الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاوسط

عدنان اللبان

2014 / 1 / 10
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية



رغم تعلقي بمنظر الغروب في هذه الصحراء الواسعة , واللون الناري للشمس وأشعتها تتموج بين الاحمر والبرتقالي في تدرج لا نهاية له في عمق هذا الافق المفتوح , الا ان القلق الذي لازمني منذ يومين كدّر علي الاحساس بجمال هذا الغروب , وحرمني الفرحة التي انتظرتها طويلا . لا اعرف لماذا, كلما اقترب من حدث مفرح يملؤني القلق , وأكون حريصا على ان لا ارتكب اي خطأ قد يعطل الحدث , بعد اسبوعين سأسرح من خدمة الاحتياط التي قاربت الستة اشهر . كنت في كتيبة مدفعية مقاومة الطائرات 75 المنتشرة في محيط قاعدة ( اج ثري ) الجوية وسط الصحراء الغربية على طريق الاردن , و ( اج ثري ) رقم احدى محطات التقوية لضخ النفط في الانبوب المتجه من العراق الى ميناء حيفا على البحر المتوسط قبل ان تحتلها اسرائيل , مثلما اخبرنا آمر البطرية الثالثة التي نسبنا اليها النقيب علي عند استقباله لنا بعد وصولنا . كانت البطرية تتكون من ستة حظائر , كل حظيرة تدير مدفع مقاومة طائرات عيار 175 ملم , واعتقد اسم الكتيبة جاء من نوعية المدفع .

قبل الغروب في اول يوم لوصولنا قابلنا النقيب آمر البطرية كل على انفراد لغرض تنسيبنا على الحظائر وفصيل المقر والآليات . كنا سبعة عشر جنديا , واثنان منا فقط خريجي جامعة , الاول شمعون لا احد يعترف بشهادته لأنه خريج المدرسة الفندقية في باريس , ولكنه صاحب مطعم فاروق الشهير قرب مدخل معرض بغداد الدولي , وقد نسبه النقيب الى مطعم الضباط . وأنا مدرس , ومن حسن الصدف ان النقيب كان مدرسا ايضا للغة الانكَليزية في ذات المدرسة التي ادرس فيها وهي ثانوية العزة في الكوت قبل انتقاله الى بغداد قريبا من اهله , واخذ يسألني عن بعض المدرسين الذين لا يزال بعضهم في الثانوية .
يقول النقيب علي , انه كان يحب العسكرية وقد تطوع بعد ان فتح التطوع لخريجي الجامعة , وبالذات المهندسين واللغات الاجنبية عند استحداث مؤسسة التصنيع العسكري , ونتيجة خلاف مع آمره ابعد الى المدفعية . نسبني للعمل في قلم الوحدة , اديت التحية واستدرت لأخرج , الا انه سألني قبل اجتياز مدخل خيمته : فد لحظة . استدرت : نعم سيدي . انت بعثي؟ كان صوته يشي بأنه يجب ان يسأل هذا السؤال , اجبته : اكو واحد بالتعليم مو بعثي سيدي ؟!

كانت خيمتيّ القلم والإعاشة متجاورتين , في القلم نائب ضابط ترفع للتو يدعى كامل ومعه جندي مكلف اسمه هاشم وأصبحت ثالثهم , وفي الاعاشة رئيس عرفاء فائز من الناصرية ومعه الجندي المكلف جاسم من البصرة . بعد عدة ايام تبلورت مجموعتنا مني وجاسم وهاشم وصبيح جندي مكلف بصراوي ايضا طباخ الضباط , وبإدارة شمعون في تحضير عشائنا , وجاسم تولى احضار المواد الاولية من بقالية القاعدة الجوية عندما يذهب لاستلام ارزاق البطرية . وانضم الينا نائب عريف جاسم مراسل بريد البطرية , ولعدم وجوده بيننا يوميا فقد كنا لا نشركه بمصروف اكلنا رغم الحاحه , كان ناقما على كل شئ , لا يعرف الابتسامة او التحدث في امور اخرى خارج كيفية تورطه بالتطوع في الجيش , متزوج وعنده طفلان , لكني لم اسمع منه يوما اي حديث عن اطفاله , كان في السادسة والعشرين من العمر , وقد اكمل الخمس سنوات التي تطوع عليها قبل ثلاث سنوات ولم يسرح , لا يوجد تسريح للمطوع الا ان يموت او يعوّق .
جاسم اعاشة يداهره : الجيش سور للوطن يا ابو احمد .
جاسم المراسل بعصبية : لك ياسور هذا ؟! هو اذا على كرامته ما يكدر يدافع ؟ النوب على الوطن ؟ جيب لي واحد يمتلك كرامة بالجيش العراقي ؟ حتى هذا الآمر مالك يتحول الى جريدي ويه الاعلى منه . قشمرونه , استغلوا فقرنا , اتطوع خمس سنين وبعدها تريد تبقه اهلا وسهلا , تريد تتسرح وتاخذ اكرامية الله وياك . شوكت راح يصير الله وياي؟! من آني بالكَبر ؟
تحولت حياته الى كابوس , كان دائم التفكير في كيفية الخلاص من هذا الجحيم حتى ولو بثمن غال , كأن يقطع يده , او يلتهم بعض المواد الكيماوية ويصاب بالسل مثلما فعلها آخرون , كان على استعداد ليرتكب جريمة مع ضابط ويسجن عدة سنوات على امل ان يطرد من الجيش . تفاعلت معه ومع همومه , حاولت كثيرا ان اقنعه بان الحياة فيها انفراجات كثيرة , وعسى ان تحدث احداها وتعود لمواصلة حياتك , ومهما يكن فان لديك عائلة وأطفال ومن حقهم ان تواصل حياتك الطبيعية لأجلهم . كان يشعر بودي له , واخذ يختلق الاعذار ويتملص بعض الاحيان من اداء واجبه بالذهاب الى مقر الكتيبة الذي قد يكلفه المبيت هناك لكي يبقى معنا , وتأخر عن اجازته الدورية اسبوع كي تتوافق مع اجازتي ونذهب معا .

كان امتداد الصحراء والأفق المفتوح يترك شعورا بالفراغ , رغم الواجبات اليومية من تعداد وتدريب وتنظيف اسلحة وحراسات , كان في البطرية خمسة ضباط , نقيب علي الآمر وملازم اول نبهان المساعد وفي نفس الوقت ضابط استخبارات وضابط التوجيه السياسي وثلاثة ضباط بنجمة واحدة لإمرة الحظائر . الشعور بالفراغ ولد رغبة لدى الضباط للاختلاط بالجنود وباقي المراتب عدى ملازم اول نبهان الذي حافظ على مسافة كبيرة مع الجنود , والذي ساعد اكثر للاختلاط ان المنطقة كان فيها تهريب والضباط بحاجة للحصول على الافضل والأرخص . ومنذ اليوم الاول تحولت علاقتي مع النقيب علي الى صداقة , خاصة بعد ان بَلّغ النائب ضابط كامل ان أُوصل له البريد بدل كامل , وكانت هذه النقطة قد اثارت النائب ضابط , وعليّ ان اكون حذرا معه .

نائب ضابط كامل من اهل البصرة , طويل ليس نحيفا ولا ضخما , اسود فاحم ويدعي انه ابن عم بطل العراق في الملاكمة زبرج سبتي . كان يتظاهر بالتعب من العمل عندما يأتي احد الى خيمة القلم رغم انه لا يفعل شيئا , ويتحدث مع رئيس عرفاء فائز بكبر المسئولية التي كلفته بها الرتبة الجديدة , رغم ان فائز اقدم منه بسنتين في الخدمة , ولكنه لم يكن بعثيا . يقول فائز : بالله عليك شحاجيه لهذا العبيد ؟ بس عايز يكَلي ليش ماتكَلي سيدي .
فائز وكامل اصدقاء ويعيشان في خيمة واحدة , وعلى فائز ان يتحمل كل تفاهات امتياز رتبة كامل الجديدة التي تشتعل الرغبة بإظهارها مع فائز بالذات , وهذا ولد الحساسية عند فائز , فكان يستغل اية فرصة للانتقاص من كامل امامنا . ورغم ذلك فائز وكامل منسجمان في امور كثيرة وأهمها انهما يقصفاننا يوميا عند العشاء , ويشاركاننا عشائنا دون ان يدفعا فلسا واحدا . كنت اتحاشا كامل وأخاف غدره , وأثناء تملقي له اقنعته بأنه يستطيع كتابة الشعر , وكتبت له قصيدة نص ردن لم يكن يصدق انها ستكون باسمه , وضعتها في ظرف وكتبت العنوان الى صحيفة " الثورة " , وأعطيتها لجاسم اعاشة امامه ليضعها في صندوق بريد القاعدة الجوية في اليوم الثاني .
بعد اسبوعين نشرت القصيدة ووصلت نسخة من الصحيفة الى البطرية . كامل يحمل الصحيفة غير مصدق , ويدور بها على الحظائر ويريهم : اسمه نائب ضابط كامل صكَبان واسم الوحدة كتيبة 75 , يعني اكو غيره ؟! وصعدت به الفرحة فقبلني , وفتح الصفحة امامه ووضعها على الوسادة وضرب ( دقلة ) على فراشه . طلب منه الضباط عند الغروب ان يقرأ لهم القصيدة بصوته , وتلعثم وسط سخريتهم ورجع مكسورا , وأخبرته : انه حسد عيشة , ضباط وما عدهم اسم بالجريدة شلون ما يغارون ؟ ولا يهمك الثانية اتعلم اقراها قبل ان نرسلها , فرح وطلب مني في نفس اللحظة ان نكتب الثانية . وأضاف : والله جنت ظالمك , ما اعرف انت هيج طيب وابن حلال . وأجبته : ولو , انت بس تأمر .

عندما نشرت الثانية بعد اكثر من شهر , ارسل في طلبي ضابط التوجيه السياسي ملازم اول نبهان وفتح معي موضوع الشعر , واخبرني انه يكتب الشعر ويريدني ان اساعده في تصحيح قصائده, ودفع لي مجموعة اوراق مكتوبة طلب مني ان اقرأها في خيمته وأعطيه رأيي . ورغم بساطة معرفتي الاكاديمية في الشعر , الا اني استطعت ان اقنعه من خلال الود الذي اظهرته له بان هذا ليس شعرا .
سألني بمرارة : يعني بس قصائد نائب ضابط كامل شعر ؟
اجبته : انها ليست شعر .
باستغراب : ليست شعر ؟ وتنشر في صحيفة الثورة وليس بغيرها ؟!
اجبته وحملت نبرتي كل المرونه : سيدي هي صحيح منشورة , لكن مو بصفحة الادب .
وشنو الفرق ؟
صفحة القراء اغلب النشر فيها للتشجيع , خاصة والقصيدة تمجيد بالحزب والثورة والمرسل نائب ضابط بسيط , وأراهنك اذا بعد ثلاثين سنة نشروا لكامل بالصفحة الادبية اسجني . ارتاح لكلامي , وأضفت : واعتقد من الصعوبة عليك ان ينشرون قصائدك في صفحة القراء لان هذا تأكيد من الصحيفة بانها ليست شعر . أني ما اقبلها الك سيدي , انت شلون تقبلها ؟ وقف وضحك ومد يده لمصافحتي , صافحته وأديت التحية وخرجت .

في اواسط السبعينات ازدادت الرواتب وبالذات للعسكريين , وهو ما شجع جميع افراد البطرية للتعامل مع المهربين البدو الذين تكاثرت اعدادهم في الفترة الاخيرة , وكان اكثر الحاجيات ربحا المسجلات الحديثة والفيديوات التي دخلت الاستعمال للتو , والمشروبات الروحية التي لم يتهاون الضباط في التفتيش عنها دائما , والويل لمن وجدوا عنده من الجنود والمراتب . في احد الايام استدعاني النقيب علي الى خيمته اثناء الدوام الرسمي وكان معه المساعد نبهان , واخبروني انهم يريدون ارسالي بمأمورية الى بغداد لجلب سجلي مواد غذائية للإعاشة , للوارد والمصروف , وسيذهب معي النائب عريف سلمان في سيارته الايفا .
سألته : سيدي همه دفترين اجيبهن بيدي ليش السيارة ؟
النقيب ضحك والتفت الى نبهان : لا موعدنه جم مسجل الي ولملازم اول نبهان تاخذهن وياك , بيت نبهان على الطريق بالحي الصناعي بالفلوجة يكتبلك العنوان , وبيتنه تندله ابغداد الجديدة .
لم استطع ان ارفض , لان الرفض سيكلفني فقدان الحماية التي احتاجها والصداقة مع النقيب علي , ولما رآني تحيرت ولم ارد بسرعة .
سألني : ها تريد تروح وترتاح اسبوع وتجيب تبسي للجماعة ؟ لو نشوف غيرك ؟
اجبته بسرعة : لا العفو سيدي آني اروح . ويقصد ب( تبسي الجماعة ) : عندما اخذنا نتضايق من تسلط نائب ضابط القلم كامل ورئيس عرفاء الاعاشة فائز على عشائنا يوميا , ولفترة طويلة , وبعض الاحيان يأتيان قبل الوقت ويطلبان الاستعجال به رغم ان شمعون وصبيح لا يزالان يلبيان طلبات عشاء الضباط , وفي احدى الاجازات الدورية ونكون سوية انا وشمعون , اتصلت به في اليوم الاخير للإجازة , وكنا في اسفل درك الوضع النفسي , وشمعون مثلي يعاني الكثير من المخاوف في العسكرية , ولا احد يعرف من الضباط والآخرين غيري بأنه يملك مطعم فاروق , او كما لخصها هو : "يومية السلام عليكم , والله ما يخلصني بعد " . اخبرته باني اشتريت مواد لطبخ تبسي نأخذه معنا لعشاء كامل وفائز فقط , وأضفت : خطيه ينتظرونه وعيب ماناخذ لهم شي , وأريدك بأيدك الحلوة تطبخه .
وعندما تقابلنا ورأى اللحم سألني : هذا شنو؟
اجبته : لحم , لحم مثروم .
مسكه وانضغط بين اصبعيه : لحم ؟ ماليش؟!
اجبته : لحم غنم , مال فشات ( رئة الحيوان ) .
نظر الي لحظات وتحول الاستفسار في وجهه الى ضحكة اقرب للصراخ , وجلس على الكرسي يمسح بدمعه : يعني تريد تعدمنه ؟ ( كانت الفشات زوج نعل اسفنج قطعتها الى قطع صغيرة جدا وانا اشرب الى الثمالة في اليوم الاخير لإجازتي وهذا حال شمعون ايضا ) . اجبته بكل جدية : انت ما الك اي علاقة , آني اللي راح آخذهن . حاول اقناعي , ولكني اقسمت باني سأنهي علاقتي به , المهم انت غير مسؤول وما تعرف اي شي عنها .
وعندما اخذنا التبسي بلونه الاشقر والأبيض المزجج , وفوقه عدة بيضات عيون وبينها اوراق الكرفس , ورائحة التوابل تفوح لعدة امتار , دنت نفسي عليه , وقلت : والله يشهي . غلفه شمعون بالنايلون لكي يحافظ على وضعه , ووضعه في حقيبتي باعتناء . وعندما وصلنا الى الوحدة , اخرجته , وأخبرتهم بأنه لهم فقط , واننا اكلنا في الرطبة . وأراد صبيح ان يأكل معهم ومنعه شمعون . مسحا حتى بقايا قطرات الزيت بجدار الاناء . المهم , عند منتصف الليل اشتعلت الآلام والتقيؤ , ونقلوهم الى مستشفى القاعدة الجوية , وفي الصباح عادا بعد ان غسلوا لهما احشائهما . ارسل في طلبي النقيب علي , ذهبت بعجلة ولم البس البيرية مثلما ادخل عليه في معظم الايام . صرخ في وجهي : احترم . اخذت تحية وعدلت وقفتي وأحاول ان اعرف السبب , وسألني : ذوله شموكلهم ؟ اجبته وقد ادركت السبب : نعل . ضحك وضغط بيده على فمه كي لا احد يسمع صوته واحتقنت عيناه بالدموع : يعني ما تنكرها ؟ اجبته بجدية ايضا لانها ستزيد من ضحكه اكثر : لا , نعل نعل , يوميه فوك راسنه بالعشه , اريد اشوف ايجوزون ؟! كان شمعون قد اخبر صبيح , وصبيح بدوره اخبر النقيب علي الذي امره ان لا يخرج الموضوع منه مطلقا.

عندما افرغنا الايفا في بيت نبهان وعلي , كانت اثنا عشر مسجلا وثلاثة صناديق ويسكي في بيت نبهان , وستة عشر مسجلا وأربعة فيديوات وصندوقي ويسكي في بيت علي . وانا اعرف جيدا لو تم اكتشافها في احدى نقاط التفتيش بين الرطبة وبغداد لأنكرها علي ونبهان ومعهم النائب عريف السائق الذي اختير هو وليس غيره ليكون معي وشاهدا عليّ ان تم كشفها . ارسلني بعدها في مأمورية مشابهة مرتين , وفي الاخيرة كان كتاب الارسال الى مديرية حوانيت الجيش في باب المعظم , والشحنة المثبتة في الكتاب , 150 مسجل فيلبس وتوشيبا , 60 فيديو توشيبا , 400 مجفف شعر ماركات مختلفة . وطلب مني ان اسلم كتاب المأمورية الى اخيه مع الشحنة , واستلم منه اجازة اعتيادية لمدة اسبوع انا والسائق .

النائب ضابط كامل عاد من اجازته الاخيرة قبل عدة ايام , وعند عودته لاحظت جفوته , واخبرني بعدها بأنه عرف من احد اقربائه الذي كان معي في اكاديمية الفنون الجميلة باني شيوعي , وقد اخبر ضابط الاستخبارات ملازم اول نبهان ويمكن ان لا اسرّح خلال هذه الايام ان لم يتم التأكد من الاستخبارات باني لست شيوعي . شدهتني المفاجأة وعليّ ان لا اظهر اي ضعف وأتجاوز الاستهانة والإدانة في نبرته . حاولت ان اقنعه بان هذا صحيح عندما كنت في الاكاديمية , اما الآن فانا مدرس .

دارت بي الارض , ولم اعرف كيف اتصرف , كنت خائفا ان يكون كلامه صحيحا . ولماذا يؤخرون تسريحي ؟! انا لست مذنبا , ولم ارتكب خطأ , ولو كان عندهم شئ لسجنوني لماذا يؤخرون تسريحي . لا استطيع ان اثبت على رأي وكل شئ جائز , والخوف ان اتهم بشئ يمكن ان اسجن عليه . لا اعرف كيف واتتني الفكرة ان اسأل النقيب علي . انتظرت عودته لخيمته , استأذنته ودخلت . لاحظ ارتباكي وسألني : اشبيك ؟ وامرني بالجلوس على حافة سريره كما جرت العادة سابقا عند اول التحاقي , كان يطلبني لأكون عنده بعد العشاء , وهو مغرم بمسرحيات شكسبير ووجدني خريج مسرح وكثيرا ما يدور الحديث حول هذا الموضوع . اخبرته بما قاله كامل . نظر اليّ بإشفاق وقال : احسن لي اذا ما يسرحوك , على الاقل ارسلك بجم مأمورية لحوانيت الجيش , وين الكَه مثلك . وأضاف : شوف , آني اعرف بيك شيوعي ولو جذبت عليّ من سألتك اول يوم . حاولت ان اتكلم فرفع يده وأسكتني : انجب , بلا كلام زايد , المهم آني اعرف من زمان , وبقيتك بالقلم بعد ان تفاهمت ويه ملازم اول نبهان , ونبهان هو يريد يخلص منك قبل ما ينسأل : ليش انت بالقلم قبل ما يتأكد منك ؟ هذا كامل يحجي بكيفه .

كان كلام كامل وتصرفاته تشي بأنه استطاع ان يكشف جريمة , في اليومين الاولين لم اعرف هل ان تبدل اسلوبه ومحاولته ايجاد الثغرات في كل ما اقوم به نتيجة ما عرفه عني , ام ان حساسيتي اوحت لي بتكبير سلبية سلوكه ؟ سمعته يتحدث مع فائز داخل خيمتهم : عليّ يعبر ؟! ليش أني زوج مثلكم ؟ اجابه فائز ليس دفاعا عني , لاني اعرفه اكثر حقدا من كامل ليس على الشيوعيين فقط , ولكنه ناقم على كل شئ : وإذا شيوعي شتريد منّه ؟ خوش ولد ومؤدي واجبه على اربعه وعشرين حباية , قليل خدمك ؟ كامل : ممنوع يشتغل بالقلم غير البعثي , النوب شيوعي ؟ خلال يومين اشاع كامل في الفصيل وعرفت البطرية باني شيوعي , وانه صاحب الاكتشاف , واخذ الجميع يتحاشوني حتى صديقي شمعون . علي ان اتحمل وانهي الايام الباقية باي شكل , فكرت ان اطلب من الآمر الانتقال من القلم الى احدى الحظائر , الا اني وجدت من الانسب الاستمرار وتحمل كل تجاوزات كامل وتهرب الآخرين , وقد اتعرض لتنكيل واستفزاز اشد ضراوة من العرفاء في الحظائر .

الوحيد الذي اخذ يلازمني اكثر ويتقرب الي هو نائب العريف جاسم المراسل , ولو لم اعرف وضعيته وكرهه للجيش وطبيعة العلاقات البعثية في الوحدة لارتبت في تقربه , كونه مرسل من قبلهم لتوريطي في مسألة معينة . من المرات القلائل التي ارى فيها جاسم متفائلا هذين اليومين الاخيرين , كان متوسط الطول , مربوعا وليس سمينا , وجهه دائريا ورديا ويحلق شاربه باستمرار , ولمعة خفيفة تغطي بشرته , كان اشبه بالطفل سرعان ما تنعكس دواخله على ملامحه . كان فرحا , حضنني وقبل راسي : محتاجك بشغله , اخاف اكَلك وما تسويهه ؟
اجبته : بالعكس , عندي حظ وبخت وأخدمك ؟
جاسم : تنطيني كلام شرف ؟
اجبته : غير اعرف شنو؟ اكَدر ما اكَدر ؟
جاسم : اريد تسويني شيوعي .
نظرت في عينيه , واسترجعت احاديث جرت بيننا سابقا , وكان بينها : ان الوحيدين الذين حصلوا على تسريح من المتطوعين في الجيش هم الشيوعيين , بعد ان خضع اغلبهم للتعذيب البشع كي يتحول ولائه الى البعث , ومن صمد ولم يتحول ولائه حصل على التسريح . بعدها صدر قرار من مجلس قيادة الثورة يحرّم العمل السياسي في الجيش على باقي الاحزاب وتكون عقوبتها الاعدام لكل من تثبت علاقته بأي حزب آخر عدى البعث .
سألته : ليش؟
اجابني : تتذكر ؟ تتذكر انت اللي كَتلي الشيوعيين الوحيدين من المطوّعين سرحوهم من الجيش . وعندي استعداد انسجن اتعذب اتحمل اي شئ , والله اموت بس كون اتسرح .
اجبته : انت تريد تعدمنا ؟
جاسم : ليش اعدمك ؟ بعد ان تسرّح انت اخبرهم آني شيوعي وأنت مسؤولي , انت فقط تأكد لهم هذا .
اجبته : يعني تعتقد بهذي البساطة ؟ اولا انت بعثي وإذا تنتمي لغير حزب تنعدم وهي تعرفها كل الزين , ثانيا أني هنا بالبطرية عرفتك , يعني بعد صدور قانون مجلس قيادة الثورة بالإعدام لكل عسكري يشتغل بحزب ثاني , وثالثا أني حاليا مو شيوعي , سابقا جنت اي .
جاسم شعر بالخيبة , وارتسمت الحيرة على وجهه : زين والحل ؟
ادركت اني لن افلت منه ما لم اوجهه لشئ يقتنع به ويهدئه , كانت ملازمته لي في اليومين الاخيرين تربكني كثيرا ولا اعرف كيف ابررها امام الآخرين الذين يتهربون مني جميعا .
اوضحت له : جاسم حط بالك يمي زين , ودير بالك تطلع حجاية وحدة منك , افتهمت ؟
جاسم : والله افتهمت .
اكملت : عندي صديق شيوعي عسكري مطرود نازل يمكم بالشعلة , احاول اقنعه ان يؤكد بأن انت شيوعي وتتصل بيه قبل ما تطوع بالجيش , يعني قبل ما يصدر قانون الاعدام . تتحمل شهر شهرين تعذيب لو لا ؟
جاسم : اتحمل سنة , المهم يطلعوني .
اكملت : اشوفه وأوصلك خبر للبيت , بس اكتب لي عنوان بيتكم , اتفقنه هسه ؟
جاسم : كلام شرف ؟
اجبته : انت ليش ما تصدك ؟
جاسم : شسمه صديقك ؟ يجوز اعرفه اذا بالمنطقة ؟
اجبته : شلون انطيك اسمه ؟ اذا ما قبل ؟
جاسم بتوسل : لك والله اخاف ما تندل بيتنه , على الاقل أني اروح اتوسل بيه , ابوس ايده , سويها لخاطر الله .
اجبته : بس تنطيني كلام ما تجيب اسمي اذا سألك منين تعرفني ؟
جاسم : لا والله , لا والله .
اجبته : فاضل , فاضل عبد الرزاق حنطة , احفظه مو تنساه , وأسأل عنه بكَراج الكاظمية عدكم .
التزم نائب عريف جاسم بعدم الالتصاق بي بعد اتفاقي معه , وحاولت ان اتجاوز الفراغ الذي طوقت به بزيارة بعض الزملاء الاحتياط الذين قدموا معي في باقي ألحظائر , رغم التحفظ وعدم الترحيب من قبل ضباط الصف .

وحل اليوم الاخير , وحلت لحظات ترك البطرية بعد ان صعدنا في الايفا لإيصالنا الى الرطبة نتأبط كتب تسريحنا الموجهة الى دوائر تجنيدنا . وقف البعض لتوديعنا , وكان نائب ضابط كامل معهم , الود والاهتمام الذي احاطني به زملائي المسرّحين يختلف عن جفاء البارحة والأيام السابقة بشكل كبير , وكامل يرى ذلك . كان خلف الموجودين جاسم اعاشة ونائب العريف جاسم المراسل وودعاني بنظرات وإشارات ظاهرها الى كل المسرّحين ولكنها انستني كل عذابات العسكرية , ومذلة ورعب الايام الاخيرة . وعندما استعدت التفكير في ذلك الرعب الذي كان اكثر تحطيما للذات من ايام الهجمة الدموية على الحزب عام 1978 وما تلاها , وجدت ان المواجهة للحزب ككل , كانت جدارا يحمي ظهور اغلب المناضلين الذين دفعوا اثمان باهظة , وآخرين كانت حياتهم ثمنا للنهوض بهذه المواجهة . بعكس المواجهات قبل الهجمة التي جعل منها النظام ان تكون فردية , واختلق لها مختلف الذرائع كي يجرد المناضل من اهم مرتكزاته وهي الرفقة والانتماء لتبقى وحيدا تواجه جبروت النظام بمفردك , ويتم تجرد المناضل حتى من صفة البطولة التي يحتاجها امام اهله وأصدقائه نتيجة وفائه وصموده , لا بل سيقول البعض : صوجه , هو الجفص . وهو نفس السبب الذي دفع آخرين للابتعاد عن الحزب . والحزب نتيجة المسالمة التي توجت بتجميد المنظمات الجماهيرية , لم يكن قادرا على منع التنكيل بأعضائه رغم الدفاع الخجول الذي يطرحه بين فترة وأخرى .
ركزت عيني في عين نائب ضابط كامل الذي باتت ملامحه توضح انه لا يعرف ماذا يفعل , حتى ولم يتمكن من رفع يده لتحيتنا عندما اخذت السيارة تتحرك . سحبت الظرف الذي يحوي على كتاب التسريح من جيب سترتي , وأشرت به للواقفين بتحية الوداع , ونقلته الى يدي اليسرى , واليمنى فتحتها ورفعت اصبعي الاوسط الى كامل الذي تلفت يمنه ويسره , وأدرك ان الاشارة موجهة اليه , فقد اعصابه , وقذف بالبيرية من فوق رأسه ومسك شعره بقوة وأطلق صرخة وركض خلف الايفا التي ابدلت سرعتها وانطلقت اسرع تاركة العجاجة التي حجبته بالكامل .

بعد عشر سنوات , وتحديدا في الشهر الثالث من عام 1986 التقيت بجاسم اعاشة في مقر بهدنان لأنصار الحزب الشيوعي , وكان اسمه " بهجت " , وهو فعلا يشيع البهجة بتعليقاته الساخرة في اي مكان يحضره . عرفت منه انه كان في تلك الفترة شيوعي ايضا , وبقى لإكمال خدمته المكلفية بعد تسريحنا سبعة اشهر , وكان يداري ابعاد اية شبهة لتقاربنا عن الآخرين وبالذات كامل وفائز , واخبرني ان كامل اصبح مسخرة لكل الموجودين في البطرية بعد ركضه وراء الايفا . وجاسم المراسل ظل ينتظر طويلا قبل ان ييأس , ولكنه لم يتهمني بأني كذبت عليه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاخ العزيز عدنان اللبان
جمشيد ابراهيم ( 2014 / 1 / 11 - 09:59 )
اشكرك
اولا على كتابة خبرتك عن الخدمة في الجيش العراقي كجامعي والتحدث عن الفساد و كيف ان البعض يستغل الاخر او يتغدى على غذاء الاخر بلاش و العلاقات و حزب البعث المجرم. كان الجندي الغراقي يفضل المكوث و المنام في مرحاض البيت على البقاء في المعكسر

ثانيا على الكتابة على الاقل بعض الشيء بالعامية العراقية العربية هذه اللغة المظلومة بسبب دكتاتورية ما يسمى بالفصحى و لكن ياريت لو لحقت بالعامية بين قوسين ترجمتها بالرسيمة لان بعض العبارات قد لا تكون مفهومة لغير العراقي
اجمل التحيات

اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024