الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أكتوبر1917 :انقلاب أم ثورة اجتماعية؟ الفصل الرابع ، الرهان السياسي

إرنست ماندل

2013 / 11 / 14
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


إن إدانة ثورة أوكتوبر تقوم، في الغرب كما في الشرق، وعلى وجه العموم، على فكرة أن "الانقلاب" البلشفي حال دون مأسسة الديمقراطية وتوطيدها، وأنه أفضى انطلاقاً من ذلك إلى "نظام توتاليتاري". وبحسب هذا الزعم، كانت الخيار في أوكتوبر 1917، كما في الأسابيع والأشهر التالية، بين الديمقراطية والديكتاتورية.

يتعلق الأمر مرة أخرى بمخاتلة وتزوير تاريخيين فاقعين. ففي الواقع كان تقاطب القوى الاجتماعية والسياسية قد بلغ الذروة في روسيا. وقد كان ذلك التقاطب قد بلغ حداً لم يترك معه أي حيز لتجربة ديمقراطية برجوازية ممأسسة، لا بل طويلة الأمد. منذ أيام تموز/يوليو 1917، المطبوعة بتجذر المطالب الشعبية، كانت الأحزاب البرجوازية –والزمر العسكرية التي كانت مرتبطة بها- قد تبنت مساراً قمعياً بشكل واضح.

لم يسقط انقلاب كورنيلوف العسكري في آب/أغسطس 1917 من السماء. كان يعكس تفاقم الصراعات الاجتماعية-السياسية، ولقد زاد فشله من حدة التعطش لرد مضاد للثورة من جانب الطبقات المالكة وخدامها. وقد بدا ذلك مباشرة عشية ثورة أوكتوبر وغداتها.

لقد أخذ حقد الطبقات المالكة الروسية حجما نادراً ما عرفه [حقد طبقي]. ويمكن مقارنته مثلاً بحقد البرجوازية الفرنسية خلال كومونة باريس، عام 1871، وحقد الرجعية الاسبانية خلال صيف عام 1936.

يشير جاك سادول بفطنةٍ إلى أنها:

"[...] تريد إرساء ناظم استبدادي يُغرق الثورة في الدم، ويذبح اليهود، والبلاشفة، والاشتراكيين والكاديت، وينفيهم خِلْطَ مِلْط" (1).

الرجعية الروسة والامبريالية الألمانية

كان ذلك الحقد الطبقي عميقاً إلى حد أنه، في مهلة أشهر قليلة، بات النبلاء والملكيون "الوطنيون"، الذين سبق أن استشاطوا غيظاً بسبب قلة حماس الجنود لهجوم كيرنسكي على جبهة غاليسيا البولونية في حزيران/يونيو 1917، عبروا عن تمنيهم وصول القوات الألمانية إلى بتروغراد لسحق البؤرة الثورية وأصبحوا موالين للألمان بشراسة (2). وهو ما يشير إليه أيضا جاك سادول مرة أخرى بقوله:

"[...] منذ وصول [السفير الألماني] ميرباخ إلى موسكو، شعر الملكيون بالاطمئنان والراحة. وكانت الزيارة الأولى التي قام بها السفير الألماني للدوقة الكبرى، امرأة أخ نقولا الثاني. ومذاك رأى ملكيين آخرين جديرين بالذكر. وكان الأمر يتعلق بداهةً بتحضير عودة قيصرية إلى العرش. كان أنصار الملكية المطلقة مستعدين للقبول بكل شيء من دون حياء، ولاسيما بالحلف العسكري مع ألمانيا واستقلال أوكرانيا" (3).

وقد أكد ذلك كلياً عضو في السفارة الألمانية هو الفريهر كارل فون بوتمر:

"منذ بعض الوقت، تنشط الحلقات الملكية كثيراً وتفتح لنا قلبها [...]. وبمناسبة هذه النقاشات، التقيت سلسلة من الشخصيات الهامة التي تتعاطف معنا. إن كلامها يذهب كله في الاتجاه عينه: لا يسعنا شيء من دونكم. عليكم أن تتدخلوا مباشرة، فتتمكن عندئذ من العمل" (4).

القمع المضاد للثورة

لم يكن ذلك الحقد الطبقي يستهدف من جهة أخرى البلاشفة وحلفاءهم، في المقام الأول، بل الجماهير الشعبية بوجه خاص، بدءا بالفلاحين "المنفلتين من عقالهم" في قراهم، مشترطاً إعادة "النهّابين" إلى صوابهم.

كان البرجوازيون والنبلاء، بدعم متردد من الأحزاب الإصلاحية، ولاسيما الاشتراكيين-الثوريين اليمنيين، هم الذين فجروا الحرب الأهلية غداة ثورة أوكتوبر. لقد أبدوا قساوة بلا حدود خلال سنوات 1918-1921.

يستشهد الصحفي الأمريكي أ.ر.ويليامز، الذي قام في روسيا خلال الثورة، بالمقطع التالي من مقال المحرر ن.شيفرين للصحيفة اليومية المناهضة للبلاشفة، اليوم، بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 1919:

"كما تعلمون، لقد غير البلاشفة اسم الفيالق القديمة. فقوات موسكو كُتب على ظهور أفرادها الحرفان الأولان "ك.ل". كارل ليبنخت. لقد أسرنا [نحن جيش الشمال الأبيض] أحد هذه الفيالق، ووضعناه أمام المحكمة الحربية. إن المحاكمات أمام الجبهة البيضاء قصيرة جداً، فكل جندي يتم استجوابه وإذا اعترف بأنه شيوعي، يحكم عليه فوراً بالموت إما شنقاً أو بالرصاص. والحمر يعرفون ذلك تماماً".

"يقف الملازم ك أمام الفيلق الأسير ويعلن: "من منكم شيوعيون حقيقيون، فليُبدوا شجاعتهم ويتقدموا". يلي تلك الكلمات صمت ثقيل وممض. يتقدم أكثر من نصف الفيلق في صف متراص، فيتم الحكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص. لكن قبل الإعدام، على كل جندي أن يحفر قبره الخاص به [...]".

"توجه الأوامر على المحكوم عليهم بأن ينتزعوا ثيابهم [...] لكي لا تتلطخ ثيابهم العسكرية بالدم أو تتمزق بالرصاص، فيتخلص الشيوعيون ببطء من قمصانهم ويربطون ألبستهم على شكل طرد [...] ثم يحفرون قبورهم وهم عراة [...] يصدر أمر، ويلمع وميض في الليل، وتدوي الطلقات [...] لا يزال الشيوعيون واقفين، منتصبين تماماً. صلية ثانية. الطلقات تصيب القلب مباشرة، وتنبجس سيول من الدم [...]"(5).

تسبق الرواية حتى في أدق التفاصيل الطرائق التي ستستخدمها القوات الخاصة النازية، قوات الـ S.S. (*)، حين ستحتل القوات الألمانية الاتحاد السوفييتي، خلال الحرب العالمية الثانية: المذابح ضد المفوضين السياسيين واليهود المجبرين على حفر قبورهم. ويتعلق الأمر فضلا عن ذلك، بأسرى حرب. هاكم ما كان وجه "المدافعين عن الديمقراطية" ضد "الديكتاتورية البلشفية". يذكر الفريهر فون بوتمر في كتابه المذكور سابقاً أن:

"التشيكوسلوفاكيين [أسرى الحرب الذين سلحتهم الامبريالية ضد سلطة السوفييتات في صيف 1918] والسيبريين يتصرفون بصورة عديمة الذمة تماماً حيال أعضاء السوفييتات الذين كانوا يقعون في قبضتهم. إن العدد الكبير من الإعدامات ترك تأثيرا عميقاً في نفوس كل البلاشفة" (6).

هذا ويلاحظ أيضاً الكاتب الألماني ألفونس باكيه، مراسل الفرانكفورتر زايتونغ في روسيا، أنه بعد احتلال ياروسلاف المؤقت، في تموز/يوليو 1918، أعدمت الثورة المضادة أعضاء السوفييت البلاشفة، بمشاركة نشطة هذه المرة من الاشتراكيين-الثوريين.

هل يجب أن نذكّر بأنه في الفترة نفسها، قتل إرهابيون اشتراكيون-ثوريون يساريون قياديين بلاشفة بين الأكثر أهمية، لاسيما فولود ارسكيي وأرويتسكي؟ واقترفت اشتراكية-ثورية يسارية، هي فاني كبلان، محاولة اغتيال ضد لينين كادت تكلفه حياته. وقد كان مؤلفون بلاشفة على حق حين أكدوا أنه:

"لقد تشكَّل "الجيش الشعبي" الأبيض المزعوم [...] تحت رشقات البنادق التشيكوسلوفاكية، خلف جبال من جثث زهرة البروليتاريا الخالصة في سيبريا والأورال" (7).

إن محاولات الأحزاب التوفيقية خلق نظام اسم نظام "الجمعية التأسيسية" أخفقت بسرعة. أعادت انقلابات وضع السلطة بين يدي ديكتاتوريين عسكريين من أمثال الأميرال كولتشاك أو الجنرال رانغل (8).

ديكتاتورية بيضاء أو سلطة سوفييتات

لم يكن الخيار الملموس بين ديمقراطية برجوازية وديكتاتورية بلشفية، بل بين ديكتاتورية مضادة للثورة وسلطة السوفييتات. ليس من شك في الطابع الديكتاتوري للثورة المضادة. لم يكن الخيار الملموس بين ديمقراطية برجوازية وديكتاتورية بلشفية، بل بين ديكتاتورية مضادة للثورة وسلطة السوفييتات. إن جون ريس نقل بشكل جيد سياسة الإرهاب التي كانت تتبناها القوى الرجعية:

"كلما كان الإرهاب أشد، كلما كانت انتصاراتنا أعظم، هكذا كان يعلن كورنيلوف. يجب إنقاذ روسيا حتى إذا كان علينا لأجل ذلك أن نشغل النار في نصف (الأراضي) ونهرق دم ثلاثة أرباع الروس".

كان الهتمان (**) سيمونوف موضوعاً تحت سلطة الجنرال الأبيض كولتشاك (9). إن مشهد المناطق الواقعة تحت سيطرته لم يكن يترك أي التباس بخصوص طبيعة حكمه:

"نساء ورجال بريئون مشنوقون بالدزينات على أعمدة التلغراف، قرب عاصمته، كانت قواته ترش بالرشاشات شاحنات ملأى بالضحايا في حقول الإعدام على امتداد سكة الحديد".

وبأوامر من قيادي أبيض آخر هو البارون أورغان-ستيرنبرغ: "كان رجال ونساء يموتون بضربات العصي، أو مشنوقين، أو بقطع الرأس، أو بتقطيع أعضاء الجسم، ضحايا عدد لا يحصى من أعمال التعذيب الأخرى التي كانت تحوّل كائناً حياً على ما سماه أحد الشهود "كتلة شوهاء من الدم". وقد وصف عضو في جهاز أورغان ستيرنبرغ الطبي أمراً كتبه البارون على أنه "ناتج دماغ مريض لشخص مختل ومجنون سلطة متعطش للدم البشري" (10).

المذابح ضد اليهود (البوغروم)

في 1918-1921، كانت أوكرانيا مسرحاً لأسوأ أنواع البوغروم، تلك المذابح المقترفة ضد الجماعات اليهودية، التي حدث أن عرفتها أوروبا حتى "الحل النهائي"، على يد النازيين. وبحسب زفي جيتلمان، تمت ألفا مذبحة من بينها 1200 أوكرانيا. وقدّر الكاتب عدد الضحايا الكلي بـ 150 ألفاً. وقد تلازمت تلك المذابح مع فظاعات لم يكن لها مثيل: "كان الرجال يدفنون حتى العنق، ثم يقتلون بحوافز الجياد الموجهة نحوهم، أو يمزقون إرباً بواسطة جياد تشد في اتجاهين مختلفين، وكان أولاد يُحقون على جدران أمام بصر والديهم، وكانت النساء الحوامل أهدافاً مفضلة، بحيث يتم قتل أجنتهن أمامهن. وقد جرى اغتصاب آلاف النساء. والمئات بينهن أصبن بالجنون من جراء تلك التجربة" (11).

هذه المذابح نظمها ببرود وعن سابق تصور وتصميم القادة المناهضون للثورة. وكما لاحظ المؤلف الانكليزي بروس لنكولن، وهو ذاته مفرط في الرجعية:

"لم تعد المذابح ضد اليهود انفجارات عفوية للحقد الديني والعرقي. كانت الآن حوادث محسوبة ببرود، موسومة باغتصابات جماعية، ووحشية قصوى وتدميرات لم يسبق لها مثيل. في نهاية شهر آب/أغسطس فقط، اغتصب البيض، ضمن جماعة كريممشوك اليهودية، 350 امرأة، من بينهن نساء حبالى، ونساء وضعن للتو مولوداً، وحتى نساء محتضرات، على وشك الموت" (12).

لقد كانت الثورة المضادة تعتمد على جيش الاحتلال الألماني. وحين استولى هذا الأخير على مدينة أوذيسا وضواحيها، اصدر إعلاناً، مؤرخاً في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1918، نُشر لاحقاً في صحيفة نيو ناشريشتن، الناطقة بلسانه، والتي أكدت بوجه خاص ما يلي:

"لقد دخلنا الأراضي الروسية بنيَّة إعادة النظام وتحرير البلد من الغاصبين البلاشفة [...] كل العناصر المضرة بروسيا، أي البلاشفة ومن يدعمونهم، تعلن منذ الآن أنهم خارجون على القانون. ومن يستقبلهم سوف يحوّل إلى المحكمة العسكرية"(13).

إن لائحة الفظائع التي ارتكبها البيض يمكن أن توسَّع إلى ما لا نهاية له:

"المذابح التي ارتكبها يودنتيش (650 شخصاً أطلق عليهم الرصاص أو شنقوا في مدينة يامبورغ وحدها في آب/أغسطس 1919) [...]، والعصابات البلطقية والألمان التابعون لفون در غولتز، في ريغا (4000 ضحية تقريباً، [...] وكولتشاك (ألف جندي أحمر أُحرقوا أحياء في بيرم خلال انسحابه [...])"(14).

الثورة المضادة الاجتماعية

كان لـ"البديل السياسي" من سلطة المجالس، بالطبع، مضمون اجتماعي-اقتصادي محدد، كما هي الحال خلال أي ثورة اجتماعية. ثمة حيث أقام البيض ديكتاتوريتهم، جرى إلغاء مكاسب أوكتوبر بسرعة، إذا لم يكن على الفور. استعاد المالكون العقاريون ملكية حقولهم. وألغيت حقوق الأقليات القومية. وجرى اضطهاد السوفييات بشراسة. كما جرى الإنكار الجذري لحقوق العمال الديمقراطية. هذا هو ما تسبب بهزيمة البيض.

"كان عامل أساسي وراء هزيمة كولتشاك هو معنويات قواته الهابطة. كان أمراً متكرراً أن يفر الجنود خلال معركة للانضمام إلى معسكرات الشيوعية. وكان عامل آخر هو عجزه عن كسب السكان، الذين وإن لم يكونوا موالين إطلاقاً للشيوعية، كانوا يفضلون سلطة السوفييتات في نهاية المطاف"

"كان هنالك أسباب كثيرة وراء انتصار الجيش الأحمر في الحرب الأهلية، لكن معظمها يتلخص في واقع بسيط: إن الشعب، منظورا إليه ككل، كان يفضل، على الرغم من عدم شعبية الشيوعيين، نظام سوفييتات على الإمكانات الأخرى المتاحة. لم يكن الفلاحون يحبون هذه الجبهة، ولا تلك، وكانوا يتمنون بوجه خاص أن يتركوا لحالهم، لكن لحظة الاختيار، كانوا يفضلون الشيوعيين، الذين يعطونهم الأرض، على البيض الذين يأخذونها منهم، أو يهددونهم باستعادتها"(15).

هذا إذاً، هو ما جعل البيض ينهزمون. لم يستطيعوا الحصول على قاعدة شعبية أو إعادة تكوينها. كانت جيوشهم في معظمها جيوش ضباط، من دون قدرة على تطويع مجندين، أو حتى إرادة ذلك. ومن الواضح إلى أي حد كان هؤلاء الضباط يخشون الفلاحين.

طريق ثالثة؟

إن خصوم أوكتوبر، غالباً ما يكون رد فعلهم، إزاء هذا التشخيص الذي يصعب الجدال بشأنه، في اتجاهين متعاكسين تماماً. فالبعض يعترفون بأنه لم تكن هناك قاعدة لنظام ديمقراطي (برجوازي) في روسيا، سواء لأسباب اجتماعية (عد استقرار أقصى، غياب للطبقات الوسطى التي تشكل الدعامات التقليدية للديمقراطية)، أو لأسباب إثنية-ثقافية (غياب التقاليد الديمقراطية في الإمبراطورية الروسية، واتجاه الجماهير للمراوحة بعنف بين السلبية المستسلمة والانفجارات الفوضوية وغير المتحكَّم بها).

ضمن هذه الشروط، كان "الانحراف التوتاليتاري" لدى البلاشفة محتوماً، في الوقت نفسه الذي يبقى فيه، أياً يكن، أسوأ من نظام استبدادي يميني.

بالنسبة لآخرين، كانت هنالك، بعد كل حساب، إمكانية طريق ثالثة. وبحسب هؤلاء، لو لم تتم إطاحة نظام كيرنسكي بواسطة "الانقلاب البلشفي" كان يمكن أن يستقر، شيئا فشيئا، عبر ممارسة قمع معتدل ضد أقصى اليمين وأقصى اليسار في آن معاً (16). فبعد دعوة الجمعية التأسيسية للانعقاد وتوزيع الأراضي على الفلاحين بطريقة منظمة وشرعية، كان يمكن أن تستقر ديمقراطية برجوازية شبيهة بتلك التي قامت في بولونيا، مع تقييدات بالتأكيد لم تعرفها أوروبا الغربية.

ليست هذه الرؤية واقعية. فهي تبخس تقدير الطابع المنفجر للتناقضات الاجتماعية. فالاعتقاد بأن الرأسماليين كان يمكن أن يوافقوا على تشريع اجتماعي يهدم قدرة مصانعهم على المنافسة، والظن أن مُلاّك الأراضي كان يمكن أن يقبلوا بتوزيع أراضيهم، بحجة أن جمعية تأسيسية منتخبة بالاقتراع العام كانت حققت إصلاحات كهذه، إنما هو من قبيل تجاهل دروس التاريخ الأوروبي في العشرينيات والثلاثينيات [من هذا القرن].

فخلال تلك السنوات، لم يتم فقط التضييق الشديد من مدى الديمقراطية البرجوازية، لا بل إلغاؤها –ما عدا على صعيد محدود جداً –في بولونيا وبلدان البلطيق، وتقييدها بقوة في فنلندا. لقد ألغيت أيضاً في ألمانيا وايطاليا، واسبانيا، وهي بلدان ثلاثة أكثر تطوراً بكثير من روسيا عام 1917.

لقد اعترف القادة المناشفة هو ذاتهم بذلك. فدان كتب من جهته أنه:

"بعد أن قوّمت [اللجنة المركزية المنشفية] موازين القوى الفعلية، أفضت إلى استنتاج أن انتصار العناصر التي كانت تزحف إلى بتروغراد –بغض النظر عن نواياها الذاتية- كان عنى حتما انتصارا أسوأ الثورات المضادة".

ثمن أوكتوبر 1917

كان الخيار الوحيد إذاً هو التالي: إما انتصار الثورة الاشتراكية أو انتصار ثورة مضادة بين الأشد دموية، تحمل إلى السلطة هتلر روسياً أسوأ أيضا من هتلر الألماني الذي عرفناه. على ضوء هذا التشخيص وكل ما يستتبعه، تمكن الإجابة عن مسألة معرفة ما إذا كان الثمن الذي دفعته ثورة أوكتوبر مرتفعاً جداً. إن جوابنا هو كلا حازمة. كان هزيمة الثورة، عام 1917، كلفت الشعب الروسي وأوربا ثمناً أبهظ بكثير مما كلف الانتصار.

لكي يزوّر خصوم أوكتوبر الحسابـ يلجأون إلى لعبة شعوذة استخدموها ضد الثورة الفرنسية. إنهم يجمعون خلط ملط ضحايا الثورة وضحايا الثورة المضادة، إسقاطات الثورة الاقتصادية وإسقاطات الثورة المضادة.

فيم يمكن تحميل الثورة الفرنسية المسؤولية عن ضحايا حروب نابليون؟ وفيم يمكن تحميل ثورة أوكتوبر تبعة ضحايا إرهاب البيض وبوغروماتهم؟

يزعم سفطائيون أن الحرب الأهلية والإرهاب الأبيض ليسا سوى ناتجين للثورة. والجواب بديهي: أليست الثورة بحد ذاتها، ناتج النظام القديم؟ يتم الاصطدام هنا بتصوُّر مدٍّ تاريخي لا ترتبط مراسيه في الزمان والمكان، تصور لا يتيح، في نهاية المطاف، استخلاص أي استنتاج. فهذه الطريقة، إذ تؤكد إرادة فهم الحركة التاريخية في مجملها، تحجب في الواقع المسؤولية الدقيقة لقوى اجتماعية وسياسية محددة، في علاقة بأفعال خاصة.

حكم أخلاقي وحكم مسبق طبقي

إن للمشكلة من جهة أخرى بعداً لا ينبغي السعي لطمسه. ففي زمن الثورة، يكون الشعب الكادح عموماً مدفوعاً بادئ ذي بدء نحو ردود فعل شهمة. لكن إزاء الحرب الأهلية، وحين يجد نفسه وقد استفزّه واعتدى عليه تكراراً خصومه الطبقيون، يميل أيضا إلى استخدام العنف المباشر، لا بل "المتوحش" أحياناً. لقد سبق أن ذكر بابوف، في رسالة إلى زوجته، يعلّق فيها على إعدام الأميرة دولامبال بعد الاستيلاء على الباستيل، بأن هذه التجاوزات هي الناتج الحتمي إلى ابعد الحدود لقرون من اصطادم الشعب بعنف مضطهديه وقساوتهم (17). والأمل ضمن شروط كهذه بأن تبدي الجماهير، في كل الظروف، احتراماً دقيقاً لحقوق الرجل والمرأة، هو من قبيل المطالبة حقاً بحدوث معجزة.

وفي الأخير، إن ما تخفيه الإدانات المجردة، الأخلاقية الزائفة، للعنف الثوري، من دون اعتبار السياق التاريخي الدقيق، إنما هو حكم طبقي مسبق بالغ الفجاجة. إن العنف التقليدي للممسكين بزمام السلطة "طبيعي". إنه يمثل "أهون الشرين"، مهما يكن مداه واتساعه. والجواب الاحتجاجي للشعب المنتفض هو "أسوأ"، تحديداً، حتى إذا كان مداه أضيق بما لا يقاس من مدى جواب المالكين. إن النفاق بادٍ للعيان.

هذا الحكم المسبق الطبقي يخفي غالباً خوفاً من الجماهير حافزُه الاجتماعي بديهي مجدداً. وكما يقول مؤرخ فرنسي معتدل بالأحرى:

"بعد عام 1861، اهتمت الانتليجنسيا والدولة باستمرار بتأطير الشعب، خوفاً من طاقته الكامنة الفوضوية والمدمرة. إن خوفهما المشترك (الناجم عن الجهل) منعهما من أن يكوّنا عن هذا الأخير فكرة موضوعية، تقوم على معرفة ملموسة بحقائق البلد. لذا فقد استسلمتا، كلتاهما، للستيخينوست (القوة الأولية) الشعبية في أوائل القرن العشرين"(18).

ومن الخطأ بالدرجة نفسها، أن يراد جمع أكلاف ثورة اوكتوبر 1917 والأكلاف، اللاحقة، للنظام الستاليني. فالستالينية. فالستالينية هي في الواقع ناتج ثورة مضادة بيروقراطية حقيقية. والخلط بين الاثنين يكشف بخس تقدير، لا بل نفياً، لاتساع هذه الأخيرة، للقطع الجذري الذي شكَّله "الترميدور السوفييتي" –الثورة المضادة البيروقراطية- بالنسبة لأوكتوبر والفترة التي تلته مباشرة (19).

لقد كانت كلفة الستالينية مأساوية بالنسبة للبروليتاريا السوفييتية والعالمية. ويمكن اليوم أن نقيس مداها.

إن اتساع هذه الثورة المضادة الستالينية يعبر عن المأساة التاريخية التي حدثت أكثر بكثير مما عن تحليلات دقيقة للمسؤولية المزعومة لأفكار لينين (لا بل أفكار ماركس) عن جرائم ستالين. لقد اغتال ستالين في العشرينيات والثلاثينيات مليون شيوعي، فهل يمكن أن نؤكد بصورة جدية أن ذلك ليس سوى "تفصيل تاريخي"؟ أليس من البشاعة بمكان أن نساوي بين الجلادين والضحايا، من دون تمييز (20)؟

عرب النص وقدمه : كميل داغر






إحالات :

(1)ج.سادول Notes sur la révolution bolchévique، باريس، 1930، ص 288.

(2)كان كيرنسكي، الإصلاحي، رئيس الحكومة المؤقتة. ولقد كان الوضع داخل القوات المسلحة، وإرادة السلام لدى الجنود يصلان إلى حد أنه لم يكن يتوصل إلى تنظيم هجمات عسكرية وفعالة بمواجهة القوات الألمانية، وهو ما كان اليمين يأخذه عليه بقوة. فلنذكّر بأن قسماً كبيراً من بولونيا كان قد دمج بالإمبراطورية الروسية.

(3)المرجع ذاته، ص 322.

(4)ك.ف.بوتمر، Mit Graf Mirbach in Moskau، توبنحن 1922، ص 56.

(5)أ.ر.وليامز، Durch die russische Revolution، برلين 1922، ص 233-234.

(*)اختصار Shutz-Staffel، أو أفواج الحماية. تأسست منذ عام 1925 كحرس شخصي لهتلر، ثم كلفت لاحقاً بحراسة معسكرات التجميع، والأراضي التي احتلها الرايخ (المعرب).

(6)بوتمر، مرجع مذكور، ص 62.

(7) Illustrierte Geschichute der russischen Revolution، برلين 1928، ص 539.

(8)في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1918، "كان قد أعلن الأميرال كولتشاك [...]" قائدا أعلى لكل روسيا "[...] وقد وافق ممثلو بريطانيا وفرنسا على الانقلاب [...] شجب الاشتراكيون-الثوريون، المتخفون في أوفا، فرق المتطوعين، لكنهم كانوا عاجزين عن المضي أبعد من ذلك. وقد أقام بعضهم سلاماً هشاً مع الشيوعيين. أما الاشتراكيان-الثوريان العضوان في لجنة الإدارة، زينوفييف وأفكستييف، فأجبرا على الهجرة، وهرب تشيرنوف في الأخير إلى الخارج (ل.شابيرو، مرجع مذكور، ص 175).

(**)الهتمان زعيم قوقازي في عهد الاستقلال (المعرب).

(9)فلنذكّر بأن تعبير "الأبيض" مستخدم إجمالا للدلالة على المعادين للثورة، خلافاً لـ"الحمر". إن جنرالاً أبيض هو إذا جنرال في الجيش المناهض للثورة.

(10)جون ريس، "دفاعاً عن أوكتوبر"، انترناشونال سوشاليسم، العدد 52، خريف 1991.

(11)ز.جيتلمان A Century of Ambivalence-The Jews of Russia and the Soviet Union.

(12)لنكولن، Red Victory، 1989، ص 322-323.

(13). ورد الاستشهاد في كتاب ب.برايس، المراسل في روسيا للصحيفة اليومية الليبرالية البريطانية مانشستر غارديان Die Russiche Revolution هامبرغ، 1921، ص 465.

(14)موريزي، La Renaissance du livre Chez Lénine et Trostky ، باريس، 1922، ص 129.

(15)ل.شابيرو، مرجع مذكور، ص 176، 148.

(16)خلافاً لأسطورة [رائجة] كان نظام كيرنسكي قمعياً للغاية، وإن بطريقة أقل دموية من نظام إيبرت-نوسكه. فعشية أوكتوبر، كان ثمة أكثر من عشرة آلاف سجين بلشفي أو متعاطف مع البلاشفة في سجون كيرنسكي، معظمهم من الجنود.

(17)بابوف هو رجل سياسة في ثورة 1789 الفرنسية. صاغ من يسار الراديكالية الديمقراطية وجهة نظر شيوعية. مات على المقصلة في عام 1797.

(18)م.راييف، Comprendre l’Ancien Régime Russe، باريس، 1982، ص 176.

(19)لقد عالجنا هذه المشكلات، بما فيها مشكلة الطبيعة النوعية الخاصة للتروميدور السوفييتي، في مؤلفنا الجديد: Power and Mony-A marxist Theory of Bureaucracy لندن، 1992. إن عبارة "ترميدور" تدل، أصلا، على ثورة سياسية خلال الثورة الفرنسية ما بين 1789 و1815. هذه الثورة المضادة، التي بدأت عام 1794 (كان "ترميدور" شهراً في تقويم ذلك العصر)، فكّكت الأشكال الديمقراطية والشعبية المنبثقة من الانتفاضة ضد النظام القديم، من دون أن تعيد النظر في طابعه البرجوازي. وعلى سبيل المماثلة، يدل "الترميدور السوفييتي" على الثورة المضادة الستالينية التي صفت الديمقراطية الاشتراكية، وأرست ديكتاتورية بيروقراطية، من دون أن تعيد الرأسسمالية على روسيا.

(20)يعطي المؤرخ م.فيرو الأرقام التالية التي تعبر عن تحول الحزب الشيوعي السوفييتي. بين الستة أشهر الأولى من عام 1924 والستة أشهر الثانية من عام 1925، هبط عدد العمال بين المرشحين لعضوية الحزب من 64.5 إلى 43.8%. أليس هذا بليغاً؟ (م.فيرو، مرجع مذكور، ص 246) إن هذا لينبئ بتحولات أشد عمقاً أيضاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي