الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حركة الجبليين القوقاز بقيادة شامل حسب رأي المؤرخين الإنجليز والأمريكان

أمين شمس الدين

2014 / 2 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



بقلم
كينيابينا إ. س. (موسكو)
دانيالوف م. ( مخاتش- قلعة)
ديغوييف ف. ف. (أورجينيكيدزه)
(1979)
استرعت حركة الجبليين القوقاز منذ نشوءها بقيادة شامل انتباه السياسيين والمؤرخين والكتاب في القضايا الاجتماعية في الغرب. إن أسباب هذا الاهتمام واضحة ومفهومة. فالغرب وبالدرجة الأولى الإنجليز، اعتبروا هذه الأحداث بمثابة فرصة سانحة للاستيلاء على منطقة القوقاز وفصلها عن روسيا، وإضعاف تأثير هذه الأخيرة وبشكل ملموس على الشرق الأوسط...هذا إذا لم تُخرجها منه بوجه عام.
وقد أثارت هذه الحركة حفيظة مهد المؤرخين الإنجليز. وظل هذا الضرب من الأحداث همهم الشاغل طوال الثلث الثاني من القرن التاسع عشر.
يمكن القول بأن تلك الفترة كانت بداية عصر كتابة المؤلفات العلمية لتاريخ القوقاز. والمقالات التي تدور حول هذا الموضوع بشكل مباشر محدودة، أما الكتابات التي تطرقت إليه بشكل عام، إضافة إلى مسائل أخرى حول تاريخ القوقاز فكثيرة جداً. علماً بأن الحديث في موضوعنا هذا يدور فقط حول المجموعة الأولى من الدراسات التي ظهرت؛ طالما هذه الدراسات تعكس مفهوم المؤلف للأحداث بصورة واضحة، كما وتعكس مستوى التأريخ الغربي، ومدى معرفة مؤلفيه لصفحات التاريخ الماضي لشعوب الاتحاد السوفييتي.
أشار مراسل صحيفة " Morning Post " الإنجليزية تشارلز مارفن (1884م)، إلى أنه وبغض النظر عن وفرة المراجع في المكتبة التاريخية لأوروبا الغربية، إلا أنه لم يتم لحد الآن صدور أعمال معمَّمة عن تاريخ دخول القوقاز في اتحاد مع روسيا. وهذه الملاحظة بقيت واقعية حتى ظهور كتاب " الاحتلال الروسي للقوقاز "عام 1908م، لمؤلفه جون بادلي Russian Conquest of the Caucasus " Badly J. The". (1) .
لقد تابع جون بادلي نشاطات روسيا في منطقة القوقاز منذ العشرينيات من القرن الثامن عشر وحتى أواسط القرن التاسع عشر. أما محط أنظاره فتركزت حول خصوصيات السياسة الروسية وحركة شامل: جذورها - تطورها - أسباب الهزيمة. وبادلي يحلّل تلك المسائل من وجهة نظر عسكرية بحتة. وقد أظهر معرفة جيدة من الناحية الزمنية لمجريات الأحداث. إلاّ أن تعميمه للاستنتاجات يعاني من التحيّز ومن نواقص وعيوب أخرى ذات شأن بالأسلوب والنهج البرجوازي في تحليله للأمور. فالمؤلِّف حسب تقديره يعتبر بداية القرن التاسع عشر فترة أو مرحلة نمو الظروف الملائمة لانطلاقة شامل. فهو يربط الظروف التمهيدية البعيدة وغير المباشرة للحركة مع ما يسمّى بـ "الأسلوب اليرمولوفي" (نسبة إلى القائد العسكري الروسي في القوقاز، يرمولوف). فالقمع الشديد للقبائل الداغستانية التي لم تستكين "كان السبب الذي أعدّ به يرمولوف - كما يقول جون بادلي - الطريق لشامل". وهو، أي بادلي، ينتقد بإنصاف المؤرخين من النبلاء، لأنهم استندوا على كون السبب الأول لما يسمى بالحرب القوقازية، هو التعصب الديني الإسلامي للجبليين. وبنفس الوقت يرفض ودون تحفظ أن يحتذي حَذوَ التقليد المتَّبع في الأدب الغربي، في شرح أسباب نشوء الصراع في عهد شامل - على أساس أنه صراع نشأ فقط بسبب دخول الروس إلى القوقاز. وقد أبدى بادلي إعجابه قبل أوانه بما خرج به كثير من المؤرخين من استنتاجات، بإعلانه: أن تعاليم الشريعة كانت بمثابة شكل أو غطاء ديني، وليست فحوى الحركة نفسها (2). فبادلي يعترف بالحركة الموريدية، كتيار سياسي فقط، بعد اعتماد الإدارة العسكرية والمدنية الروسية على الخانات والبكوات المحليين، وتقوية سلطتها على السكان من عموم الناس البسطاء (3).
ومع ذلك نجد بأن الكاتب الإنجليزي يميل نحو البحث عن كون المسبب الأول لانطلاقة شامل الحربية - هو في وجود الروس في منطقة القوقاز. فهو يسيء تقدير عامل - الصراع ضد الإقطاعية - في الحياة الاجتماعية للداغستان، قبيل فترة التدخل النشط لروسيا في المنطقة.
إن المسألة التي خضعت لنقاش واسع بين أوساط المؤرخين والكتاب الغربيين ما قبل جون بادلي وما بعده كانت: كم كان شامل مفيداً، وكم من الممكن أن يكون كذلك لتركيا وحلفائها في حرب القرم؟ إن غالبية الآراء أكدت وبشكل قاطع بأن الاهتمام غير الكافي، والاستخفاف نوعاً ما بانتفاضة الجبليين كان الخطأ الشنيع الذي ارتكبته بريطانيا وفرنسا.. هذا الخطأ الذي فوّت عليهم فرصة سانحة للحدّ من تأثير روسيا على المنطقة، والذي أنقذ روسيا من فقدان أراض مهمة.
ويشاطر بادلي هذا الرأي فقط من ناحية الاعتراف بأن نتائج حرب القرم كانت ستكون خطيرة جداً بالنسبة إلى روسيا، لو أن القيادة الأنجلو - فرنسية استخدمت الوضع في القوقاز بعقلانية أكثر. إلاّ أنه، أي بادلي لم يؤمن باحتمالية الاستيلاء على القوقاز، حتى لو تحول إلى مسرح رئيس للعمليات الحربية. والمؤلف نفسه يرى: "أن حرب القرم كانت وبدون شك ستمنح السكان المسلمين فرصة للتغلب على روسيا. إلاّ أن النتيجة في النهاية كانت ستكون واحدة" (4).
مع أن بادلي يعترف بالدور النهضوي لانضمام القوقاز إلى الدولة الروسية، إلاّ أنه يسيء التقدير بأولويات الأمور، التي تُعتبر أساس فشل المغامرين من الدول الغربية بشأن القوقاز: فحالة شعوب القوقاز النفسية لم تَصُبّ في مصلحة التدخلات الإنجليزية - الفرنسية- التركية. وهذا واضح وجلي(5). فوضع القوى على المسرح القوقازي لم يقم شامل بتحديده.. شامل، الذي فقد ما بين الأعوام 1853-1856م قُوّته، التي كان يتمتع بها سابقاً، بقدر ما حدّدته إرادة الأرمن والجورجيين والأذربيجانيين، والجزء الأكبر من الجبليين. فهؤلاء بالتحديد هم الذين حاربوا بشجاعة وعزم الجيوش التركية - منفذة إرادة ونوايا الحلفاء تجاه القوقاز، إضافة إلى أن فصائل شامل لم تشكل أي خطر في المناطق السهلية من البلاد، كالذي شكلته في المناطق الجبلية (وهذا ما أشار إليه المؤرخون الإنجليز أنفسهم أيضاً)(6).
إن بادلي لا يكشف حتى النهاية أسباب هزيمة الثوار. وما عرقل عليه الأمر بهذا الخصوص، ليس سوى غياب التحليل الطبقي للمشكلة. فالكاتب لم يستطع التمييز ما بين القوى المحركة ذات الطابع المتباين ومصالحها، ولا فهم الصبغة الاجتماعية لدولة شامل التيوقراطية - العسكرية. ومن هنا ظهرت الأخطاء التي شملت أعمال المؤلف، والتي وُضِعت تماماً حسب المفاهيم (الغربية) للعلوم التاريخية.
في العشرينيات، ظهر على مسرح التاريخ أحد مشاهير المستشرقين الإنجليز، وهو ألن أو. Allen W.، الذي كتب عام 1923م، موضوع عن تاريخ القوقاز، نشر في كتاب "دول البلطيق والقوقاز". لمؤلفه بوتشان ل.: Buchan L. The Baltic and Caucasian States (7).
و ألن يتحدث في موضوعه بشكل خاص عن حركة شامل. وهو يعتبر أن الدوافع المحَفِّزة لحركة شامل - كانت تلك الأساليب الفظّة التي استخدمتها كل من الإدارتين، القيصرية والموريدية، من إجراء إصلاحات دينية أولاً، ثم في المجال السياسي.
ومع أن ألن أشار حقيقة إلى الأشكال الاستعمارية لسياسة الحكم المطلق (8)، إلا أنه أساء التقدير فيما يخص الصراع داخل المجتمع الداغستاني ضد الإقطاعية، التي نشأت ضمن حدوده معارضة فلاحية عفوية ضد الإقطاعيين المحليين. والمؤلف يتطلع إلى شخصية شامل دون أي اعتبارات مثالية زائدة. فهو يكتب: إذا كانت خصال الإمام شامل كالرجولة والشجاعة والفصاحة في الكلام وإدراكه الدقيق لنفسية الجبليين، ولعْبْ دور الجهل وعدم المعرفة، واستعداده السلوكي لِلَقيام بلعب أدوار في مسرحيات تمثيلية.. ساعدته في حركته؛ إلاّ أنه سلك منهج الظلم والقسوة والاستبداد، إضافة إلى غيرته من شعبية مرؤوسيه (تبعته) وتصرفه بتصرف مقرون بالشك والريبة.
وألن، هو أول من حاول بين مؤرخي جلدته، تقسيم حركة شامل إلى مراحل زمنية. فهو يقسمها على النحو التالي:
المرحلة الأولى ( 1829-1839م ): فترة نشاطات الإمام غازي - مولاّ والإمام حمزت - بك. وتشكل هذه المرحلة أولى سنوات سلطة شامل، التي انتهت (حسب رأي ألن) مع انحطاط قوته، وذلك بعد استيلاء الجيوش الروسية على معقله، قرية - أخولغو - .
المرحلة الثانية ( 1840-1849م ): يشير الكاتب هنا إلى عدة قضايا مترابطة: فقدان شامل لشهرته وتأثيره من جهة، وقيام روسيا بزيادة قوتها العسكرية باستخدام أساليب حربية جديدة، تتناسب والظروف الجبلية من جهة أخرى.
إن هذا التقسيم إلى مراحل، وترتيب الأحداث وفقاً لتسلسلها الزمني، والمبررة تماماً - تُوجِّه حس القارئ نحو التطور الشكلي فقط لحركة شامل. أما فيما يخص الوضع الداخلي للقوى الاجتماعية، ذات التأثير الحاسم على جميع انطلاقاته من انهيار وتقلبات، فلم يحظى بالتقدير والاهتمام اللازمين.
ويؤكد ألن على أن حركة شامل لم تكن تحت تأثير أي عامل خارجي، بل أنها كانت ذات جذور داخلية. فهي، أي حركة شامل، على حد قول ألن تم تفسيرها في اسطنبول على نحو خاطئ. فالأتراك عزوا حركة شامل كرد فعل على نشاطاتهم الإعلامية - السياسية (9). ومع ذلك لم يقم ألن بتحديد طبيعة سير العمليات للحركة، مكتفياً بالقول بشكل عام بهذا الخصوص: "اختلطت في الحركة الموريدية العناصر الدينية مع الدوافع الاجتماعية".
إن غياب التحليل الطبقي خلال دراسة كل مراحل صراع الجبليين، انعكس على كثير من استنتاجات المؤلفين.
إن ألن يصنف حركة شامل بشكل خاص "كحرب من أجل الحرب"، وخصوصاً عندما لم يميِّز القوى المحركة المتنوعة في حركة الجبليين في الداغستان، ذات المصالح الطبقية المختلفة. فديمقراطية إمامة شامل نُقلت إلى القارئ بشكل يتجاوز الحد، وبطريقة مفرِطة.
إن ديماغوغية الشعارات المطروحة من أجل تحقيق المساواة، والمعروفة بشكل واسع في الشرائع الدينية (المتطرفة)، لاحت للكاتب مفعَمة بالواقعية، والحقيقة (10). أما في الواقع فإن فكرة المساواة في النظام الإقطاعي، الذي حشد قواه، وغدا في أعلى مراحل فرض نفسه - كانت فكرة لا يمكن تحقيقها في واقع الحال. فالاضطهاد الذي مارسه شامل بحق النبلاء الإقطاعيين العلمانيين، خلال المراحل الأولى لحركته، خلق لدى الجماهير تخيلات وأوهام الإصلاحات الديمقراطية (11). وانتشرت هذه الأوهام بشكل سريع تحت وطأة الظروف، التي استخدم فيها نواب شامل مكانتهم، وقوتهم الكاملة في السلطة، وهم راضين تماماً بتلك الشعارات التي ناسبتهم.
أما كل المشاق والآلام التي جاءت بها الحرب المنهِكة، فقد تحمل وزرها طبقة الفلاحين، والناس البسطاء.
وهكذا فإن تبدل المستغِلِّين بآخرين مثلهم، دون أن يطرأ أي تغيير على الوضع القائم؛ لم يؤد سوى إلى ظهور نزاعات اجتماعية جديدة، بدت قاتلة بالنسبة إلى إمامة شامل(12).
إن تاريخ حروب شامل وطبيعة السياسة الروسية في القوقاز، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، تطرقت إليها أيضاً الكاتبة والمؤرخة الإنجليزية ليسلي بلانتش Blanch L. في كتابها "سيوف الجنة" The Sabers of Paradise(13). تفترض الكاتبة بلانتش، أن سياسة روسيا تجاه القوقاز تتمخض عن محاولاتها في الدفاع عن تلك الفئة من الشعوب القوقازية، التي تعتنق الديانة المسيحية (14). وبهذا الأسلوب الكاذب تتطرق بلانتش إلى حركة شامل، مهملة بذلك الأسباب الحقيقية للحركة.. الأسباب الأكثر عمقاً وتعقيداً.
وعلى عكس ما جاء به كثير من المؤرخين الإنجليز، الذين أعطوا حركة شامل مثالية لا حدود لها، وبالغوا في نطاق تأثيرها على القوقاز، فإن بلانتش تشير إلى عدم استطاعة شامل تحقيق الهدف الرئيس للحركة، وهو- توحيد الجبليين من بحر قزوين وحتى البحر الأسود.
إن شامل وشرائعه التي قام بنشرها (على طريقته)، لم يتم تقبلها واستحسانها في كل مناطق نفوذه دون تذمر. إثر ذلك، اضطر شامل لمواجهة معارضة من قبل تيارات مختلفة من حيث القوة.
وخلال دراسة وجهة نظر بلانتش، نجد هناك تطابق تام بين أسلوب النظام الاستبدادي للقيصر نيكولاي الأول، وما بين الأساليب التي استخدمها شامل لغرس سلطته اللاّمحدودة في المنطقة.
وفطري أيضاً، حُكْم بلانتش على تلك المرحلة، التي تدهورت فيها دولة شامل. فهي في المقام الأول تعتبر أن الأسباب التي أدّت إلى انهيار إمامة شامل، تكمن في القسوة، والتنكيل الداخلي - فالشعب أُنهِك من ظلم واستبداد شامل، الذي أثار الرعب بقسوته، وظلمه، في قلوب الناس الذين لم يستكينوا..
من جهة أخرى، تنظر الكاتبة بلانتش إلى سلوك الأمير الروسي بارياتينسكي، تجاه الجبليين، بطريقة مغايرة تماماً.
والصحيح، ومن أجل إخضاع سريع للداغستان، تطلب الأمر ليس فقط استخدام تكتيك حربي جديد في المنطقة، ولكن أيضاً سياسة من نوع جديد. والأمير بارياتينسكي، فهم هذه الحقيقة، ومارس تجاه الجبليين البسطاء أساليب تختلف بشكل ملموس عن تلك، التي كان يمارسها شامل ونوابه في الأراضي التي كانت تحت سيطرتهم. فالإدارة والجيش بقيادة بارياتينسكي، قاموا بإعادة بناء القرى الجبلية المهدَّمة، وأعادوا ترتيب وتنظيم أمور الماشية بين الطرفين. وكلّفوا شيوخ العشائر والمواطنين أنفسهم، بإدارة الشؤون المحلية المدنية.
وكون القبائل الجبلية لم تؤمن بقضية "الثأر الروسي"، التي كانت تخيفهم. فقد توقعوا راحة أكثر في الهروب من العقاب الدامي لشامل، ومن استبداد نوابه القساة. ونتيجة لذلك، أصبح شامل ونوابه في عُزلة شيئاً فشيئاً، عن أبناء الشعب العامل(15).
إن ثناء ليسلي بلانتش على أعمال بارياتينسكي، لم يكن نتيجة نيّة حسنة من قبلها، بقدر ما كان نتيجة الظروف الموضوعية لدولة شامل.
لقد أدرك بارياتينسكي انهيار إمامة شامل. وبأساليب مدروسة، استطاع تعجيل هذا الانهيار. لذا فأول عمل قام به بارياتينسكي، هو محاولة الوصول إلى اتفاق (طبعاً ليس دون مقابل.. دون إغراءات مادية، أو دون أوسمة ومراتب شهرية)، مع شركائه الطبيعيين - الإقطاعيين الجبليين(16). رغم أن سياسته كما ذكرنا تجاه البسطاء من أبناء المجتمع، الذين كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر، قامت على النقيض من طغيان شامل (أي بغية إظهار الفروق بين الطرفين- إدارة بارياتينسكي، وإدارة شامل).
إن ليسلي بلانتش، تتجاهل كلّية، النواحي الاجتماعية- الاقتصادية لحركة شامل. فمؤلَّفها لا يحتوي على أي وصف أو تقدير للنظام الاجتماعي في الداغستان، ولا تحليل للقوى المحركة للعصيان، ولا لمصالحها الطبقية المختلفة. كما أنها، أي بلانتش، لا تعرض جوهر أيديولوجية الشريعة، ودور الروحانيين المسلمين، الذي يشكل المضمون الاجتماعي لتلك القوى.
ومن بين الدراسات حول موضوع حركة شامل، تبرز رسالة دكتوراه، للمؤرخ الأمريكي قندور م. M. Quandour ، بعنوان "الموريدية - دراسة عن الحروب القوقازية، من أجل الاستقلال" (محي الدين قندور):
(1819-1859م)" Muridism: A Study of Caucasian Wars of Independence (17). إن ما يميّز هذه الدراسة، هي القاعدة المتينة والواسعة، التي بنيت على مراجعها. فقد استخدمت فيها بشكل كبير وثائق ومؤلفات الروس، والأتراك، والعرب، والمؤلفات القوقازية، وغيرها من مؤلفات أوروبا الغربية. ويبدو أن المؤلف م. قندور، كان على اطلاع جيد بالمؤلفات التاريخية السوفييتية، والتي برأيه أساءت تقدير الناحية السياسية لأيديولوجية الموريدية (والسياسة المقصودة هنا، هي المعادية للروس- حسب قندور)(18). لذا، وضع قندور أمام نفسه دراسة المسألة التالية: إعطاء اعتبار، أو تقدير جديد، لمذهب الموريدية كشكل مخصوص، لظهور القومية الشرقية، القائمة على وفائها اللامتناهي للدين.
إن مثل هذا التطرق لناحية منفردة للموضوع، لا يفي البتّة حقه، ولا يوصِل إلى جوهر المشكلة المعقدة. فالمؤرخ، يرتكب خطأً عندما يجيز لنفسه بأن يطابق مفاهيم لا يمكنها أن تتطابق، كمفهوم "الحركة الموريدية"، ومفهوم "أيديولوجية الموريدية". إن الشيء الجديد من وجهة نظر قندور، الذي تعهد الوصول إليه في دراسته، يعود في الواقع، إلى المفهوم المبسّط، الذي لا يتعدى نطاق التوجه المنهجي التاريخي البرجوازي.
إن سبب نجاح حركة شامل المسلحة، برأي قندور - هو سياسة العسكريين الروس التي انتهجوها في القوقاز، وخصوصاً سياسة القائد يرمولوف، الذي أثار واستفزّ الجبليين فوق استيائهم العام (19). ومن جهة أخرى، فالشيء الذي كان باستطاعته خلق مثل هذه الحركة الجماهيرية قبل كل شيء، هو- توتر التناقضات الاجتماعية وتعقدها في عهد نهضة الإقطاع.
إن الباحث الأمريكي قندور، لم يأخذ بعين الاعتبار- بأن حركة شامل المسلحة لم تكن عبارة عن حركة اجتماعية بمجرى واحد (20). فهو لا يرى طبيعتها الطبقية. فقندور، يعتبر السبب الرئيس لهزيمة شامل في قوة ثبات النظام العشائري للجبليين (العادات)، التي لم تستطع الشرائع الدينية الجديدة أن تحل محلها، رغم كل المحاولات الذي بذلها نظام شامل لغرسها كاملة. إضافة إلى أن طرحه لمسألة المعارضة المتنامية ضد استبداد شامل، غير مقنع. هذه المعارضة، التي يرى فيها المؤلف، فقط رد فعل عامة الناس ضد تعسف شامل، وأوامره الدكتاتورية، للخضوع المطلق لإرادته(21).
في الواقع، أنه حالما أدرك الفلاحون بأن مستغِلِّين جدد أتَوا وحلوا مكان المستَغِلِّين القدامى، تحول تذمّرهم المقموع، إلى سخط علني. وهذا السخط لم يكن موجها ضد شامل شخصيا فحسب (كما يصوره لنا المؤلف)، ولكن أيضاً ضد التغييرات الجديدة التي قام بإحداثها. نذكر بأن الفئة التي أحاطت بشامل، كانت تلك الفئة الأرستقراطية الجديدة المنبوذة من المجتمع، التي استولت عنوة على امتيازات إقطاعية، وعلى ملكيات خاصة، من أصحابها الأصليين(22). نشأت المعارضة بالذات ضد هذه الفئة من النبلاء الجدد، وعلى أساس طبقي.
وعند تطرقه إلى سلطة رجال الكهنوت (رجال الدين) - Hierarchy ، والنظام الإداري لإمامة شامل(23)، يتجنب قندور تماماً، مسألة التناقضات الداخلية لدولة شامل التيوقراطية - العسكرية. وليس من الصعب ملاحظة أن فكرة المؤلف تنسلُّ منزلقة مع سطحية الظواهر، دون أن تتعمق في جوهرها. إنما هي مرة واحدة فقط، التي أشار إليها المؤرخ الأمريكي، بعبارة عَرَضية، هي- أن الحركة حصلت كحركة معارِضة للإقطاعية، وفيما بعد اتخذت شكل حركة تحرير- وطنية(24). وهذا الكلام لا يتطابق ولا بأي شكل من الأشكال، مع سير الأفكار العامة لِقندور. وبالكاد يأتي التأريخ الإنجليزي - الأمريكي الحديث بشيء جديد إلى المفاهيم التي تم عرضها. إلا أنه وبإصرار، يتم من جديد، تكرار الأفكار والمواضيع الرئيسة القديمة، التي تردد باستمرار بأن التواجد الروسي في القوقاز، وبالذات في فترة القائد العسكري الروسي يرمولوف - كان السبب الرئيس لقيام حركة شامل (25).
تدل الأبحاث التي أوردناها، على الاهتمام الذي تبديه العلوم التاريخية الإنجليزية - الأمريكية البرجوازية في الموضوع مجال الحديث. فقد قام العلماء في الغرب بالاطلاع على مختلف المصادر والمراجع الموجودة، وغير المعروفة كثيراً، كالمصادر التركية والقوقازية والعربية والإنجليزية. وهم على معرفة جيدة بالأعمال المنشورة عن السياسة الاستعمارية القيصرية، إضافة إلى دراسات ما قبل الثورة الاشتراكية، ودراسات المرحلة السوفييتية. وكل هذا مكنهم من إلقاء الضوء على الناحية العملية في حركة الجبليين، وإضافة معلومات ملموسة في بعض الأحيان لسير الأحداث في تلك الفترة الزمنية. ولا ندعي بأن المؤرخين الإنجليز والأمريكان لا يتقبلون بعض الحقائق الفعلية للأحداث الاجتماعية - السياسية المعقدة. فهم ينقلون إلينا قضايا صحيحة، وأفكار أصلية مختارة، ولكن على نطاق محدود.
ومن جهة أخرى فَهُم، أي الإنجليز والأمريكان، عندما يدور الحديث عن أحداث ملموسة يكون تقييمهم للأمور سطحي. والعلماء البرجوازيون يرفضون بحث العوامل الجوهرية المحدِّدة لحركة شامل، وخصوصا عند الحديث عن العلاقات الاجتماعية - الطبقية. فهم عندما يعتبرون المجتمع الداغستاني ومعتقداته ديمقراطية، لا يرون، أو على الأغلب لا يريدون رؤية الصراع الطبقي المرافق لعملية نشر الإقطاعية. وعبارة "ضد الاستعمار" (والتي غالباً ما يفهم بها "ضد الروس")، هي بتصورهم القطعي- مضمون حركة الجبليين(26).
لقد بات واضحاً أن الشعور المعادي للأساليب الإقطاعية، لعب دوراً فاصلاً في حركة شامل.
إن محاولات المؤلفين المذكورين أعلاه، الذين يريدون فيها تحديد هدف حركة شامل، على أنه: طرد الروس، وبأن هذا الهدف، هو الهدف الوحيد واللازم، ولا يمكن أن يكون سواه هدف آخر (طوال فترة الثلث الثاني من القرن التاسع عشر).. ما هي إلا محاولات تبدو مبسطة للغاية. فلا يوجد هنا أي اعتبار للتركيب الاجتماعي ولا لتطور الحركة، ولا لتضاد المصالح بين الأثرياء وما بين الفقراء من الشعب، ولا أيضاً لطبيعتها الإقطاعية - التيوقراطية.
وفيما يتعلق بأيديولوجية الموريدية، فينظر أولئك المؤرخون إليها من مفهوم واحد فقط، وهو - محاربة كل شيء روسي. فهم يتغاضون عن شيء آخر، وهو الشيء الأهم - وظيفة هذا التيار المتطرف، كأداة لسيطرة طبقة من المجتمع على غيرها، وبنفس الوقت، كوسيلة لقمع التناقضات الاجتماعية.
لقد قامت الموريدية وعن طريق التبشير على أسس قومية متعصبة، بغرس العداوة والحقد بين الشعوب، وصعقت وعي عامة الناس، و بدّدت العالم الروحي- الأخلاقي للإنسان، متدخلة في حياتهم باستخدام القوة، ومحرمة عليهم التفكير بغير ما تعتقد به الموريدية. ومما زاد من قسوتها، أنها تسترت خلف وعودها الباطلة، التي تدعي إرساء قواعد المساواة بين الناس، وسعادتهم. ومن الجدير بالذكر، أن التأريخ السوفييتي، ومنذ زمن بعيد، قام بتحديد المشاكل ووضع حلول للمشاكل الرئيسة لحد ما، فيما يخص حركة الجبليين التي لها علاقة بأسباب المشاكل، وطبيعتها، والقوى المحركة لها الخ.. أما العلوم التاريخية الغربية، فتحيد عن هذا الموضوع بالسكوت عنه. علما بأن هنا، بالذات، تكمن الإمكانات الهائلة لدراسة هذا الموضوع المهم مستقبلاً.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* ترجمة/ د. أمين شمس الدين داسي
* * *
المراجع
المرجع الرئيس
كينيابينا ن. س. (موسكو)، دانيالوف م. (مخاتش- قلعة)، ديغوييف ف. ف. (أوردجينيكيدزه)، حركة الجبليين القوقاز بقيادة شامل حسب رأي المؤرخين الإنجليز والأمريكان/ عن كتاب: "دور أكتوبر العظيم وروسيا في مصائر شعوب شمال القوقاز التاريخية " للمؤلفين: (ناروتشنيتسكي أ.ل.، بايبولاتوف ن.ك.، بلييف م. م. وآخرون)، دار الشيشان-إنجوش للطباعة والنشر، غروزني، 1982م، ص 311- 319 (مجموعة دراسات قدمت إلى المؤتمر العلمي لعموم روسيا، الذي عقد في غروزني في 2-3 تشرين أول عام 1979م). الكتاب مقرر من:
وزارة التعليم العالي والمتوسط المتخصص لروسيا الفيدرالية السوفييتية الاشتراكية
معهد التاريخ لجمهوريات الاتحاد السوفييتي وأكاديمية العلوم السوفييتية
مركز المعهد العالي لشمال القوقاز
جامعة الشيشان-إنجوش الحكومية المسماة باسم تولستوي ل. ن.
معهد الشيشان-إنجوش للتاريخ وعلم الاجتماع والآداب
المراجع الفرعية
وهي كما وردت في النص حسب الأرقام (عن كينيابينا وآخرين) :
(1) جون ف. بادلي، احتلال الروس للقوقاز، ل.- ن ي.، 1908م، ص 138 .
Baddeley J.F., The Russian Conquest of the Caucasus, L. - NY. 1908, p.138
(2) أنظر Ibid., P., 147
(3) أنظر Ibid., P., 237
(4) أنظر Ibid., P., 447
(5) إبراهيمبيلي خ. م. ، القوقاز في حرب القرم (1853-1856م) والعلاقات الدولية، موسكو، 1971م، ص 370 .
(6) Duncan Ch. A Campaign with the Turks in Asia, L., 1855, v. 1, pp. 216-217.,
(7)Ed. By J. Buchan, L, The Baltic and Caucasian States, the nations of today, A New History of the World
1923
(8) أنظر Ibid., p., 20
(9) Allen W. E. D., Muratoff P., Caucasian Battlefields, A History of Wars on the Turko-Caucasian Border (1828-1921), Cambridge, 1953, P., 49
(10) أنظر Ibid., P., 48
(11) خاشاييف خ. م.، القوى المحركة للموريدية في الداغستان، مجموعة مقالات عن حركة الجبليين بقيادة شامل. دراسات مقدمة إلى أكاديمية العلوم السوفييتية/ فرع الداغستان (من 4-7 تشرين أول 1956م)، مخاتش-قلعة، 1957م، ص 90.
(12) دانيالوف ج. أ.، نحو مسألة القاعدة الاجتماعية وطبيعة حركة الجبليين بقيادة شامل، مجموعة مقالات عن حركة الجبليين بقيادة شامل، 1957م، ص 57.
(13) ليسلي بلانتش ل.، سيوف الجنة، Blanch L., The Sabers of Paradise, NY., 1960
(14) أنظر Ibid., P., 31
(15) سميرنوف ن. أ.، الموريدية في القوقاز، موسكو، 1963م، ج 1 .
* خشاييف خ. م.، المجتمع الداغستاني في القرن التاسع عشر، موسكو، 1961م، ج 2 .
(16) أنظر Ibdem., وأيضاً:
* باكروفسكي م. ن.، الدبلوماسية والحرب في روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر، موسكو، 1923م، ص 228.
* سميرنوف ن. أ.، ص 230 .
(17) باكروفسكي ن. إ.، الموريدية في السُّلطة / كتاب: المؤرخ-الماركسي، 1934م، ج 2، ص 74-75 .
(18) قندور م. (محي الدين قندور)، الموريدية Quandour M., Muridism: A Study of Caucasian Wars of Independence (1819-1859), (Dissertation) Claremont, 1964
(19) أنظر Ibid., P., 7
(20) قندور م.، Quandour M., Op., P. 72-94
(21) خشاييف ج. م.، المرجع السابق، ص 64.
(22) قندور م.، المرجع السابق، ص 143.
(23) سميرنوف ن. أ.، المرجع السابق، ص 106.
(24) قندور م.، المرجع السابق، ص 224-230.
(25) أنظر Ibid., P. 239
(26) أنظر:
* Russian Imperialism from Ivan the Great to the Revolution, Ed. By Taras Hunczak, New Brunswick, 1974, pp. 69-70, 78-81, 239-263,
* Rhinelander Z. H., Russia s Imperial Policy, Canadian Slavonic Papers, 1975, v. Х-;-VII, N 2-3, p. 227-;- An Introduction to Russian History, Ed. By R Auty and D. Obolensky, L., NY, 1976, pp. 18, 135-136, 181-182
--------------------------------------------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟


.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على




.. شهداء جراء قصف إسرائيلي استهدف منزل عائلة الجزار في مدينة غز


.. قوات الاحتلال تقتحم طولكرم ومخيم نور شمس بالضفة الغربية




.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية