الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


افتتاحاية -نوافذ- : لا للشعبوية لا للصبيانية*

عبد المجيد السخيري

2013 / 11 / 25
مواضيع وابحاث سياسية



منذ عقود طويلة في المغرب،ظلت السياسة تمارس بدون رهان،ولا تخضع لأية عقلانية؛ليس فقط بسبب التسلطية شديدة الوطأة،بل جوهريا بحكم ارتماء مُخز ومٌذل للنخب في أحضان الانتهازية،وما يترتب عن ذلك من مظاهر الانهزامية والانتظارية والجمودية.وقد أودى هذا الوضع إلى تدني لا نظير له في وعي وسلوك هذه النخب،وإلى انحدار أدائها في مختلف المواقع والميادين،إلى الحد الذي افتقدت فيه السياسة المعنى وانغمست في التفاهة؛ تحت ضغط أو طغيان الشعبوية والطفولية.ولعل الأمر يتعلق هنا بالناتج المحلي لضغط أجواء عصر سمته صعود التفاهة وتعميمها على نطاق واسع كما وصفه في مكان ما الفيلسوف الفرنسي- اليوناني كاستورياديس.
أما الصبيانية السياسية فقد ترعرعت هذه المرة في أحضان الدولة،وجاءت تتوّج تربُع نخبة "العهد الجديد" على الحكم،وانتعشت في دهاليز السلطة قبل أن تنتشر عدواها وتلتهب حماستها وسط شرائح عريضة من النخب،الموالية منها أو المعارضة للنظام،فصارت نهجا يقتدى به من طرف "الحكومة الممنوحة"الأصولية المتمخزنة حتى الثمالة.
ورجل السياسة (شبه) الرسمي-الأصولي المخزني- شأنه شأن سلفه -"الوافد الجديد"-المتحكم الفعلي في السلطة الإدارية،لم يعد يبالي في سلوكه اليومي بالجمهور،ولا بالمحيط الموضوعي،ولا بالواقع الملموس،وذلك مباشرة بعد تسلمه مقاليد الإدارة؛وما يشد الانتباه هو عجزه عن التجرد من الحاضر قبل الماضي،وعن إرادة توفير الوسائل لبلوغ الغايات التي يسعى إليها،وكذا عن الاهتمام بالنتائج الحقيقية أو البعيدة لأفعاله.فلا يكتفي برفض النظر إلى الأمور وأخذها كما هي في الواقع،بل يتمادى في غيه إلى درجة استبلاد العقول واحتقار وعي الناس وشتم ذكائهم.إذ،بتقليد مكشوف لعجرفة سابقه،يتعامل باستخفاف كبير مع قدرات الذاكرة الشعبية والرأي العام على استرجاع كما على التقاط الأحداث،والتمييز بين الحقيقة والوهم،بين الصواب والخطأ،بين الكذب والصدق،بين الجد والهزل.. إلخ.
وعبر تصرفهم الصبياني اللعوب الذي تمتزج فيه السخافة بالمراهقة،ينشط زعماء وحلفاء حكومة "الإسلام السياسي" في تبرير الأمر الواقع بدعم من جيوب المحافظة داخل وخارج النظام؛وبالتالي في تحصين معاقل الرجعية والفكر الإقطاعي.يحاول الفاعل السياسي الأصولي،المخزني،تغليط الناس فيما يخص القضايا المطروحة وكيفية تدبيرها كشأن عام؛يتخذ رغباته كحقائق ويريد إقناعهم بها،وهي بعيدة كل البعد عن الواقع الملموس،ولا يمليها سوى سعيه الدؤوب إلى طمس طبيعة العلاقات السياسية السائدة والبنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتفرعة عنها.فهو يراهن لهذا الغرض على سهو المتلقي للخطاب،إن لم يكن على بلادة العامة،كي يتفنن في نسج خطاب سياسي إطنابي،فارغ،قوامه سبك الجمل الطنانة،وإحداث الزعيق،متعاطيا بحماس وطني وذهني إلى اللعب،ومعالجا في نفس الآن القضايا الجدية كأنها ألعاب.
هكذا تحول المشهد السياسي إلى مهزلة،وأضحى مسرحا يتنافس فيه "الحكام" الجدد والقدامى،على إتقان الشعبوية،واللعب بمصائر الناس،غير مبالين بمستقبل البلاد.يستقوي بعضهم بالدولة،والبعض الآخر بالجهاز الإداري لحماية أنفسهم من أية محاسبة أو مراقبة،محصنين جميعا بواقع الاستبداد الذي يعملون على شرعنته وتوفير شروط إعادة إنتاجه،كي يتفرغوا لشن حملات غوغائية للتعويض والتغطية على عجزهم التام عن تحمل المسؤولية أو القيام بالمهام المنوطة بهم،أو حتى تحقيق الحد الأدنى من الوعود التي تقدموا بها في شكل برنامج سياسي أو انتخابي أمام العموم.
لم يسلم بعض من اليسار من آفة الشعبوية والطفولية،لكنه لم ينزل إلى هذا الحضيض الذي بلغه الفعل السياسي مع فلول المحافظة والرجعية.فقد كانت لشعبوية وصبيانية اليسار حقا ميولات هادمة إلى هذا الحد أو ذاك،خاصة على المستويين السياسي والنقابي؛غير أن هذا التيار السياسي كان يمتلك مع ذلك مرجعيات فكرية واضحة وتصورات سياسية صائبة إلى حد كبير،مكنته من تحديد مكمن الخلل في اشتغال النظام السياسي والبناء الاجتماعي،ثم من تحريك المياه الراكدة وتغذية الدينامية الاجتماعية عبر إثارة موجات عنيفة من النقد والرفض والاحتجاج ضد الأوضاع القائمة.أما اليوم،فإننا نشهد ميلاد وترسخ شعبوية دولتية ماضوية،قوامها الإجماع حول تثبيث ركائز التقليدانية السياسية؛وتقويم السلفية الأصولية التي تسبح في أجواء عكرة من التواطؤ والعدوانية ضد الآخر..
وقبل سنوات قليلة كانت هذه الشعبوية قد أخذت في النمو وسط نوع من الصحافة المتسولة بالاستقلالية والعازفة على وتر المشاعر الدينية للناس وميراثهم الأخلاقي،حيث مارست لمدة دور مطاردة الساحرات وخلط الأوراق،وأوجدت من ثم مناخا ملائما لمبايعة الاستبداد وعبيد المخزن المتدثر بعباءة الحداثة والدين،وأسهمت بشكل غير مسبوق في تضييق الخناق على العقل النقدي في السياسة والممارسة،وإلحاق بالغ الضرر بصورة اليسار المقاوم عبر فعل التشويه الممنهج والمدروس مع كثير من التوابل الأدبية.ولم يكن أحد من الأجيال المقاومة لنظام الحكم المطلق والفردي يتوقع أن تزدهر وتتألق صحافة معاكسة للتقدم والتحرر من نير الطغيان المخزني،وتنحدر إلى الحضيض،أو تذهب سدى في أحسن الأقوال،بالمقابل كل الجهود الثقافية المبذولة على امتداد أزيد من ثلاثة عقود لتحرير الحياة بهذا الوطن من قيود وأغلال الاضطهاد والتمييز والترويع وتكميم الأفواه والتغييب القسري في مجاهل الأرض السابعة،ومن صنوف التزوير والتزييف التي تطاول الأشياء والأسماء،ومن أنواع التلاعب بالعقول وترويض الأرواح،وهي بعض من فيض الفظاعات والجرائم غير القابلة للتقادم التي اقترفها النظام بسبق الإصرار وترصد الأجهزة القمعية الموغلة في الهمجية،وشفاعة المتواطئين من أزلام اليمين المصنوع في مطابخ "الداخلية"العجيبة،وأشباه المناضلين وثوار العلب الليلية في الكيانات المهزومة أو الأحزاب الهرمة،أو بقية مثقفي الشماتة والطامعين في منصب يدر "السيجار" و"الكافيار"،ومعهم كل المحدقين في الصفر مجازا من أمثال ذلك أولئك الذين ألمح إليهم مهدي عامل في نقده للفكر اليومي.

والمشهد اليوم بالأحرى قاتم.فمساحات الأمل في تراجع متواصل،واليأس بالمرصاد.ولعل ما يصدم،من الانطباع الأول المتشكل في العقل والوجدان من زمن الرداءة المغربي،كل من أمعن النظر وأمده بعيدا في أحوال المغرب،خاصة على صعيد الحياة السياسة والعامة،ليس التغول المخيف للفساد المعمم،والانخراط الواسع للنخب"الريعية" في مديح الاستبداد وتبجيله بوقاحة منقطعة النظير فحسب،بل وما يثير القلق أيضا هو الانحرافات السياسية المستحدثة،وفي قلبها تفشي مرض الصبيانية الذي استبد بالنخبة السياسية "الحاكمة"حاليا،وإشاعته على نطاق واسع في الأوساط الحزبية والجمعوية والإعلامية ، الخ.
فبعد أن تنفس المغاربة الأمل قليلا على وقع الهبات الشعبية غير المسبوقة،في المحيط المغاربي والإفريقي،وهي تعلن ميلاد عصر جديد من الثورات الديمقراطية،وبعد أن اشتق منها الحالمون بالتغيير بالشارع "النضالي" تجربتهم المحلية و"كيَفوها" مع موازين قوى مختلة لصالح نظام عتيق وعريق في الاستبداد،وركبها من ركب مستثمرا ومنتهزا،وخرج منها من خرج مبررا وملوحا في الأفق الغامض،عاد الوضع إلى ما كان عليه بكامل ما اتسم به لسنين طويلة من انسدادا للأفق،واختناق للمسالك،واختلاط وتشوش في الرؤى،وارتباك في الأفعال وعبثية في التحالفات والاصطفافات الحزبية،وفوضى فكرية،وغيرها من مظاهر حياة سياسية وعامة مريضة ومعطوبة.غير أنه ليس من كل تلك المظاهر،ما يعمق اليأس في النفوس ويقود إلى الكفر بالسياسة ومشتقاتها،ما هو أسوء من هذا الانتشار الرهيب للشعبوية واكتساحها للخطابات والأفعال،ونظيرتها الصبيانية التي ابتليت بها "نخبنا" السياسية المرتشية والمدجَنة عن الآخر.وكم يحز في النفس أن نرى على الجهة الأخرى من المشهد،جموعا غفيرة من الشعب مغلوبة ومكبلة بالصمت وغارقة في وهم "السلم الاجتماعي"،فيما تقف الأقلية اليقظة "صغيرة"ووحيدة في صف المقاومة،تتحرش بها فرق المخبرين والبلطجية والإعلام المأجور،ويتربص اليأس ببعض من بقي من أفرادها صامدا وجلهم تنقصهم الخبرة ويعوزهم طول النفس الذي يحتاجه كل ثوري حقيقي للذهاب عميقا إلى الأفق البعيد.
والحال أن الخطاب الراديكالي ليس هو ما ينقص المناضل المعاصر لزمن التفاهة الصاعدة،وإنما الأفعال المخلخلة للخوف من التغيير،والسلوك الصادق والمنسجم مع المبادئ المعلنة.ذلك أن الخطابات المتجذرة والشعارات الحارة لا تكفي وحدها لمباشرة مهام تاريخية من حجم التغيير الجذري،إذا كانت الممارسات تأتي بنقيضها في الغد وتنتهك كل الالتزامات المبرمة مع الناس في الميادين أو منصات الخطابة.وقبل كل شيء،فإن الشعبوية بجميع ألوانها تكسب الرهان على هذه الأرضية بالذات،وهو أيضا ما يجعل من مواجهتها وفضح انتهازيتها أمرا عسيرا ومعقدا.فالشعبوية تسلب العقول وتكسب القلوب باستغلال ذكي للممارسات الخطابية المتقاطعة مع الخلفيات الراديكالية،وتجيد العزف على الحاجات النفسية والتطلعات العاطفية للناس،كي تتمكن في النهاية من توريطهم في متاهاتها وأسر انتظاراتهم بسقف وعودها الكاذبة.وقبل كل شيء،فهي تكون قد أجهزت على كل ذرة عقل وحس نقدي لديهم،وحولتهم إلى مجرد بهائم تهيجها الصرخات المصطنعة والطلقات اللسانية النارية المحشوة بالمفردات المدغدغة للعواطف الهشة.
لكن حذار! لسنا بمعرض التنويه بالواقعية المهزومة أو الانهزامية المتلبسة بالعقلانية الباردة،والميكيافيلية المنحطة التي تطرح نفسها بديلا لليوتوبيا الثورية،ب"تعقلها"المزيف والمصطنع،وتحت طائل هزيمة مشاريع بيروقراطية تلونت زيفا بقناع الاشتراكية،وباعت روحها للشيطان المخزني بذات التعليل البراغماتي الغبي الذي مثلته تجربة التناوب غير المأسوف عليها.فوحده الأحمق من يقبل في مثل هذه الظروف باستبدال شعبوية انتهازية بواقعية متخاذلة وانتظارية قاتلة.
ألا إنه لمن الواجب الأخلاقي والسياسي أن نتصدى بحزم لهذا النوع من الطفولية أو الصبيانية التي تحتقر وعي الجماهير وتعادي قيم المواطنة الحق،والتي تهدد ظلماتها تطور ومستقبل المغرب السياسي،وفي الآن نفسه، وبذات الحزم،أن نعلنها حربا بلا هوادة ضد الشعبوية المكتسحة ليومياتنا السياسية والتي تشتم ذكاء الناس وتستهتر بمصيرهم.

لذا نقول "لا" للصبيانية...و"لا " للشعبوية


• افتتاحية مجلة "نوافذ"(الفصلية المغربية) العدد 53-54 يناير 2013.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل