الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان ..ونخبوية الفن

أماني فؤاد

2014 / 2 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



منذ ما يربو علي خمس سنوات كنت في زيارة لأسبانيا ، وفي مدريد حرصت علي زيارة متحف الملكة صوفيا الوطني للفنون التشكيلية ، شُيد متحف الفن الكلاسيكي في مواجهة مع متحف الفنون التشكيلية الحديثة في جوار مبدع وخلاق، وقد يكون صداميا ، أية عاصفة عاتية تلك التي تجتاح من يحيا تلك التجربة في يوم واحد ، كأن الرائي للمتحفين يمر أمامه تاريخ الفن التشكيلي بمراحله ومذاهبه وتياراته، في رحلة مكثفة وثرية، لها سرعة الشهب المارقة في سموات الفن الإنساني.
النعومة والعذوبة والعلاقات الطبيعية المنطقية سمات الفن الكلاسيكي : وجوه بشرية جميلة وغريبة ، مناظر طبيعية، رحلات صيد واستكشاف ، تسجيل ماهر لمظاهر الأبهة الملكية في القرون الماضية ، مالا حصر له من لوحات ومنحوتات تمثل مريم العذراء وعيسي، فواكة وأطعمة ، لوحات تحكي حيوات وعلاقات ثرية : اجتماعية وسياسية وتاريخية، سجلها وأبدعها أمهر تشكيلي أوروبا والعالم .
يشعر الزائر للمتحف الكلاسي أنه يتهادي في رحلة نهرية لمياة رقراقة، تبدو مقاييس نسب ملئ الفراغات بين عناصر اللوحة طبيعية و منطقية في الغالب، تأخذ الرائي الألوان في شركها الأخاذ، وتتجلي عذوبة العلاقات بين الأنامل والفرشاة والرؤية التي تحاكيها اللوحات .
ثم يعصف بك محيط هادر؛ لتصارع أمواج وجود صاخب، تتداخل تياراته ورياحه في المتحف الحديث، إعصار متمرد يترك عقلك ووجدانك متلاحق الأنفاس، وقفت كثيرا أمام لوحة "الجورنيكا" "لبيكاسو"، وغيرها الكثير من الأعمال، وأنا أحاول قراءة رؤية الفنان للعالم وعناصره ؛ غضبا من الحرب وويلاتها، في كل عمل فني هناك جهد مبذول لمحاولة استكشاف العلاقات بين عناصر كل لوحة وألوانها ، طبيعة الموجودات التي تشكل العمل، منطقية وجود سياق يجمعها ، أو أن التضاد والتنافر ومجرد علاقات الجوار هي الحاكمة، تبقي الرؤية الذهنية الفلسفية التي يراها التشكيلي للعالم من حوله هي المحدد لكيفية صياغة عناصره الفنية والتشكيلية، حتي تلك اللوحات التي يعد الفراغ فيها بطلا، أو التي لا تحتوي سوي بقعة لونية في فراغ كبير ، فراغات تحاكي خواء الروح الحديثة، واندياح العالم، وسقوط الحكايات الكبري بعد الحرب العالمية الثانية كما يقول "ليوتار".
شعرت بغني نفسي وفكري، وصخب يجتاح كياني، وبزغت مشاركة فعالة ديناميكية عند مشاهدة تلك الأعمال،هناك حشد ذهني مثابر وافتراضي وتأويلي يتوالد تباعا ، فلقد كان من حسن طالعي أنني كنت أدرس تيارات الفن المعاصر: الحداثة وما بعدها ، ولذا أستطعت أن أدرك المنظومة الرؤيوية، والسياقات الفكرية والوجدانية في متغيراتها التاريخية التي أوجدت تيارات ومذاهب الدادية والتكعيبية والسريالية وغيرها..، وأنها كانت تعبيرا بالتشكيلات الفنية والنحتية لأزمات الإنسان الحديث، أدركت الخلفية الفكرية والوجدانية لفناني تلك المذاهب، ودرست الشفرات التي تعد مفاتيح لقراءة هذه اللوحات التشكيلية والنحتية ، وتدربت ذائقتي علي الإحساس بها وفهمها.
وهنا أطرح السؤال الذي يدور حوله ورقتي هل الفن نخبوي ؟ أو أنه يمكن أن يصل إلي جميع البشر بدرجة واحدة، وأن يمتلكوا القدرة علي فهمه وإدراك أبعاده، والإحاطة بكل مفردة من مفرداته؟ أم أن هناك نخبة مثقفة من شأنها إدراك أعلي نسبة من المستويات الفنية ، ثم هناك مستويات فيما يشبه الطبقات في إدراك مستويات متباينة من الفنون..؟
من اليسير أن نتلبس رداء المثاليات المفرطة الأحلام، وتأخذنا الأمنيات التي تتغيا أن تصل الفنون جميعها إلي كل المستويات والطبقات البشرية، إلي كل نفس إنسانية ، وأن ندعي أنه لا نخبوية في الفن.
بداية لا توجد في الحياة أحكام مطلقة، أي اننا لا نستطيع أن نطلق حكما قاطعا ونحن مرتاحي البال بقولنا: أن الفن نخبوي، أو أنه غير نخبوي ولجموع البشر.
يمكننا أن نلصق بالفن النخبوية، كما يمكننا أن ندعي لا نخبويته، ونحن في الحالتين لا نتعمق الصورة كاملة للقضية ..فهناك بعض الاحترازات:
1ــ أي نوع من الفنون نتحدث عنها : الفنون التشكيلية ، الموسيقي، الأغنية، الفيلم، الأنواع الأدبية: الرواية، الشعر، القصة القصيرة ، المسرحية، وغيرها من مناحي فنية..، أستطيع أن أقول أن كل نوع من الفنون السابقة يختلف عن النوع الأخر في درجات تلقيه، ومستوي نخبويته، نسبة شيوعه، ودرجة و يسر تلقيه .
2 ــ كما أن كل نوع يحتوي مستويات داخل تصنيفه الخاص، أي أنني أعني أن كل حقل فني يحتوي بداخله مستويات، تجعل قمته الهرمية نخبوية، وقاعدته لجموع البشر في المستوي المتوسط ، والذائقة الفطرية..
3 ــ اللأمر الذي يمكن الاتفاق عليه أن هناك قاعدة انطلاق تحتية، عميقة يغدو فيها الفن للجميع ، يتذوقه ويبدعه كل البشر مهما اختلفت درجات ثقافتهم، فحين تمر علي دار أحد حجاج الفلاحين المصريين في الريف، ستجد جدران المنزل الخارجية قد تحولت للوحة تشكيلية، سجل عليها التشكيلي الفطري مراحل الرحلة حتي الوصول إلي الكعبة، ومع التطور قام بتحديث عناصر تلك الرحلة، منذ أن كانت وسيلة الرحلة الجمال والقوافل، مرورا بالسفن، ووصولا إلي الطائرات ، في إدراك فطري فني لعلاقة الفن بالحياة، في فلسفة عميقة تكمن في العقل الجمعي للبشر، فيه يعود الفن لفلسفة وجوده الأول.
ـــ 1 ـــ
منذ التصدي لدراسة الفنون ومراحل تطورها ، وبحث الوظيفة التي أداها الفن للبشر، اتضح للباحثين الدور الوظيفي النفعي غير المباشر للفنون منذ بدايتها ، فحين أراد الإنسان الأول أن يصطاد أحد الوحوش التي تخيفه، أو التي يريد لحمها لغذاءه، كان يرسمه علي جدران الكهف الذي يعيش فيه، ثم يرسم مدية صخرية وقد رشقها في قلبه، وهنا يحقق له خياله ما يأمله ويتغياه، فيسعد ويشعر أن نصف المسافة قد أنجزها للتغلب علي هذا الحيوان ، هذا بالإضافه إللي الطقس السحري الذي يعتقد فيه، فاستحضار الحيوان ورسمه بأبعاده يجسده، ووضع المدية في قلبه يهب الإنسان قوة سحرية ، ستستجيب الطبيعة أو الوجود أو الألهه حتما لرجائه وتحقق له هدفه.
حين تشتد الرياح والأعاصير والأمطار ويخرج الإنسان يحاكيها ، يهتز كيانه المادي وتتراقص روحه اضطرابا ، يتناغم مع ثورة الطبيعة بحركات جسده، ثم يتطور الأمر فتصبح الحركات مصاحبه للإيقاع الصوتي ومنظمة لخطواته ، ثم طقس استرضائي وقرباني لها..
أعني أن الفن في نشأته لم يكن ترفا، بل كان ذا وظيفة، وفي هذه المنطقة وفي رحابها النفعية، يعد الفن حاجة وضرورة تشمل الجميع، ولا نخبويه بها..
لكن لو بفرض اننا أجرينا مسحا استطلاعيا عن فن البالية الراقص، أو فن الأوبرا، أو بعض مذاهب وتيارات الفنون التشكيلية والنحتية ، أوقصيدة النثر ما بعد الحداثية، ومدي تفاعل عينات ممثله للطبقات من المجتمع المصري ، لوجدنا أن هناك قطاعات عريضة لا تتذوقها ولا تتفاعل معها ، و هي فنون لديها يمكن أن تدخل ضمن سياق النخبوية.
ــ 2 ــ

أدركت مع تجربتي الحياتية والأكاديمية أن الذائقة البشرية تُربي وتتطور ، تُهذب وترتقي وتتسع إن اتيح لها المران والتكرار والفهم ، ومعرفة جذور الاشياء وفلسفتها، و الإلمام بكيف أصبحت الظاهرة الفنية علي ما هي عليه، وتطوراتها.
كنت أدرس قصيدة النثر والمجاوزات في تيار الحداثة في مصر بعد السبعينيات، وبدأت رحلة معاناه مع تيار الحداثة وما بعدها، واكتشفت صعوبة أن ذائقتي كان مداها الاقصي قصيدة التفعيلة، والسياق الرؤيوي الذي انتجها، وجماليات خاصة ظلت تمتح منها دون تجاوزها، رؤية للشاعر وهو يتلبس روح النبوة أو الإصلاحيين، تملكتهم رؤية للفن ووظيفته تتبني المحاكاة، والتأثير في العالم ومن ثم قيادته ، كأن الوجود تحكمه منظومة من العلاقات المنطقية الإنسانية العادلة..
مع الدربة مع قصيدة تيار الحداثة وما بعدها، ومعرفة المنطلق الفكري والوجداني الذي انطلقت منه هذه التيارات ، وقراءة نماذج متعددة من الدواوين التي تمثل هذه المذاهب، تذوقت هذه الجماليات الجديدة، التي سميتها جماليات الفوضي والتناقض والجوار.
أستشهد بتلك التجربة لأدلل علي أن بإمكان المجتمع عن طريق منظومته التعليمية، وإعلامه، ومؤسساته الثقافية، أن يجعل عالم الفنون قريبا من الجميع، يدخله نسيج الحياة اليومية، يمكّن الفلسفة والفكر والتجربة والعلم من تأسيس ثقافة تلقي العالم علي نحو حر وعميق.

وهنا قد نتساءل ماهو دور الفنون في حياة الإنسان المعاصر ؟ ولماذا نلح ونؤكد علي أهميتها، كما نرجو أن تكون عنصرا أساسيا في التكوين الوجداني والعقلي لكل الطبقات في المجتمع المصري والعربي .
انطلاقاً من أن الفن أحد أشكال تعبير الروح المطلق عن ذاته، تتمثل فيه قيم الإنسان ومشاعره وأفكاره ، حقيقتنا الإنسانية التى تضعنا الفنون أمامها بشكل كثيف، علاقة تتميز بالمواجهة العميقة والبللورية فى سياق جمالى غير وعظى، اللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية، والكتلة النحتية، القصيدة، والقصة والرواية، الفيلم السينمائى، التابلوه الراقص، كلها ألوان إبداعية تطلق أعمق تخيلاتنا، تصوغ إنساناً قادراً على الانفكاك من وعاء الجسد بكل غرائزه، والتسامى فى فضاء الروح بكل فيوضاتها وإمكاناتها، حيث يتعانق الجميل والقيم، حين تنصهر المتعة مع الفكر.
فالإبداع الحقيقى الذى ينشده الإنسان المعاصر، يعد في لحظتنا الراهنة هو الاستجابة المغايرة للأحداث أو لما نتوقع، الإنسان الذى يتطلع إلى الفن بوصفه الوسيلة إلى إطلاق الخيال وتزكية الضمير، الأداة التى تساعده على الانعتاق من أسر اليومى والعادى والضرورى، وتسمو بذاته، الفن الذى ينمى إنسانية الكيان البشرى وينأى به عن منطقة الحيوانية والغرائزية، الإبداع الذى يدفع الذات البشرية إلى اعتراك حقيقى بالحياة، بمنظوماتها المعرفية العقلية والروحانية.

ـــ 3 ـــ

في هذا المقام علينا أن نتساءل لو أن المجتمع المصري حاضنا جيدا للفنون ، وانها لا تقتصر علي فئة المثقفين، وفئة قليلة من المتلقين المهتمين بها ، هل كنا سنجد استشراء للأفكار الأصولية المتشددة والرجعية ؟ هل لو أن للفنون والفكر والحريات تواجدا وفعاليات راسخة، ولفئات عريضة تشمل الريف والصعيد والبادية، هل كنا سنشاهد كل هذا القدر من الدموية والعنف ورفض الأخر بكل توجهاته؟
هل كان من الممكن أن نجد كل هذا القدر من القبح والعشوائية في جغرافيا الواقع المصري؟
انطلاقاً من هذه الأهمية نناقش اليوم المعوقات التى تحول دون تحوّل الفن إلى القيام بهذه الأدوار عظيمة القيمة في الواقع المصري والعربي والإسلامي.

هناك معوقات ينبغي ان نعترف بها ونتصدي لها بالمواجهة الدءوبة ، وتحول دون شيوع الفن وانتشاره ، وبقاءه نخبويا محدودا لفئة من المتلقين، معوقات خارجية، ومعوقات تخص الفنون وسياقاتها، وطقسها الاحتفائي في المجتمع المصري والعربي:
معوقات حول الفنون وخارجها :
1- هناك تعثر وتخبط التحول فى الواقع المصري، هذا التعثر الرؤيوى الذى يشمل التوجه السياسى والاقتصادى والثقافى الاجتماعى، أن تعثر سياسات ورؤى الواقع سينعكس بدوره على التحولات الموجودة للأدب والفن والإعلام والثقافة بمفهومها الشامل.
تستطيع الأحداث والوقائع التى تتوالى على المجتمع المصرى أن تدلل على أن المسار الطبيعى والدستورى المنظم للثورة، بموجاتها التصحيحية، وتنظيم السلطات للنهوض بمقدرات وشئون الدولة قد عبثت به قوى منظمة ذات صبغة دينية ، أو عسكرية، لا تختلف كثيراً عن القوى السابقة عليها، ولا تحمل استراتيجية فكرية تمكنها من تغيير مسارات الدولة المصرية، وحتى لحظتنا الحاضرة، وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة أعوام، لم تغير هذه السلطات من سياسات النظام السابق، فهم يكملون مسيرة لايمتلكون لها أيديولوجية واضحة، ترسم لهم معالم الطريق.
2 ــ ثاني المعوقات فيما أرى - تتمثل فى تعدد أنواع الرقابة علي الفن والأدب: فى السابق كانت هناك رقابة مقننة من الدولة، كان هناك قانون يحكم العلاقة بين سلطة الدولة ومناحى الإبداع.
وبرغم رفض المبدعين والفنانين لهذه السلطة وهذه القوانين إلا أنها كانت أكثر وضوحاً عما آل إليه الأمر الآن، اليوم هناك صور من الإرهاب الأسود الكفيف الذى باستطاعته أن يفعل أى شئ دون رادع واستنادا علي فتاوي رجعية لا تدرك فلسفة الأديان.
في الشهور الماضية تعددت محرمات الجماعات الدينية، بكل أشكالها المعتدل منها والمتطرف، وانتشرت الفتاوى من خلال قنوات دينية لها القدرة على دغدغة مشاعر المتلقين، والهيمنة على عقول البسطاء من الشعب المصرى، وهم كثر.
لقد كان الهدف الأكثر إلحاحاً لديهم تأطير الإبداع فى مقاييس أخلاقية، تحددها فئة من البشر أغلقت عقولها بحسب فهم بعض السلف لنصوص يحكمها تاريخيتها ولم يطلها التطور، كما أنها لا تدرك الفلسفة العميقة للمكونات البشرية وكيفية تنمية كل جوانبها.فوجدنا من يكفر نجيب محفوظ، ويحطم أو يسرق تمثال لوجه طه حسين، ومن يضع نقابا علي وجه أم كلثوم، من يضع أغطية علي التماثيل في الميادين المصرية ، أو يحطمونها.
وأود هنا أن أطرح تساؤلاً رئيسياً: لماذا يعتقد رجال الدين المعتدل منهم والمتطرف أن الجماهير أو المتلقين للرسائل الفكرية والإبداعية بحاجة إلى الوصاية، إلى وضعهم فى غرف معقمة ضد إعمال الفكر والعقل والفن؟
أتصور أنه حفاظاً على الكهنوت المقنع الذى استمروا يشكلونه، بل وأصبحوا يحتلون عرشه توافقاً مع السلطة السياسية باختلاف أشكالها، وحفاظاً على مكاسب ومصالح كانوا المستفيدين منها مناصفة مع من بيدهم السلطة.
في لحظتنا الراهنة يغلف المجتمع المصري ضباب شديد من العنف المشبع بدماء زكية من أرواح أبنائه، التي تزهق غدرا بيد إرهاب أسود رجعي، أوجدته هذه الجماعات بأطماعها في السلطة، ورغبتها في الاستحواذ علي كل مقدرات حكم القطر المصري وتقسيمه، وبيعه إن أمكن، فهم لا يعتقدون في مفهوم الوطن وهويته الثقافية المتعددة، ولا ينظرون إليه بقداسة، لذا يتراجع المشهد الخاص بالفنون والأداب لخلفية الأحداث، في حين أنه لو أمعن النظر في أهمية دور الفنون في تخليص وتزكية النفس البشرية، وحثها علي التفكير وإعمال العقل ؛ علي المحبة والتسامح ، لتصدرت الفنون كافة المشهد الاجتماعي والثقافي المصري، توازيا مع مسارات أخري أمنية واقتصادية وسياسية، لتصحيح تلك التبعات والكوارث التي ابتلينا بها مع حكم الدولة الدينية والعسكرية.
3ـ ــ ثالث المعوقات تتمثل فى رؤية قاصرة ورجعية لمن استحوذوا على السلطة بعد حدوث الثورة، وهم فى حقيقة الأمر جماعات وأفراد لا تدرك قيمة الفن والأدب، أو رؤي محافظة وقمعية تميل فيما تميل إلي تغليب الجانب الأمني والقمعي.
في ثقافتنا المتقنعة بالدين الذى هو غطاء لمآرب أخرى سياسية واقتصادية، يصم رجال الكهنوت الدينى والموالين لهم أسماعنا فى لهجات تهديد ووعيد يقولون: "الحرية لا بد لها من حدود"، "الحرية مسئولية"، "انفلات القيود فوضى عارمة، وانسلاخ عن الأخلاق"، "طبيعة ثقافة منطقتنا وثوابت المجتمع" وغيرها من عبارات لاتحمل في ظاهرها مغالاة، لكن يسفر تطبيقها في الواقع عن ممارسات قمعية سافرة، هناك جريمة تتم فى تؤده على مر عقود وقرون باسم الأخلاق، جريمة تعتيم على العقل، والذات البشرية القادرة على مساءلة العالم والوجود، بكل ما يحويه من معانى وقيم وثوابت ومتغيرات.
فالمفكر والمثقف والفنان والأديب فائض على الدولة فى ظل الفاشية الدينية أو العسكرية.
لم تزل الدولة المصرية متمثلة في الحكومة الحالية تتخذ موقفا مائعا رخوا تجاه بعض الأحزاب التي وُجدت وشكلت علي أساس ديني، فتغازلهم بعدم حل هذه الأحزاب والجماعات، كما يمثَّلون في تشكيل لجنة الخمسين لوضع الدستور، ودعوات للمصالحة والتوافق، لا لتفعيل دولة القانون التي تبعد الأهواء الخاصة والمغالبة لصالح المساواة والعدل، كما لم تزل مواءمات الأحزاب حتي العلمانية منها حريصة علي وجود المادة الثانية من الدستور الملغي، وهي ــــ كما ذكرت كثيرا ـــ تفتح بابا لهدر مبدأ المواطنة في دولة مدنية.
إن كانت حربا علي الإرهاب الذي يتقنع بقناع الدين فلتكن حرب تصحيح جذري، لا تراجع أو موائمة فيها ، دعونا نرسي معالم دولة مدنية حديثة، لا ثغرات بها تمكّن قوي الإسلام السياسي من الرجوع للمشهد مرة أخري ، وأتصور إن حدثت هذه الردة، سيكونوا شديدي الضراوة والعنف مع كل طوائف المجتمع التي رفضت تغولهم وغبائهم.
فالجماعات والأحزاب الأصولية التي تشتغل بالسياسة تحركهم مجموعة من الآليات والمرجعيات التى يتأسس عليها خطابهم، الذى اختلط فيه الجانب الدينى بالسياسى، هذه المرجعيات أستطيع أن أجملها فى ما ذكره د. "نصر حامد أبو زيد" فى كتابه "نقد الخطاب الدينى".
- التوحيد بين الفكر والدين.
- رد الظواهر إلى مبدأ واحد.
- الاعتماد على سلطة التراث والسلف.
- اليقين الذهنى والحسم الفكرى.
- إهدار البعد التاريخى.
لا بد وأنكم تشعرون معى بتهاوى هذه الآليات وضعفها، وهشاشتها فكرياً، كما أنها لا تهب مساحة من الحريات الحقيقية؛ ليزدهر فى ظل معتنقيها الإبداع الفنى بكل أنواعه.
وتفترض هذه السلطة السياسية الدينية أن مستقبل الرسالة الإبداعية أو الفكرية الخارجة عن مقاييسهم المحدودة للإبداع كائن هش، يمكن السيطرة عليه مباشرة دون أدنى مراجعة أو مناقشة تتم بداخله، كما تفترض أن إيماناته ومعتقداته يمكن تقويضها بسهولة بمجرد عرض معتقدات أخرى، ولذا يضعون المتلقى أو الشعوب تحت الحجر المباشر، يتولون هم التقييم ولا يكلفون الجماهير بإرهاق عقولهم أو ممارسة التفكير. يعتبرونهم من ملوثات الإبداع والفكر بدعوات متعددة. فتارة المحافظة على الثوابت الفكرية للأمة العربية، وتارة النقل عن العصور الذهبية للإسلام وعلمائه، وتارة الحرص على هوية لا يمتلكون أدوات فهمها العميق وتعدد عناصرها وتراكمها، يحول بين هذا الفهم وعقولهم تعصب أعمى يتنافى مع الموضوعية، وإحساس بالنقص والدونية، لكنهم يغلفونه بالغطرسة والشعارات ودغدغة مشاعر سطحية لا تصمد أمام أدوات الفهم والمنطق والعقل، أمام البراح الذى يمكن أن يقدمه الفن للإنسان والمجتمع.
4 ـــ غموض المواد الخاصة بالحريات حتى الآن فى الدستور المنتظر، التصور الذى وضعت له لجنة العشرة نموذجا مبدئيا، واعتراض الكثيرين علي بعض مواد يتضمنه، مواد خاصة بالإبداع وحرية النشر.
لم يزل هناك بعض العبارات التى تذيل المواد الخاصة بحرية الاعتقاد، وحرية الإبداع والتفكير، وإجراء التجارب العلمية، وحرية الإعلام، هذه العبارات من قبيل "بما لا يضر بالمصلحة العامة"، "بما لا يهدد أمن الوطن" أو أن تقيد مادة الدستور التى هى الأصل بالفرع، كأن تذكر فى نهاية المادة و"ينظم ذلك قانون كذا..
هذه العبارات المقيدة تفتح البوابات المتسعة لمن انغلقت أذهانهم وتكلست على ما تدعيه من ثوابت، لا يمكن أن يعاد النظر النقدى والفكرى والإبداعى فيها، من يعانون من أمراض التطرف، والوقوف ضد التطور وأوهام العودة بالزمان إلى الوراء، من يتصورون أن الفردوس المفقود كان فى العصور الإسلامية الأولى وفى الخلافة، وفى الأممية الإسلامية.
تتضمن بعض مواد الدساتير المنظمة للحكم فى البلاد المتقدمة نصوصا تنظم الحريات وتضمن عدم حدوث فوضى عامة، لكن تشكيلنا المجتمعى بعناصره السلفية المتشددة والمتطرفة قد يتسبب فى تقييد وتحريم الكثير من الحريات، بما يؤثر فى الإبداع وطرق التفكير، وهو ما لا يتسق مع تحولات نأملها فى فنون حرة تواكب فكرا متطورا، ومجتمع نريد له التقدم.
علينا أن نذكِّر الجميع مراراً أن الممارسة والحرية، الإبداع الفني بكل مناحيه، ونشره علي نطاق واسع، وعى المجتمع وتعليمه وثقافته، إعلامه الحر، عدم التكريث لدولة أمنية، كلما سُمعت فيها كلمة ثقافة تحسس الجنرالات فيها مسدساتهم، كلها أدوات هي الأكثر جدوى من وضع كل هذه القيود التى تهبط بمظلة من مجموعة من البشر كثر أو قل عددهم ، وأيا كانت مرجعيتهم دينية أو عسكرية ، التجربة والممارسة والانتخاب المجتمعى، هم الضمان الوحيد لاستمرار المنتج الإبداعى أوتهميشه و رفضه، فى حين أن القمع والمنع والمصادرة تزيد من رغبة البشر لمعرفة هذا المجهول، بل ويسعون خلفه.
ثانياً المعوقات التي تخص العملية الفنية ذاتها:
تبرز هناك بعض المعوقات الداخلية التى تختص بداخل العملية الإبداعية، أبرز هذه المعوقات:
1- سلطة النموذج الفني المستقر: يمثل الإبداع فى حقيقة الأمر التجاوز، الخروج على الكائن والمستقر، فهو برق ورعد واستشراف، خلق عوالم موازية تستعين بالخيال والرمز والإشارة وغيرها من تقنيات فنية، ومنذ أن استقر أي نوع فني وتحددت له ملامح على مر التاريخ البشرى، أكتسب رسوخا في الأذهان ومن ثم قداسة.
مارست هذه الأنواع الفنية سلطة النوع وسماته الفنية، المحددات النقدية التى نشأت فى بداية الأمر لتصف وتقنن الشكل الفني، ثم تحولت مع الوقت لأقانيم وأطر لا ينبغى للإبداع أن يخرج عنها، وهو ما يند عن فلسفة الإبداع ذاته، وينبو على منطق الفن الذى هو بالأساس خروج وانطلاق لخلق جديد مبتكر.
2- سلطة النقد، استكمالاً للمعوق السابق يمارس النقد والقائمون عليه أحياناً نوعاً من السلطة على الإبداع، فكثيراً ما نجد الناقد الذى يتحدد أفقه المعرفى والفنى فى أطر معينة، أو يتبنى الخصائص والسمات لأحد التيارات الفنية، يمارس رفضه وتقويضه لتيارات فنية أخرى ليست بالضرورة تتبنى نفس النهج الفكرى أو الفنى لهذا التيار أو ذاك.
كما أن الواقع النقدى كثيراً ما نجد به نماذج من النقاد الذين يحملون "عدة" جاهزة تتوافق مع أحد الأيدولوجيات، وهو ما يجعله يتعامل مع النص الإبداعى ليس من داخله ولا بذائقة وأفق معرفي مفتوح، بل يلوى عنق النص ويتعامل معه بافتعال مما يفقد النص جماله وخصوصيته، ويفقد الناقد مصداقيته واتساع أفقه الثقافي، وحميمية التواصل مع كل عمل فني على حده لإبراز تفرده.
وأستطيع أن أدعى أن معظم الممارسات والاشتبكات النقدية مع نتاج الإبداع ممارسات احتفائية واحتفالية، أكثر من كونها اشتباكا حقيقيا علميا ووجدانيا وتذوقيا مع الإبداع، هناك منطقة تقية آمنة تخير النقاد الإقامة بها لها مواصفتها: عدم توجيه نقد موضوعى يبرز مناطق الضعف بالعمل، أو افتقاد العمل للروح العميقة للفن، الفن الذى يقدم متعة الروح والعقل معاً، وإلا شكل هذا إزعاجاً شديداً للمبدع وفسر على أنه تصفية حسابات، كما يتحاشى بعض النقاد أيضاً التعرض لتابوهات المجتمع المصرى والعربى إلا نادراً: الدين، السياسة، الجنس، وبهذا الترتيب الذى ذكرته.
3- الفجوة الشاسعة بين بعض الفنون والجماهير العريضة من المجتمع المصرى، يعانى الإبداع بكل صوره من الهامشية والإقصاء فى الوجود الحياتى لعامة الشعب المصرى والعربى ويطال ذلك الطبقة المتعلمة والجامعية منه.
هناك حالة من الانفصال مع الفنون الجادة ذات المستوي الإبداعي المتميز، وهو ما يرجع إلى أسباب متعددة أهمها: أن أكثر من خمسين فى المائة من المصريين أميين، وأن أربعين فى المائة منهم يعيشون تحت خط الفقر.
كما أن المناهج التعليمية والبرامج الإعلامية لا تضفر الفنون فى نسيج حياة المصرى البسيط، وتكرس المقررات للانفصال بين النماذج الفنية التى تدرس ـــ وعلي ندرتهاــــ والواقع الحياتى المعاصر للطلبة، لقدم هذه النماذج الفنية، والاغتراب الحياتي والمجتمعى الذى يشعر به الطالب معها، أو لعدم ديناميكية موضوعاتها ودفعها لخلق حالة من الاستفزاز العقلى للطالب، أو التقدير الجمالى لها.
أتذكر أنني عند زيارة المتحف الحديث بمدريد، لفت انتباهي مجموعة من الأطفال لا تتعدي أعمارهم أكثر من أربع سنوات، ويبدو أنهم كانوا في إطار رحلات مدرسية منظمة، وكان مع كل منهم لوحة بيضاء صغيرة، وحامل مناسب لأعمارهم، بحجم اللوحات، وكان كل طفل أو طفلة منهم في جوار لوحة أصلية لأحد كبار التشكيليين العالميين؛ لمحاولة تقليدها أو صناعة إبداع موازي لها؛ تحفيزا لخيال الطفل، وتشجيعا له؛ ليجد عالما يحاكيه أو يحاوره أو يصبح نموذجا وقدوة له . ويرافق هذا بلا شك شرحا مبسطا من قبل مدرسيهم ، وهو ما أعنيه بضرورة مزج الفنون بنسيج حياة الطفل والطالب منذ الصغر، فتصبح من أدبيات وطقوس حياته، ولا يستطيع الاستغناء عنها.
4- وبالرغم من كل الزخم الإبداعى في بعض الأنواع الفنية، والإصدارات التى تتوالى لكثير من الألوان الأدبية وخاصة فن الرواية، وما يتحلق حولها من ممارسات واشتباكات نقدية إلا أن الوجود الإبداعى والنقدى أقرب إلى الجزر المنعزلة، التى لا يشعر بها الجمهور العريض.
كما أن هناك تكريسا لبعض الأسماء اللامعة لبعض الأدباء: الشيوخ منهم ،أو الأكثر انتشاراً ومبيعاً"البيست سيلر" والتعتيم أو التهميش على بعض المبدعين الحقيقيين الذين يعدون بمستقبل حقيقى فى الإبداع.
ويترتب على ذلك الاستحواذ على جوائز الدولة، وبعض الجوائز الخاصة لصالح مجموعة محددة تستأثر بكل شئ منذ عقود، مثل تخصيص إقامة الندوات الأدبية والثقافية للترويج لأعمالهم، تدبيج المقالات النقدية والصحفية فى الصحف والمجلات، اقتصار المنابر الصحفية والإعلامية على هذه الوجوه الشهيرة، حتى وإن لم تعد تمتلك إضافة حقيقية.
أما فيما يتعلق بمعارض الفنون التشكيلية ومتاحفها بمصر، فهناك أزمة حقيقية نبعت من جهل شبه تام لدي أفراد المجتمع المصري بوجود هذه المزارات وأماكنها، كما أنني لا أتذكر أن هناك معرضا أو بينالي مفتوح قد أقيم في أحد المدن المصرية الصغيرة إلا نادرا، عادة ما تنحصر هذه الجالريهات في الأحياء الراقية بالقاهرة والأسكندرية، وهو الأمر الذي ينحو بالفن نحو النخبوية بما لا يدع مجالا للشك.
هذا بخلاف ندرة البرامج الإعلامية والثقافية التي قد تتعرض للفنون التشكيلية وفنون الأوبرا وفن البالية وغيرها من الأنواع، وحتي في مجال فنون السينيما دائما ما كان هناك نوعان أو مستويات من الإنتاج الفني ، هناك الأفلام التجارية وهناك مستوي أفلام المهرجانات والجوائز، وهو ما يدلل علي أن داخل كل نوع فني مستوي من التلقي العادي والشائع، وهناك مستوي نخبوي لا يناله إلا المتعمق في هذا النوع الفني ودهاليز تقنياته الخاصة، وإدراكا لفلسفة الإبداع ذاته
5- محدودية وندرة المنابر الإعلامية والصحفية المتخصصة لنشر الإبداع بمختلف فروعه، والدراسات النقدية الجادة، واقتصار معظم الممارسات النقدية المنشورة على الطابع الصحفى المختزل، المقيد بمساحة محددة فى الجريدة أو المجلة، وهو ما يضطر الناقد إلى التعريف بالعمل فقط دون اتاحة الفرصة له لسبر أغواره الفنية والفكرية.
6- وأريد أن أضيف هنا أهمية وجود صفحات خاصة بالفنون بكل فروعها ومجالاتها فى الجرائد اليومية، وذلك لأنها أكثر انتشاراً ويقتنيها الجميع، وليس المتخصصون فقط، وهو ما سيجعل المادة الأدبية والنقدية جاهزة وسهلة فى يد المتلقى مما سيضطره فى بداية الأمر إلى القراءة، ثم ما يلبث الأمر ويتحول إلى عادة وتذوق ومتعة ومتابعة.
أعود مرة ثانية وثالثة وألح على أن الفن منذ بدايته وحتى لحظتنا الحاضرة يدفع بالروح الإنسانية إلى فهم مكوناتها والتعالى على ضعفها، إلى تجاوز الممكن والتطلع إلى ما يمكن أن يكون، ينمى الأدب العوالم الداخلية للإنسان، يجعله يدرك الحب ومن خلاله ينفتح على الآخرين، يتفهمهم ويتعاطف معهم، ويتقبل اختلافهم، كما يكثف الفن المعانى التى توصل إليها الإنسان فى تاريخه البشرى، تجاربه الخاصة والمشتركة، تجاربه مع الطبيعة، وتصوراته عن عالم الغيب وعوالم الميتافزيقا، أتصور أن هذا هو الفن الذى نصبوا إليه وننشده بكل مستواته نخبويا كان أو شائعا، ويشمل قطاعات وطبقات كثيرة من المجتمع ، ولن يتحقق للمجتمع المصرى ومبدعيه ذلك إلا من خلال التحول الديمقراطى الحقيقى، والحصول على أعلى سقف من الحرية، وتحقيق التنمية الاقتصادية العادلة، والانفتاح على العالم وكل معطيات عصر المعرفة بأفقه المفتوح، الكف عن محاولة العيش فى مقولات تديين الدولة، والعصور الذهبية للحضارة الإسلامية، ومحاولة الرجوع إلى نهجها، وكلها ادعاءات تشكل أحكاما ساذجة تضخم مما كان ، وتعوقنا عن صنع طريق المستقبل الذى لا بد فيه من التعامل مع العالم من حولنا، وفي اللحظة التاريخية التي نحياها بكل معطياتها،وسياقاتها المعاصرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع


.. #shorts yyyuiiooo




.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #