الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثواب وعذاب

وليد الحلبي

2013 / 12 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


مما لا شك فيه أن نجاح الحوار بين جانبين يقتضي اعتراف كل منهما بالآخر اعترافاً كاملاً شاملاً لا تشوبه شائبة ولا يصيبه عوار، فالحوار بين دولتين مثلاً لا يتم إذا ما قالت الأولى بأنها تعترف برئيس وزراء الدولة الثانية، ولكنها لا تعترف برئيسها، أو إذا ما ردت الأخرى بأنها تعترف برئيس الدولة الأولى ولكنها لا تعترف برئيس وزرائها. ولو أسقطنا هذا المثال على الحوار الجاري بين أحبائنا العلمانيين من جهة، وعامة المؤمنين من الجهة الأخرى ( تقصدت القول عامة المؤمنين لأنني أعتبر أتباع الأديان السماوية جميعهم مؤمنين) لوجدناه حواراً أعرج لا يستقيم مهما علا الصياح واشتد الهرج والمرج، إذ أن واحداً من الطرفين فقط يعترف بالطرف الآخر، وأقصد به المؤمنين، ففي القرآن الكريم مثلاً (كما الكتب المقدسة الأخرى) اعتراف صريح بالطرف الغير المؤمن عندما تقول الآية 29 من سورة الكهف (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ولو ناقشنا هذه الآية بتجرد، لوجدنا فيها مبدأً من المباديء الديمقراطية الذهبية التي يقدسها العلمانيون (حرية الرأي والعقيدة)، فالإيمان في حملته الانتخابية! يقدم مشروعه للجماهير فيقول لهم (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون – النحل 90)، ثم لا ينسى الإيمان في حملته أن يتوجه إلى الجماهير بتبيان أنه لا يتحدث عن الآخرة إلا من خلال الدنيا، فما من مرة ذكرت فيها الصلاة في القرآن الكريم إلا واقترنت بالزكاة (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين – البقرة 43)، وما من مرة ذكر فيها الإيمان إلا واقترن بالعمل الصالح (والذين آمنوا وعملوا الصالحات –البقرة 82)، وقد جمعت معاني هاتين الآيتين في الآية 277 من سورة البقرة (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، أي أن الإيمان ليس مقبولاً بدون عمل صالح، ولا الصلاة مقبولة دون دفع الزكاة، وبديهي أن الإيمان والصلاة هما لله تعالى، وعمل الصالحات وإيتاء الزكاة هما للناس، وبديهي أيضاً أن الربط بينهما والتأكيد على تلازم كل منهما مع الآخر يوضح حرص الله تعالى على خير البشر وسعادتهم الدنيوية. بعد عرض الإيمان برنامجه الانتخابي هذا، يتوجه إلى الجماهير العريضة بقوله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر – الكهف 29)، أي من شاء أن يكون في حزب الإيمان، فأهلاً ومرحباً، ومن شاء ألا يكون، فهو حر في قراره، فهل هناك بعد هذا الطرح ديمقراطية أجلى وأوضح.
نعود إلى أصدقائنا العلمانيين، فهم في حديثهم عن الدين يظهرون أنهم انتقائيون، يأخذون من آيات القرآن الكريم ما يشاؤون ويتجاهلون ما يشاؤون، فهم منزعجون جداً من مشاهد العذاب - الواردة في القرآن الكريم - يوم القيامة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الحديث عن نوعية الناس الذين يسومهم الله سوء العذاب يوم القيامة، كما يتحاشون ذكر آيات النعيم المقيم التي وُعِدَ بها الصالحون المتقون، وهم في غالبيتهم ممن عملوا الصالحات وآتوا الزكاة، واللذين هما لبني البشر، ولو نظروا في الآيتين التاليتين وتمعنوا فيهما بعمق، لأدركوا أن يوم الحساب ليس يوماً حافلاً بالعذاب والمصائب، بل هو أيضاً يوم ينعم فيه الصالحون بما لم يخطر على بال بشر، وما لم تره عين ولم تسمع به أذن، والآيتان المقصودتان هما الآيتان 30،31 من سورة الكهف (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا -30- أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا)، إلى غيرهما من الآيات التي تصف الجنة والنعيم المقيم الذي وعد به الصالحون، تلك الآيات التي لا يقف عندها أحباؤنا العلمانيون لأنها تفقدهم حجة التهجم الإسلام، واتهامه بالتبشير بالعذاب والشقاء، دون النعيم والهناء، وهو أمر عجيب: يؤمنون بما يريدون ويكفرون بما يريدون، وهم في هذا قد ورد وصفهم في القرآن الكريم بدقة متناهية، فسألهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض – البقرة 85 -)، فإن هم آمنوا بآيات العذاب، فعليهم الإيمان بآيات الثواب، أو فليرفضوا الكل، فيريحون ويستريحون.
منح القرآن الكريم الناس حرية المعتقد، لكن هذه الحرية مقيدة باحترام الرأي الآخر، إذ لا يقيم المسلم الحواجز مع الآخرين، ولا يقاطع المؤمن غيره حتى ولو كفر هذا الآخر بالإسلام واستهزأ به، إذ لا تتم المقاطعة إلا مؤقتاً فقط، عندما يسمع المؤمن ذم دينه بشكل علني من قبل الذين يرفضونه، أما بعد ذلك، فلا مقاطعة ولا جفاء، وانظر إلى هذه السماحة القرآنية عندما تقول الآية الكريمة (وقد نزَّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم – النساء 40-)، وتكرر نفس المبدأ في الآية 68 من سورة الأنعام (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره)، فالمؤمن لا يقاطع الذي ينكر الإسلام، بل لا يقاطع حتى الذي يهاجمه بعنف وتكفير واستهزاء.
من باب احترام الذات والمنطق فقط ليس إلا، على أصدقائنا العلمانيين، عندما يقتبسون من القرآن الكريم آيات العذاب، ألا ينسوا الإشارة إلى آيات الثواب، أي أن يناقشوا من داخل دائرة الدين، أو فليبقوا خارجها، فهم في ذلك لا شك أحرار.
10 ديسمبر 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا


.. الجيش الإسرائيلي يدمر أغلب المساجد في القطاع ويحرم الفلسطيني




.. مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح


.. يهود أمريكا: نحن مرعوبون من إدارة بايدن في دعم إسرائيل




.. مجلس الشؤون الإسلامية في أمريكا: الرد القاسي على الاحتجاج ال