الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرواية في الشكل المعماري : دراسة في رواية - متاهة اخيرهم - لمحمد الاحمد

سمير عبد الرحيم اغا

2014 / 1 / 9
الادب والفن


" يلتقي الشكل الروائي مع الشكل المعماري في الكثير من عناصر ومقومات البناء فهو بدا " كان" وهي اولى عناصر الشكل الروائي وثانيا " يعني " اذ يختزن مضمونا ما يقدم الاشياء في رؤيا تفوق تعريفها بصيغة " تعريف اولي كما ان الشكل المعماري يكشف عن نزوع حكائي يتضح في العمارة اكثر مما في الابداعات التشكيلية الاخرى وخاصة الفضاء " .
تتعرض رواية " متاهة اخيرهم " كفعل ابداعي مقارنة مع فنون العمارة لمؤثرات متنوعة تمارس دورها في بلورة الابداع المعماري القديم والمعاصر ، واذا كانت عناصر الشكل الفني عموما تمثل محتواه فان الامر في الرواية بشكل خاص اكثر بعدا في ذلك .. اذ تؤثر هذه العناصر في عملية التشكيل المعماري ، وعند تاملنا المكان الذي استحكم في بنية الرواية ، يتبدى لنا مقومان اساسيان فضائيان يؤسسان مجالية الاحداث ويتنفذان في سريانها وحركتها هما البيت والسينما .
ان بامكان عناصر المكان .. البيت ، النافذة ، الغرفة ، الباحة ، الدربونة ، السينما ،المعبد ، الجامع ، الطريق ، المحطة ، وغيرها .ان تتكامل في تكوين فني معماري وتتمكن من انجاز مضمون جمالي ، رواية
متاهة اخيرهم " برمتها تشكل احتفاء بمدينة " بعقوبة " وفق تقنية سردية تتكىء على ذاكرة المكان عبر الوقوف على باقة من الصور الفوتوغرافية واللوحات التشكيلية المنتقاة بعناية لابطال الرواية وشخوصها .
فكرة الرواية تؤسس على فكرة افتراق مكاني .. بيت في بعقوبة .. بيت في اسرائيل ، افتراق جغرافي .... العراق بغداد .. اسرائيل ، افتراق المسافات افتراق بعيد لاياتي . طالما كان فيه ثمة انسان .. له اسباب كثيرة تتداخل معها ، افتراق عائلة يهودية او آخر عائلة يهودية من بعقوبة الى اسرائيل مع بقية من هاجر من اليهود وهي عائلة " يهوده " الشخصية المحورية في الرواية .
كان يهوده في غاية الوداعة والهدوء فلم تبدر منه اساءة لاي احد وظيفته تشغيل ماكينة عرض الافلام السينمائية ، ولم يكن في خلاف مع احد في يوم من الايام ، بقي لا يرغب العيش في " دربونة التوراة ": وحيدا بعد ان هاجرت زوجه مع اولادها الى " اسرائيل " في منتصف الخمسينات ، وقد رفض ان يصحبهم مهما كلف الامر وقال :
- " بيت الله عقب بيتي لا والله "
هذا المكان ذو تفاصيل يستند الى الموروث التاريخي في ذلك الزمن رغم ان شكل كل بيت وتصميمه يتخذ كانعكاس للحالة الاجتماعية ، و يحمل من الانسان آثار ذكرياته ويوثق حياته ووجوده كما يعلن علاقته مع الشارع والآخرين من خلال اسلوب تعامله مع الخارج كمارسة معمارية ، حين يفتح النوافذ ويختفي خلف جدار ... وقد استهل الكاتب روايته :
" الرجل الوحيد الذي دخل الى ذلك المكان ، وبعد عشرات السنين ، هو الذي استطاع وصفه بكل تلك الدقة ، بيت بطابقين فيه نافذة واحدة تشرف على الباب الرئيس ومنها يتفحصون الطارق ، يعيش فيه ثلاثة اشقاء ، ( يهوده ، حسقيال ، وسناء ) " الرواية ص 11
يشير مستهل الرواية الى معمارية البيت اليهودي المشهور في تلك الحقبة الذي جرت فيه الاحداث وما حوله من بيوت واكتشاف عالمه كما يتاكد الزمان فيه .... انسان يتحرك في الجدران حفرا و نقوشا والوانا وثقوبا وقد منحنا الكاتب فرصة الانتماء الى بيئته " مدينة بعقوبة " والى تاريخه الشخصي الذي نسبه الى الراوي .
والبيوت كالانسان تمتلك هي الاخرى ملامحها المشتركة .. جدرانها ونوافذها وابوابها ، ولكي يكون لكل بيت شخصيته لا بد ان تتخذ تلك الملامح شكلا متميزا فينفرد كل بيت بجداره ونافذته وبابه ، وفي كل بيت حكاية وكل حكاية في الحياة بيتها ، وبيوت الرواية ملاصقة لبعضها ولكل عالمه الداخلي الخاص يتلهى بحياته العائلية وقد حكى الراوي حكاية جاره :
" لم يكن " ابي " ابن جارهم وحسب ولكن لانه احد الذين يعتمدون عليه في ادارة املاكهم وخاصة دار السينما التي كانت بادارته ومسؤوليته " الرواية ص 12
يبدا الايقاع المعماري في رواية " متاهة اخيرهم " من صفحة الغلاف الاول والاخير بهيئة معمارية وثائقية ... الغلاف عبارة عن صورة فوتوغرافية لمعبد اليهود في مدينة بعقوبة ( دربونة التوارة ) وقد برزت فيه عناصر الايقاع المعماري بكل فنونه القديمة والحديثة ، الباب ، النافذة ، السياج ، الاقواس ، الحجر ، الخطوط ،
شكل الحجارة وترتيبها .. تاخذ اشكالا هندسية تعبر عن علاقات عضوية بين الكائنات التي تعيش فيه مليئة بالشد والتماسك وكل حجارة من هذا المعبد ، تفسر الزمن الذي قطعته ، والاحلام التي رافقته ، والعلاقات الاجتماعية التي تداخلت وتنامت مع الطوائف والمذاهب في بيئة واحدة ، حارة متراصة ترمز الى النسيج الذي لم يتاثر بكل مآسي الزمن ، بعد ام قرب ، بقيت هذ البيوت نابتة في الارض كالجبل تتداخل احجارها وتتساند حتى تبلغ القمة . ولكن هذا الايقاع السريع الذي يمر بحياتنا المعاصرة هو الذي خلف السرعة في كل شيء افقدها ميزة الظهور الفردي وهو الذي اضاع علينا الفرصة في ان نكتشف الكثير من تفاصيل عالمنا ، فمثلا شوارع مدننا الحديثة تقود الانسان استقامة الطريق وتشغله سرعة الشوارع .. عن الانتباه الى ما يجاوره من ابنية وعوالم " وان اشكال الابنية القديمة اتجهت نحو البساطة والاقتصاد لكي تتوفر على فرصة ولو محدودة من احتمال اكتشافها .. وقد تاخذ فرصتها في الظهور الفردي المميز . في زمن ايقاعي بطيء مليء بالاشياء التي تزيح السكون وتحتل فراغاته وهذا ما يزيد من الود والالفة بين الانسان والامكنة .
وكما النفس تغلق ابوابها حين تموت لتكشف ابعادها واعماقها بعد ذلك فان هذا البيت اغلق ابوابه " بيت يهوده " اغلق لان صاحبه ...مات ، وترك نوافذه مفتوحة ليتكلم كثيرا ويضحك عاليا ، يقهقه حتى ترتجف اطرافه وقد التزم الصمت عندما اغلق بابه ، ثم جاء الكاتب "محمد الاحمد" ليفتح هذا الباب ليطلق لسانه ويمشي بين ممراته وينزوي في اركانه ويقص علينا تاريخه .. وكيف كان يعيش في البيت ومن اقام الجدار هنا ، ومن فتح الباب ، ومن القى الكرسي هنا ومن فرش السرير ، ومن اقام فوهة في السقف ليرى السماء او ليدخل ضوء الشمس ... لقد صاغ الاحمد ذلك المكان من مجتمع المدينة .
ثم اختار محمد الاحمد في رواية " متاهة اخيرهم " مكانا آخر يكشف مفردات البناء الروائي ويبرز جمالياته ودخل الحياة اليومية للشخصية المحورية وفي ادق تفاصيلها واكتسب بنية متوافقة مع الفعاليات التي شرحت المضامين الوظيفية والاجتماعية للمبنى .
يقول الكاتب عن هذا المبنى ومميزاته :
" يكاد ان يكون من الصعب الحصول على مقعد فارغ في كلتي الدرجتين الاولى والثانية بسهولة ، ابتكر " يهوده " طريقة لتنظيم الداخلين الى الصالة ، فجعلهم يثبتون رقم المقعد على ظهر بطاقة الدخول وكل مقعد مرقم ، بتسلسل يبتدىء من بداية اول صف حتى نهايته ، وعين في داخل كل صالة " الرواية ص 220
الملاحظ ان الشكل المعماري لهذه البناية يكشف عن نزوح حكائي روائي يشبه عرضا مسرحيا معماريا بلغة تشكيلية مليئة بالرموز الانسانية .. لقد اوجد الكاتب حكايته في بناية سينما ديالى .. البناية المعمارية بكامل كتلتها و طقوس حياتها وليس من خلال باب او قاعة او عرض عابر لاحد افلامها .. وادهشنا انه كشف من داخلها اشياءا وكان سرها كبيرا وجمالها ... أكبر ولم تفقد الحكاية تماسكها ومضمونها التعبيري الواضح وكانها هي حكاية " بناية السينما " من جدران وشخوص ، وقاعة وسقف ، ولقد ابدع محمد الاحمد في اكتشافه البصري للمبنى والوصول الى مكوناته الفضائية عابرا ممرات العلاقات الاجتماعية الذي تميزت به ، ان السينما دخلت عشق الكاتب ، مكانيا وزمانيا وشحن من خلالها العقل والوجدان وسعى الى غرس مفاهيم المواطنة و الصلات الاجتماعية برغم المشاكل التي تمر بها ، كجريمة القتل التي حدثت وتسببت في قتل " العم موشيه " ، وتحدث عن مجتمع السينما في ذاك الزمن وكيف كان الدخول اليها حدث مهم وغاية الرجال والنساء وان بعضهم كان ياتي من اماكن نائية ويبيت لدى اقاربه لاجل ان يحقق حلمه الكبير بالدخول ، ومن مكونات الفضاء او الشكل المعماري .. الباب وقد كان في البيوت القديمة يحتل اهتماما وعناية فائقة من قبل صاحب البيت ، يزخرف نقوشا رامزا الى ثراء البيت ومن هذه النقوش ... باب السينما و العنوان الذي كتب على واجهته بالخط الكوفي " سينما ديالى تاسست سنة 1948" الذي لا زلنا نشاهده كل يوم ونلتفت .. كلما مررنا من امام السينما على شارع خريسان ... حكى ويحكي قصة الوجود الحقيقي لهذا المكان وعن عمق العلاقة الانسانية والثقافية التي صنعت هذا التاريخ . والخط احد عناصر الهندسة المعمارية ،
لقد اوجد الكاتب في واجهة مبنى السينما استهلال رائع لروايته وهو استهلال عميق عمق التاريخ .. ان كتلة السينما تختفي وتظهر بالسر والعلن باسلوب رشيق في تجلي الحكاية وسمة من سماتها ، وقدمت بلغة مباشرة ... محتوى حكائي وبواجهات مسطحة خالية من التفاصيل الملغزة مع بقاء الاسرار زد على ذلك ... نمو حكاية الرواية ووفرة استيعابها للتفاصيل التي تعبر المساحات في تواصل الحكي وانسيابياته .
اخيرا في هذه الرواية ندخل بابها ثم نغادره من باب آخر عبر السير في ممراتها واطلالة من نوافذها التي تشكل جمالية التكوين بحيث يكون الباب الثاني نتاج لذلك فهي حكاية في عمارة وعمارة في حكاية .
لقد احتفى الاحمد بمدينة " بعقوبة " بشوارعها ببيوتها ودرابينها وتاريخها قبل ان يحتفي بشخوصها في عمل اخرجه للقارىء بدافع الرغبة في التعيير عن الواقع ومدافعا عنه .
.....................................................
رواية " متاهة اخيرهم" محمد الاحمد ، مطبعة جامعة ديالى 2013





التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي


اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع



.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج