الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تشظي الحبكة في الرواية المعاصرة - سيرتها الأولي - نموذجا للروائي محمود عبد الوهاب

أماني فؤاد

2014 / 1 / 6
الادب والفن


بسم الله الرحمن الرحيم
*********
تشظي الحبكة في الرواية المعاصرة
د/ أماني فؤاد
*****************
للحبكة في رواية " سيرتها الأولى" تشكيلاً متشظٍ ، نحن الآن بإزاء نوع من السرد المفكك وغير المبرر، غير خاضع لمبدأ العلة والمعلول أو السببية على النحو الظاهري الواضح ، بإزاء مجموعة من المشاهد والتداعيات التي تتراص على مستوى أفقي بعيد عن ترتيب زمني متتالٍ، أو وحدة مكانية محددة . تخلق الرواية عالماً روائياً كما الحياة الراهنة ، في فترة زمنية محددة عن حياة شخصية الخطاب ، تقدم تداعيات بوح، دون نظام ، أو تعديل ، أو ترتيب محدد، فهي تقدم خطاباً متدفقاً حيوياً ، يشاكل الحياة في فرديتها ، يشاكلها في فوضى تناولنا لها . تقدم احتفال كل فرد بنوازعه البشرية الأساسية والأزلية الغريزية بطريقة بينية غائمة غير محددة ، بطريقة متقلبة كما يحدث في الحياة .
إن توصيف الظواهر الملتبسة التي تتأبى على التحديد مغامرة مثيرة ، فهي بقدر ما تحمل من تخبط الخوض في المتاهات والأشياء الهلامية تحمل من لذة ترويض مالا يروض وهكذا تبدو الحبكة في الروايات المعاصرة.
وتختلف الحبكة التي أعنيها في هذه الدراسة عن مصطلح العقدة "complication" التي تعني دفع التعقيدات في الأحداث إلى ذروتها، ثم ما تلبث أن تنفرج إلى أن تصل إلى النهاية، فمفهوم الحبكة التي تتكئ عليه الدراسة أوسع وأشمل، وتعني وضع الأحداث على نحو سردي يتسم بالفوضى والتداخل ،وضع تخيره الروائي لعمله الفني ، غير خاضع سوى للمنطق الداخلي للسارد ، يتشكل وفق مُشَاكله ، وفق العالم النفسي لهذا السارد وأستدعاءاته الزمنية غير المرتبة أو المتتالية ، وانتقالاته المكانية المباغتة وتحليلاته الخاصة للمواقف وللأشخاص من حوله ، كما يتشكل وفق تعبيره عن هذه الحياة التي باتت معقدة غير واضحة المعالم ، متداخلة المفردات والقضايا تجسيداً للانفصال بين العوالم الفردية والمجتمع من حولها .
وإطلالة سريعة على مصطلح " الحبكة" نجد أنها في اللغة العربية تشتق من حبك الثوب أي أحكم نسجه وتقبل الحبكة عند أرسطو كلمة "My Thos" وتعني هذا البعد الميثيولوجي الذي يعتمد على الخرافة والرمز.
والحبكة عند الشكلانيين الروس هي القصة كما تحكي بالفعل عن طريق ربط الأحداث معاً، فالحكاية هي ماذا حدث بالفعل، أما الحبكة فهي كيف أصبح القارئ واعياً بما حدث، أي نظام ظهور الأحداث في العمل الأدبي نفسه وهي بهذا تعد إجراء يقوم به الخطاب الروائي ، فهذا الخطاب هو الذي يحول الأحداث إلى حبكة، والخطاب هنا هو نمط العرض، والحبكة هي القصة كما صنعها الخطاب ورتبها.
بينمايقول النقاد بصدد هذا الترتيب " وليس ترتيب العرض بالضرورة هو ترتيب المنطق الداخلي" الطبيعي" للقصة نفسه لأن وظيفة ترتيب العرض توكيد أحداث بعينها ، أو نزع التوكيد عنها، وتفسير بعض الأحداث وإغفال تفسير أحداث أخرى، وتركها لاستنتاج القارئ، والتقديم المباشر لأحداث، والحكي عن أحداث أخرى والتعقيب أو الصمت والتركيز على هذا الجانب أو ذاك من شخصية أو حدث أو تركه بلا تركيز ، فالمؤلف يستطيع ترتيب الأحداث على أنحاء متغايرة ، وكل ترتيب يؤدي إلى حبكة مختلفة ويمكن بناء كثير من الحبكات من القصة الواحدة نفسها(1).
ويقسم النقاد الحبكة إلى حبكة ظاهرة وهي التي يستدل عليها من الأحداث وفق المنطقية العقلانية التي تولد لتنمو وتتعقد ثم تتكشف حتى الخاتمة وهناك الحبكة الخفية وهي التي تعمل على تنظيم عناصر في النص وتفسيره.
يبدأ السرد في رواية " سيرتها الأولى" بعد أن حدث الفراق بين " سامح" و" نسمة مظهر" شخصيتَيْ الرواية الرئيسين.
ويستمر القص دون الاعتماد على أحداث متضايفة متسلسلة ذات نتائج على نحو جذري تسهم في تطور الحدث أو تغيره ، لكنه يتواصل معتمداً على أحداث ومشاهد مستدعاة من ذاكرة السرد، تصور الحياة التي كانت بين سامح ونسمة في فترة الوصال، والحياة التي تستمر على نحو متذبذب يعلو ويهبط في علاقتهما في فترة الفراق ذاتها.
تحكي الرواية إذاً عن فترة فاعليات الفراق التي تستمر لأكثر من سنتين ، وما يسوده من اضطراب وعذاب ، وهي فترة قلقة معذبة وحائرة ،تتراوح فيها المشاعر بين الشد والجذب بين البعد والقرب ، بين الرضا والسخط ، فيها تطفو الاستداعات من الذاكرة وتشبه الهذيان الذي يعترف به الكاتب فيقول :" حينما يكون الهذيان أجمل من الحياة، كيف يمكن أن أتركه وإلى ماذا أعود ؟ أأعود إلى إحباطات ، وورطات ، وواقع لا تتسع خاناته إلا لأرقام في شهادات ميلاد وموت؟" (ص11) يحكي الروائي عن قصة حب لايعرف على نحو مؤكد لماذا انتهت ، عاطفة مازالت تستحوذ عليه وعلى الطرف الآخر " نسمة مظهر"، لكنها في ذات الوقت لا يمكن أن تستمر لأسباب تأخذ صبغة الاحتمالية يذكرها في سرده، أو يكنى عنها بصور مختلفة في مواقفه التي يتشكل منها القص ،أو استدعاءاته منذ فترة الوصال، أو منذ بداية معرفته بها وهي حبيبة لصديقه " صادق" أحد زوجيها السابقين.
تشاكل الحبكة في هذه الرواية الرؤية العامة للشخصية الساردة فليست هناك رؤية محددة بل هناك تصارع بين الإرادة والكف ، المناطق الملتبسة والغائمة غير واضحة المعالم التي تقع فيها مشاعر الشخصيات ، وتكوينهم السيكلوجي ، كما تشاكل طبيعة صراع ليست ذات منطق عقلي واضح ، صراع تخلقه مسببات ذات وقع يمكن التغاضي عنه أو تجاوزه فهي مسببات غائمة هلامية إنْ تصدت لها إرادة حقيقية لحسمتها وتخيرت الدفع بهذا الحب لحياة حقيقية دون انفصال.
تشاكل الحبكة أيضاً هذه الشخصيات غير محددة الملامح ، المكتنزة بالتناقضات والتناوبات بين المشاعر الإيجابية والسلبية دون الاستقرار على نحو من الأنحاء ، هذه الذوات ما بعد الحداثية التي تحتوي في جوفها عديداً من الشخصيات المتباينة والمتعايشة. أثرت كل هذه المناطق الضبابية وقتلت الحبكة الكلاسية مع سبق الإصرار والترصد ، وأو جدت حبكة تعبر عن تلك المناطق المتوترة المتفاوتة البينية في حكاية شخصية وذاتية، فردية بكل معانيها .
وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل أساسي ما التقنيات التي جعلت هذه الحبكة تبدو متشظية وكيف حقق الروائي هذا التشظي الذي تخيره ليتوافق مع رؤية هذه الرواية، وطبيعةموضوعها وصراعها وشخصياتها.؟! وكيف ظلت بالرواية حبكة نشعر بخيوطها؟

** بناء المشهد في رواية سيرتها الأولى
للروائي طريقة متميزة في تشكيله لمشاهد الرواية فهو يفتح أحد المشاهد بقوله " كانت المرسيدس البيضاء تجري على الاسفلت بمنتهى الهدوء..." (ص22).ثم يستطرد لنعرف أنه مسافر مع حبيبته وصديقتها منال وصديقها ديفيد.
ثم يذكر كيف تعرف على صديق منال بأن يقص داخل المشهد الرئيسي مشهد آخر استرجاعي، استعادي أو" فلاش باك " يقول :" يومها ذهبت متأخراً بعض الشيء .." (ص23) ومن خلال هذا المشهد الاسترجاعي بداخل المشهد الرئيسي يتولد موقف واجهته بسمة مع هذا الصديق ولم تتذكر اسمه ، ليقص كيف أنقذها وكيف شعرت بالامتنان له ، يتوقف حتى هذه النقطة ليفسر بعض سمات شخصية بسمة الإيجابية، التي لايبرح يتركها حتى يعقبها مباشرة بالسلبي ، ويقص إحدى صفاتها عندما تفقد السيطرة على أعصابها (ص24) ويبين التأثيرات السلبية التي تقع عليه من جراء عصبيتها تلك، وشعوره أنه لم يحقق في حياة بسمة أية إضافة ، وكيفية تصرفه في هذه المواقف معها، ثم يعضد رؤيته لهذه الصفة السلبية ببسمة بأن ينتقل متقافزاً في الزمن لمشهد آخر داخل المشهد الرئيسي يقول:" كيوم تركت أهلها وتركت الغردقة وأتت تحتفل بعيد ميلادها معي سهرنا في المهندسين ثم رجعنا إلى بيتها ..." (ص25) . ويقص أنها وجدت " الدش" معطلاً فأصابتها التعاسة وقالت إنها وحيدة ، وشعر أن وجوده ليس له معنى في حياتها.
ثم ينتهي هذا المشهد الداخلي ليعود ويقص إحدى قدرات وصفات بسمة مرة أخرى وهي قدرتها اللغوية العجيبة في وصف المشاعر والحالات وقلب الحقائق عند اللزوم ، وأنه عند التشاحن معها لا يستطيع إثبات وجهة نظره ولا يستطيع أن يأخذ فرصة لعرض وجهة نظره (ص25).
وبداخل هذا الحكي والرصد لصفات بسمة حبيبته يصور مشاهد يقلدها فيها ويحكي عن جمل حوارية في مشهد ثانوي قائلاً:" أذكر مرة ونحن جالسان على الكنبة... أن أفلتت مني هذه الجملة: - أحب فيك كل نقائص المرأة... فأعتدلت في رقدتها ومالت علىّ تضربني.." (ص26) . يستمر السارد حاكياً مشهده الثانوي لنجد الحكي يعود مرة أخرى لبداية المشهد الرئيسي " نحن في السيارة عيناي وعيناها تضحكان.." (ص26).
ثم يتطرق السرد إلى منال وقصتها مع هذا الرجل الفرنسي وهروبه منها فيما بعد عن طريق تقافزة استباقيه بداخل المشهد ليقص عن شيء سيحدث في المستقبل ، ثم يصور كيف أنه كان يدلك ظهر نسمة بالكريم وهو ينظر إلى ميناء السويس، فيعود ليسترجع عمله في هذا الفندق وذكرياته مع نسمة ليصور مشهداً رومانسياً سحرياً بينه وبين نسمة في المياه (ص28), من خلال هذا العرض لأحد المشاهد نلاحظ أن الروائي يرسم المشهد بوصفه مشهداً تتوالد منه مشاهد متعددة عن طريق التداعي الحر ، ويتمتع المشهد بالحرية في الانتقالات الزمنية بين الحاضر والماضي والمستقبل وفي الانتقالات المكانية: القاهرة ، الغردقة،الإسكندرية والسويس وغيرها من فنادق وبيوت وشواطئ وكازينوهات.كما يضم المشهد الكثير من التحليلات النفسية، والمواقف الحركية المرسومة، التي تضفي أبعاداً تجسيدية نابضة بالمشهد وتجعله أكثر حيوية وإنسانية.
وبهذا يعد المشهد في "سيرتها الأولى" أقرب إلى نواة أم مركزية تبني حولها العناصر الزمنية والمكانية المتعددة والتحليلات النفسية ، كما يقدم المشاهد الإنسانيةباعتبارها براحاً متسعاً من تداخلاتها وتداعياتها العفوية تنسج خيوط واهية غير مرئية بوضوح ، لكنها قوية من إعادة تنسيق شتاتها تتكون حبكة ما، وهو على غير ماكان منوطاً بالمشهد في الرواية الواقعية من أنه اختيار للحظات المشحونة التي تدفع بالأمور إلى الذروة ، لكنه أيضاً احتفظ بقدرته على أن يكون مسرحٌ لكنه مسرحاً متحركٌ في المكان والزمان ، تتغير به ديكورات العرض الخلفية، ويرى فيه القارئ الشخصيات وهي تتحرك في اللحظات المتوترة والمشاعر والمواقف الإنسانية المتباينة ، لقد أصبحت تقنية بناء المشهد أفقية ، عارضة، هذه تقنية بقدر ما تلوّح بفرضية من فرضيات الصراع أومسبباته بقدر ما تمحوها إلا قليلاً في لقطات بداخل المشهد نفسه ولذا تبقى الأمور في حالة من الضبابية، في حالة من التنازع، في هذا المشهد على سبيل المثال يذكر السارد بعض صفات نسمة السلبية التي لاتشعره بقدرته على الاستمرار معها ،بقدر ما تصور الحياة السحرية الممتعة مع هذه الشخصية محور الصراع، ولذا يظل الصراع قائماً طيلة الوقت لا ترجح له كفة ، فكيف للمبدع أن يتعامل مع حبكة محكمة وهو لازال حائراً.
إن الإلحاح على معالجة مناطق بينية ملتبسة لا يستطيع الإنسان مواجهتها باختيار واضح يوقع الفنان في مأزق، كيف يعبر عنها بالتقنية الشكلية الفنية المناسبة؟، فهو في نقطة متوسطة يتنازعه بالشد مقدارين متساويان ويبقى مذبذباً ضائعاً لا يعرف إلى أين تميل مقاديره أو تذهب به الحياة ، ولذا تصبح الأمور كلها متشابهة لا معنى لها ويفقد الإنسان مذاق الحياة.
يقول سامح بالرواية " نصفي الميت يجذبني إلى الموات/ ونصفي الحي ينجو بي في الاتجاه الآخر/ وأنا في المنتصف/ أأغادر نفسي وأهرب من هذا وذاك ؟ وإلى أين أسير ونفسي تلازمني ؟ وإذا ارتدت لي " نسمة" لعاد كل شيء والتأم / وإذا لم تعد ؟" (ص12).
كما لا تتميز الانتقالات في المشاهد بالتوالي قدر ما تتسم بالتركيز على اللحظات الجوهرية والدالة، لكنها ليست فاصلة ،مما يترك مشاعر مكثفة ومتنوعة تتسرب برفق في نفس المتلقي على خطوط متقاطعة ، غير متوازية، في نقاط تمثل بؤر توتر مستمر غير منتهٍ.
وبالرغم من الانفصال بين سامح ونسمة هناك علاقة شبه كاملة تصوَّر، ويقص عنها بطريقة فنية رومانسية أخاذة في مشاهد متكررة حتى آخر الرواية، ويعد هذا موقفاً حائراً في القص يتطلب جهداً تبريرياً مستمراً من المؤلف ويشكل تراوحاً ، وأملاً بعودة قريبه لكنها على مر الصفحات لا تتحقق، فهو في أحد المشاهد التي يستهل بها الرواية بعد أن يقرر الفراق بينه وبين نسمة وعند عودته من الإسكندرية نجده يلبي دعوة توجهها إليه سعيداً وينطلق واصفاً لها ولملامحها الخارجية والداخلية واضعاً إياها في إيهاب أميرة ، أو ملكة متوجة ، قائلاً:" تذكرني دائماً بملكة روسية من عهد القياصرة زال عنها الصولجان ، لكن كبرياءها بقى" (ص15).
ويقول:" الفم صغير . الشفة العليا صغيرة ومنحنية من منتصفها إلى أعلى ، تبدو لي متواقفة مع قيم الاستعلاء التي كانت كثيراً ما تحرك نسمة بين الحين والآخر" (ص17).
وهو إذ يصف المكان بيتها " الخُنّ" كما يسميه والذي شاهد ليالي حبهما ، يصنع مزجاً وتناغماً موفقاً بين المكان وصاحبته يقــول :" بيتها أنيق . كل ما فيه ينطق بلمستها النازعة نحو التأله . كل شيء فيه مصنوع لكي تكون هي صاحبته ولكي لا يصلح لأحد سواها" (ص15).
للروائي طريقة مبدعة في رسمه لبعض المشاهد التي يبدو إخراجها كالمشاهد السينمائية ويتعامل معها بتقنيات التقطيع والتثبيت والإزاحة والمحو ثم يرجعها إلى طبيعتها مرة أخرى ،مشاهد متحركة يكبر فيها لقطات ويصغر أخرى، يحذف أشياء من اللقطة ويسلط الأضواء على أخرى يصنع هذا التكتيك طقساً سحرياً محبباً، ويعطي أبعاداً روحية تضفي لمسات شفافة رقيقة على ممارسة فعل الحب ، ويعطيها أبعاداً للتواصل النفسي ، ومراحلة التي تشبه المواجدات في الحالات الصوفية ،يقول سامح: " أذكر ما حدث بعد ذلك بصعوبة، حيث نظرت إلى عينيها ،إلى شفتيها ، ثم تصلب الموقف على ما هو عليه . كنت أستغرب الماء الذي لا يفتأ يسخن، والطنين الذي يسحب من حولنا كأن الكون يغادر . رأيت الشاطئ كله يتلاشى حتى اختفى عن الأنظار كمااختفى الذين من حولنا . الفندق تاه في السماء والمراكب البعيدة استدارت. اختفت البلاد الأخرى والكائنات وحل صمت مهيب . جفت البقاع وبقيت بقعة واحدة تلك التي كنت أنا وهي داخلها. ثم اختفينا نحن أيضاً، لم أرني ولم أرها. حين عدنا وجدنا الناس يظهرون أشباحاً من بعيد.." (ص28)، تتبدل خصائص الطبيعة في حالات الوجد وهذا العشق المتعالي ، فتتصلب المواقف وتثبت على ما هي عليه، يسخن الماء ، وتغادر الأصوات الوجود ، لا، الكون نفسه يغادر وتتلاشى الأشياء، إنه العشق الذي يأخذنا لعوالم أكثر شفافية وتعالياً ويفقدنا ماديتنا ويجعلنا نوراً صافياً.
وإذ يبرع الكاتب في مثل هذه المشاهد الخاصة بالحب وشطحاته الصوفية ، يبرع أيضاً في تسجيل مشاعر ملتبسة بين رجلين محتواها الأساسي الغيرة وأنواع من الكراهية والضيق الشديد، ويسجل الروائي راصداً تلك الحالات النفسية ببراعة متسللة دون تعبيرات مباشرة لكنها مؤثرة يقول :" عندما التمعت عيناه تحت وهج الإضاءة الفوسفورية أتاح لي عقلي تلك اللحظة كأندر اللحظات " (ص59) بمقدرونا أن نلاحظ هذه التركيبة المبدعة التي يصطنعها الروائي " الإضاءة الفوسفورية " لينقل لنا شعور " سامح " بلحظة كشف مباغتة سحرية، ويصور الكاتب تلك المعاناة بطريقة بليغة يقول وهو يرقص مع صادق على نغمات المزمار البلدي ".. ولكن كيف لي أن أخطئ معنى نظرات عينيه، ولماذا اختارني أنا بالذات ؟ لقد كان هناك بالطبع معنى ما ولكنه لم يكن واضحاً. فهل كان يعاقبني؟ أم يتوعدني ؟ هل كان يريد أن يقول لي إن الصداقة بيننا تلفظ الآن آخر أنفاسها ؟ هل كان يريد إيصال رسالة ما إليها؟.. لن أغفر لك." (ص59).
لحظات متوترة يصعب رصدها ولذلك يستخدم الروائي الوسائل المتعددة من أجل أن يرسم مشاهد متجددة تعبر عن معانٍ لا يصرح بها قدر ما يكني، وتخضع لاحتمالية التفسيرات المتعددة ، وهو ما يسهم في جعل هذه الحبكة مفككة وغير معهودة ، لكنها موجودة على نحو آخر.
وتبدأ الإشارة إلى الصراع الجوهري بالرواية من خلال إشارة بسيطة بداخل هذا المشهد الاستهلالي الذي يصور علاقة حميمية تحدث بعد فراقهما بشهور وفيها يمارس سامح مع نسمة فعل الحب وقد أوصلها للنشوة بطريقة آمرة ، يجتاحها بقوة ، ويعلن أنه شعر بأنها أرضه ، وأنه يمتلكها ووسط هذا الأتصال النفسي والجسدي يشير سامح " وأنا أغادر الخُنّ إلى غرفة النوم ومنها إلى الصالة خطر لي خاطر أضاع تأثير البيرة ولذة مارسة الحب معاً.
* هل هذه كانت طريقته؟
* هل لهذا السبب قضت معه كل تلك السنوات غير المبررة؟
* ما الذي كان يعجبها فيه؟ " (ص22).
يذكر سامح جوهر الصراع عرضاً ، مجرد إشارة عابرة ، لا يوضح لها أبعاداً ،ونمر بعد هذا على صفحات كثيرة ونحن لانعرف أطراف الصراع الجوهري بالرواية، ومن خلال المشاهد المتتالية نكشف أبعاد الصراع واحداً تلو الآخر.
ولا يخلو مشهد من المشاهد الحميمية بين سامح ونسمة إلا و تطل جملة كنتوء قاس وعنيف لتشير إلى العذاب الذي يحياه سامح لسيرة نسمة السابقة مع صادق، وتحملها له وجهاً برغم ما عانته معه من خيانات.
حتى بعد فراقهما ، وبعد زواج صادق، يجتاحه التساؤل الذي هدم علاقتهما يقول : "المفروض ألا أشعر بالشفقة عليها ، ولماذا أشعر ؟ هل لأنها يمكن أن تكون حزينة لزواج صادق؟ وماذا يعني هذا ؟ هل انتهت من علاقتنا وجرحها من حبه – بعد- لم يندمل؟.." (ص61).
ويلْقي الكاتب بلب الصراع في الرواية نتفاً ثم ما يلبث أن يخفيه أو يواريه التراب ثانية، لصراع آخر يصطك بعقل رجل شرقي ،يأنف أن يصرح أنه مازال أسير عقائد مهترئه ترفض المرأة التي سبق أن أحبت وعاشرت آخر وصرحت بهذا الحب، ويحاول جاهداً أن يتجاوز مشاعره تلك ، المأساة تكمن في أن حبيبته وامرأته التي يهيم بها سبق أن أحبت، وتحملت لسنوات هذا الرجل الآخر.
تمثل هذه التجربة السابقة بحياة نسمة مأساة سامح الحقيقية ، ويعد العنوان " سيرتها الأولى" متكاتفاً مع بعض التلميحات البسيطة المتفرقة بالرواية جوهراً للصراع ، تتصادم معه- كشأن الأشياء بالعالم الواقعي - أشياء أخرى، فشخصية كلا الطرفين نسمة وسامح تتلخص في * كبرسن نسمة عن سامح وعدم استطاعتها الإنجاب منه
* الفارق الاجتماعي والمادي بين الطرفين وشعوره بتعاليها عليه في بعض المواقف.
* بعض النقاط السلبية بشخصية نسمة والتي تشعر سامح بعدم فاعليته بحياتها
* شخصية سامح ذاتها التي تأنف من القيود وتحتفي بالحرية غير المسئولية وعدم التقيد بعلاقة واحدة مع امرأة واحدة.
ويتحقق الخطاب الروائي في رواية سيرتها الأولى من خلال السارد الوحيد أو أنا المتكلم، هذه التقنية السردية توافقت مع طبيعة الموضوع التي تعتمد على استبطان ذاتي مستمر ، وعمق في تناول الداخل الإنساني بتناقضاته.
ويبوح السارد بنهجه في حكي هذا العمل، فهو يعتمد على الذاكرة والأطياف والصور وصدى الأصوات ، حالة من الهذيان (ص11)، ويسهم التكنيك في تفكك الحبكة ظاهرياً ،وتنتاب السارد حالة من إلحاح فعل القص والذكريات والاستدعاءات ،ويحاول أن يدفعها عنه لكنها تسيطر عليه، فهي أدفأ ما يملك عكس جفاف حياته بدون نسمة.
ويوقعنا السارد في حالة بينية حين يقول:" لكن ما يزال الوقت مبكراً جدا للنسيان، لأني لا أزال في خضم الأحداث " (ص13)، ثم يقول مباشرة :" مازال الوقت مبكراً جداً أيضاً للحكي، حيث يبدو الحكي في أوله عبئاً ثقيلاً نظراً لتدافع الذكريات. تدفع كل منها الأخريات للخروج من النفق المظلم إلى سطر الورق".
يلوّح السارد بتقنيته في قص حكايته الحائرة والملتبسة، ولطبيعة العلاقة الحائرة بينه وبين حبيبته في فترة الفراق .
ولأن القص له طبيعة استدعائية يتراوح الزمن بين أزمنة مختلفة الماضي والحاضر والمستقبل، فالسارد ذاته يعترف " فأحاول أن أميز الخط الفاصل ما بين الماضي والحاضر والمستقبل فلا أستطيع، بل إنني أحياناً ما أكون غير واثق في أية مرحلة أنا" (ص33).
ويلجأ السارد المتكلم إلى تقنية الاستباق الزمني وهي تقنية لا تصلح إلامع القصص المكتوبة بضمير المتكلم، فهو يرى قصة تجربته مع نسمة في فترة يعلم أنها تقترب من الانتهاء، يعلم ما وقع ، ويمكنه التنبؤ بما سيحدث دون إخلال بمنطق القص.
** الحبكة والتشكيل الزماني والمكاني
ويعد الزمن في الرواية زمناً داخلياً يخص السارد بكل انتقالاته المباغتة بين الماضي والحاضر والمستقبل، إلا أن الروائي يصنع ربطاً ومزجاً بين الزمن الداخلي لأحداث الشخصيات، والزمن الخارجي التاريخي، ومن شأن هذا الربط أن يسهم في إعطاء الصبغة الواقعية الحقيقية على الأحداث الخاصة ، ومن شأنه أيضاً في هذه الرواية بصفة خاصة أن يبرر هذه التداخلات الزمنية والمكانية وهذا التقاطع والتشظي في الأحداث ،فالربط التاريخي جاء في موضعين أحداث 11 سبتمبر (ص29) والتغيرات الاجتماعية بعد الانفتاح، وجاء ذلك في معرض حديثه عن طقوس الأفراح (ص58)، ويدعو الحدثان لاستدعاء كل معاني الفوضى المختلفة.
وتمتد المساحة الزمانية للرواية لعدد من السنوات التي تتجاوز الثمانية، والتعامل مع الزمن انتقائي للحظات المتوترة والمشحونة فيه ،وليس مسحاً متتابعاً للأحداث ،ولذا فلا نستطيع أن ندعي أن هناك ثغرات في هذا التعامل التقني مع الزمن الطبيعي التاريخي.
كما يشكل الزمن المستقبلي منطقة غائمة وتعيسة ،فهو إشكالية لدى سامح بعد أن فقد نسمة، وعُقِدَ قرانها على آخر ، ولذا يدفعه الإحساس بالضياع فيما سيأتي من أيام إلى أن تأخذ تلك الحالة الغيبية الحلمية التي تسيطر عليه في نهاية الرواية ،يقول :" فرأيت البحر السكندري وقد انشق عنه وجه الشيخ علي ... في البداية كان الوجه ملامساً للمياة إلا أنه ما لبث أن أخذ يصعد ويصعد حتى إنه – تقريباً – ملأ السماء كلها.. وبينما كنت أجاهد لأفيق ، إذا بي أتأكد من أنني أرى يديه أيضاً تخرجان من المياه ثم تطولان حتى تحوطان الأفق .." (ص126.125) ثم يدور حوار بينه وبين الشيخ علي ، الذي أتصور أنه يمثل لديه قوة قدرية غيبية، وتنتهي الرواية بأن تبتلع هذه القوة معظم السكان ،وتبتلع سامح ذاته، لندرك أن الروائي يريد أن يلقي لنا برسالة مفتوحة وهي أن الحياة والأقدار تبتلع كل شيء: الإنسان والحب والعذابات وما عداها كما يسهم الزمن في إشاعة تلك الانطباعات الفنية المتناثرة الممتعة التي تتوافق مع هذه الحالة الإنسانية الملتبسة.
ويبرز الروائي المكان في الرواية مكملاً لرسم الشخصية ، فهناك تجانس وتلاؤم بين شقة نسمة وأثاثها، وبين ملامح شخصيتها وملامح شكلها الخارجي ، يقول سامح:" بيتها أنيق كل ما فيه ينطق بلمستها النازعة نحو التأله . كل شيء فيه مصنوع لكي تكون هي صاحبته ولكي لا يصلح لأحد سواها" (ص15).
يعشق سامح المكان بانعكاسات ألوانه مع أشعة الشمس ، مع المقاعد والسجاجيد وخشب الأرض الموسكى؛ لأنه مكانها وبيتها؛ لأنه يعشقها فيتوحد بالمكان.
والرواية في انتقالاتها المكانية المتعددة لا تلمح أن المكان الروائي مجرد ظل ، بل هو عنصر أساسي في القص، ومرجع ذلك أنه ارتبط بذكريات للسارد مع نسمة حبيبته، فهو لا يعد خلفية لحظية، لكنه يعد امتداداً للحدث وللحب وللشخصيات وللفقد ، إنه كائن يتنفس مع محاور هذه الرواية.
وأتصور أن المكان برواية "سيرتها الأولى" أكتسب هذا الموقع الفعَّال لأنه ارتبط بالذكريات مع شخصية لها سمات قادرة على التأثير، قادرة على إضافة الحياة على الأشياء والأماكن والأشخاص ، على عكس ما يبدو من ملامح الرواية الجديدة ،فنسمة تختلف عن شخصيات ما بعد الحداثة في قدرتها على الفعل القطعي وإن جاء بالسلب ، فيما يخصمها، ومن يدخلون في دائرتها.
تجلت الألفاظ التي عالجت المكان دافئة، تتسم بالحيوية والخصوصية، فمكان التقائهما يسمونه " الخن" (ص18) وبيتها بتفاصيل أثاثه وكتبه وستائره وتفاصيله المختلفة كلها عناصر مؤثرة في خصوصية علاقة إنسانية دافئة.
يتحدث السارد أيضاً عن أماكن التقاءهما بنوع عن العشق والتجلي حتى إنه يذكر أنهما بعد أن افترقا صارا يتقابلان في أماكن أخرى ، كأن الأماكن عناصر تغادر العلاقة، كما يغادرها البشر.
يتميز الأدب الرفيع بأنه يترك قارئة وهو على علاقات شخصية بأماكن عالجها في إبداعه، وأتصور أن "محمود عبد الوهاب" قادر على ترك بعض دمائه ونبضه في الشوارع في الفندق وفي الجريون ، فوق الموج المتهادي بهذا البحر الصاخب فوق الفوتية بشقة نسمة حبيبته، وفوق مشاعر قرائه.
طبيعة الشخصيات وسيرتها الأولى
تعد رواية " سيرتها الأولى" نموذجاً جيداً من خلاله نستطيع أن نميز طبيعة الشخصية في تيار ما بعد الحداثة، فالرواية لا تزخر بعدد كبير من الشخوص لكنها تنطلق رأسياً في رسم واستبطان الشخصيتين الرئيستين بها "سامح" و"نسمة" وتسعى في حساسية بالغة لرسم تناقضات وتداخلات الشخصية الواحدة ، وترصد للتنوع الحادث في الشخصية بداخل سمات التيار الواحد ، عكس ما يتصوره بعضهم من جمود وانسحاب هذه الصفات على كل الشخصيات .
يصور الروائي تلك الأنثى الممتلئة بالتناقضات، والتي توقع بحبيبها في حيرة بالغة، وهو إذ يرسم لها صورة امرأة قوية قادرة على الفعل وفرض إرادتها قائلاً :" كانت تعتقد دائماً بأنها على صواب، وأية محاولة من جانبي للمناقشة تعتبرها نوعاً من الجدل الذي لا طائل من ورائه.." (ص49) لا يتركنا لعدد كبير من الجمل حتى يأتي بالنقيض المباشر أو غير المباشر للصفة التي سبق أن ذكرها لتميز الشخصية يقول عن نسمة:" الرداء الأكاديمي لنسمة هو مجرد رداء ، قناع يغطي الضعف الإنساني بكل ما يحويه من إنسانية بل وأيضاً بوهيمية " (ص48)، ويرى " سامح" السارد حبيبته عالماً يتعايش به عدد من التناقضات فهي على قدر اعتزازها بذاتها و نزعتها إلى الاستعلاء على قدر بساطتها وعطفها على الضعفاء.
وتبدو شخصية نسمة نابضة بحياة حقيقية تغادر سطور الرواية لنراها تتجسد أمامنا ، فهي شخصية صاحبة موقف ، قادرة على اتخاذ قرار في مرحلة من مراحل حياتها" قرار الفراق مع سامح" غير قادرة في مرحلة سابقة لاختلاف في الظروف المحيطة بالحدث " علاقتها بصادق زوجها الثاني"، شخصية تخاف من استمرار علاقة يمكن أن تسبب لها إهانة في المستقبل، تعاني من الفارق الذي بينها وبين حبيبها برغم حاجتها إليه، التي لم تفارقها حتى في أثناء قرارها بالانفصال وهو ما يشيع هذا الاضطراب في هذه العلاقة التي تبدو واقعية بالفعل ، فهذا النوع من العلاقات المترددة هو ما نحياه في أيامنا هذه.
يبدو الطرف الآخر من الصراع باعثاً على الحيرة والاضطراب والتردد فنحن على قدر ما نلمس فيه عقلية متزنة ، قادرة على استيعاب من حولها وامتصاص انفعالهم وغضبهم - شأن تصرفه المتكرر مع نسمة ومواقفه المتعددة معها - قدر ما نلمس به عدم قدرته على الفعل الحقيقي ، واتخاذ موقف محدد فهو يقول عن نفسه " وانني لم استُطع أبداً أن اتخذ قراراً بالزواج من إحداهن ، كان بداخلي دائماً جزء غير مقتنع ، ربما شيء طامح ببعض الكمال وربما شيء خائف يخشى القيد، لدرجة أني كنت أفكر لو خلقت على هيئة عصفور لكان حالي أفضل ، ولكن حتى العصفور يختار وليفاً ، ثم إنه لابد له أن يختار ، وأعتقد أن كلمة " لابد " هذه هي مأساتي في الحياة ، نشأت غير واثق أبداً مما أريد أن أكونه .. وأنا لا أحتمل الالتزام ولا القيود ، ولا الجري المستمر .. كان أحد الأسباب الرئيسية لضيق نسمة بي مما أعتبرته أهم عيوبي ، أنني ليس لي هدف في الحياة... إذا كان لابد لي من هدف فسأختاره هكذا ، أريد أن أكون سعيداً " (ص55،54).
تبدو شخصية سامح في تناقض غريب لمواقف له في الحياة ، شخصية غير قادرة على الفعل ، شخصية هشة وغير فعالة ، مغتربة عن العالم من حولها.
كما تعد نزعة السخرية التي تملكت الشخصيتين الرئيستين بالرواية سمة من سمات الكثير من الأعمال الروائية المعاصرة ، يقول سامح في إحدى تفسيراته للعلاقة بينه وبين نسمة "وعلى الوجه الآخر فقد كان من أعظم ما صبغت به علاقتي بنسمة هو الاشتراك في السخرية من كل شيء، ولقد كانت لديها بالفعل تلك النزعة الساخرة ولكنني أذكيتها فصرنا نضحك في كل مكان غير عابئين، نسخر من مذيعة التليفزيون ومن الفيلم في السينما، من أصحاب المحلات التي نشتري منها ، نسخر من السياسة، ومن الفلسفة ، ومن الأشكال المنمقة المصاغة بها الأفكار النبيلة، ثم كان الصيد المحبب لنا : الأفكار الجادة .." (ص56).
تتوغل هذه النزعة الساخرة بالنفس البشرية بعد تراكم طبقات من اليأس وفقدان الأمل في التغيير، وبعد ما يشعر الإنسان بعدم جدوى الاعتقاد، بل بإنهيار كل الأفكار الكبرى وهو سمة من سمات ما بعد الحداثة ، تبرز هذه النزعة بعد الانفصال الذي فُرِضَ على الإنسان المصري عن واقعة السياسي والاقتصادي والاجتماعي .
ولايعد ذلك تغييباً عن الواقع، بقدر ما يمثل تجاهلاً وتجنباً مناقشة لحظة لابد أن تؤدي قراءتها إلى اتخاذ موقف فكري، وأحياناً ،نضالي وهو مالايتحمله الكثيرون؛ ولذا يكون الملجأ المتاح للذات الإنسانية هو الجسد، فهو اليقين الذي يملكه ويعوض فيه إخفاقاته وانسحاباته الأخرى.
ويأتي ذكر بعض من الأحداث العامة لمصر والعالم في ثنايا متفرقة بالرواية ونلمح بها إشارات ذكية تأتي ضمناً لكنها لا تناقش تشي ببعض الانتقادات المسكوت عنها وكأن الأمر لا يعنيه كثيراً ، كما تشي بالتناقض في المواقف الذي أصبح سمة عادية لكل الأفكار .
ففي معرض حوار بينه وبين نسمة عن أحداث 11 سبتمبر واستنكار نسمة لموت ناس مساكين وأنه ليس من التحضر الاعتداء على أناس أبرياء ، يسجل رأيه الخاص بأن ما يحدث في فلسطين أمر لا يقبله عقل عادل لكنه يقول :" فمنذ أسابيع تحاشيت الدخول معها في جدل عقيم حول نفس الموضوع ، ثم ما معنى أن تجادل امرأة فتكسب المناقشة وتخسر ليلتك ؟ والآن فَلاْتكُنْ انتهازياً وأقف معها في موقفها وأكسب الليلة على أساس أن رأيها لن يفيد القضية على أي حال ..(ص39).
إن تلك النزعة الساخرة التي تتملك الشخصيات في الرواية الجديدة تساعد على بعث الفوضى المتعمدة الناتجة عن اللايقين تعبيراً عن الرفض، والانتقاص من أمور ينشغلون بها لكنهم يدفعونها دفعاً على حياتهم الجوفاء ، و ذواتهم التي أصبحت هشة بعد أن فُرِّغتْ من فاعليتها وحريتها وقدرتها على التعبير عن قضاياها، ينتقل هذا اللايقين إلى المتلقى وتصبح استجابة القارئ إلى العمل إستجابة غير معهودة في المراحل الفنية السابقة ، فهو دون شك يعيد ترتيب الأشياء وتقييمها محاولاً دون أن يدري أن يتخذ موقفاً من هذه السخرية وأتصور إن تلك المرحلة الفنية من شأنها أن تدفع المتلقي إلى أن يتخذ موقفاً ، فهي بمثابة هزة تدعو طاقات الإنسان إلى التحرك.
وتحتفي رواية سيرتها الأولى بالجسد الإنساني ، والعلاقة الحميمةبين الرجل والمرأة،لكنه احتفاءً غير منفر ولا هو بغرائزي فظ ، إنه احتفاء بملجأ وملاذ حقيقي يستطيع أن يجلب نوعاً من السعادة التي تتحقق يقيناً ، وهو نوع من التحقق الوحيد في اللحظة التاريخية الآنية الذي لا يجاوره أنواع أخرى من التحقق، فالرواية لا تحفل بالقضايا العامة : فلسفية أو سياسية أو فكرية إلا عرضاً ،وأن تناولت قضية ما فبصورة ساخرة غير مبالية، الاحتفاء ينصب على الذوات المتعطشة للحب، وللأشياء المادية الملموسة من خلال الجسد.
يحسب للروائي هذا السرد الذي يعالج الجسد دون ابتذال أو دونية فيضعه في توليف رائق وشفيف ، يغزل فيه من خلال التفاصيل الصغيرة علاقة رجل وامرأة متكئاً على معان مادية حسية لكنها بوابات لعوالم أكثر اتساعاً ورحابة في النفس البشرية وكوامنها الخفية ، كما أن تناول الجسد والجنس بالرواية يأتي معظمه في الفترة التي قررا فيها الفراق، لذا يأتي محموماً بالرغبة لكنها رغبة يجب مقاومتها ، لذا تأتي غير حاسمة ، كما تساعد على تشظي الحبكة الداخلية بالرواية يقول :" التصقنا ثانية ، ثم احتضان حان ، أقبلها على كتفها ، لكنها تفيق عندما تلامس شفتاي رقبتها الناضحة بعرقها الجميل تبتعد ، تنظر لي نظرة – فيها عتاب وشيء من السعادة.." (ص104).
ولا تخلو المشاهد من جنس صريح بين نسمة وسامح ، لكنها لقاءات غرام اتسمت بالرقة والعذوبة الجميلة، وهو رصد لنوع من المشاعر الحقيقية ، التي لا تبدو مثالية أوروحانية ، بقدر ما تبدو واقعية ، ذات وجود حقيقي ، وجود مغاير لما يبدو في فن ما بعد الحداثة من تناول للجنس تناولاً مقززاً وصادماً للذوق ،إنه جنس آلي، وممارسات ميكانيكية جوفاء تبرز بها الشهوة أوما يسمونه الشبق الحيواني.
يتذكر سامح قائلاً :" يعيدني العطر إلى الذكريات ، كانت رائحتها دائماً ذكية ، حتى إنني كثيراُ ما كنت ألثم فخذيها خاصة عندما تخرج من الحمام بعد دش المساء وألعقهما، وكنت أسألها دائماً.." (ص119).
أو قوله :" ونسمة تطوقني بيديها من فوق كتفي ، وراحة يدها تصل إلى ظهري، تعبث معي بأظافرها، وساقاها تلتفان حول خصري ، أرفعها بسهولة بكلتا يديّ. أداعب ردفيها بينما نتكلم ، وأصابعي تتسلل "تحت المايوه" قليلاً دون أن تعلق .." (ص27).
يعبر الروائي عن ممارسة الحب بطريقة مباشرة ، لكنها حَيِيَّة لا تخدش الذوق العام، بل تجعلها ممارسات ذات أبعاد نفسية عميقة وجميلة.
** اللغة في سيرتها الأولى.
يتعمد الروائي قطع المسافات بين السارد والمتلقي وتبدو اللغة طبيعية مباشرة حميمية وكأن هناك حواراً حميمياً صادقاً أو فضفضة تلقائية بين السارد ومتلقيه ، ففي مستهل الرواية يصف حاله متوجهاً لقارئه يقول :" باختصار أريد أن أقول :- أنا لم أعد أنا " (ص11).
من شأن تلك التراكيب المستخدمة في الحوار اليومي بين الأشخاص أن تزيل شبهة التكلف التي قد تنشأ عند تناول عمل أدبي، وتشعر المتلقي بحيوية الحوارات التي تدور بالحياة.
وللروائي طريقة فنية مبدعة في تعامله مع معانيه المجردة عن طريق التشبيهات و المجازات، فهو يسعى إلى تجسيد معانٍ مرهفة وشديدة الشفافية وعصية الالتقاط، فعندما يمعن في وصف ملامح نسمة حبيبته يقول :" عندما تنام نسمة تبدو شفتاها أكثر كسهل منبسط، تستطيع أن تجري عليه وأن تقف؛كأنهما توفران على








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه