الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حوار مع الدكتور صالح زامل

سعدون هليل

2014 / 1 / 13
الادب والفن


الاستاذ الدكتور صالح زامل
العراق بعد 2003 يعد منجما من المادة الخام للسرديات
حاوره: سعدون هليل
الدكتور صالح زامل اكاديمي مهتم بالثقافة العراقية عبر الكثير من النشاطات، صدرت له كتب عدة منها( تحول المثال دراسة للاغتراب في شعر المتنبي) و( الهوية والآخر)، وله كتابان في الطبع هما( مناهج النقد الأدبي دراسة في مكونات الفكر النقدي، والبحث عن ضفاف/ دراسات في السرد) أستاذ مساعد دكتور بكلية التربية الجامعة المستنصرية، ويدرّس فيها مناهج النقد الأدبي، وهو مسهم بشكل فاعل في الحياة الثقافية العراقية من خلال المؤتمرات والمهرجانات داخل الجامعة وفي الوسط الثقافي العراقي، وله بحوث ودراسات متنوعة منشورة في المجلات الأكاديمية المتخصصة والصحف والمجلات، حوارنا هذا معه عن مجمل راهن الثقافة العراقية وتحولاتها بالسؤال عن الواقع الأدبي بوصفه التمظهر الاوسع للثقافة عندنا، لنقف عند مشكلات هذه الثقافة وما هي الامكانات المتاحة لاعادة بنائها، وصلتها بالحداثة وهل هذه الحداثة تتصل بالواقع العراقي وتراثه أم انها مقطوعة الجذور.
* كيف ترى الواقع الأدبي المعاش ما هي ملاحظاتك عليه وكيف يمكن تطويره؟
- اذا كان المقصود بالسؤال عن الواقع الادبي العراقي، فهو جزء من الحياة الثقافية العراقية وهو يمر بمرحلة اعادة التشكل ومحاولة تجديد الخطابات، وهناك خطابات متعارضة، بعضها منفتحة واخرى تعيد انتاج المشكلات القديمة، عموما هناك ما نطمح إليه، وهناك واقع حال، وما نطمح إليه هو خطاب ادبي وثقافي ينفتح على بعضه بلحظة الاعتراف وقبول الآخر، وينفتح أيضا على خطابات الثقافة العالمية فيتمثلها ولا ينسخها، والتمثل ان تعمد إلى قراءة الواقعة الثقافية بما هي وتتعرف مشكلاتها الخاصة، اما واقع الحال فهو خطابات متعارضة تصل حد الالغاء والتسفيه بل تفيد إلى حد كبير وبشكل متفاوت من مراكز القوى في السلطة، وأحيانا تتماهى معها فيصبح الخطاب الثقافي خطاب حزبي خالص يعود بنا إلى لحظة سالفة.
إذا فحصنا هذا الواقع من غير جهة وليكن الإنتاج الثقافي واتجاهاته، فهناك غزارة وتنوع في الانتاج الادبي وتتسيد الرواية فيه على مشهد الحضور بفاعلية، وهو شيء طيب في مقابل التسيد لقرون كانت لمشهد الشعر في العراق، واذا فحصنا هذين المشهدين نجد ان الحرية والازدهار الفكري تركا اثرهما الواضح في هذه الوجهة، فالرواية عمارة تقوم على هاتين الجنبتين.
هناك مؤسسات تحاول تبني الواقعة الثقافية وتسويقها منها الاعلام فهو يسوق الثقافة من الحزبية إلى الوسط بين الحزبية والثقافة الخالصة، وهناك اتحاد الأدباء والملاحظات كثيرة حول عمله وطريقة عرضه للثقافة وتسويقها، وهناك جمعية الثقافة للجميع وعملها اكثر تنظيما على الرغم من حداثتها بالقياس للاتحاد، وهناك بيت الشعر، وكل هذه المؤسسات تكاد تعنى بالشعر اكثر من الفضاءات الاخرى في الثقافة، وتشكو من غياب تقاليد المؤسسة الفعلية التي تعتمد على ناشطين ثقافيين فاعلين ومنهم الوسطاء مثل الناشرين ومحرري الصفحات الثقافية والمجلات الثقافية المتخصصة.
هناك في العموم حركة ثقافية زاهرة إلى حد ما، كثيرة النشاطات ودؤوبة غالبا وبامكانات محدودة وأحيانا بتمويل شخصي، لكنها تفتقد للتنظيم والمتابعة النقدية التي تهتم بالتراكم النوعي للثقافة، فالذي نراه جهود فردية او مشاريع فردية منها على مستوى من الوعي باشتغالاتها، ومنها ما هو سطحي، فنحن نحتاج إلى مؤسسة هائلة تفحص النتاج الفكري العراقي بالتوصيف والنقد وتضعه الموضع المناسب بالعرض والتوصيف والنقد، وهذا الجهد كان من الممكن ان تقوم به وزارة الثقافة باحد مشاريعها، وكان من الممكن استثمار مشروع بغداد عاصمة للثقافة العربية لهذا الغرض، خاصة وقد رصدت لذلك المشروع مبالغ هائلة لم تستطع ان تقوم بعمل نوعي عدا المهرجانات على تنوعها كانت محكومة بمزاجات بعض المثقفين وتعاديهم، فكان من الممكن تكليف باحثين يلاحقون النتاج الفكري العراقي بشكل موسوعي أو موسوعة بالمؤلفين والكتاب العراقيين، فضلا عن ذلك فقد تم التعاقد على طباعة مئات الكتب لم يظهر اغلبها للقراء، هناك مشاكل كثيرة سببها غياب المؤسسة وتقاليدها.
*يتحدثون عن ازمة نقد هل ثمة ازمة فعلا؟
- كثر الحديث عن الازمة في نهاية السبعينيات واستغرقت تساؤلاتها في الثمانينيات حيث هناك حديث عن ازمة في كل شيء، والثقافة هنا تستعير الواقعة السياسية والاجتماعية في تحولاتها، فقد وصل اليسار إلى طريق مغلق حوصر مدّه بشكل ابادة، والقوميون استنفدوا أطروحاتهم وفشلوا في الوصول ولو إلى حد أدنى من تطبيق هذه الأطروحات، واذا جئنا للنقد فقد قام مفهوم الازمة من التعارض بين النص النقدي الذي يستعين بالفكر الغربي بانفتاح في مرحلة من القطيعة واللا تواصل مع هذا الفكر ومرجعياته، الفكر المتلاحق في حداثاته ليصل المابعديات، خلقت هذه الاستعارة للمنهج الازمة، فعني هذا النص النقدي بالمقولات الحداثية التي اخذت وقتا من التأمل والتمثل للنظريات الحديثة، وانقطع المنجز النقدي المحتفي بالنظرية الغربية عن النصوص الابداعية التي الفت الاحتفاء، بمعنى ان أزمة النقد فهمت بأن النقد قد انقطع عن النصوص، فهل نحن في ازمة، اظن نحن مازلنا كثيرا في بلبلة الخطابات المتعارضة والالغائيات في النقد وفي غيره، وبين كل ذلك هناك خطاب هاديء نطمع ان يكون هو الفاعل والبديل للازمة.
*ما رأيك في مسيرة الحركة الروائية التي تنتظم العالم العربي والعراقي في الاونة الاخيرة؟
_ من الاشياء المفرحة اننا نتواصل مع العالم فنعيش العالم في سيادة السرديات، وهو اكثر شيء نتواصل معه اليوم، هذه المتاحات سبقنا العالم العربي فيها كثيرا من المغرب إلى مصر وفضلا عن سوريا ولبنان وإلى حد ما العربية السعودية وبعض الدول الخليجية، لكن العراق بعد 2003 يعد منجما من المادة الخام للسرديات، لذا طلعت علينا النصوص السردية بغزارة لم نعهدها، والكثير من هذه النصوص انما هو محاكمة للفترة المنصرمة التي عطلت الانساني، وجعلت الواقعة تلوذ بالنص الشعري لانه لا ينفتح بشكل مباشر. هناك محاولة تطهير من تلك المرحلة من خلال الكتابة التي عنيت كثيرا بالسيري، فكل عراقي هو حكاية ممتدة من 2003 إلى ما قبلها، وهذا الاغراء لا يمتح منه العراقيون المقيمون بالداخل فقط، بل الذي يقيمون خارجه ايضا، ومنهم من يكتب نصوصه بلغات ثانية كالروائي والشاعر عباس خضر، وهو يحصد جوائز عن رواياته الالمانية لغة، هذه الغزارة والنوع نجدها عند اخرين الذين يكتبون باللغة الأم، فالتفات بسيط للنشر بعد 2003 يعطي صورة واضحة عن التنوع الذي تكتب به هذه النصوص فضلا عن ظهور اسماء جديدة تحضر بقوة تناولتها في حوار معي ونشر بملحق ادب وثقافة من جريدة الصباح، ان الحرية تقدم اليوم الكثير من النصوص السيرية المتفاوتة في حظوظها من القراءة النقدية ومن الفن، وبين ذلك يحضر نص اقل ما نقول عنه انه مجترح وان كان له تأصيل، لكن يتم تبنيه بوقت مبكر نجده في كتابات سردية لافتة لخضير الزيدي عن الهامشي في الحياة وتفاصيله، التي دخلها الشعر بوقت مبكر، ان الغزارة النوعية قدمت الرواية العراقية لمراحل جيدة في العالم العربي من خلال البوكر العربي.
*نتحول الى الثقافة بوصفها مشروعا وطنيا، كيف نستطيع ان نبني ثقافة وطنية في ظل التمزق العربي، وهل ترى السياسة اللاعب الاوفر فيها؟
_ يقترن مفهوم الثقافة الوطنية بالهوية والاخيرة من المفاهيم الاشكالية، وبغياب الثقافة الوطنية تصبح الاشكالية اكثر تعقيدا، كانت هذه القضية في الانظمة الشمولية اكثر يسرا، وتستطيع أن تتلمسها في ثقافة مقترنة بالسلطة والاخرى معارضة وبينهما ثقافة تقف بمعزل عن الضفتين، وقد كانت في العراق اكثر وضوحا بالقياس للعالم العربي، فقد صدحت بوقت مبكر وبسبب من هجرة الكثير من المثقفين العراقيين ثقافة داخل وثقافة خارج قبل التغيير في 2003، ثم مع التغيير طل علينا مشهد ممزق متنافر وفيه الكثير من الهويات التي كانت اما مهمشة أو ملغاة رسميا لم تستطع الثقافة بنخبويتها أن تلملم هذا الشتات وتمنع التفتيت.عموما صار صعبا الحديث عن ثقافة وطنية في ظل اصطراع طائفي وهويات فرعية استطيع ان اسميها( ثقافات فرعية) لكن المشكلة ليست بالتنوع، فالنسيج العراقي متنوع ابدا، بل هو ارض خصبة للتنوع منذ آلاف السنين، لكن المشكلة بالتسيد. كل ثقافة تحاول ان تلغي مغايرها وليس من طماحها التعايش وقبول الاختلاف، وبدون فكرة قبول الاخر لا يمكن بناء ثقافة وطنية ورثت كما قلت اصلا الانقسام من( داخل/ خارج/ مغيب) مع صعود الانظمة الشمولية وصراع الايديولوجيات، لكن ما بعد الدكتاتورية وبرغم المتاحات التي يقدمها الانفتاح على الفكر لم تقدم للآن بديلا ثقافيا ينشط في مواجهة الصوت العالي للتفتت، فالمثقف والمتعاطي للثقافة ومنتجها كل منهم راح يصطف مع الهوية المواءمة له وهو حق مشروع، لكن يفترض ان يكون وعي المثقف بالشكل الذي تقدمه متاحات الثقافة الكثيرة، ومنها قبول الاختلاف والاعتراف بالاخر، فلا يغرد صوته بطريقة الحشد التي تتجلى في الخطابات السائدة الآن بشكل اساء للثقافة، ويجعل بناء ثقافة وطنية اكثر تعقيد.
*اذن ما هي امكانات بناء وترميم الثقافة الوطنية هل هناك آمال؟
_ يبدو الامر معقدا، فصوت التفتيت اقوى، لكن مع ذلك هناك اتجاه هاديء يمثله العديد من المثقفين وغالبيتهم من الشباب الذي يحاول ان يكون صوتا منفردا، انا من العاقدين عليه الآمال، وهو في شكل مؤسسات ثقافية غير رسمية أو اشتغالات منفردة لمثقفين تحاول ان تؤسس لخطاب ثقافة وطنية بمعيار التعدد والتنوع كثيرا، وقليلا بمواجهة الاشكاليات، فالانفتاح وما تقدمه وسائل الاتصال الحديثة التي دخلت العراق جرعة واحدة لا تسمح بعد الان بثقافات خاصة على مستوى الدول، فاوربا مع حضارتها الحديثة وتاريخها الاستعماري تخشى الانفتاح الذي تمثله بقوة اليوم العولمة في كل شيء، فكيف بنا نحن البلد الخارج من الحصار والشمولية إلى فضاء معينه لا ينضب من المعرفة والمعلومة، لكن اقل الطماح الذي نريده كما قلت يفترض ان يؤسس لثقافة تعي الحاجة لقبول الاختلاف والاعتراف بالآخر، وهي وحدها القادرة على انتاج ثقافة نستطيع ان نسميها عراقية، لان الوطنية تثقل كاهل الثقافة من جهة ما ترسخ من فكرة الالتزام في معنى الوطنية.
ولما كانت مرة اخرى كل ثقافة لصيقة بواقعتها فان تعدد الخطابات بوجهتها السياسية المتنافرة والالغائية يؤثر سلبا، وحتى انتاج خطاب وطني لا يمكن للثقافة وحدها بالمقابل ان تنهض بخطاب وطني يرى العراق الوطن في اولوياته، فهذا الأمر تتعاضد فيه مجموعة من المؤسسات.
*على ذكر المؤسسات اسمع منك دائما في بعض كتاباتك وفي الحوارات والملتقيات مصطلح( مأسسة الثقافة) ماذا تعني به، الا توجد مؤسسات للثقافة مثل اتحاد للادباء ووزارة للثقافة وجمعيات ثقافية وهي كثيرة.
_ فعلا اكرر في اكثر من مكان وبألم حاجتنا لمأسسة الثقافة مع وجود المؤسسات المفترضة التي ذكرتها، وغياب المأسسة اعني غياب التقاليد، والسياسات الثقافية فالمؤسسة ايما مؤسسة لا تستطيع النجاح بغياب التقاليد، فلو نفحص مؤسسة يفترض عريقة مثل اتحاد الادباء فان التقاليد غائبة عنها تماما، ونوضح ذلك بما يأتي:
*هناك اعتباطية في تقديم المنجز العراقي تخضع للمزاج اكثر من خضوعها لحاجات الثقافة، ارشفة النشاط الخاص بالاتحاد غائب تماما بحيث إذا فكر باحث في انجاز دراسة عن إسهام الاتحاد في الحركة الثقافية لا يجد امامه قاعدة بيانات او معلومات حتى بعناوين واسماء المحاضرين والمعقبين فيها وأسماء النشاطات وزمانها، بل لا تعرف من القيمين على الاتحاد غير رئيس الاتحاد والامين العام وفريق محدود يتكرر.
*لا تعرف الالية التي يحرك بها الاتحاد النشاط الثقافي او يساهم فيها الاتحاد في نقل منجز الثقافة العراقية والتعريف بها إلى فضاء خارج العراق، حيث كل ذلك خاضع لمزاجات شخصية يهيمن عليها منحى لا علاقة له بالثقافة.
*هناك موقع للاتحاد لا تجد فيه تغطية لنشاط الاتحاد فما بالك بنشاطات واصدارات خارجه.
*الشعر بصوته المزاجي لا زال يهيمن على الاتحاد في حين الثقافة الان متنوعة بقوة ومتكافئة، فالانجاز السردي والفكري مثلا يحضر في إصدارات مهمة لكنه بسبب غياب التقاليد غائب عن التعريف من خلال الاتحاد.
*عجز الاتحاد ايضا ان يكون بديلا للدولة في خلق حياة ثقافية او يكون مسهما فيها على الاقل دون ان يكون طاردا في سياساته الثقافية، طبعا انا اتحدث عن مؤسسة بعينها لكي اوضح المصطلح، فهذا الامر لا ينهض به الاتحاد لوحده مع ما عرضناه في الاجابات السابقة من حديث عن مصاعب التي تواجهها الثقافة.
*لا تتوفر للاتحاد موسوعة بالمثقفين والمفكرين العراقيين، ولم يقترح مشروعا يتبناه باعتباره داعما وراصدا للحياة الثقافية العراقية ومحطات تحولها والمتغيرات التي اثرت فيها، بل تغلب الصفة المهرجانية على نشاط الاتحاد، وهي شفاهية اكثر منها ثقافية حية، والوجوه هي هي تلتقيها في كل مناسبة وتواصلها اجتماعي اكثر منه ثقافي. فضلا عن الاليات البسيطة الغائبة طباعة الدعوة، كتاب الشكر للباحث، طريقة الاعلان عن المناسبة او المحاضرة، تعريف بالنشاط على الانترنيت او مجلة الاتحاد او التخطيط للبرنامج الثقافي الاختيار النوعي للنشاطات.واذا فحصنا وزارة الثقافة مؤسساتيا فتلك طامة كبرى، مع اعتذاري للاتحاد مع محاولاته الجادة والمتباعدة ان يكون موجودا إلى حد ما في الحياة الثقافية العراقية، فما ذكرته ليس بقصد الاساءة، فانا ممن افاد من الاتحاد الى حد ما وعرض تجربته فيه، لكن الرغبة في خلق التقاليد هو ما اقدمه.
هذه المأسسة هي التي تدعم النهوض بالثقافة التي اسميتها انت وطنية وانا اسميها عراقية.
*حول مفهوم الحداثة كيف ولد، وما هي ملابساته في العالم العربي، وما علاقته بالثورة العلمية التقنية والبناء المجتمعي العراقي؟
_ الحداثة بما انها مفهوم ملتبس لان لكل امة حداثتها الخاصة التي تؤرخ بها مجتمعاتها، لكن عموما المفهوم غربي في ميلاده، وهو بالتاكيد اجابة عن واقعة غربية، وهي مرحلة كونية في الحضارة الغربية تمثل بانجازات الفلسفة والادب والعلوم الطبيعية والانسانية وايضا في الثورة العلمية والتقنية والمعلوماتية، حتى من الصعوبة تحديدها زمانيا، فمالكوم برادير وجيمس مكفارلين في كتابهما حركة الحداثة يؤطرانها زمنيا بين 1890- 1930، ولما كانت برأيهم هدما للحدود الوطنية التقليدية في مسائل ذات هموم أدبية وثقافية، فهي لصيقة بالتأكيد بتحولات مجتمعاتها التي انتجتها، فيما يرى آلان تورين ان الحداثة هي ترجيح العقل على التقاليد والمعتقدات والاساطير وكل ما هو غير عقلاني، وبالمقابل استخدام الحساب من اجل السيطرة على الواقع ليصبح منه عالما إنسانيا، انسانيا خالصا، ومن هنا يحدد زمن الحداثة فقد كان الإنساني هدف عصر الانوار الذي بدأت معه الحداثة بمعناها الدقيق بيد ان اركان الفكر الشكاك( فرويد، ونيتشه، وماركس) أعادوا اللامعقول لقلب الحداثة بحسب بول ريكور.
اما إذا اردنا الحديث عن حداثة عربية، فمن الصعوبة الحديث عن حداثة واحدة، وعن تاريخ واحد، وعن مجتمعات لم تكن معرفتها بالحداثة بطريقة الاكتشاف الطبيعي، بل كان فيها قسرية، هي اللقاء بالاستعمار، ولم يكن الأخير في مطامحه نقل الحداثة لهذه المجتمعات وتحديثها، وانما كانت غاياته أخرى، لكن يبدو التقاء المصالح على طريقة المثل العربي، رب ضارة نافعة، فالنهضة العربية مثلا في مصر تؤرخ بلحظة استعمارية هي غزو نابليون، والنهضة قبلها في الشام ولبنان وسوريا تحديدا، تكون قرينة بالارساليات التبشيرية، وفي العراق مع الاحتلال البريطاني وسقوط الدولة العثمانية وتاسيس الدولة العراقية الحديثة، لكن إذا اخذنا نموذجا من هذه النماذج كالعراق، فان هذه الحداثة كانت نقلية غير مجتمعية، بمعنى آخر كانت فوقية، دولة نموذجها ليبرالي ومجتمعها متخلف اقتصاديا وعلميا، بل كان نظامه الاجتماعي عشائريا، وكان تسارع الانفتاح على الحداثة الغربية فيه اكبر من التحولات المجتمعية، وكانت البنية الفوقية تطرد بالتقدم من خلال بنى مواءمة لها في تحديث الدولة والتعليم ونقل المعارف والدراسة في أوربا وعودة المبتعثين وظهور حركات سياسية واجتماعية بل وفكرية أيضا، وكانت بغداد من العراق لوحدها تستاثر بكل شيء من هذه الطلائع التي تنتج الحداثة، سواء الجامعة أو الصحف والتأليف، وبالتأكيد إقامة منتجيها، لكن مع ذلك انتجت حداثة حقيقية نتلمسها بشكل كبير في الفن(التشكيلي والنحت)، لانها لم تكن تحتاج المعارضة بالتراث والتصاقها بالنخبة جعلها تمر بسلاسة، بينما في الأدب لم تكن بالسهولة ذاتها، لكن مع ذلك كانت صورها بولادة الشعر الحر وفن الرواية والمقالة ونجاح التعليم الحكومي ومنه تعليم الاناث، هذا كله أسس لحياة حضرية وتقاليد اجتماع جديد مع انتشار التعليم ونقل التكنولوجيا والعلم، كما اثرت السياسة واصطراعاتها وايضا بالموقف من الحداثة في تعطيل السلاسة التي كان يقوم فيها التحول، فقدمت مناقشات لهذه الحداثة بغض النظر عن قيمتها، فقد كانت حوارا هو سمة لصيقة بالحداثة والياتها.
*ما المقصود بالموقف من الحداثة؟
_ قلنا جزءا من مفهوم الحداثة هو القطيعة مع التراث، والاصطراع السياسي والفكري كان بين اتجاهين يساري ماركسي شعبي وقومي عروبي شعبي أيضا، اما الليبرالي فقد كان ضعيفا، كان الأول منفتح عالميا مع انه يطل على التراث فاغلب الباحثين في التراث هم من الماركسيين، لكنهم فتشوا بالتراث عن تأصيل لفكرتهم في العدالة الاجتماعية ونماذجها وتجاربها الثورية، وماديتها في الفلسفة. فكان عروة بن الورد وعلي بن أبي طالب وابو ذر نماذج العدالة، وثورة الزنج والقرامطة ثورات هذه العدالة، ومشروع الطيب تيزيني ومشروع حسين مروة فلسفتها، والقومي العروبي بالمثل كان له مشروع وعودته للتراث كانت تقديسية، وقد ظلت تعرض هذه الحداثة على التراث، وبالتالي اسهمت في تعطيل السلاسة في التحول، كلا المشروعين ظلا اسيرين للاصطراع دون تضافر من اجل مشروع نقدي مبكر للتراث والاجتماع الحديث، الذي سيتصدى له أشخاص بجهودهم الفردية بمعزل عن الامكانات المتاحة للمشرروعين السابقين مع ما خلفهما من مؤسسات، واهم سمة للحداثة هي النقد لكل الظواهر فإذا ضربنا مثلا لذلك فان مشروع علي الوردي النقدي يمثل أهم مشروع حداثي لكنه لم يعضد لا من المشروع الماركسي ولا القومي، فظل جهدا فرديا، فقد قرأ التاريخ والمجتمع بجرأة نقدية لم يستطع المشروعان القائمان انذاك على تبني جرأة مماثلة، كما نذكر علما مهما تعاطى مع التراث بنقد جريء هو هادي العلوي وبرغم ماركسيته كان مشروعه فرديا.
*هل تؤسس هجرة المثقف العربي وهو يتوخى شرط تحسين الاداء في التعاطي مع اشكاليات المجتمع العربي، ولو من الخارج في حداثة مقبلة أم انه مجرد تعبير عن عظم المأزق الذي يواجهه المثقف والمفكر العربي.
_ ذكرنا في السؤال السابق المشروعين اللذين اسسا للحداثة العربية وارتباطه بالسلطة اعطاه دفقا وقوة بالحضور، ومأزق هذين المشروعين، لكن هناك كما قلت مشاريع فردية منها فرانكوفونية قوية في المغرب العربي، ومشاريع مهاجرين ثقافتهم غربية مثل محمد اركون ومشاريع مثقفين هجروا قسرا مثل نصر حامد أبو زيد وسيد القمني، ومشاريع أخرى ظلت داخل بلدانها مثل جورج طرابيشي وحسن حنفي هذه المشاريع الفردية غير المؤسساتية مشاريع عظيمة لو تضافرت بشكل مؤسسة، وهذا ما لم يتح لها. المشكلة على ما أظن ليس في الهجرة مع ما تمثله من قسر، فبدائل التواصل رغم التهجير موجودة، بل تحقق تداولا اكبر، انما المشكلة اننا نحتاج ايقاعا منظما بين الفكر المنتج وبين الواقعة الاجتماعية، صحيح أن الفكر اطراده اسرع من الواقعة لكن مع ذلك لابد من الانتظام النسبي على الأقل، والذي نراه تقدم الفكر وتراجع كبير على المستوى المجتمعي، وبالحصيلة أن منجز هذه الحداثة وما بعدياتها تبدو ترفا فكريا لانها ظلت مقطوعة الجذور عن التحولات، حتى لتبدو ممارسة ثقافية خالصة، لكن حتى الأخيرة هي بالتأكيد اجابة عن واقعة لواقعة ثانية، نطمح كلنا التحول إليها، فالتخييل كان جزءا من أحلام الطوباويين وأحلام الفلاسفة بمجتمعات مثالية لها نسغ يعتمل في جسد كل مجتمع، بمعنى هناك دائما مع السائد الذي يمثل الانكسار المجتمعي يوجد ايقاع هاديء يسير باطراد تشجع عليه هذه العولمة بوسائل الاتصال الحديثة والنسبية في الثقافة والتحول، لم يعد معها هناك مطلق يستحوذ على كل العقول والابصار، واللانساني صار وسيصير إنسانيا، والتخلف يقابله تقدم يشير إليه ويدعوه للنهوض.
انا اعول كثيرا على جيل جديد نهض وينهض من بين الركام، أظن هو الذي سيحمل على عاتقه بناء واقعة جديدة، ليس بالطريقة الثورية، وانما بالتعرف الذي قلت تقدمه الكثير من وسائل الاتصال الحديثة، وستكون اسرع في خيارات التبدل والتنوع، فهي لا تعارض معرفة بمعرفة، ولكنها تعب معرفة حديثة من حيث انتهت الامم، وذلك اسلس في التحول واقل في الخسائر، اما الخصوصيات التي تمثلها المجتمعات فما عادت قادرة على المواجهة والتحدي، بل لا تمتلك اجابات بديلة لقضايا اشكالية عظمى تحضر بقوة، وظهور الخصوصيات العنفي الآن والمتطرف يدلل على سرعة الانطفاء والزوال.
هذا ليس بالضرورة من متبنياتي أو ادعو له، ولكنه واقعة لا يمكن أن نعارضها بالطريقة القديمة بثقافتنا التي بالتأكيد صارت لبعضنا معتقدات، انا اراها نسبية فهي إذا مثلت اجابة لمرحلة معينة، فليست بالضرورة أن تبقى على الدوام اجابة مطلقة، فالواقعة متجددة بحسب ابن خلدون والنصوص لا تفي بها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا