الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عويل الحقائب....قصة قصيرة

قاسم العزاوي

2013 / 12 / 6
الادب والفن


قطعا , انها ليست مدينتي التي الفتها منذ خمسين عاما , ولاتلك التي مازالت تفاصيل خارطتها مطبوعة في اخاديد ذاكرتي .. وما غادرتني يوما : شوارعها وأزقتها ببيوتها واسواقها الاليفة ؛ مذ ان لفظني رحم امي بمخاض عسير . وحتى هذه الساعة التي اقف على اهداب ثوانيها ودقائقها مذهولا .. اوزع نظراتي ذات اليمين واليسار , وصوب عمق مدينتي المفترضة .. صحيح , بأني غادرتها قبل خمس سنوات ولكن بكل تأكيد ماغابت معالمها عن ذاكرتي .. ايعقل ان قدميّ حطت على ارض مدينة اخرى ..! بهذا اكون قد فقدت عقلي وذاكرتي ايضا ..! بيد اني اعرف اسمي تماما وأتذكر ايضا من اين انا قادم والى اين ذاهب الان ..
مدخل المدينة لم يتغير هو كما ألفته , صحيح ان المدخل احيط وضيّق بكتل كونكريتية والمتاريس إلا ان اشجار اليوكالبتوس والنخيل المتسانق بين شارعي الدخول والخروج مازالت تمتد كحلم اخضر يسوّر الشارع .. لم اسمع مثل ما قبل هديل الفواخت واسراب العصافير المتقافزة فوق سعف النخيل المتهدل , يبدو انّ الفواخت هي الاخرى قد ضلت الطريق مثلي تماما ..
***
تسربلت نظراتي في فراغ متناهٍ يخيم عليه صمت مطبق وفضاء بلون التراب , يتكوّر حول المدينة الغارقة بالصمت إلا من ازيز الصاص يكسر الصمت بين الفينه والاخرى , ونباح كلب يعوي بألم فراقي اصحابه وقد غادروه وتركوه وحيدا ..
قلت : لِمَ لَمْ أسأل احد المارة اين انا بالضبط ..؟!
لكني لم ار احدا .. ترى اين ذهبوا ...؟! والليل لم يخيّم بعد ومازالت الشمس تتربع الفضاء الترابي تتطل بخجل فوق المدينة النائمة عصراً .. وأخيرا وجدت من أسأله غير انه مرق سريعا وأختفى داخل زقاق ملتوِ .. ولكن , لماذا يخفي وجهه بلثامٍ اسود حتى انه لم يلتفت نحوي .. كان كالمرعوب المطارد .. أين ماطاردوه .. لم ارهم؟! ربما خشى مني .. وهل بي مايخيف؟! وجهي وديع مثل حمامة مسالمة , لاأحمل سوى حقيبة سفري , أحنت ظهري قليلاً , وكتاب مخلوع الغلاف , كنت قرأته عدة مرات .. رواية لماركيز .. (ذاكرة غانياتي الحزينات )
يالبطر صديصي ماركيز, انه يسوح في ذاكرة غانياته واحدة واحدة , يلم شظايا إنكسارهن ,ليشكل ذاكرة اخرى واخرى .. وأنا المتخم بذاكرة الخمسين عاما لاأعرف بالضبط : هل انا في مدينتي ام لا ..؟!


وحبلي السري مدفون داخل تراب مدينتي .. هذا ماكانت تردده امي عدة مرات .. وبالتحديد داخل تراب ساحة المدرسة المقابلة لبيتي ..
***
ذاكرتي مازالت تتواصل وتضخ بواسطة الحبل السري الذي يربطني بهذه المدينة المبطنة بالصمت , اكيد انها مدينتي وأكاد اسمع نسغها الصاعد مباشرة القلب ومع وجيب دقاته , خمسون عاما تتشابك فيها الحكايات وفوضى الطفولة , وأختلاس النظر من فتحات النوافذ المغلقة ومن فتحات الابواب الموصدة لصبايا مراهقات , ذاكرة تعج بعلاقات متعددة من فوق سطوح المنازل المتقابلة والمتجاورة ..معذرة لصديقي ماركيز , انا لاأستطيع المواصلة والاطناب مثلما ماحاولت انت ( ايها الملعون ) بذاكرة غانياتك الحزينات .. فأنا بحال جد صعب .. أحاول فقط في هذه اللحظة بتركيز قدميّ على نقطة أتخذها منطلقا الى مدينتي ذات المعالم المتلاشية .. ترى ايّ زقاق اسلك ؟! وألازثة موصدة هي الاخرى وما من احدا يدلك على مفتاح مدينتك .. لعلّ مفتاحها رمي في قاع دجلة الذي يحيطها بنصف دورة ..!! وجعلها شبه جزيرة .. ربما ؟! وقاطنيها اين ذهبوا أترى ان دجلة ابتلعتهم ايضا ..؟! ومن هم هؤلاء المارقون بسرعة , ملثمون يختفون بلمح البصر , وَلِمَ هم هكذا مرعوبين ..!! ولكني لم ار من يطاردهم ..!! لعلّ فرط ارهاق السفر جعلني اعيش في سراب التخّيل هذا , ولعلّ حبة الفاليوم التي ابتلعتها كي انام جعلت ذاكرتي تهلوس .. كل هذا جائز , ولكن رشقة رشاش او صوت أزيز الطلقات قطع تساؤلي هذا .. لذت بعارضة كونكرتية ومن بعيد لمحت مايشبه رجلا متكورا بعباءته وبالكاد ميّزت انه يومئ لي , انتابني شعور بالسعادة وثمة هاجز دغدغ مخيلتي بان المدينة مازالت تتنفس .. واني لست الوحيد في هذا الشارع الموحش..وخيّل لي اني سمعت هديل فاختة فوقي تماما، نظرت الى اعلى غصن لكني لم اسمع سوى صفير الريح..والرجل المتكور مازال لي..اترت ضل الطريق ايضا ..؟ ولما يئس تكور بعباءته واستسلم للمصير ..وَلِمَ لا..؟لوحّت له باني قادم ،حينها كفّ عن الايماء وراح يمتص سكارته بتلذذ..
*****
من بعيد سمعت صوت انفجار مكتوم ، وخمنت انه في الطرف الاخر للمدينة ، وتصاعد دخان اسود على شكل مظلة واتخذ هيئة فطر كبير...تصاعد بسرعة وامتزج مع اللون الترابي للفضاء المتهدل فوق المدينة الموحية كمكان اثري اندرست معالمها منذ آلاف السنين ، تولول الريح من فتحات نوافذها واطلالها المتراكمة هنا وهناك.. ذكرني الدخان المتصاعد بموسم جمع الفطر ،اذ يتسابق االصبيان والصبيات صوب اطراف البساتين المحيطة بالمدينة وهم ينبشون الاماكن المفقوعة بحثا عن الفطر ، كنت آنذاك اتابع بحذر الصبيّة ،،سميّة،،نعم مازلت اتذكر اسمها ، اول حب طفولي يعصف قلبي الصغير ولاانس ابدا حين لمست كفها الناعمة ونحن نقتلع سوية فطرا كبيرا ، ولن تستطيع كل تلك السنوات التراكمة في ذاكرتي ان تحجب احمرار وجهها ووجنتيها ..اين ذهبت سميّة..؟! لعلها الان جدة وربما تناسخت في الهباء او التراب واستحالت الى العديد من الفطر الكبير..! فيا لبطري ، فانا باي حال لانبش ركام اربعين سنة وانا لم اعرف موضع قدمي الان ، ومازلت احث الخطى صوب الرجل المتكور..
قال: اجلس جنبي بسرعة ..
قلت : لكني...
قال : وقد حدس ما اريد قوله ، انا مثلك تماما لااعرف بالضبط أهي المدينة التي اقصد أم مدينة اخرى..؟!
قلت: وما الحل...؟ ناولني سكارة ، وبعصاه الغليضة اشار الى احد مداخل الازقة وقال: من هنا رأيت من يمرق سريعا ، اكيد هو المدخل الوحيد...، قلت: لكن المارقين بسرعة يبدو عليهم الريب والتوجس ، لنبحث عن زقاق اخر يلجه الداخلون بغير لثام..
****
مسك حقيبتي التي احنت ظهري وتبعني بخطوات واهنة ،كنا نلوذ خلف الكتل الكونكريتية ،كتل تسدّ الفتحات والازقة ومحيط الشارع الرئيس ، وفي منتصف الشارع كتل جاثمة هنا وهناك مرصوفة فوق بعضها , هل تحول قاطني المدينة الى كتل ايضا ..؟! ولكن الاشجار مازالت تتشابك عاليا تداعب اغصانها ريح صافرة .. مادامت الاشجار هكذا شاخصة فلٍمَا غادرتها الطيور ! قال : اين كنت ؟
_ خارج الوطن
قال: لماذا اتيت ؟
_ لابحث عن حبليّ السريّ ... قال ساخرا : لعله تحت هذه الكتلة الكونكريتية !
هناك في الغربة حاصرتني مسالك الروح الضيقة , أوصدت ابوابها والشبابيك حتى هدر الحنين من منخريّ ومن العيون الغافية والحالمة بصدى الكركرات والغنج النسوي واصوات الباعة والقمر المحدق على شرفات البيوت والسطوح المتصلة مع بعضها .. القمر , دائما مايذكرني بقرص الخبز الخارج توا من تنور طيني مسجور .. ترن في اذنيّ اصوات المأذن وصياح الديكة المشاكسة تتشابك مع انغام الصبا وأنين المحمداوي حتى تندلق الدموع الساخنة من عينين حالمتين برائحة الطين وهفيف سعف النخيل وأصوات اناس الفتهم ماأنفكت ترن في أذنيّ ليل نهار .. ومسالك الروح مازالت تضيق حتى انفلت منها هاربا حيث مكان حبلي السريّ , اين موضعه وأين هي مدينتي اصلا ..؟ّ! اكاد لا أرى سوى أزقة موصدة وبقية بيوت يخيم عليها الصمت ورشقات رصاص متتابعة , وأناس ملثمون يمرقون بسرعة ملوحين ببنادق يتقاطر الدم من فوهاتها , من اتى بي .. قال :
_ أولم تقل انك تبحث عن حبلك السريّ ؟ يبدو انه سمع صراخ جملتي الاخيرة بالرغم اني كنت أفكر بصمت ... دخلنا الى زقاق من خلال فتحة ضيقة عند نهاية الزقاق انفتح الفضاء واسعا بلونه الترابي , كان المكان يعج بالفوضى , عربات الباعة متناثرة ومقلوبة تصر الواحها المخلوعة بأنين مكتوم , تدور عجلاتها وتصدر ذات الصرير ..آلاف من الاكياس الملونة فوق اكداس النفايات النتشرة كقبور الموتى وعلى الاسلاك الشائكة , هي الاخرى تئن مع الريح , دكاكين مقفلة مبعوجة الابوب وأخرى مازال



الدخان ينبعث من داخلها محلات تبكي زمن أزدهارها وفقدان زبائنها وتلثم أثار أقدامهم وتصرخ لعلهم يأتون ..
قلت : هناك مكان حبليّ السريّ .. لكن الرجل كان قد غادرني ناقرا بعصاه فوضى المكان ومتجها حيث لاأدري , لعّله ايضا حدد مكان حبله السريّ , غادرني دون وداع , تلاشى بين العربات واطلال البيوت والفضاء المترب .


_(هي.....ياهي ) أنتظرني , لكن ندائي تكّسر مع الصغير وعويل الريح .. ها انا ذا مستوحدا ونفسي اسمع وجيب القلب وأتعثر بخطواتي حقيبتي فوق ظهري استحالة جبلا وقدمايّ هدهم الاعياء وأنا مازلت اجوب فوق الفوضى أحاول جاهدا أن ألملم شظايا جسدي المتناثر والموزع بين خمسين عاما تتدحرج بين الازقة والطرقات ومسامات الطين المشوي وحروف الكتب المكدسة وحبر المطابع .. من اين لي ان اجد نفسي بين كل تلك التركات اتراني اهذي ام أنها الحقيقة التي أرى ..
***
من جهة الغرب أحدرت الشمس سريعا لملمت أجنحتها الحمر وأختبأت وسط غابة باقة النخيل البعيدة .. الشمس ايضا تركتني دون وداع , لكن ألامل مالبث ان سرى في جسدي المنهك وأنا أرى مايشبه المصباح ينوس بضوء خافت , هرعت صوب الضوء الخابي فرحا ألتمس خطواتي بوجيب القلب وألتماع الامل , لعلّ أنتمائي لحبليّ السريّ انتشلني من دوامة التيه ..كنت كلما اقترب من موضع المصباح ينمو لي جناح اضافي ويتحرك الدم ساخنا في اعضائي ، تنجذب كل اشلائي المتنائرة ليكتمل الجسد شاخصا يترنم بالعودة والاكتمال..وحين وصلت ذهلت وانا ارى كل الدكاكين موصدة ابوابها ، إلا هذا الدكان المحل الواسع ، وقد تربع صاحبه فوق دكته ، وما ان رأني حتى ابتسمت اساريره ورحب بي قائلا: لماذا تأخرت....؟اردت ان أقول أين أنا ... لكنه قاطعني
_أنظر لقدكان هذا الدكان يغص بالحقائب , أنواع الحقائب كبيرة وصغيرة حمراء وسوداء , من الجلد الخالص والصناعي , كلها بيعت ألا هذه الحقيبة الكبيرة , كنت أعرف أنك ستأتي ... تجولت عينايّ داخل المحل الفارغ ألا من حقيبة كبيرة تتأرجح يمينا ويسارا والعديد من مواضع الحقائب تتأرجح في مواضعها , يبدو انه الدكان الوحيد الذي بقي في هذه المدينة الفارغة ألا مني ومن حقيبة خصصت لي بالطبع ..! ومن غير أودع بائع الحقائب رميت حقيبة سفري التي احنت ظهري فوق كدس القمامة , أذ ذاك شعرت كمن تخلص من عبء ثقيل وتواريت داخل المدينة النائمة أفتح ابواب البيوت المقفلة وبدون ان أدري كنت أصرخ عاليا .. أفتحوا الابواب ..سمعت صدى صوتي يتردد داخل الازقة والحارات وبعد هنيهة دهشت وأنا اسمع آلاف الاصوات المبحوحة والتي لاتشبه صوتي وهي تصرخ عاليا
أفتحوووووووووووووووووووووووا ... الابواب.

















قطعا , انها ليست مدينتي التي الفتها منذ خمسين عاما , ولاتلك التي مازالت تفاصيل خارطتها مطبوعة في اخاديد ذاكرتي .. وما غادرتني يوما : شوارعها وأزقتها ببيوتها واسواقها الاليفة ؛ مذ ان لفظني رحم امي بمخاض عسير . وحتى هذه الساعة التي اقف على اهداب ثوانيها ودقائقها مذهولا .. اوزع نظراتي ذات اليمين واليسار , وصوب عمق مدينتي المفترضة .. صحيح , بأني غادرتها قبل خمس سنوات ولكن بكل تأكيد ماغابت معالمها عن ذاكرتي .. ايعقل ان قدميّ حطت على ارض مدينة اخرى ..! بهذا اكون قد فقدت عقلي وذاكرتي ايضا ..! بيد اني اعرف اسمي تماما وأتذكر ايضا من اين انا قادم والى اين ذاهب الان ..
مدخل المدينة لم يتغير هو كما ألفته , صحيح ان المدخل احيط وضيّق بكتل كونكريتية والمتاريس إلا ان اشجار اليوكالبتوس والنخيل المتسانق بين شارعي الدخول والخروج مازالت تمتد كحلم اخضر يسوّر الشارع .. لم اسمع مثل ما قبل هديل الفواخت واسراب العصافير المتقافزة فوق سعف النخيل المتهدل , يبدو انّ الفواخت هي الاخرى قد ضلت الطريق مثلي تماما ..
***
تسربلت نظراتي في فراغ متناهٍ يخيم عليه صمت مطبق وفضاء بلون التراب , يتكوّر حول المدينة الغارقة بالصمت إلا من ازيز الصاص يكسر الصمت بين الفينه والاخرى , ونباح كلب يعوي بألم فراقي اصحابه وقد غادروه وتركوه وحيدا ..
قلت : لِمَ لَمْ أسأل احد المارة اين انا بالضبط ..؟!
لكني لم ار احدا .. ترى اين ذهبوا ...؟! والليل لم يخيّم بعد ومازالت الشمس تتربع الفضاء الترابي تتطل بخجل فوق المدينة النائمة عصراً .. وأخيرا وجدت من أسأله غير انه مرق سريعا وأختفى داخل زقاق ملتوِ .. ولكن , لماذا يخفي وجهه بلثامٍ اسود حتى انه لم يلتفت نحوي .. كان كالمرعوب المطارد .. أين ماطاردوه .. لم ارهم؟! ربما خشى مني .. وهل بي مايخيف؟! وجهي وديع مثل حمامة مسالمة , لاأحمل سوى حقيبة سفري , أحنت ظهري قليلاً , وكتاب مخلوع الغلاف , كنت قرأته عدة مرات .. رواية لماركيز .. (ذاكرة غانياتي الحزينات )
يالبطر صديصي ماركيز, انه يسوح في ذاكرة غانياته واحدة واحدة , يلم شظايا إنكسارهن ,ليشكل ذاكرة اخرى واخرى .. وأنا المتخم بذاكرة الخمسين عاما لاأعرف بالضبط : هل انا في مدينتي ام لا ..؟!


وحبلي السري مدفون داخل تراب مدينتي .. هذا ماكانت تردده امي عدة مرات .. وبالتحديد داخل تراب ساحة المدرسة المقابلة لبيتي ..
***
ذاكرتي مازالت تتواصل وتضخ بواسطة الحبل السري الذي يربطني بهذه المدينة المبطنة بالصمت , اكيد انها مدينتي وأكاد اسمع نسغها الصاعد مباشرة القلب ومع وجيب دقاته , خمسون عاما تتشابك فيها الحكايات وفوضى الطفولة , وأختلاس النظر من فتحات النوافذ المغلقة ومن فتحات الابواب الموصدة لصبايا مراهقات , ذاكرة تعج بعلاقات متعددة من فوق سطوح المنازل المتقابلة والمتجاورة ..معذرة لصديقي ماركيز , انا لاأستطيع المواصلة والاطناب مثلما ماحاولت انت ( ايها الملعون ) بذاكرة غانياتك الحزينات .. فأنا بحال جد صعب .. أحاول فقط في هذه اللحظة بتركيز قدميّ على نقطة أتخذها منطلقا الى مدينتي ذات المعالم المتلاشية .. ترى ايّ زقاق اسلك ؟! وألازثة موصدة هي الاخرى وما من احدا يدلك على مفتاح مدينتك .. لعلّ مفتاحها رمي في قاع دجلة الذي يحيطها بنصف دورة ..!! وجعلها شبه جزيرة .. ربما ؟! وقاطنيها اين ذهبوا أترى ان دجلة ابتلعتهم ايضا ..؟! ومن هم هؤلاء المارقون بسرعة , ملثمون يختفون بلمح البصر , وَلِمَ هم هكذا مرعوبين ..!! ولكني لم ار من يطاردهم ..!! لعلّ فرط ارهاق السفر جعلني اعيش في سراب التخّيل هذا , ولعلّ حبة الفاليوم التي ابتلعتها كي انام جعلت ذاكرتي تهلوس .. كل هذا جائز , ولكن رشقة رشاش او صوت أزيز الطلقات قطع تساؤلي هذا .. لذت بعارضة كونكرتية ومن بعيد لمحت مايشبه رجلا متكورا بعباءته وبالكاد ميّزت انه يومئ لي , انتابني شعور بالسعادة وثمة هاجز دغدغ مخيلتي بان المدينة مازالت تتنفس .. واني لست الوحيد في هذا الشارع الموحش..وخيّل لي اني سمعت هديل فاختة فوقي تماما، نظرت الى اعلى غصن لكني لم اسمع سوى صفير الريح..والرجل المتكور مازال لي..اترت ضل الطريق ايضا ..؟ ولما يئس تكور بعباءته واستسلم للمصير ..وَلِمَ لا..؟لوحّت له باني قادم ،حينها كفّ عن الايماء وراح يمتص سكارته بتلذذ..
*****
من بعيد سمعت صوت انفجار مكتوم ، وخمنت انه في الطرف الاخر للمدينة ، وتصاعد دخان اسود على شكل مظلة واتخذ هيئة فطر كبير...تصاعد بسرعة وامتزج مع اللون الترابي للفضاء المتهدل فوق المدينة الموحية كمكان اثري اندرست معالمها منذ آلاف السنين ، تولول الريح من فتحات نوافذها واطلالها المتراكمة هنا وهناك.. ذكرني الدخان المتصاعد بموسم جمع الفطر ،اذ يتسابق االصبيان والصبيات صوب اطراف البساتين المحيطة بالمدينة وهم ينبشون الاماكن المفقوعة بحثا عن الفطر ، كنت آنذاك اتابع بحذر الصبيّة ،،سميّة،،نعم مازلت اتذكر اسمها ، اول حب طفولي يعصف قلبي الصغير ولاانس ابدا حين لمست كفها الناعمة ونحن نقتلع سوية فطرا كبيرا ، ولن تستطيع كل تلك السنوات التراكمة في ذاكرتي ان تحجب احمرار وجهها ووجنتيها ..اين ذهبت سميّة..؟! لعلها الان جدة وربما تناسخت في الهباء او التراب واستحالت الى العديد من الفطر الكبير..! فيا لبطري ، فانا باي حال لانبش ركام اربعين سنة وانا لم اعرف موضع قدمي الان ، ومازلت احث الخطى صوب الرجل المتكور..
قال: اجلس جنبي بسرعة ..
قلت : لكني...
قال : وقد حدس ما اريد قوله ، انا مثلك تماما لااعرف بالضبط أهي المدينة التي اقصد أم مدينة اخرى..؟!
قلت: وما الحل...؟ ناولني سكارة ، وبعصاه الغليضة اشار الى احد مداخل الازقة وقال: من هنا رأيت من يمرق سريعا ، اكيد هو المدخل الوحيد...، قلت: لكن المارقين بسرعة يبدو عليهم الريب والتوجس ، لنبحث عن زقاق اخر يلجه الداخلون بغير لثام..
****
مسك حقيبتي التي احنت ظهري وتبعني بخطوات واهنة ،كنا نلوذ خلف الكتل الكونكريتية ،كتل تسدّ الفتحات والازقة ومحيط الشارع الرئيس ، وفي منتصف الشارع كتل جاثمة هنا وهناك مرصوفة فوق بعضها , هل تحول قاطني المدينة الى كتل ايضا ..؟! ولكن الاشجار مازالت تتشابك عاليا تداعب اغصانها ريح صافرة .. مادامت الاشجار هكذا شاخصة فلٍمَا غادرتها الطيور ! قال : اين كنت ؟
_ خارج الوطن
قال: لماذا اتيت ؟
_ لابحث عن حبليّ السريّ ... قال ساخرا : لعله تحت هذه الكتلة الكونكريتية !
هناك في الغربة حاصرتني مسالك الروح الضيقة , أوصدت ابوابها والشبابيك حتى هدر الحنين من منخريّ ومن العيون الغافية والحالمة بصدى الكركرات والغنج النسوي واصوات الباعة والقمر المحدق على شرفات البيوت والسطوح المتصلة مع بعضها .. القمر , دائما مايذكرني بقرص الخبز الخارج توا من تنور طيني مسجور .. ترن في اذنيّ اصوات المأذن وصياح الديكة المشاكسة تتشابك مع انغام الصبا وأنين المحمداوي حتى تندلق الدموع الساخنة من عينين حالمتين برائحة الطين وهفيف سعف النخيل وأصوات اناس الفتهم ماأنفكت ترن في أذنيّ ليل نهار .. ومسالك الروح مازالت تضيق حتى انفلت منها هاربا حيث مكان حبلي السريّ , اين موضعه وأين هي مدينتي اصلا ..؟ّ! اكاد لا أرى سوى أزقة موصدة وبقية بيوت يخيم عليها الصمت ورشقات رصاص متتابعة , وأناس ملثمون يمرقون بسرعة ملوحين ببنادق يتقاطر الدم من فوهاتها , من اتى بي .. قال :
_ أولم تقل انك تبحث عن حبلك السريّ ؟ يبدو انه سمع صراخ جملتي الاخيرة بالرغم اني كنت أفكر بصمت ... دخلنا الى زقاق من خلال فتحة ضيقة عند نهاية الزقاق انفتح الفضاء واسعا بلونه الترابي , كان المكان يعج بالفوضى , عربات الباعة متناثرة ومقلوبة تصر الواحها المخلوعة بأنين مكتوم , تدور عجلاتها وتصدر ذات الصرير ..آلاف من الاكياس الملونة فوق اكداس النفايات النتشرة كقبور الموتى وعلى الاسلاك الشائكة , هي الاخرى تئن مع الريح , دكاكين مقفلة مبعوجة الابوب وأخرى مازال



الدخان ينبعث من داخلها محلات تبكي زمن أزدهارها وفقدان زبائنها وتلثم أثار أقدامهم وتصرخ لعلهم يأتون ..
قلت : هناك مكان حبليّ السريّ .. لكن الرجل كان قد غادرني ناقرا بعصاه فوضى المكان ومتجها حيث لاأدري , لعّله ايضا حدد مكان حبله السريّ , غادرني دون وداع , تلاشى بين العربات واطلال البيوت والفضاء المترب .


_(هي.....ياهي ) أنتظرني , لكن ندائي تكّسر مع الصغير وعويل الريح .. ها انا ذا مستوحدا ونفسي اسمع وجيب القلب وأتعثر بخطواتي حقيبتي فوق ظهري استحالة جبلا وقدمايّ هدهم الاعياء وأنا مازلت اجوب فوق الفوضى أحاول جاهدا أن ألملم شظايا جسدي المتناثر والموزع بين خمسين عاما تتدحرج بين الازقة والطرقات ومسامات الطين المشوي وحروف الكتب المكدسة وحبر المطابع .. من اين لي ان اجد نفسي بين كل تلك التركات اتراني اهذي ام أنها الحقيقة التي أرى ..
***
من جهة الغرب أحدرت الشمس سريعا لملمت أجنحتها الحمر وأختبأت وسط غابة باقة النخيل البعيدة .. الشمس ايضا تركتني دون وداع , لكن ألامل مالبث ان سرى في جسدي المنهك وأنا أرى مايشبه المصباح ينوس بضوء خافت , هرعت صوب الضوء الخابي فرحا ألتمس خطواتي بوجيب القلب وألتماع الامل , لعلّ أنتمائي لحبليّ السريّ انتشلني من دوامة التيه ..كنت كلما اقترب من موضع المصباح ينمو لي جناح اضافي ويتحرك الدم ساخنا في اعضائي ، تنجذب كل اشلائي المتنائرة ليكتمل الجسد شاخصا يترنم بالعودة والاكتمال..وحين وصلت ذهلت وانا ارى كل الدكاكين موصدة ابوابها ، إلا هذا الدكان المحل الواسع ، وقد تربع صاحبه فوق دكته ، وما ان رأني حتى ابتسمت اساريره ورحب بي قائلا: لماذا تأخرت....؟اردت ان أقول أين أنا ... لكنه قاطعني
_أنظر لقدكان هذا الدكان يغص بالحقائب , أنواع الحقائب كبيرة وصغيرة حمراء وسوداء , من الجلد الخالص والصناعي , كلها بيعت ألا هذه الحقيبة الكبيرة , كنت أعرف أنك ستأتي ... تجولت عينايّ داخل المحل الفارغ ألا من حقيبة كبيرة تتأرجح يمينا ويسارا والعديد من مواضع الحقائب تتأرجح في مواضعها , يبدو انه الدكان الوحيد الذي بقي في هذه المدينة الفارغة ألا مني ومن حقيبة خصصت لي بالطبع ..! ومن غير أودع بائع الحقائب رميت حقيبة سفري التي احنت ظهري فوق كدس القمامة , أذ ذاك شعرت كمن تخلص من عبء ثقيل وتواريت داخل المدينة النائمة أفتح ابواب البيوت المقفلة وبدون ان أدري كنت أصرخ عاليا .. أفتحوا الابواب ..سمعت صدى صوتي يتردد داخل الازقة والحارات وبعد هنيهة دهشت وأنا اسمع آلاف الاصوات المبحوحة والتي لاتشبه صوتي وهي تصرخ عاليا
أفتحوووووووووووووووووووووووا ... الابواب.










قطعا , انها ليست مدينتي التي الفتها منذ خمسين عاما , ولاتلك التي مازالت تفاصيل خارطتها مطبوعة في اخاديد ذاكرتي .. وما غادرتني يوما : شوارعها وأزقتها ببيوتها واسواقها الاليفة ؛ مذ ان لفظني رحم امي بمخاض عسير . وحتى هذه الساعة التي اقف على اهداب ثوانيها ودقائقها مذهولا .. اوزع نظراتي ذات اليمين واليسار , وصوب عمق مدينتي المفترضة .. صحيح , بأني غادرتها قبل خمس سنوات ولكن بكل تأكيد ماغابت معالمها عن ذاكرتي .. ايعقل ان قدميّ حطت على ارض مدينة اخرى ..! بهذا اكون قد فقدت عقلي وذاكرتي ايضا ..! بيد اني اعرف اسمي تماما وأتذكر ايضا من اين انا قادم والى اين ذاهب الان ..
مدخل المدينة لم يتغير هو كما ألفته , صحيح ان المدخل احيط وضيّق بكتل كونكريتية والمتاريس إلا ان اشجار اليوكالبتوس والنخيل المتسانق بين شارعي الدخول والخروج مازالت تمتد كحلم اخضر يسوّر الشارع .. لم اسمع مثل ما قبل هديل الفواخت واسراب العصافير المتقافزة فوق سعف النخيل المتهدل , يبدو انّ الفواخت هي الاخرى قد ضلت الطريق مثلي تماما ..
***
تسربلت نظراتي في فراغ متناهٍ يخيم عليه صمت مطبق وفضاء بلون التراب , يتكوّر حول المدينة الغارقة بالصمت إلا من ازيز الصاص يكسر الصمت بين الفينه والاخرى , ونباح كلب يعوي بألم فراقي اصحابه وقد غادروه وتركوه وحيدا ..
قلت : لِمَ لَمْ أسأل احد المارة اين انا بالضبط ..؟!
لكني لم ار احدا .. ترى اين ذهبوا ...؟! والليل لم يخيّم بعد ومازالت الشمس تتربع الفضاء الترابي تتطل بخجل فوق المدينة النائمة عصراً .. وأخيرا وجدت من أسأله غير انه مرق سريعا وأختفى داخل زقاق ملتوِ .. ولكن , لماذا يخفي وجهه بلثامٍ اسود حتى انه لم يلتفت نحوي .. كان كالمرعوب المطارد .. أين ماطاردوه .. لم ارهم؟! ربما خشى مني .. وهل بي مايخيف؟! وجهي وديع مثل حمامة مسالمة , لاأحمل سوى حقيبة سفري , أحنت ظهري قليلاً , وكتاب مخلوع الغلاف , كنت قرأته عدة مرات .. رواية لماركيز .. (ذاكرة غانياتي الحزينات )
يالبطر صديصي ماركيز, انه يسوح في ذاكرة غانياته واحدة واحدة , يلم شظايا إنكسارهن ,ليشكل ذاكرة اخرى واخرى .. وأنا المتخم بذاكرة الخمسين عاما لاأعرف بالضبط : هل انا في مدينتي ام لا ..؟!


وحبلي السري مدفون داخل تراب مدينتي .. هذا ماكانت تردده امي عدة مرات .. وبالتحديد داخل تراب ساحة المدرسة المقابلة لبيتي ..
***
ذاكرتي مازالت تتواصل وتضخ بواسطة الحبل السري الذي يربطني بهذه المدينة المبطنة بالصمت , اكيد انها مدينتي وأكاد اسمع نسغها الصاعد مباشرة القلب ومع وجيب دقاته , خمسون عاما تتشابك فيها الحكايات وفوضى الطفولة , وأختلاس النظر من فتحات النوافذ المغلقة ومن فتحات الابواب الموصدة لصبايا مراهقات , ذاكرة تعج بعلاقات متعددة من فوق سطوح المنازل المتقابلة والمتجاورة ..معذرة لصديقي ماركيز , انا لاأستطيع المواصلة والاطناب مثلما ماحاولت انت ( ايها الملعون ) بذاكرة غانياتك الحزينات .. فأنا بحال جد صعب .. أحاول فقط في هذه اللحظة بتركيز قدميّ على نقطة أتخذها منطلقا الى مدينتي ذات المعالم المتلاشية .. ترى ايّ زقاق اسلك ؟! وألازثة موصدة هي الاخرى وما من احدا يدلك على مفتاح مدينتك .. لعلّ مفتاحها رمي في قاع دجلة الذي يحيطها بنصف دورة ..!! وجعلها شبه جزيرة .. ربما ؟! وقاطنيها اين ذهبوا أترى ان دجلة ابتلعتهم ايضا ..؟! ومن هم هؤلاء المارقون بسرعة , ملثمون يختفون بلمح البصر , وَلِمَ هم هكذا مرعوبين ..!! ولكني لم ار من يطاردهم ..!! لعلّ فرط ارهاق السفر جعلني اعيش في سراب التخّيل هذا , ولعلّ حبة الفاليوم التي ابتلعتها كي انام جعلت ذاكرتي تهلوس .. كل هذا جائز , ولكن رشقة رشاش او صوت أزيز الطلقات قطع تساؤلي هذا .. لذت بعارضة كونكرتية ومن بعيد لمحت مايشبه رجلا متكورا بعباءته وبالكاد ميّزت انه يومئ لي , انتابني شعور بالسعادة وثمة هاجز دغدغ مخيلتي بان المدينة مازالت تتنفس .. واني لست الوحيد في هذا الشارع الموحش..وخيّل لي اني سمعت هديل فاختة فوقي تماما، نظرت الى اعلى غصن لكني لم اسمع سوى صفير الريح..والرجل المتكور مازال لي..اترت ضل الطريق ايضا ..؟ ولما يئس تكور بعباءته واستسلم للمصير ..وَلِمَ لا..؟لوحّت له باني قادم ،حينها كفّ عن الايماء وراح يمتص سكارته بتلذذ..
*****
من بعيد سمعت صوت انفجار مكتوم ، وخمنت انه في الطرف الاخر للمدينة ، وتصاعد دخان اسود على شكل مظلة واتخذ هيئة فطر كبير...تصاعد بسرعة وامتزج مع اللون الترابي للفضاء المتهدل فوق المدينة الموحية كمكان اثري اندرست معالمها منذ آلاف السنين ، تولول الريح من فتحات نوافذها واطلالها المتراكمة هنا وهناك.. ذكرني الدخان المتصاعد بموسم جمع الفطر ،اذ يتسابق االصبيان والصبيات صوب اطراف البساتين المحيطة بالمدينة وهم ينبشون الاماكن المفقوعة بحثا عن الفطر ، كنت آنذاك اتابع بحذر الصبيّة ،،سميّة،،نعم مازلت اتذكر اسمها ، اول حب طفولي يعصف قلبي الصغير ولاانس ابدا حين لمست كفها الناعمة ونحن نقتلع سوية فطرا كبيرا ، ولن تستطيع كل تلك السنوات التراكمة في ذاكرتي ان تحجب احمرار وجهها ووجنتيها ..اين ذهبت سميّة..؟! لعلها الان جدة وربما تناسخت في الهباء او التراب واستحالت الى العديد من الفطر الكبير..! فيا لبطري ، فانا باي حال لانبش ركام اربعين سنة وانا لم اعرف موضع قدمي الان ، ومازلت احث الخطى صوب الرجل المتكور..
قال: اجلس جنبي بسرعة ..
قلت : لكني...
قال : وقد حدس ما اريد قوله ، انا مثلك تماما لااعرف بالضبط أهي المدينة التي اقصد أم مدينة اخرى..؟!
قلت: وما الحل...؟ ناولني سكارة ، وبعصاه الغليضة اشار الى احد مداخل الازقة وقال: من هنا رأيت من يمرق سريعا ، اكيد هو المدخل الوحيد...، قلت: لكن المارقين بسرعة يبدو عليهم الريب والتوجس ، لنبحث عن زقاق اخر يلجه الداخلون بغير لثام..
****
مسك حقيبتي التي احنت ظهري وتبعني بخطوات واهنة ،كنا نلوذ خلف الكتل الكونكريتية ،كتل تسدّ الفتحات والازقة ومحيط الشارع الرئيس ، وفي منتصف الشارع كتل جاثمة هنا وهناك مرصوفة فوق بعضها , هل تحول قاطني المدينة الى كتل ايضا ..؟! ولكن الاشجار مازالت تتشابك عاليا تداعب اغصانها ريح صافرة .. مادامت الاشجار هكذا شاخصة فلٍمَا غادرتها الطيور ! قال : اين كنت ؟
_ خارج الوطن
قال: لماذا اتيت ؟
_ لابحث عن حبليّ السريّ ... قال ساخرا : لعله تحت هذه الكتلة الكونكريتية !
هناك في الغربة حاصرتني مسالك الروح الضيقة , أوصدت ابوابها والشبابيك حتى هدر الحنين من منخريّ ومن العيون الغافية والحالمة بصدى الكركرات والغنج النسوي واصوات الباعة والقمر المحدق على شرفات البيوت والسطوح المتصلة مع بعضها .. القمر , دائما مايذكرني بقرص الخبز الخارج توا من تنور طيني مسجور .. ترن في اذنيّ اصوات المأذن وصياح الديكة المشاكسة تتشابك مع انغام الصبا وأنين المحمداوي حتى تندلق الدموع الساخنة من عينين حالمتين برائحة الطين وهفيف سعف النخيل وأصوات اناس الفتهم ماأنفكت ترن في أذنيّ ليل نهار .. ومسالك الروح مازالت تضيق حتى انفلت منها هاربا حيث مكان حبلي السريّ , اين موضعه وأين هي مدينتي اصلا ..؟ّ! اكاد لا أرى سوى أزقة موصدة وبقية بيوت يخيم عليها الصمت ورشقات رصاص متتابعة , وأناس ملثمون يمرقون بسرعة ملوحين ببنادق يتقاطر الدم من فوهاتها , من اتى بي .. قال :
_ أولم تقل انك تبحث عن حبلك السريّ ؟ يبدو انه سمع صراخ جملتي الاخيرة بالرغم اني كنت أفكر بصمت ... دخلنا الى زقاق من خلال فتحة ضيقة عند نهاية الزقاق انفتح الفضاء واسعا بلونه الترابي , كان المكان يعج بالفوضى , عربات الباعة متناثرة ومقلوبة تصر الواحها المخلوعة بأنين مكتوم , تدور عجلاتها وتصدر ذات الصرير ..آلاف من الاكياس الملونة فوق اكداس النفايات النتشرة كقبور الموتى وعلى الاسلاك الشائكة , هي الاخرى تئن مع الريح , دكاكين مقفلة مبعوجة الابوب وأخرى مازال



الدخان ينبعث من داخلها محلات تبكي زمن أزدهارها وفقدان زبائنها وتلثم أثار أقدامهم وتصرخ لعلهم يأتون ..
قلت : هناك مكان حبليّ السريّ .. لكن الرجل كان قد غادرني ناقرا بعصاه فوضى المكان ومتجها حيث لاأدري , لعّله ايضا حدد مكان حبله السريّ , غادرني دون وداع , تلاشى بين العربات واطلال البيوت والفضاء المترب .


_(هي.....ياهي ) أنتظرني , لكن ندائي تكّسر مع الصغير وعويل الريح .. ها انا ذا مستوحدا ونفسي اسمع وجيب القلب وأتعثر بخطواتي حقيبتي فوق ظهري استحالة جبلا وقدمايّ هدهم الاعياء وأنا مازلت اجوب فوق الفوضى أحاول جاهدا أن ألملم شظايا جسدي المتناثر والموزع بين خمسين عاما تتدحرج بين الازقة والطرقات ومسامات الطين المشوي وحروف الكتب المكدسة وحبر المطابع .. من اين لي ان اجد نفسي بين كل تلك التركات اتراني اهذي ام أنها الحقيقة التي أرى ..
***
من جهة الغرب أحدرت الشمس سريعا لملمت أجنحتها الحمر وأختبأت وسط غابة باقة النخيل البعيدة .. الشمس ايضا تركتني دون وداع , لكن ألامل مالبث ان سرى في جسدي المنهك وأنا أرى مايشبه المصباح ينوس بضوء خافت , هرعت صوب الضوء الخابي فرحا ألتمس خطواتي بوجيب القلب وألتماع الامل , لعلّ أنتمائي لحبليّ السريّ انتشلني من دوامة التيه ..كنت كلما اقترب من موضع المصباح ينمو لي جناح اضافي ويتحرك الدم ساخنا في اعضائي ، تنجذب كل اشلائي المتنائرة ليكتمل الجسد شاخصا يترنم بالعودة والاكتمال..وحين وصلت ذهلت وانا ارى كل الدكاكين موصدة ابوابها ، إلا هذا الدكان المحل الواسع ، وقد تربع صاحبه فوق دكته ، وما ان رأني حتى ابتسمت اساريره ورحب بي قائلا: لماذا تأخرت....؟اردت ان أقول أين أنا ... لكنه قاطعني
_أنظر لقدكان هذا الدكان يغص بالحقائب , أنواع الحقائب كبيرة وصغيرة حمراء وسوداء , من الجلد الخالص والصناعي , كلها بيعت ألا هذه الحقيبة الكبيرة , كنت أعرف أنك ستأتي ... تجولت عينايّ داخل المحل الفارغ ألا من حقيبة كبيرة تتأرجح يمينا ويسارا والعديد من مواضع الحقائب تتأرجح في مواضعها , يبدو انه الدكان الوحيد الذي بقي في هذه المدينة الفارغة ألا مني ومن حقيبة خصصت لي بالطبع ..! ومن غير أودع بائع الحقائب رميت حقيبة سفري التي احنت ظهري فوق كدس القمامة , أذ ذاك شعرت كمن تخلص من عبء ثقيل وتواريت داخل المدينة النائمة أفتح ابواب البيوت المقفلة وبدون ان أدري كنت أصرخ عاليا .. أفتحوا الابواب ..سمعت صدى صوتي يتردد داخل الازقة والحارات وبعد هنيهة دهشت وأنا اسمع آلاف الاصوات المبحوحة والتي لاتشبه صوتي وهي تصرخ عاليا
أفتحوووووووووووووووووووووووا ... الابواب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا