الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-موت مواطن عنيد- .. تأريخ من الخوف

صميم حسب الله
(Samem Hassaballa)

2013 / 12 / 10
الادب والفن


لم يكن الدراماتورج حاضراً في العرض المسرحي ..!
كما تفترض الدراسات المسرحية وجوده في منظومة العرض المسرحي بوصفه (مستشاراً أدبياًوفنياً) يقع على عاتقه القيام بالعديد من المهام المساندة للفعل الإخراجي، سواء على مستوى البنية النصية وليس إنتهاءاً بالتعاطي مع الشكل البصري المقترح في الرؤية الإخراجية .
وقد بدا ذلك واضحاً في تمارين العرض الاولى ، ذلك ان المخرج إعتمد في تشكيل الرؤية الإخراجية على فرضيات كان قد أسس لحضورها في المتن النصي ، بمعنى آخر ظلت مقترحات المخرج داخل البروفات غير خاضعة للتداول الدراماتورجي، ذلك أنها جاءت ضمن منظومة متداخلة بين النص والعرض ، الأمر الذي جعل من طروحات الدراماتورج متقاطعة بشكل أو بآخر مع تلك المقترحات التي تشكلت على وفق رؤية المخرج المؤلف ، الذي كان منشغلا في مرحلة البروفات في تحقيق أفكاره التي سطرها ضمن مقترح نصي هيمن عليه السرد ؛ وعلى الرغم من حضور الاسئلة التي عمل الدراماتورج على إثارتها ، إلا ان المخرج المؤلف كان يحاول الإجابة عليها بشكل أو بآخر ، الأمر الذي جعل من الدراماتورج يدرك ان وجوده في هذا العرض قد إقتصر على تقديم التساؤلات التي يمكن أن يثيرها فضاء التلقي ..فقط !.
المخرج المؤلف وهيمنة المحكي :
يمتلك النص المسرحي الذي يسطرّه المخرج المؤلف خصوصية تجعله مغايراً للنصوص التي يكتبها مؤلف درامي بعينه ، ذلك أن نص المخرج المؤلف يكون متسقاً مع الرؤية الإخراجية ، كما هو الحال في مسرحية (موت مواطن عنيد) تأليف وإخراج (هيثم عبد الرزاق) تمثيل (الاستاذ سامي عبد الحميد ، فلاح إبراهيم ، إقبال نعيم) ، إضاءة (علي محمود السوداني) موسيقى (حكمت البيضاني) ، دراماتورج (صميم حسب الله ) والتي قدمت مؤخرا على قاعة المسرح الوطني في بغداد .
حيث بدا واضحاً هيمنة النص على الرؤية الإخراجية ، ويعود ذلك إلى أن المخرج المؤلف إختار التعاطي مع العديد من الأفكار من دون إختزالها ، لاسيما وإن النص يتعرض إلى مراحل تاريخية عدة ، حيث كانت البداية مع إنهيار النظام الملكي في العراق عام (1958) وليس إنتهاءً بالأحداث التي عقبت سقوط النظام بعد الحرب الأخيرة في (2003 ) بل تعداه وصولا إلى رؤية مستقبلية للواقع العراقي تنتهي في (2023 )، الامر الذي جعل من حضور المحكي واضحاً في منظومة العرض المسرحي ، فضلا عن ذلك فقد عمد المخرج المؤلف إلى التعاطي مع اكثر الافكار حساسية في ذاكرة المتلقي والمتمثل في الخوف ، الذي يعد الفكرة الاكثر حضوراً وتكراراً في المراحل التأريخية المتعاقبة ، وعلى الرغم من إختلاف أشكال الخوف إلا أنه لم يزل يقطع عنا الامل بحياة آمنة ومستقرة ، وكأنه أراد أن يرسم مستقبلاً يسيطر الخوف على وجوده.
وبالتزامن مع فكرة الخوف فإن المخرج المؤلف إختار التعاطي مع المسكوت عنه من الأحداث التي تملأ كتب التأريخ ولا تخرج بعيداً عن صفحاته المعفرة بالتراب ، السياسة والإقتصاد والعلم والثقافة ، في إشارة واضحة إلى ان الخراب الذي نعيشه اليوم ماهو إلا نتيجة لذلك الإنهيار الذي بدت ملامحه الأولى تتكون مع الإنقلابات العسكرية وسيطرة الجيش على الدولة ومقدراتها ، والإطاحة بنظام التعليم ، حيث إعتمد المخرج المؤلف في ذلك على المزاوجة بين الوثيقة في الإشارة إلى الوقائع والاحداث التاريخية التي اطاحت بالنظام في أزمنة سابقة ، ومايحدث اليوم من وقائع تتشابه في مضامينها مع ذلك الماضي المفجع سواء على مستوى الفساد السياسي أو إنهيار مؤسسات الدولة ... وغيرها من الإنتهاكات التي تجتاح المجتمع.
فضلا عن ذلك فإن المتن النصي بدا واضحاً في التركيز على أن التاريخ يتكرر من خلال الاحداث لاسيما تلك التي تعمل السلطة المهيمنة فيها على إقصاء الآخر الذي ينتمي إلى السلطة السابقة أو الرأي الآخر والعمل على تهميشه من المجتمع، الأمر الذي يجعل من صاحبه خصماً لابد من إقصائه أو تهميشه ، ولم يركن المؤلف إلى هيمنة السلطة فحسب بل إنه عمل على الكشف عن جود المليشيات التي تتكون في حقب تأريخية عديدة تسود فيها الفوضى .
ولم يعمد المخرج المؤلف إلى تأسيس نظام حكائي تراتبي بل إنه إختار الركون إلى فرضية إخراجية تعتمد التماهي بين الحقيقة / الوهم ، متكئاً بذلك على الملفوظ النصي والأداء التمثيلي ، وقد بدا ذلك واضحاً في مواضع عدة منها مشهد إغتصاب الرجل للمرأة، حيث إعتمد فيه المخرج على الإحالات الرمزية والمزاوجة مع سلوك الممثل ، كما هو الحال في مشاهد الأحلام التي تكرر حضورها في شخصية (الأب/ سامي عبد الحميد) حيث إمتزج فيها الوهم مع حقيقة الاحداث التي جسّدها، الأمر الذي جعل من العرض يغادر التسلسل المنطقي الذي يفترض توافره في النص الدرامي التقليدي ، وعلى الرغم من ان خيارات المخرج التي إمتلك حضورها في المزاوجة بين الأحداث في الماضي والحاضر؛ إلا انها أنتجت في بعض المواضع سلوكاً بدا متناقضاً ، كما هو الحال مع شخصية (المرأة/ إقبال نعيم) التي كان المخرج المؤلف يؤكد على حضورها في لعبة (الحقيقة /الوهم) في مواضع عدة من العرض.
شعرية الضوء وجمالية الموسيقى :
إعتمد المخرج في تأسيس الفضاء على تشكيلات بصرية متنوعة ، إبتداءً من حضور الجدار الذي هيمن وجوده على فضاء العرض وليس إنتهاءً بالمفردات الديكورية التي إمتلك بعضها القدرة على التحول والتناغم والأنسجام مع عمل الممثل من جهة وتحولات الإضاءة من جهة أخرى ، بينما بقي البعض الآخر ساكناً لايشكل وجوده في المكان إضافة جمالية كما هو الحال مع الطاولة التي بدا وجودها غير منسجم مع الشكل التجريدي للجدران، فضلا عن ذلك فإن إشتغال إضاءة(علي السوداني) في فضاء العرض أسهم على نحو واضح في التعاطي مع فكرة المخرج المؤلف ، من خلال الكتلة الجامدة المتمثلة في الجدران التي كانت الإضاءة قادرة على خلق التحول في شكلها ، كذلك هو الحال مع العديد من المواضع التي كان حضور الإضاءة فيها منتجاً للعديد من العلامات البصرية التي أسهمت في بناء علاقة بصرية مع المتلقي بعيداً عن هيمنة المتن الحكائي، الامر الذي منح العرض مساحات جديدة في التواصل مع فرضيات المخرج المؤلف النصية ، وقد بدا ذلك واضحاً في المشاهد التي إمتلك فيها الضوء خصوصية الإشتغال من خلال تحوله إلى شخصيات سلطوية تخترق الأبواب والجدران بحثاً عن المطلوبين.
وليس بعيدا عن تشكيلات الإضاءة التي جاءت منسجمة مع حضور الموسيقى، حيث إنقسم إشتغال موسيقى (حكمت البيضاني) إلى نوعين احدهما إرتبط بالمؤثرات السمعية التي إعتمد عليها العرض في العديد من المواضع منها أصوات الأبواب التي لعبت دوراً مهماً في تكوين شخصية السلطة ، حيث شكلت طرقات الأبواب فعلاً دراماتيكياً في الذاكرة الجمعية ، اما النوع الآخر فقد إعتمد على مقاطع موسيقة مختارة تنسجم مع الحدث الدرامي ، نذكر منها الموسيقى الإفتتاحية التي عمل المخرج على تكرارها في مواضع عدة .
الفعل التمثيلي بين الحقيقة / الوهم :
قدم المخرج الؤلف العديد من المقترحات الادائية التي توافرت في النص الدرامي ، والتي بدت منسجمة مع اللغة التي إبتعد المؤلف في صياغتها عن التنويعات اللفظية و الإختزالات اللغوية ، من اجل الوصول إلى شكل لفظي متكامل للفكرة التي أراد التعاطي معها ، الامر الذي بدا واضحاً من خلاله شكل الأداء التمثيلي المطلوب ، إلا أن المفارقة تمثلت في إشتغال المخرج المؤلف على تجسيد الشخصيات بعيداً عن البنية النصية والإشتغال على بناء سلوك تمثيلي يتنوع بين (الوهم/الحقيقة) من خلال الجمع بين النقائض في السلوك التمثيلي ، وقد بدا ذلك واضحاً في مشهد الإغتصاب التي إكتفى المخرج بالتعبير الصوتي الذي أنتجته الممثلة (إقبال نعيم) من جهة والفعل الحركي الذي كشف عنه الممثل (فلاح إبراهيم) ، كذلك هو الحال في سلوك الممثل (سامي عبد الحميد) حيث عمد المخرج إلى تعزيز إحساس(الحقيقة / الوهم) من خلال شطر الشخصين إلى نصفين أحدهما إتخذ من صالة المتلقي موضعاً له والآخر إختار له مكاناً مرتفعاً في عمق المسرح ، وعلى الرغم من ذلك الإنشطار الذي إمتلك دلالات عدة تؤكد جميعها على فرضية (الحقيقة /الوهم) إلا أن اللغة النصية لم تمنع الفنان (سامي عبد الحميد) من الإبتعاد عنها لاسيما وأن المخرج فرض عليه شكلاً تكويناً لاحركة فيه ولاتحول يمكن له ان يسهم في التعاطي مع (الحقيقة /الوهم) إلا ان الإضاءة كانت حاضرة في هذا المشهد لكي تختزل اللغة المحكية.
وقد إختلف سلوك الممثل (فلاح إبراهيم) الذي كان في رحلة البروفات يعتمد سلوكاً إنفعالياً في الأداء ، إلا انه في العرض إختار توظيف الصمت والهمس في مواضع اخرى من اجل تعزيز الخوف المزمن الذي إجتاح المدينة ، الأمر الذي جعل من سلوك الممثل منسجماً مع فكرة (الحقيقة /الوهم) لاسيما في المشاهد التي يفترض فيها (فلاح إبراهيم) وجود شخصية اخرى بجواره ، كشف من خلالها المخرج عن مخاوفنا من كتاب التقارير السرية ،في الازمنة الماضية والمخبر السري في الحاضر الموجع ، حتى بدا واضحاً أن الإنسان العراقي بات يخشى أن يبوح لنفسه بما يفكر، من جهة اخرى فإن لعبة (الحقيقة / الوهم) إمتلك حضورها في سلوك الممثلة (إقبال نعيم) بوصف الشخصية (سميحة) فاقدة للبصر ،أو إنها إختارت أن لاتبصر إلى هذه الحياة لما فيها من موت وفوضى وخراب في الإنسان ، حيث تستمر هذه الفرضية التي إختار المؤلف إقصاءها ،من خلال اللغة النصية التي تبوح (سميحة) بها كاشفة عن فقدانها "للبصر في تفجيرات 2006" وبذلك تنتهي لعبة (الحقيقة /الوهم) في سلوك الشخصية .
ولم يقف الأمر عند السلوك التمثيلي بل تعداه ليشتمل على بعض الأفكار التي شكلت مفاجأة للمتلقي ،كما في الإشارة إلى المعتقد الديني الذي تنتمي إليه (سميحة) حيث تقصّد المؤلف الإشارة إلى الديانة اليهودية من اجل تعزيز الغموض لاسيما وأن المتلقي العراقي لم يتعود حضور الشخصية اليهودية على خشبة المسرح ، وبذلك يكون المخرج المؤلف قد نجح في تحقيق التواصل الفاعل مع المتلقي ، إلا انه سرعان ما عمل على تهشيم أفق التوقع من خلال العودة إلى لعبة (الحقيقة /الوهيم) حيث تنتهي فرضية الشخصية اليهودية من خلال حضور المحكي في شخصية (الأب) وهو يردد آية من القرآن الكريم تدعو إلى التسامح مع الآخر(فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
خاتمة :
ربما إحتاج "موت مواطن عنيد" إلى تكثيف في مشاهد عدة ، إلا ان المخرج المؤلف كان حريصاً على البوح بالعديد من الإوجاع التي تهيمن على حياتنا جميعاً ، الأمر الذي جعله يؤكد على طروحاته النصية التي إشتملت على تنوع في الافكار التي تنتهي إلى ذلك المواطن العنيد الذي بدأنا نفتقد وجوده بيننا، ذلك المواطن الذي عاش في هذه البلاد من دون ان يسعى وراء حزب أو طائفة أو ديانة ، على الرغم من كل ماحصل في الماضي والحاضر وربما المستقبل ، إلا ان المواطن مستمر في بناء الحياة سواء كانت (حقيقة أو وهماً).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي