختلفين سيعاني احدهما من الانكسار والانعكاس ما يعانيه الاخر ولو كان بينهما مسافة سنة ضوئية ، وبدون وجود اي سببية ملاحظة حالياً تدعو لهذا التناغم الغير منطقي ...
فلما العجب لو اصبحت بين الاحداث التاريخية تناغمات غير سببية ، ما دام الانسان والتاريخ برمته اجزاء ضئيلة في بنية الكون ... المحكوم بقوانين الكم ؟؟

يقولُ هيرودوت ( ابو التأريخ ) :
(( ان اتجاه الناس شرقاً في حروب طروادة ، قابله اتجاه الفرس بعد ذلك بقرون نحو الغرب في حروبهم ...))

وبصورة عامة ، اعتقادات المؤرخين القدامى اثرت بشكل أو بآخر على افكار بعض المؤرخين والفلاسفة المعروفين امثال هيجل وتوينبي ، بل حتى كارل ماركس صاحب المادية التاريخية يتهمه كارل بوبر بالتأريخانية Historicism ، ويقصد بها بوبر تلك الافكار التي لازمت المفكرين والفلاسفة بان التاريخ يجري وفق خطة محددة ووقائع الاحداث تمضي دوماً الى غاية ثابتة ...
فنتيجة تراكمات كثيرة من خبرة الانسان في حوادث التاريخ على الصعيد الفردي او الجمعي للحضارات والشعوب .. تكونت فكرة عن " روح " في التاريخ ، وهي بشكلٍ أو بآخر ، تسهم في خلق مسارات محددة تبدو و كأنها خطة يجري عليها القضاء والقدر الإلهي ...

فمفاهيم مثل " الكارما " في الهندوسية ، و " الحتمية " في الفلسفة الماركسية ، والبداء في العقيدة الشيعية ، والقضاء والقدر في عموم الديانات ، كلها ، وإن بدت مؤسسة على استغلال فئات وطبقات المجتمع العليا للطبقات الدنيا ، لكن الارضية الحقيقية المؤسسة عليها متجذرة في صميم الحدس الانساني وارتباط مثل هذه المعتقدات بجوهر القوانين الاساسية للأحداث ..
هذه القوانين تنبثق من صميم العالم الكمي – الكوانتي - ، وهي ترسم نوعاً من " الوعي " او " الروح " او " الخطة " في حوادث الكون ..

هذه الحدوس الافتراضية ادى تكرارها في توصيف حوادث تاريخية معينة الى تثبيتها كمعتقدات راسخة لدى الاقدمين والمحدثين على حد سواء ، و دخلت بعد تفككها وزوالها الى الفكر المعاصر عبر نافذة الرؤية الكلية الشاملة للتاريخ كما نلحظها بوضوح شديد لدى فيلسوف المانيا العظيم هيجل واعتقاده بان التاريخ تحركه فكرة مطلقة وعاملٌ متسامٍ ، الذي دفع الكثيرين لتسمية هيجل بصاحب النظرة الميتافيزيقية للتاريخ .
وفي الحقيقة ، هناك تشابه بين قوانين الافكار والعقل البشري وبين نظرية الكم ، وكما يعتقد عالم الفيزياء روجر بنروز ، تطور نظرية الكم في المستقبل هو الذي سيعطينا الافكار الاوضح عن دماغنا وكيفية عمله ، وعليه ، لماذا يكون هيجل مجرد فيلسوف ذو نظرة ميتافيزيقية للتاريخ لأنه اعتقد بان فكرة كونية شاملة هي التي تسير العالم ما دام من يحكم العالم هي قوانين تتشابه مع الافكار من حيث " الاحتمالية " و " حدود الحرية " والتفكير بالفعل ورد الفعل ، والثواب والعقاب .. وكإن للكون وعياً ما ؟
ليس كارل بوبر وحده من ينتقد التأريخانية ، اكثر المفكرين المعاصرين يعيبون على اي مفكر مثل هذه النظرة ما دامت قوانين الافكار والكوانتا لا تناقش الا ضمن اطر التخصص الدقيقة ولا تعمم على عموم المعارف في التاريخ والثقافة والفلسفة العصرية ..
ولعل ارتباط القضاء والقدر بمبدأ الثواب والعقاب الإلهي لدى الاقدمين هي التي جعلت من ربط التاريخ بالعقل الكوني او الفكرة المطلقة من قبيل الخرافة والميتافيزيقيا ..

لكن دراسة الفيزياء ( قوانين الطبيعة ) والتعمق بها باستفاضة ودراسة الدماغ والسيكولوجيا باستفاضة ايضاً ستؤدي بالمهتمين بالتاريخ الى إدراك " علاقات " خفية بين حوادث التاريخ يصعب فهمها وتفسيرها الا في ضوء اللاسببية الكمية ( الكوانتية ) ..
الكارما وتاريخ الاسلام

منذ مقتل الخليفة الثالث عثمان على ايدي مسلمين ، واصداء تلك الحادثة تتردد في مسار التاريخ الاسلامي لتظهر بصور متعددة وتكشف عن مسارات للحوادث الكونية و كأنها تحدث ضمن نسق من " خريطة " ما تحكمها الكارما والكوانتا نفسها ..
فرسالة النبي محمد اصلاً انتزعت السلطة والنفوذ من بني امية في مكة ، لكن السلطة عادت اليهم مرتدة بعد سنين ايام عثمان ، وحادثة مقتله في الاساس هي تمرد على عودة نفوذ الاسرة الاموية ، لكن ، قوة تاريخية عنيفة ... كانت اقوى من الاسلام نفسه ..هي التي اعادت السلطة لبني امية وحادثة مقتل عثمان هي التي زادت من ترسيخ السلطة وارتد صداها عبر التاريخ وسمح لبني امية باستعمال القوة بشكل مفرط لتثبيت هذا السلطان لدرجة قتل الحسين واهل بيته بتلك الطريقة الشنيعة في كربلاء بعد تمرده على السلطة الاموية ايام يزيد ..
في الواقع ، لم تفت هذه المقارنة الوعي الجمعي الاسلامي الذي استذكر بوضوح عطش بني امية وجيشهم في معركة بدر وقارنه بعطش الحسين واهله في كربلاء ...
فكانت كربلاء تصفية حساب " تاريخي " افتتحه النبي محمد وبني هاشم من جهة ، ومن جهة ثانية فتحت حساباً آخر لبني هاشم ، فكان الحكم لهم بعد حين ايام العباسيين الذين انطلقوا من ثارات الحسين وزيد وكل الهاشميين ..
أما دخول صلاح الدين الايوبي الى مصر واسقاطه لحكم الفاطميين وارغامه الشعب في مصر على التسنن عنوة ، بقوة السيف ، إنما قابله بعد قرنين تقريباً دخول الشاه اسماعيل الصفوي الى بلاد فارس وارغامه للشعوب الايرانية على التشيع بقوة السيف ..
واخيراً ، حكم القوميين وصدام حسين وعائلته للعراق اربعين سنة ، وتسلط حزب البعث في العراق على الشيعة قابله تسلط ال الاسد على السنة في سورية ..

صدام حسين مولود في تكريت ، مسقط راس صلاح الدين الايوبي ، وال الاسد يتحدرون من اصول علوية جنوب الاناضول ، ذات الملتقى مع البكتاشية العلوية التي تحدر منها الشاه اسماعيل ..!!
واليوم ، الصدام المذهبي السني الشيعي في سورية والعراق ولبنان إنما يرتد بنفس مسارات الاحداث التاريخية القديمة ، فابن تيمية ، مؤسس السلفية الحقيقي ينحدر من الشام ، والتشدد الذي بدأ هناك وانتشر بعموم العالم ، ها هو يعود جامعاً كل المقاتلين السلفيين في العالم ليصفوا حسابهم ، او يصفي التاريخ معهم حسابه هناك ..

و صدقاً ، لا اعتقد بانني بعد هذه الوريقات قد قمت بتفسير شيء عن " وعي " او " كارما " التاريخ ، ما قمت به فقط هو الإضاءة على حوادث معينة وكل الذي استطيع استنتاجه عن مستقبل الفتنة المذهبية الآن هي انها بدأت من المدينة في الحجاز وامتدت الى الشام والعراق قبل اربعة عشر قرن من الزمن ، وها هي اليوم تعود بمسار عكسي ، من العراق .... فالشام .. وستنتهي لا محال في المدينة والحجاز .. ، وبعد نهايتها في ارض الحجاز سيفتح ملف جديد في التاريخ وعصر جديد للعرب والمسلمين ..
فقوانين الكم ، التي تفوح تأثيراتها في حوادث التاريخ وكـأنه " وعي " بدرجة ما يصعب فهمه ، هي التي تخلق مثل هذا التوازن في الحوادث والعلاقات بين وقائع التاريخ الكبرى رغم تعقيداتها وتشابكاتها ، لكنها تعقيدات سببها الوعي والارادة البشرية بنفس الوقت التوازنات المفروضة فيها هي توازنات طبيعية ضمن نسق الخلفية الكونية الاساس والتي اذا ما اختلت .. ارتدت قافلة بمسار معكوس كالبندول ...

بأمثال هذه الحوادث ، يمكن لفيلسوف مثل هيجل ان يعتقد بان للتاريخ " وعياً " كونياً او فكرة كونية مطلقة ، او فلاسفة امثال شبنغلر وتوينبي يعتقدون بان للتاريخ مسارات معينة يسلكها في حركته التي رفع عنها ماركس إطارها الميتافيزيقي كما اعتقد ونسبها الى تغير جدلي وحركة جدلية في الصراع التاريخي بين الطبقات وتطور وسائل الانتاج ليس إلا ..

لكن ، بمراجعة قوانين الكم بعناية واناة ومقاربتها مع مبادئ عمل الذاكرة والدماغ تتكشف لنا " افتراضات " بان ليست كل الحدوس الافتراضية خيال ، وليست كل النظريات المحكمة في بنيانها امثال المادية التاريخية في تفسيرها للتاريخ قابلة للصمود امام ميكانيكا الكم وارتباطها بالوعي الفردي والوعي الجمعي للإنسان ..
اذ لا يزال التاريخ لغزا كبيرا ، و لا تزال الانسانية بشوق الى معرفة المزيد عن اسراره واسرار العقل البشري نفسه ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية