الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حي بن يقظان والقلق الوجودي

محمد هشام فؤاد

2014 / 1 / 29
الادب والفن


لا يخفي علي أحد الصدي الهائل الذي أحدثته قصة "حي بن يقظان" في القرون الوسطي التي قام بكتابتها ابن طفيل الأندلسي القيسي في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)؛ فقصة حي بن يقظان تُعَد باكورة الأعمال الأدبية التي صُبِغَت بصبغة فلسفية مع أن فكرة الرواية ليست بجديدة فقد تناولها كثيرون قبله، وفي ذلك يقول المُفَكِر يوسف زيدان: "تنتمي قصة حي بن يقظان في الأصل إلي تراث ما قبل الحضارة الإسلامية ثم اختفت قروناً طويلة لتعاود الظهور علي يد الشيخ الرئيس ابن سينا للمرة الأولي باللغة العربية. ثم يمر زمان حتي يعيد كتابتها ابن طفيل الذي نقلها حيز الرواية مُضيفاً إليها أسئلة جديدة كانت تشغله كواحد من أهم فلاسفة الأندلس، ثم يقدمها للمرة الثالثة تحت عنوان العزبة الغريبة شيخ الإشراق السهروردي الذي حمَلها مفاهيمه الصوفية مُعتبراً عمل ابن سينا فصله الأول الذي يكمل عليه". (1)


وجوهر الفكرة التي تقوم عليها الرواية لم يكن جديداً وهي فكرة لقاء الإنسان علي فطرته الأولي بالطبيعة البكر، ونمو تفكيره خارج حدود وتأثير المجتمع؛ وهي الأفكار التي شغلت المجتمعات الأوروبية فيما بعد فنشأت مذاهب وتيارات عدة لتتبني تلك الفكرة؛ أما الجديد في تلك القصة هو إلبساها الثوب الروائي القائم علي عنصري القص والسرد فقد أعدها كثيرون من متخصصي الأدب نواة لفنون القص العربية القائمة علي السرد والخيال الادبي، وقد شغلت الرواية اهتماماً كبيراً لدي باحثي ميدان الأدب المُقارن فقد تناول فكرة ابن طفيل عشرات القصاصين في الشرق والغرب؛ من دانييل ديفو (في روايته روبنسون كروزو) إلي الكاتب رديارد كبلنج (في قصة كتاب الأدغال) فعكف هؤلاء الباحثون علي تناول تشابهات واختلافات هذه الاعمال الأدبية، وبالطبع رواية ابن طفيل تُعَد تربة خصبة في ميادين البحث العلمي؛ فقد اتخذها كثيرٌ من الباحثين كمادة علمية لإفراد علاقة الفلسفة بالدين، وبالطبع للتفريق بين العقل النقدي الاستقرائي الواعي المتأمل والعقل النقلي الذي لا يقبل بتأويلات النص، واتخذها أيضاً العديد من باحثي علم النفس والاجتماع كمادة بحثية لحسم الجدل الدائر علي كون العقل فطرياً أم مُكتسِباً لخبراته من المجتمع.


وتتحدث القصة عن البطل "حي بن يقظان" الذي وُلِد لأمٍ هي شقيقة ملك إحدى الجزر الهندية، ومن أب هو قريب لها اسمه يقظان، كانت شقيقة الملك قد تزوجته خفية عن شقيقها الذي منعها من الزواج، وعندما وضعت المرأة طفلها خشيت من نقمة شقيقها الملك، فوضعت الطفل في تابوت وألقته في البحر. حملت الأمواج التابوت حتى ألقته على ساحل جزيرة مجاورة هي جزيرة الواقواق. وصادف أن مرت في المكان الذي استقر فيه التابوت ظبية كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته فسمعت صوت بكاء الطفل فاتجهت نحوه، وكان أن عثرت على حي الوليد فأرضعته وحضنته، وبعد أن أتم حي سبعة أعوام ماتت الظبية بعد فبحث حي عن أسباب وفاتها، وهنا بدأت تتكون عند حي المعرفة عن طريق الحواس والتجربة، واكتشف تشابه الكائنات رغم اختلاف صورها، واكتشف قانوني الوحدة والكثرة، وتوصل إلى أن النفس منفصلة عن الجسد وفي التوق إلى الموجِد واجب الوجود. وأخيرا، يصر حي بن يقظان على أن سعادته تكون في ديمومة المشاهدة لهذا الموجِد الواجب الوجود ورغبته في البقاء داخل حياة رسمها هو لنفسه (2).


ونري في تفاصيل تلك الرواية أن البطل "حي بن يقظان"قد عاني قلقاً وجودياً، وهي الفكرة التي كانت نواة لظهور الفلسفة الوجودية في القرن التاسع عشر علي يد مارتين هيدجر وسيرن كيرجيرد وجابرييل مارسيل وأونامونو وألبير كامو إلي أن تطورت تلك الفلسفةفي القرن العشرين علي يد جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، فنجد أن مصدر القلق الوجودي لدي حي في أنه نشأ وحده في جزيرة منعزلة، وكان مشغولاً فقط بالبحث عن الحقيقة: حقيقة ذاته وحقيقة الكون الذي يحيطه، ولذلك نجد أن حي قد عاش وحده وسط الحيوانات، فلا بشرَ هناك ولا أُلفة؛ فهو لم يعرف علاقاتٍ إنسانية أو اجتماعية، ولم يعرف أصدقاءاً أو زوجةً، وكأن البطل حي لدي ابن الطفيل هو نموذج للإنسان المعزول فقط وفكره وعقله، وتكمن الفكرة الأساسية التي نشات من أجلها الوجودية هي رغبتها في مهاجمة كافة الفلسفات والمذاهب التي لا تقيم وزناً للفرد، والتي تقوم بدفنه في حفرة المجتمع كالفلسفة الهيجلية وتيارات الماركسية والشيوعية، فوجودية ابن طفيل وبطله حي بن يقظان تكمن في اعتزازهما بالمواقف الفردية الإنسانية وأثرها في الاهتداء إلي حقائق الكون وغاياته دون مساعدةٍ أو دليل؛ فالإنسان وُلِد بمفرده وعليه أن يخوض الحياة بمفرده، ومن هنا نفهم الطبيعة البدائية التي رسمها ابن طفيل لبطله حي بن يقظان دون رسمٍ لفضاءات زمانية أو مكانية يبحر فيها البطل كما هو متعارف أدبياً في فنون القص والرواية؛ فحي بن يقظان يبحر في عالمه كيفما شاء ووقتما شاء وأينما شاء، ومن هنا لم يعرف حي في عالمه اللهم إلا الظبية التي قامت بإرضاعه وتربيته حتي عمر السابعة.


فقد توصل حي بن يقظان بمفرده إلي عدة حقائق وجودية: فقد كان يبحث في علة الحياة والموت بالأخص عندما ماتت الظبية وقام بتشريحها، قام بالكشف عن القلب فقد تنبه إلي أنه يلعب دوراً هاماً في مكنونات الإنسان ومشاعره، قام بالتوصل إلي قانوني الكثرة والوجود وأُثْبِت لديه أن الكائنات تختلف ولكنها متشابة؛ فكلٌ يتمتع بفرديته وبمواقفه وخصائصه ويتشابه في الخلقة التي وُجِد عليها، وبالطبع قام بالبحث في الثلاثيةالتي ترهق العقل والذهن وهي النفس والروح والجسد وتوصل إلي أن النفس منفصلة عن الجسد، وعلم حي بن يقظان أن لكا حادث مُحدثٍ، وتوصل إلي أن البحث عن الذات هو السبيل لإدراك الوجود وهو ماقد توصل غليه الفيلسوف بارميندس ( 515ق.م) الذي قال أن الفكر والوجود شئ واحد!


ورأينا لدي حي النزعة السقراطية الباحثة والمتأملة في ماهيتي الخير والشر، وفي ذلك يقول د. علي أسعد: "ويعتقد ابن طفيل مرة أخري أن الطبيعة خَيِرة لا شر فيها، وليس ثمة نزع شئٍ أصيل في النفس الإنسانية. كان حي بفطرته وكانت الطبيعة حاضِنُه الذي كان ينضح بكل الخير، وبين لقاء الطبيعة والطبيعة (بين طبيعة حي وطبيعة الجزيرة) امتلك حي زمام نفسه نحو الخير المطلق. فالعلاقة هي جدل طبيعي بين الخير الذي يتأصل في كل طبيعة. وتلك هي الطبيعة الأم التي يلجأ إليها الإنسان عندما يحاصره الفساد والظلم والقهر في المجتمع. وكأن ابن طفيل كان يري في الطبيعة ملاذاً ومنهجاً يُمَكِن الإنسان من العودة إلي أصالة الحيرة والتحرر من أثقال المجتمع التي تنذر بالفساد". (3)


وكان حي بن يقظان يري أن كل مايقع خارج إدراك الإنسان هو ما يتسبب في متاعبه؛ فقد عرف أن كل شئ متناه، وأن الأشياء اللامتناهية هي ذاك الجزء المتناهي الذي لا يدركه حدس الإنسان ولا تدركه حواسه، وهو ما يتسبب في متاعب الإنسان وآلامه النفسية، ومن هنا عرف حي بن يقظان القلق الوجودي، وبغض النظر عما آلت إليه نتائج بحثه عن حقائق الكون والتي كانت إيمانية بالطبع -حسب رأي فريق وفريقٌ أخر قد اتهمه بالزندقة وبالكفر كما أُتٌهِم ابن سينا وابن رشد؛ فرأي الفريق الأخير أنه قد ألبس الأفكار والمعاني ثوباً إيمانياً لتمرير أفكاره المسمومة القائمة علي الجدل والنقد والشك- ولكننا نري أنه إذا تم إطلاق العنان لعقله ولإدراكه دون توجيهات أدبية من صانعه والذي يروي عنه –أي ابن طفيل- ربما يصل حي إلي حقائق أخري فلسفية قد تكون مادية علي خلاف رغبة مؤلفه الدينية الإيمانية وهي فكرة وجود "الله" في الكون،ودوره في تصريف كافة الامور والشؤون الكرضية أي الكونية، ولكنما نستطيع أن نقوله أن غرض رسالة ابن طفيل هي أن سعي الإنسان في الوصول إلي حقائق الكون والوجود هو نفس سعي الإنسان في الاهتداء إلي ذاته ولا فصل بينهما!


وكان هم فلاسفة الوجودية فيما بعد هو أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه كما كان يفعل سقراط، مما دعي كثيرون إلي القول بأن الأفكار السقراطية كانت نواة لنشأة الأفكار الوجودية، وعليه نقول بأنه ربما كان ابن طفيل قارئاً جيداً للفلسفات اليونانية بخاصة فلسفات الثالوث سقراط وأفلاطون وأرسطو، ونجد ذاك المعني حاضراً وبقوة عندما يصف ابن طفيل بطله ابن يقظان قائلاً "وعلم أن علمه بذاته؛ ليس معني زائداً علي ذاته، بل ذاته هي علمه بذاته؛ وعلمه بذاته هو ذاته، تبين له أن إن أمكنه هو أن يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معني زائداً علي ذاته، بل هو هو!" (4)


ولذا عندما قمنا بقراءة ذاك العمل الأدبي الفلسفي الفريد رأينا "حي بن يقظان" بطلاً وجودياً كنظيره لدي سارتر وكامو أكثر من كونه بطلاً أدبياً يرسم خطوطه الراوي أو الأديب في عمله الأدبي؛ أو نقول –إذا أردنا تحري الدقة وإصابة كبد الحقيقة- أنه "بطلٌ أدبي عرف القلق الوجودي"؛ وما دعانا إلي قول ذلك أننا رأينا حياً قد توصل في نهاية رحلته الفكرية المرهقة إلي حقائق هامة وإشاراتٍ ورموز قد مكنته من الرسو علي ساحل الطمأنينة والسكينة بمعرفته لفكرة "الله" وثنائيات الوجود والعدم، والخالق والمخلوق و السبب والمُسَبِب، وقد تمكن من فك شفرة الثلاثية "العارف والمعرفة والمعروف" أي أنه وصل لمنهج يمكنه من الحياة بسعادة إذا قام راويه بإطالة عمره الروائي والزمني، وهو ما لا نجده متعارفاً لدي فلاسفة وأدباء الوجودية الذين لا نعرف عن نهاية أبطالهم إلا النهاية العبثية التي يحيطها الغموض وخلو الأهداف العامة والمعاني؛ فقد وصل حي لأشياء، أما البطل الوجودي فمن المفروض والمتعارف عليه ألا يصل لشئ، فرحلة ابن يقظان كانت وجودية ولكنه ختام تلك الرحلة كانت واثقة الخطة ومستقرة، ولذا نقول أن قصة "حي بن يقظان" قصة فلسفية في المقام الأول سابقة لفكرة كونه عملاً فريداً مؤسساً لفنون القص والحكي، فذاك العمل يؤسس لمذهب فكري فلسفي قد انفرجت أساريره وتم فك طلاسمه فيما بعد علي يد وُجُوديي أوروبا.

(1) يوسف زيدان في مقدمة كتابه "ابن سينا – ابن طفيل – السهروردي – ابن النفيس "حي بن يقظان" النصوص الأربعة ومبدعوها".
(2) بتصرفٍ يسير من الموقع الالكتروني ويكيبديا.
(3) ص98، رواية "حي بن يقظان" لابن طفيل، مكتبة الأسرة، إصدار عام 2000.
(4) من مقال د. علي أسعد بجريدة الأسبوع الأدبي عدد (893) بتصرفٍ يسير من المدون الالكتروني عبد الباسط بن يوسف الغريب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي