الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غطرسة البُندقية .. ورحابة المسرحية

أماني فؤاد

2014 / 2 / 17
الادب والفن


غطرسة البندقية..ورحابة المسرحية
د. أماني فؤاد

متي يأتي علي رأس السلطة السياسية المصرية من يدرك أن الإنفاق علي الثقافة والفنون بشكل لائق ، ونشرهما علي نطاق واسع ، يجنبه الكثير من الملايين والمليارات من الإنفاق علي صفقات السلاح ومكافحة الإرهابيين ذوي الفكر الأحادي ؟ متي لا يتحسس السياسي مسدسه وهو يتفاعل مع الثقافة ، ويعي أن في عالم الفنون تلن وتضمحل غطرسة ودموية السلاح ، وينتعش فكر الحرية ، والتعدد ، والتجاور دون صدام ؟
عُرِضَ علي مسرح الهناجر منذ أيام "أوبريت الدرافيل" تأليف "خالد الصاوي" ، و إخراج "شادي الدالي" ، مؤسس "فرقة الممثل" المكونة من ثلاثين من شباب خريجي كلية الفنون الجميلة ، كيانات مسرحية قادرة علي تقديم مسرح متجدد هادف بأقل التكاليف المادية ، يقدمون فنا يعبر عن الواقع المصري ، مثيرا للأسئلة ، مبلورا لأفكار متناثرة في تتابع المراحل التاريخية المصرية ، وينقل رؤيتهم للوطن من حولهم .
يقدم النص قراءة لتاريخ الثورات المصرية وتشابهها ، وكيف تسرق كل مرة ، ويطاح بأهدافها ، وتظل السلطات التي تتابع علي المصريين ترسخ لمكاسبها هي فقط ، وللحاشية المحيطة بها ، وللطبقة الرأسمالية التي تساندها ، دون التفات لمطالب وحقوق الطبقات المسحوقة في المجتمع المصري ، هذه السلطة التي تظل تابعة علي مر التاريخ لقوي الاستعمار الخارجي منذ الأسكندر الأكبر وما قبله ، ومرورا بالمماليك ، والترك ، ونابليون ، ثم الإنجليز، وما تبعهم من استعمار مقنع بصوره الاقتصادية ، والثقافية الدينية ، والعسكرية .
وانطلاقا من أن المسرح ليس خطابا عقليا بالكامل ، بقدر ما هو خطاب متعدد المحاور : عقلي حواري ، جسدي وجداني ، بصري سمعي ، فيه يمكن أن ينوب كيان الممثل و صدق أداؤه عن الكثير من المحاور التي يفرضها وقع المسرح الفقير.
تميزت تشكيلات الممثلين وحركتهم علي المسرح بحيوية وفنية عالية ، مكنت من شَغل فضاء الروح وإعادة ترتيب العقل ، وإثارة الأسئلة المتعددة المتعلقة بالنص وجوهر رسالته ، ولقد استطاع "الدالي" أن يعوض فقر إمكانات مسرحه من حيث الديكور والملابس بعناصره التمثيلية ذات المواهب الواعدة ، وحضورهم اللافت من حيث الأداء الجسدي والنفسي والفكري ، كما يشعر المتلقي معهم وكأنهم كتلة جسدية واحدة ، رغم تعدد شخوصهم الذي تجاوز عشرة ممثلين ، نتيجة للتجانس المتناغم فيما بينهم ، ورغبة صادقة في النجاح والتحقق ، وإيمانا برسالتهم المسرحية ، كان من أبرزهم "فهد إبراهيم" في دور "البولدوج" وهو من الوجوة المبشرة بنجومية عريضة ؛ لما يتمتع به من قدره علي التحول السريع في طريقة الأداء ، وإمكانات ملامحه التي تستوعب الكثير من الانفعالات المتباينة ، وهو ما ظهر جليا في العرض السابق لهم " حلم بلاستيك " ، كما وظف المخرج قدرة "محمود ماهر" في الغناء والموسيقي بطريقة ثرية ، عوضت مع غناء باقي الممثلين فقر العناصر الأخري ، بمصاحبة فرقة "جازاجا" عمدان النور .
واستند العرض علي لوحات مختلفة لكنها متداخلة ، لمجموعة من الطلبة المشاغبين في أحد الفصول ، يفتتن أحدهم بالسلطة والخلود فيتقمص دور الأسكندر الأكبر ، ويبدأون محاكاة تصورهم لتتابع السلطات الاستعمارية علي المصريين ، وصور المقاومة التي كانت دائما ما تقمع بوسائل متعددة ، غافلة لمطالب من قاموا بهذه الثورات .
كان من المفترض لو توفرت إمكانات انتاج مناسبة للعرض ، أن تصبح عناصر السينوجرافيا من الغني الفني والإنتاجي بحيث تعد جسورا معبرة ، وذات دلالة واضحة علي هذه العصور ، بطريقة تعبير الملابس عن كل مرحلة تاريخية ، ودلالتها أيضا علي التنوع الطبقي لشخصيات المسرحية ، ذات النقص الذي طال الديكور والإضاءة اللذين لم يتغيرا وفقا للمشاهد التي تصور كل مرحلة تاريخية ، ولقد استعاض المخرج عن محدودية الإمكانات بديكور ما بعد حداثي يميل إلي التجريد ، يعتمد علي مجموعة من الشرائط الملونة التي تمثل بوابة القطر المصري ، الذي ظل مفتوحا علي مصرعيه طيلة التاريخ الموغل في القدم لكل مستعمر ، وإضاءة تشكيلية تشبه المربعات المتداخلة بألوان مختلفة .
ربما قد يري المتلقي أن ادماج "الساكس فون" في موسيقي هذا العرض المغرق في مصريته نوعا من التغريب غير المناسب ، وكان يمكن استبداله بنغمات الناي أو العود ، لكنني ارجعته لاحتمالية رغبة المخرج لكسر الإيهام اتساقا مع مسرح بريخت ، كما أنه أعطي حيوية للمشاهد الانتقالية المحورية بالمسرحية ، انتقالات تدفع إلي التفكير والربط ين المتباعدات زمنيا ، المتشابهات مكانيا وسلطويا ، في لحظات يجب أن تتسم بالتوتر والمغايرة للنسقي .
حين خرجت من العرض ترحمت علي "رفاعة الطهطاوي" و"علي مبارك" فلقد أدركا منذ بداية عصر النهضة خطورة الرسالة المقدمة علي خشبة المسرح ، وكونه من أفضل المنابر التي يمكن استخدامها لتثقيف الشعوب ، والإرتقاء بإدراكها ووعيها ؛ للصلة الحية ، الجسور ، المباشرة ، التي توفرها مع الجمهور .
متي يمكن أن توفر الدولة الميزانية المناسبة لتفعيل دور المسرح والرسائل المقدمة عليه ، وتثريها بغنى وابتكار متجدد لتشمل كل عناصر العمل المسرحي ؛ من أجل تقديم الرسالة في أفضل صورها، والارتقاء بعناصر السينوجرافيا متكاملة ؛ لتحقيق صفة المصداقية وإبهار المتلقي ومعايشته للعرض كأنه واقع ، وإدخاله في هذا العالم الوهمي الحقيقي المقدَّم له ؟
لعلنا نلتفت أن رسالة المثقف والفنان باتت من الخطورة بمكان في ظل السياق الثقافي الذي تعيشه مصر الأن ، لنصحح الكثير من المفاهيم التي نشرتها التيارات الدينية المتطرفة في عقول فئات كثيرة من المصريين ، الذين لم تتح لهم البدائل الفكرية ، ولا الحزبية السياسية ، ولا الثقافية الفكرية والفنية ، واستكانوا إلي فكر وحيد ، رغم تهافته العقلي وخضوعه لمصالحه السياسية والاقتصادية المحدودة ، الخاضعة لجماعات دينية أو تيارات أصولية .
إن ثقافة المسرح : العقلية الحوارية ، فكرة الصراع والتعايش ، التعدد وتداول الأراء ، المواجهة وخلق آفاق التوقع ، الخيال والتفاعل مع العالم بموجوداته وعناصره المتباينة ، يخلق ثقافة الديمقراطية ، والبرلمان ، وتمثيل التعدد ، وقبول الآخر ، يساهم في تشكيل الإنسان الذي يستوعب ويناقش بدلا من أن يكفَّر ويقتل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في