الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في رواية (متاهة اخِيرهم)

صلاح وهابي

2014 / 1 / 31
المجتمع المدني


انا لست ناقداَ ادبياً بل قاريء لي رؤيا فيما اقرأ.
اهداني الكاتب محمد الاحمد قبل عدة سنوات احدى قصصه.
و لكن روايته الاخيرة (متاهة اخيرهم) تعتبر نقلة نوعية.
بمداعبة قلمه اوتار كلماته لتنبعث من بين اصابعه سمفونية لتملأ اجواء مدينة البرتقال عطراً عبقا فكراً و جمالاً و خيالاً بالانتقال من الخاص الى العام.
و هي تحسب على القص الواقعي السحري، لانه يلضم همه بالهم العراقي بهذه المتاهة التي هي متاهتنا جميعاً، في بانوراما تصلح لدراسة انثروبولوجية (دراسة الانسان و منجزاته). فهي كأي مدينة اخرى يطمر فيها اكثر مما يطفو فوقها، و ما يقال همساً اكثر منه علناً ((وهي حقاً مدينة تسمع فيها اكثر مما ترى)) ص 182.
فالخيال يتدعم بالممكنات، بالابتعاد عن الميتافيزيقيا المفرطة في الخيال. فهو يغزل القصة على نسيج ابن يهوده بالحركات و الرموز في نبش فكرة التيه، بحيث يقودك في النهاية لتصدق الراوي هو (مكانيوس) ابن يهوده اخر شخوص التيه، و الوريث الوحيد لممتلكات (ناجي يعقوب) في سينما ديالى و البيت الكبير و محطة البنزين و شركة توزيع الافلام في بغداد و غيرهم. و نشرت الخبر و اكد زميلي ابو ربيع ما ذهب اليه استاذ اللغة العربية ظاهر شوكت.
مما دعاني لان اتأكد بسؤال عمه هادي علوان دندي جاري في السوق: هل ابراهيم (احمد) و زوجته سافرا الى ايطاليا بصحبة حسقيال بن ناجي يعقوب ؟ فكان الجواب نفياً. حينها تأكدت من مقدرته على جر رجل المتلقي الى متاهته في غاية الدقة و الجمال. بشخصياته الواقعية التي سهلت له الحركة داخل متاهته. و عندما ضاقت به كسر قشرتها لينفذ منها الى ايطاليا.
و هو يستعمل اللغة التي تتناسب مع وعي شخوصه، حينما يردد فؤاد ((لا يخاف الانسان إلا الانسان و انا لا اخاف الانسان)).
قال يهوده لصديقه ابراهيم دندي : ذات مرة ((لم يكن الدين يوماً سبباً في الصراع بين البشر في اي زمان و مكان .. بيد انه كان دائماً المبرر و الغول، لأطماع الاقتصاد)) ص121.
و هو يمر على بعض شخوصه الفرعية سريعاً لا تتعدى الدهشة كشخصيات طاردة او جاذبة، و هذا يضعف لدى السارد الجانب الميداني بالوقوف على اسباب تشكلهم و ليس فقط ابهاره، لتدعيم الثيمة و ما يشاكلها من صراع الشخوص في مكان الاحداث بطريقة تشبه المعرفة الانسكلوبيديّا.
أ نحن اولاد هابيل، ليطلع بيننا قابيل بين حين و اخر ليقتلنا؟!
فالذي قتل الخياطة حبيبة ميخائيل شالمو اليهودية في دربونة التوراة لم يكن فرفر (عبد الكريم الحاج علي) صانع غلوبي عثمان الكببجي لوحده، بل كانت السكين بيد علي حسين رشيد القصاب و شهاب احمد فارس الكببجي. حكم على الاولين بالسجن ثمان سنوات و براءة ثالثهم رشوةً، و لم يكملا نصف المدة.
فجزاء الحياة كانت ورائهم اذ قتل فرفر في قاطع مندلي للجيش الشعبي و علي حسين القصاب في قاطع البصرة، و يومها قالت الاهالي هذه (حوبة حبيبة اليهودية) و ثالثهم لم تمهله الحياة طويلاً فمات.
فالبعض لا يتخلص من بعده الواقعي ليسمو الى القيم الرمزية رغم مغادرته الحالة الاولى؟!. فحسنة الخبازة و ابنائها التي انقذها (نديم التويجري) من الضياع و التشرد و ساندتها عوائل المحلة، و لكن بعد ان استقرت و تحسن وضعها رجعت الى جذرها السيء. أ هي نتاج بيئة رديئة، ام لجذر جيني سيء، ام تفاعلهما ليشكل مخلوق مشوه؟.
اما الشخصيات المهمشة و الغير طاردة كشخصية عناد الرجل الجنتل مان بطوله الفارع وصدره العريض، يصلح كمصارع في حلبة، احد منتسبي القوات الخاصة رفض الحرب المجنونة، و تكرر هروبه، خرج من السجن فاقد الاحساس بالوقت و الناس و المكان و طعم البرتقال (وشابراً) مدينته الصغيرة في نصف ساعة طولاً و عرضاً، نراه في كل مكان لم يؤذِ احداً طلباً القليل ليعبيء به (عرقاً) ليلاً.
و فؤاد عيدان و هو من العوائل العريقة و ابن محلتي دربونة الدجاج، لم يكمل معهد الفنون الجميلة و شخصيته الجميلة تشبه ابطال الافلام الاجنبية طالباً (العشغة) محولا الراء الى غين. قال لي يوماً منتصف السبيعينيات: ((ان جبهتكم مصيدة لكم)) و اختفى في ظروف غامضة.
و خليلو طباخ مجموعة المدرسين اليساريين و الديمقراطيين في قضاء المقدادية انتقل الى بعقوبة بعد تفريقهم. يوماً سألته :
لماذا بطلت الضرب على الطبل؟ و الحرب في بدايتها. قال: ((طبول الحرب اسكتت طبولنا)).
كما ان الزمن لم يكن لدى السارد هلامياً فهو يدخل متاهته 1966-1972 و يخرج منه 1982، و يبقى السرد داخل الزمن يلاحق شخوصه الرئيسيين اينما حلوا: بوضع اسئلة ذكية و ملغمة و صادمة وصولاً في دفع وعي شخوصه بتفكيك المسلمات التي لا تدعمها الوقائع. فهو يسبح عكس تيار نهر خريسان من الاسفل الى الاعلى ابتدأً من مقبرة ابي دريس و محطة القطار و مقبرة اليهود صعودا الى قنطرة خليل باشا.
قالت امه طليلة: ((كان الولد في كل مرة يعلن تمرده و لا ادري كيف يستبد بي اليأس فيسأل، عما يقارنه بالذي يسمعه فهو يجهر اكتشافه من خلخلة في الموازين، فكان دائماً يقول :
ما هذا الكون لم يشهد اهله ان عرفوا حصاناً كان يطير فوق الغيوم و يبلغ المسافات .. ويؤكد ان العارف سوف يعرفها بأنها تدرجها علناً و تسخر منها ضمناً)) ص 298-299.
و يستذكر السارد اعادة ختان اخيه الصغير لتصحيح خطأ خلقي. لن نسأل انفسنا يوما
أ ليس الختان هو عبارة عن تصحيح خطأ سماوي؟.
انه عادة مصرية اتخذها النبي موسى بإعتباره اخناتون المصري الذي اعتبر الختان ميزة للشعب المختار، ليميزهم بالختان عن غيرهم (سيد محمود القمني: النبي موسى و اخر ايام تل العمارنة: الجزء الثالث) كما جاء في العهد القديم، و كأن الله يحتاج الى علامة للتفريق بين المختار و غيرهم. أ ليس هو تشويه لخلق الله؟. و تبناها المسلمين من بعدهم.
او يسأل امه:
لماذا تلبسين الشال عند الصلاة و ترفعينها عند الانتهاء؟.
و يمكن اعتبار رواية (متاهة اخِرهم) على القص (ما بعد الحداثة) اذا اخذنا بما ذهب اليه ادور سعيد:- ((ان مصطلح ما بعد الحداثة هو موقف خارج الثقافات أي رافض المركز او المهيمن الثقافي او الفلسفي الذي ينطلق من مفاهيم كلية سواء فلسفات مادية او مثالية من اجل فهم و تفسير العالم .. و يرى اخرون بأنها تمرد على الواقع سياسي اجتماعي سادته حروب مؤلمة وغمرته الاحباطات المتتالية)) حسن فالح: الخطاب المرئي في فنون ما بعد الحداثة (مقاربة نقدية): مجلة الشرارة: العدد 83: الصفحة 72.
لهذا فهو لا يتواطأ مع الواقع الراهن و لا يؤمن بالحتميات، فهو متحيز و متعاطف مع الانسان بشكل احترافي و يتعاطف مع الشخوص متاهته الانسانية. فرمان الكببجي و زرزور و حبيبة الخياطة اليهودية و نديم و بيت ميخائيل .... محاولاً السمو فوق الاختلافات التي يبررها الواقع، لأنه يتنبأ بان الثقافات المستقبلية سوف تحمل حزمة من الافكار و الاجتهادات لتشمل وجه العصر و مستقبله، و هو يعلو على المفاهيم المغلقة و غير المتفاعلة مع نقائض الاشياء فيسمو على صغائر الاشياء و المفاهيم: عشيرة عنصر مذهب دين و فلسفة. لهذا فهو قريب من شخوص متاهته، متحسس آلامهم و امالهم بشعوره بمظلوميته من خلال مظلوميتهم.
اعتماد بعض السرد في الرواية على السمع الشائع، دون تمحيص و مساندة تدعم الواقع العلمي الواقعي، مما يفقد الحدث مصداقيته و حرارته لدى المتلقي النبه، و يوهم البسيط ((كانت مسعودة من طائفته، امتنع ناجي يعقوب من تزويج ابنه البكر من ارملة لأنها حسب عرفهم الاجتماعي نذير شؤم لكنها من احد العوائل المتنفذة و سيطرتها على السوق، و يقال بأن هذه العائلة كانت تستورد الطحين اثناء حصار المدينة، و تبيعه بنفس السعر)) ص 118.
خلال تجربتي في السوق لاكثر من عقدين صحيح للجانب الاخلاقي و مستوى الوعي و طول و عمق التجربة في السوق تلعب دورهما بين هذا التاجر و ذاك في سعر بضاعته و حسن تعامله. و لكن كل ذلك محكوم بقانون السوق (الربح) المستند على قانون (العرض و الطلب) رغم اختلاف مشارب التجار. فالأجر يجب ان يكون بمقدار المنجز انسانياً، و فوقه يعتبر سرقة و استغلال طاقات الغير و يختلف ذلك بإختلاف الزمان و المكان، و لكن بالدرجة و ليس بالنوع. و هذا ما نشاهده اليوم من حيتان الاستغلال و النفوذ و سيطرتهم على الاسواق بالاحتكار و سرقة المال العام.
فهو لا يكتفي بوصف الامكنة و ما يدور فيها من شخوص و احداث بل ينتقل بهم من حالة التأمل التي شاعت في فلسفة (فيور باخ) الى عالم اكثر رحابة و نقاوة، فالراوي منحاز الى (الطيبة مقرونة بالتفائل) رغم متاهتنا. يهتف تشير نيشيفسكي قائلا ((سيحل العيد في شوارعنا نهاية المطاف)). و اقول ستغادرنا الحركة يوماً، و لكن لا بد ان نسمع صياح الديكة غداً حين ينشطر الليل ليبزغ شعاع يوم جديد، سنسمع فوقنا رقص الشباب على انغام تغريد البلابل و وجوجة العصافير و هديل الفخاتي، حينها سنشق الارض لنشاركهم رقصهم الجماعي.
هذه الرواية هدية الكاتب لمدينته بعقوبة، لإدراكه لمسؤليته كأحد ابنائها الغيارى، مقدار الضرر الذي لحق بها من تخلف و هدم و تهجير و تشويه وقتل و تفكيك نسيجها الاجتماعي، من زحف الغربان. ليؤرشف جزء من تاريخها من الضياع، كما ضاع الكثير في طاحونته.
و هي رواية جديرة بالقراءة و الاقتناء و خاصة لهذا الجيل الذي انقطعت لديه سبل معرفة تاريخ مدينة ابائهم و اجدادهم، فهي ترمي لرفع جزء ما تراكم عليها من غبار الزمن الثقيل، عسى لملمة الهوة بين الاجيال، و التي كانت احد اسباب هذا الخراب، و هذا التيه الذي ليس اخيرهم!؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحقيق مستقل: إسرائيل لم تقدم إلى الآن أدلة على انتماء موظفين


.. البرلمان البريطاني يقر قانونا مثيرا للجدل يتيح ترحيل المهاجر




.. كاريس بشار: العنصرية ضد السوريين في لبنان موجودة لدى البعض..


.. مشاهد لاعتقال العشرات من اعتصام تضامني مع غزة بجامعة نيويورك




.. قانون ترحيل طالبي اللجوء من بريطانيا لرواندا ينتظر مصادقة ال