الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن رشد العقل المنفعل 2 من 4

احسان طالب

2014 / 2 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التمهيد الفلسفي والتاريخي لابن رشد:
مثل هذه المحاولات، النخبوية واللوذ بالحكام والتورية المزدوجة الوجه، أي تغطية الميل العقلي الخالص باسناد نصي مجتزء، أو إلقاء ما في الجعبة من معرفة في أحضان النقل كما يفعل حديثون ومعاصرون من الباحثين، ستنقض ما قاموا- أي الفلاسفة - به وما أسسوا عليه، ويمكننا إدراك واحد من الأسباب لاستمرار الجفوة بين الدين والعقل، بين الفلسفة والإيمان إلى تلك الرؤية التاريخية التي تسير طبق منحيين إثنين الأول ليُ الفهم الفلسفي على طريقة الغزالي وجعله علماً كلامياً أصولياً، أو تكفير الفلاسفة وإخراجهم من الدين والملة وتفسيقهم على الأقل ، وإذا كان الحل الأخير هو أخطر الحلول وأسوءها؛ فإن الحل الأول يلزم تواليا للحد من انجازات العقول واندثار لجهود المصلحين. إن الفزع على الدين والارتياب الدائم من الحقيقة كانت وما زالت أحد أهم العناصر المعيقة للإصلاح، تضمر خشية قوية من اندثار المكانة الرفيعة للدين في المجتمع، نتيجة لعدم قبول العامة لحقائق ظاهرها متعارض مع كليات الإيمان، لكن الثقة بعلم الحقائق وضرورته للفرد والجماعة سيعطي مكانة طبيعية لعلاقة العقل بالمعتقدات وتأويلها. لا يخقى ما للتربية والتعليم من أثر في صنع الرأي العام كما لا يخفى أثر الإعلام الرسمي – دينيا كان أم سياسيا- على تكوين الخلفية الثقافية للناس خاصة في مجتمعات اعتادت السير خلف الرمز والاقتداء بالأوائل، و كما استساغت وركنت إلى التقليد الغائر في قاع مستقر من أعماق الوعي الجمعي الإسلامي. تنمية الدافعية الذاتية للبحث والتنقيب عن المعرفة بمعزل عن الوصاية التقليدية عامل ذو قدرة فاعلة في تهيئة الأرضية الاجتماعية لتقبل الحقيقة وعدم الارتياب منها، وإذا كانت المعرفة والحكمة آتت أوكلها في غير ما مجتمع فإنها قادرة على تكرر الفعل في بلداننا وبين مجتمعاتنا.
يقول الكندي في رسالته الموجهة إلى المعتصم بالله موضحا حقيقة الفلسفة ووجوب الأخذ بها شارحا علاقة العقل بالإيمان : ( فمنهجنا لا يتعارض مع الإيمان لقد حث القرآن المسلمين على أن ينظروا في ملكوت السموات والأرض وأن يتفكروا وأن يتدبروا، ومن ناحية أخرى ذم القرآن الذين لا يفكرون أو لا يعقلون والأنبياء للمسلمين أسوة وقد جاء إيمان أبي الأنبياء ابراهيم بعد نظر عقلي حين رفض أن يعبد ما يأفل، فجاء ايمانه بالذي فطر السموات والأرض ايماناً عن يقين ثم تدرج من الإيمان إلى الإطمئنان حين سأل ربه أن يريبه كيف يحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) ( 8 ) لقد كانت الفلسفة في ذلك الوقت – النصف الأول من القرن الثالث الهجري - مادة علمية ومعرفية مجهولة لدى المسلمين، والمرء بطبعه عدو ما يجهل، فكان سعي أول الفلاسفة العرب الكندي مركزا على اقناع ولي الأمر بالدرجة الأولى بضرورة الالتفات إليها وإدراجها في لائحة العلوم المفترض نشرها وتعلمها.
اتصف القرن الثالث الهجري الذي عاش الكندي في نصفه الأول، بالتناقض الهائل اجتماعيا وعلميا، وبرز تفاوت حاد بين الطبقة الخاصة – الحكام والولاة – ومن دونهم، دونية مادية وليست شرفية من طبقات االنبلاء – بني هاشم ، وأخرهم طبقة العامة، ومن مؤشرات الثراء الفاحش للحكام ما اشتهر من مصادرة الخلفاء لأموال وزرائهم وأمرائهم حيث غدت تلك المصادرات أحد موارد الدولة الريئسة، ( ومن أهم المصادرات التي تمت في هذا القرن ماذكره ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان، من أن الخليفة المعتصم بالله لما غضب على وزيره الفضل بن مروان صادر أمواله وأثاث بيوته بما بلغت ألفي ألف دينار) ولعل في أعداد الجواري - وهن نساء مملوكات تباع وتشترى في الأسواق بكثرة في ذلك الوقت - تأكد مدى الثراء الفاحش لأعيان الدولة ذلك أنه ( كان لبعض خلفاء بني العباس الألف جارية وما جاوزها وقد اشتهر المتوكل على الله بكثرة الجواري ، يقال أنه كان له أربعة آلاف سرية) ( 9 ) ويظهر التناقض الاجتماعي بصورة شديدة الوضوح من شكوى قدمها بنو هاشم لأمير بغداد محمد بن عبد الله، وطلبوا اسماع صوتهم للخليفة المستعين بالله، وتناولوا من شد سوء أوضاعهم الأمير بالشتم والقبح وقالوا : (قد منعنا أرزاقنا وتدفع أموال إلى غيرنا ممن لا يستحقها ونحن نموت هزلا وجوعا) مصدر سابق صفخة 45.
من ابرز معالم التناقض العلمي في ذلك العصر جمعه بين أشهر الفلاسفة العرب الكندي والفارابي وبين احمد بن حنبل أحمد بن حنبل (164 هـ/780 م ـ 241 هـ/855 م) زعيم ومؤسس المدرسة السلفية المحافظة ومؤلف كتاب الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويل، في الرد على المعتزلة أهل الرأي والعقل، ولكن من أهم مظاهر النهضة العلمية آنذاك انتشار الترجمة وازدهارها. تولى المأمون بن هارون الرشيد الخلافة في السنتين الباقيتيتن من القرن الثاني وفي عهده بدأ عهد جديد من الترجمة ( وفيه تمت ترجمة أغلب كتب ابقراط وجالينوس وأرسطو وبطليموس وأفلاطون وصنفت كثير من الشروح والتفسيرات لتلك الكتب وتميز هذا العهد بدقة الترجمة... وكان الخليفة المأمون واسع الثقافة بارعا في الفقه كلفاً بالفلسفة وعلوم النجوم يأنس بمجالسة العلماء والمتكلمين ) مصدر سابق صفحة 292
ولكن هل استطاعت الفلسفة الإسلامية ترسيخ أقدامها وتحقيق وجودها الفعال بين بقية العلوم،وانتشر الاشتغال بها وتعددت الأسماء الامعة في فضائها ام أنها ظلت هامشية محدودة التاثير منزوية في زوايا النخبة وتضاعيف الكتب والتأليفات المتعلقة بها، ومورس ضدها وضد أهلها الاقصاء والاجتناب بل وصارت محاربة من الفقهاء وعلماء الكلام وأهل الحديث؟ الواقع أن تراجع دور الفلاسفة لا تصعب متابعته وانتهاء ظهور الفلاسفة الكبار بعد ابن رشد يثير تساؤلات عديدة؛ هذا بالنظر إلى أن ابن خلدون شرح فلسفة ابن رشد والتزم بالمنهج العقلي في مقدمته خصوصا إلا أن أهل الاختصاص لا يزعمون بأن إبن خلدون كان فيلسوفا - جورج لا بيكا على سبيل المثال –
ابن رشد أخر الفلاسفة الكبار :
ربما كان ابن رشد ومن بعده ابن خلدون أهم شخصيتين كان لها تأثيرهما البالغ في إحياء الحضارة الأوربية، وتحقيق الإيمان بالعقل في الديانة المسيحية، لكن المؤسف أنهما لم يحققا ذلك الأثر في بلاد المسلمين، بل لا نعدو الصواب بظننا توجه العقل الإسلامي في مسارات مغايرة تماما للنسق الرشيديي والخلدوني، وانحيازه التام للعقلية الغزالية التي كفرت الفلاسفة وفسقت علومهم. أكمل ابن رشد موضوع الموافقة بين الحكمة والشرع – الفلسفة والدين - الذي بدأه الكندي ومن بعده الفارابي، ووضع الحجج العقلية والتفاسير النقلية وقال بالقياس العقلي لبعض الآيات كقواعد لا ستخدام التأويل، وجواز الخروج عن المشهور من أقوال السابقين في ميدان العقائد خاصة، وركز كما هو الحال عند حكماء الإشراق على وجود ظاهر وباطن للنص وشرح الفيض بما لا يتعارض مع الاقرار بوجود الله والنبوات والسعادة والشقاء الأخروي، ويمتاز أخر الفلاسفة الكبار عن سابقية بتبحره في العلوم الشرعية، فهو صاحب منصب القضاء لسنين طويلة، وفقيه مالكي محيط بعلوم المتكلمين، لذلك نجده حقق معادلة التفقه والاجتهاد ونال مرتبة الفيلسوف الأهم في تاريخ الحضارة الإسلامية، بشهادة معاصرية ومن بعدهم. واستطاع بتلك الملكات من نيل مكانة رفيعة ومنزلة عالية لدى الخلفاء في الأندلس و( في عام 564هـ - 1169 م – عينه الخليفة قاضيا في اشبيلية، فلخص ابن رشد في هذه السنة كتاب الحيوان لأرسطو وفي عام 566 هـ 1171 م – عينه أبو يعقوب قاضيا في قرطبة وبقي في هذا المنصب مدة تزيد على العشر سنوات شرح فيها كتاب " ما بعد الطبيعة لآرسطو وعدة كتب أخرى، وفي عام 577هـ 1182 م استدعاه الخليفة إلى مراكش وجعله طبيبه الخاص ثم عاد إلى قرطبة بوظيفة قاضي القضاة )( 10 ) وكانت تلك سابقة لم ينلها أي من الفلاسفة أو المتصوفة الإشراقيين في التاريخ الإسلامي ولم يستمر ذلك الوئام والاحترام والتقدير المتبادل بين الفيلسوف وولاة الأمر، حيث آل الحال كما هو جار مع العديد من السابقين إلى تبدل الأحوال وتغيير المقامات، وانكر فقهاء ومتكلمون ما حظي به ابن رشد من منزلة، وخشي السلفيون أصحاب مدرسة النقل من متكلمين وأصوليين من انتشار الفلسفة واتساع دائرة تداول علوم الحكمة، وفي ذلك عودة لعوارض الداء المتجدد الظهور في كل زمان، ومكان ونقصد به خشية مزدوجة متكونة من شقين، الشق الأول خشية علماء الدين من تفسخ البنية الكلية للدين تحت وطأة الحقيقة والحكمة التي يدعيها الفلاسفة، والشق الثاني خشية أصحاب المكانة والمناصب السياسية والرسمية على زوال مكانتهم أو تأثرها تحت سطوة المصليحن والمجددين و لعل سيرة الحلاج في العراق لا تختلف كثيرا في تفاصيلها عن السيرة الرشيدية في المغرب والأندلس إلا في تفاصيل المكان والزمان وشخصية المصلح، وان كانت نتيجة محاكمة الحلاج كانت مأساوية ومخجلة بحق التاريخ والإنسان فان النهاية الرشيدية مختلفة بعض الشيء كما سنرى، لكن السرد الذي رسم الجدل بين الشريعة متمثلة بعلماء الكلام والفقهاء من جهة وبين علماء الحكمة – الفلاسفة – استمر على حاله منذ حادثة الخلاف على حقيقة القرآن كلام الله هل هو مخلوق أم صفة من صفات الله شبيه له في ذاته وصفاته غير مخلوق، ولقد كان على الدوام انتصار للأصولية ورموزها الذاتية والموضوعية على الاصلاحية برجالها ومقالاتهم ( بعد وفاة أبي يعقوب خلفه ابنه أبو يوسف الملقب بالمنصور 579 هـ 1184م فلقي ابن رشد بادئ الأمر ما لقي على يد والده من حظوة وإكرام وأصبح في ذلك الزمان " سلطان العقول والأفكار ولا رأي إلا رأيه ولا قول إلا قوله " الأمر الذي أثار حسد الفقهاء والمتزمتين وحقدهم، الذين رموه بالكفر والزندقة، فتمكنوا من قلب الخليفة عليه فنقم على ابن رشد، واستجوبه فقهاء قرطبة وقضاتها وقرروا أن تعاليمه كفر محض ولعنوا من يقرأها، وقضوا على صاحبها بالنفي، فنفي إلى قرية تدعى اليسانة على مسافة نحو خمسين كيلو متراً إلى الجنوب الشرقي من قرطبة، وأمر الخليفة بحرق كتب ابن رشد وكتب الفلسفة وحظر الاشتغال بالفلسفة والعلوم جملة ما عدا الطب وعلم النجوم والحساب وكانت المنافسة قوية بين الفلاسفة وعلماء الدين ولا سيما في الأندلس وكان يُظهر علماء الدين للشعب الفلاسفةً كفار وزنادقة، ولما كان الخليفة المنصور في حرب من الفونس التاسع ملك قشتالة كان بحاجة إلى رضى الشعب ومؤازرته لذلك اتخذ الموقف العدائي من ابن رشد) ( 11) تستدعينا الذكرة أمام هذه الأحداث ما حصل لحكيم الإشراق السهروردي الذي أعدم بأمر من حاكم حلب الملك العادل ابن صلاح الدين الأيوبي بموافقة ذلك الأخير، بعد محاكمة أعدها ونفذها فقهاء حلب وعلماؤها، وقتل بنتيجتها شهاب الدين، لم يصل الأمر بأبي الوليد - ابن رشد - إلى القتل فنفي ثم عاد الخليفة وعفى عنه وأعاده إلى مكانه وتوفي بعد عدة شهور من العفو 595 هـ 1198 م في مراكش، لكن الذي ذهب ولم يعد الكتب التي أحرقت والعلوم التي حظرت، وازدهرت مكانها العلوم التقليدية الشرعية وكتابة التاريخ بتذويق وتهذيب من الرواة حسب ما تتطلبه أهواء الولاة وسلطة الفقهاء. جدير بنا هنا التوقف عند المرسوم العالي الذي اتخذه الخليفة باحراق كتب أبي الوليد وكتب الفلسفة ومنع الإشتغال إلا بعلوم محددة، وجد حراس الدين والمهيمنون عليه ضرورة لتعلمها.
الإحراق يعني الخشية والخوف من انتشار الوباء والداء، كما يعني خشية من استمرار التأثير في حالة المنع والحجب فقط، فما لم يحرق قد يرجع إليه ولو بعد حين أما ما نقل إلى العدم فكيف يعود بعد موت صاحبه. يفسر ذلك الفعل مدى الرعب من الحكمة والحقيقة، كما يعكس قوة الفكر الإصلاحي وفاعليته، فالحجة العقلية وحتى النقلية مع ابن رشد لم تكن كافية لشرح زعمهم بكفره وزندقته والعجز عن الجدال العقلي والنقاش المنطقي كان مطية لتخاذ قرار الإحراق والمنع والحظر ودعت الضرورة للإستعانة بالسلطة السياسية باشعارها بالخطر الداهم على السلطان والأيديولوجيا المؤسسه لحكمه، إليس هذا هو حال الكلمة الحرة والفكرة المدوية التجديدية والإصلاحية عبر السردية التاريخية الدينية كمظهر من ظواهر الجدل بين الشريعة والحكمة والسياسة ، لقد كانت القوة بعنصريها السلطوي والغوغائي بصورة مستمرة تصتدم مع الدعوة إلى التغيير والإصلاح، وأشد ما يقع في النفس من أثر هو التناول على الدوام للقوة في مواجهة الأفكار، والحرق والحجب والمنع والحظر في مواجهة الكتاب ورواده الاصلاحيين، إنها سمة تاريخية نخشى القوة بانها صيرورة لسردية العلاقة بين الاصلاح الفكري وبين السلطات بأنواعها. إنها حالة تاريخية من التصادم والتزاحم بين الفكرة والقوة، وإذا كان مدلول كلمة الصدم في العربية ضرب الشيء الصلب بمثله فإن صلابة الأفكار وقوة فاعليتها تجعل منها قوة مادية ووجود لا نهائيا، فالإنسان جسد وعقل وروح وهو بغير هذه العناصر ناقص معلول وكماله بعناصره الثلاثة سر الوجود، لذا لن تتمكن قوة مادية من قتل الفكرة ولن تقدر سلطة زمانية أو رسمية من الإفناء النهائي للقوة المادية للفكرة فطالما وجد الإنسان سيظل يفكر ويعقل وينتج علما وحكمة.
اشتهر أبو الوليد – ابن رشد – بترجمته وشرحة لكتب أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان ولقد كان معلما في ميدان عمله وسيدا في رسمه لملامح نظرية فلسفية تماري منْ سلفه من فلاسفة المسلمين، وإذا كان قد تابع في مسيرة تحقيق المصالحة مع العقل وتحقيق التوافق بين علم الحكمة والشريعة كما فعل من قبله إلا أنه بنى جملة متكاملة من الفنون الفلسفية التي ساهمت في تطور الديانه المسيحية والنظرة العقلية للدين في الغرب، لكنها وللأسف لم تكن بتلك الفاعلية وبذلك التأثير في أرض صاحبها وابناء جلدته مسلمين وعرب. حاول أبو الوليد حل الإشكال بين الإسلام والعقل وبين الدين والفلسفة، وأراد القول في كتابه فصل المقال ما بين الشريعة والحكمة من اتصال أن التوفيق والالتقاء ممكن بن الإسلام والفلسفة، ولا يصح اعتبار هذا الادعاء غير منطقي كونه ورد من فقيه وقاضي وفيلسوف، أي ممن على علم ودراية بالأمر دون ادنى شك، لكن السؤال الذي يطرح نفسه إلى أي مدى استطاع ابن رشد اقناع حراس القلعة الأصولية القديمة بقبول الفلسفة، وإلى إي مستوى ،وصلت تلك الإرادة الصادقة في التوفيق والجمع، من مستويات الوعي الجمعي لعموم المسلمين تاريخيا؟ نستطيع بدون حرج التأكيد على استمرار الجفوة بين الثقافة الجمعية للمجتمعات الإسلامية وبين الفلسفة على الرغم من انتشار الجامعات والعلوم الإنسانية، إلا أن الصحوة الدينية الحارة والفتية التي تحياها الشعوب الإسلامية في كل مكان جعلت من تقبل الفكر الإصلاحي فلسفيا كان أم إشراقيا أو تجديدياً أمرا محل أخذ ورد، لكن النجاحات التاريخية المؤقتتة لعلوم الحكمة والانتصار للعقل عبر السيرورة الإسلامية تنبئ بأمل حقيقي في الوصول تدريجيا وتراكميا إلى إتمام المصالحة وتحقيق التوافق، فالأصولية في السرد التاريخي الإسلامي كانت تحارب الحكمة والتعقل بالقوة، وبسلطة والقمع الحظر والحجب والإحراق والقتل ما منع من تكرار ظهور إصلاحيين على مر العصور، ومع اقرارانا بتأخر ظهور اصلاحيين أعلام كبار بعد ابن رشد كفيلسوف وابن خلدون عالم الاجتماع فان أحداث التاريخ لا تعدم وجود أسماء تابعت المسيرة وحملت ذات الأفكار والمنطلقات فعبد الحميد بن باديس ومن بعده مالك بن نبي استمرا في رفع الراية، لكن الآثار لم تكن بتلك القوة والتأسيس العلمي بما يتلائم ومستجدات العصر لم يكن بذات الثقل. مرادنا هنا القول بأن المشكلة هي في ذات المصلحين بقدر أكبر مما هي في ذات الدين.
لقد حاولنا مرارا عبر سردنا في هذا لكتاب الوصول إلى حقيقة أن الفكر أياً كانت صفته ونعته هو فكر إنساني بما في ذلك الفكر الديني الأصولي، وعندما لا يتمكن فكر آخر من مجابهته والوقوف في وجه التزمت والتشدد والتعصب؛ فالمشكلة قد تكون في قصور حملة الفكر الإصلاحي، ممن يظنون المسألة تنتهي بتقرير الجفوة البنيوية بن النص والعقل، هذا التقرير قد يبدومحقا في ظاهر الأمر، وفي التجربة الثقافية المنتجة عبر مراحل تطور الفكر الديني الإسلامي في جانبه الفقهي والأصولي وإلى حد كبير التاريخي، لكن طالما أن الأخذ بأسباب النهضة غير متكامل وأحيانا غير متوفر فسيتكرر ما حدث في الماضي.
( أخذ ابن رشد على عاتقه بشكل خاص أن يعّرف بحقيقة مذهب أرسطو إزاء تدليس شراحه عليه. ونقطتان ينبغي التنويه بهما هنا: 1 – نظريته في توليد الصور الجوهرية 2 – نظريته في العقل بالملكة. أولى النظريتين موجهة ضد ابن سينا .. والثانية موجهة ضد تأويل الإسكندر الأفروديسي. في النظرية الأولى يرى ابن سينا في التوالد الذاتي تظهر الصورة الجوهرية في الطبيعة وكأنها شيء جديد مطلق الجدة لم يكن محتوى في المادة من قبل .. ويأخذ ابن رشد على هذا التصور أنه يجعل على هذا النحو موجودين إثنين متضامنين متولدين عن عاملين متمايزين ومن رأيه أن صورةً جوهريةً جديدة تطبع في مادة ما بفعل صورة أخرى موجودة من قبل في مادة ما ( ذلك هو الكون المسمى بالمشارك: الإنسان يلد الإنسان ) بدون ان تكون هناك حاجة إلى التعلل بواهب صور خارج المادة )( 12 ) بعد استيعابه التام لأرسطو بدأ ابن رشد في شروحه على متون ارسطو(384 ق م - 322 ق م) للتعريف بحققية مذهبة على اعتبارأنه الأقرب إلية من باقي الشراح رغم المسافة الزمنية بينهما والتي تبلغ ما يقرب من خمسة عشر قرناً، وهذه نقطة اقر بها الأوربيون في القرن الثالث عشر حيث اعتنوا بنقل ترجمات وشروح ابن رشد. لعلها المرة الأولى في تاريخ العلاقة بين الغرب والشرق الإسلامي يتجه سهم الترجمة من الغرب إلى الشرق وتلك مسألة حيوية في الافصاح عن مدى النقل والتبادل الحضاري. فحركة الترجمة التي نشطت في القرن الثالث الهجري زمن الفارابي وابن سينا من عهد الخلافة العباسية كانت معاكسة إي بدأ العلماء المسلمون بترجمة علوم الشرقيين والاتينيين إلى العربية، وازدهرت تلك الفترة وكان تعد الكتب المترجمة كنوزا تقدر بالذهب، لم يدم ذلك التلاقح الحضاري طويلا حيث هدأت وتيرته بفعل مناهضة العلوم الحديثة الوافدة على الثقافة الإسلامية الفتية من قبل المتمسكين بنسق السلف دون تغيير أو تجديد، إلا أن تلك الفورة العلمية آتات أوكلها وانتقل علم اليونان إلى داخل المنظومة العلمية للمسلمين وانتجت كتبا وشروحا ونظريات مبنية وقائمة على علوم من سبق من الفلاسفة والحكماء اليونان. لفظ الحكمة في الثقافة الإسلامية أوسع من الفلسفة فهي أحد علامات النبوة ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ ) سورة البقرة الآية 269 فالحكماء يشملون الفلاسفة وغيرهم من أصناف العلماء. هذا التصور للحكمة فتح الباب نحو الاستفادة القصوى من علوم من سبق من غير المسلمين، وغدى علماء وحكماء المسلمين قبلة لمن سواهم من الغربيين الذي استفادوا أيما فائدة من التلاقح والتبادل الحضاري في الذي سار في اتجاهات متعاكسة عبر المراحل التاريخية ووفقا للثقل الحضاري والمعرفي للأمكنة. لم يكن التأثير ذاته الذي حصل في أوربا للإنتاج الثقافي والعرفي والعلمي الإسلامي في موطن الفعل الأول، حيث كان العالم المسيحي متحررا من إشكال الهوية المتمكن في الشرق الإسلامي، ويرجع قسط وافر من اختلاف أو تباين تأثير فلاسفة الإسلام، في مآلاته، إلى أمور عدة منها إشكال الهوية وضعف الأيديولوجيا الدينية، ،صرامة النصوص الشرعية، ووقوف أصحاب السلطة السياسية إلى جانب التصورات والرؤية الكلية للحياة والكون والإنسان كما حددها الراديكاليون الأولون، في اتساق حدي مع الرؤية والتصور المنقول عن خير القرون – القرون الثلاثة الأولى من زمن الدعوة المحمدية – ذلك الاتساق تحول إلى نسق يطبع بطابعه كل المنتج العقلي التقليدي للفكر الإسلامي الديني فيما بعد، باستثناء تلك الآقمار والكواكب التي خرجت عن مسارها الثابت فأضاءت عقول الآخرين وعجزت عن ترسيخ النور وتحويله إلى ضياء كامن و وعي فاعل في بيئه الأولى وتربته الأصلية.
في سيرة ابن رشد نتنبه بشدة إلى تأثير رأس السلطة السياسية على نشر المعرفة وتولي الثقافة، فالخليفة أبو بعقوب يوسف بن عبد المؤمن (ولد عام 1139، في تينمل - توفي 18 ربيع الآخر 580هـ / 29 يوليو 1184م) ثاني خلفاء الدولة الموحدية، حكمَ المغرب الأقصى والأندلس بين 1163 حتى 1184 في عاصمة دولته مراكش. شيد الجامع الكبير في إشبيلية والكتبية في مراكش، وصومعة حسان في الرباط. كان مولعا بالفلسفة محبا للعلم والعلماء وكان ابن طفيل المقرب من مجلسه والحائز على مباركته دور بارز في تقريبها إليه ،أي الفلسفة، لكنها ظلت شيئا جميلا و مبهما قبل ابن رشد، يقول ابن طفيل: لو وقع لهذه الكتب – كتب أرسطو من يلخصها أو يقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس فإن كان فيك - مخاطبا ابن رشد- فضل قوة لذلك ففعل، وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وقوة نزوعك إلى الصنعة – يقصد الفلسفة - ) "الفلسفة الإسلامية بين الندية والتبعية : جمال المرزوقي : دار الهداية صفحة 226. الخليفة دعم وساند وحمى ابن رشد واتاح له الفرصة للتفرغ للتأليف والتصنيف لكن المسألة – قضية الفلسفة - ظلت حبيسة القصور ومجالس العلماء، ولم يقيض لها الانتشار والتغلغل بين الناس كما أراد ابن طفيل والأسوء أن ذات السلطة التي ساهمت في تحقيق الإنجاز الفلسفي هي ذاتها التي أمرت بحرق الكتب وحظر العلوم.
ابن رشد والعقل المنفعل:
ثاني النظريتين المشار إليهما أعلاه هي نظريته في العقل ضد تأويل الاسكندر الأفروديسي، لقد سعى ابن رشد لامتلاك تلابيب الأرسطية دون سواه وكان له ما أراد حسب رأي النقاد - أميل برهيية أطلق أسم الرشيدية على فلسفة ابن رشد وفي ذلك إشارة واضحة لتفردها وامتيازها عن غيرها وعن الأرسطية ذاتها - خاصة عندما أسس لنظريته الخاصة في المعرفة والتي كانت أحد عوامل النهضة الأوربية كما ندعي نحن (معلوم أن العقل، في العقل بالفعل هو المعقول الذي يتعقله: والحال أن المعقول أزلي؛ فالعقل أزلي مثله: لكن إن تكن الذات التي تتعقل المعقولات ازلية، فلنا أن نتساءل كيف سيكون في مستطاعنا، نحن القابلين للفناء أن نتعقلها، وعليه فإن الاسكندر إذ يجعل من العقل الهيولاني، الذي هو حاصل فينا موجودا وقابلا للفناء يعجز عن أن يعلل لنا كيف نتعقلها، لا بد إذن أن يكون العقل الهيولاني إن كانت له قدرة على التعقل غير مخلوق ولا يعتريه الفناء وواحد في الناس قاطبة. لكن الصعوبة لا تخلي مكانها في هذه الحال إلا لعكسها: فما تعليل فاعليتنا العقلية الخاصة التي تبدأ في آن معلوم من الزمان ؟ الجواب الوحيد الممكن هو التسليم بأن الفعل العقلي ليس تعقلا جديدا، ليس فعلا يوحدنا في ذلك الآن بالعقل الفاعل؛ فما يأتي منا وما يفنى بفنائنا هو ذلك الاستعداد البسيط الذي يقال له العقل المنفعل والذي يتمثل في ما تيسره لنا حالة تصوراتنا من قدرة على استقبال الفيض الأزلي للعقل الفاعل) ( 13)
العقل المنفعل عند ابن رشد هو الإنسان ويرى بالمنطق قدرات هائلة لذلك العقل وامكانية اتصالة بالعقل الفاعل ، المعروف عن الفارابي ، وقدرة الحواس على الاتصال بالعقل المفارق المفسر أحيانا بالملأ الأعلى من الملائكة والأرواح
(فالعقل الفاعل هو عقل كلي (عام) مستقل عن جسم الإنسان وغير قابل للامتزاج بالمادة. وأما العقل المنفعل فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل باقي قوى النفس. ويمر طريق العلم والمعرفة عبر اتحاد هذين العقلين.) ومن ابن رشد أنّ العقل المنفعل أي الإنسان يستطيع الاتصال عبر الحواس بالعقل المفارق إي الأجرام العلوية والأرواح لسببين. الأول أنّ العقول والأجرام البعيدة لم يوجدها الباري إلاّ واجداً عقولاً تدركها وتعرفها إذ من المحال أن يخلق الله معقولاً دون أن يوجد عقلاً يعقله. والسبب الثاني أنّ القول بأنّ العقل لا يعقل الأجرام المفارقة له هو قول يحط من قدر العقل البشري ويجعله أدنى من الحواس. لأنّ للحواس محسوسات تحس بها وما كان للحواس يجب أن يكون للعقل لأنّه أرقى منها.) ابن رشد فرصة العرب الضائعة: شاهر أحمد نصر الحوار المتمدن.
لا يخفى كون الارسطية كانت مبهمة وغير مفهومة في أوربا منذ أواسط القرن الثاني عشر، حيث كانت العقول في تلك الفترة غير مهيئة لفهم أرسطو والحكم عليه "لافتقارها للحس التاريخي الازم لوضعه في إطاره" وهي في مضامينها الخفية منافية للرؤية المسيحية عن الكون والطبيعة والله، هذا جعلها تعد عقبة كأداء للسياسة الجامعية للبابويات، المفارقة الغريبة هنا أن ذلك المذهب الأرسطي وجد صدى وأي صدى لدى فقيه عصره وأوحد زمانه ابن رشد الفيسلوف الذي تشبع الثقافة الدينية الإسلامية ونهل من منابعها الأصيلة وألف واحدا من اهم الكتب - الفقهية بداية المجتهد ونهاية المقتصد وكان كتاب دراية أكثر منه كتاب رواية – فاعجب أيما اعجاب بأرسطو أخر الحكماء حسب وصفه، وترجم علومه وشرحها ونالت لعقود ما نالت من تقدير وإجلال، لقد استمر تأثير الرشدية في أوربا حتى القرن السادس عشر، وتابعت الجامعات الفرنسية تدريس علومها طيلة تلك المدة على مدار مايقرب من ثلاثة قرون، حتى في بداية عهد النهضة وجدت الرشيدية مكان لها وساهمت بدور جليل في صناعة النهضة لقدرتها الفائقة على فك الإشتباك بين العقل والإيمان.
إنه الفارق الحضاري فالدولة الإسلامية الأندلسية باتفتاحها على العلوم وإداكها لدورها في التحضر والتقدم كانت مهيئة لتقبل نظريات أرسطو بل وتطويرها، ولم يجد علماء الحكمة الأندلسيون حرجا في تبنيها والقول بما قالته، وأفاضوا في شرح التوافق بين الفلسفة والدين واستعانوا على ذلك بتأويلات لنصوص دينية – استند ابن رشد طويلا إلى آية (فاعتبروا ياأولي الأبصار) سورة الحشر الآية - 2 - ليثبت القياس العقلي ، قياسا على القياس الفقهي – يرفض ابن حزم صاحب المدرسة الظاهرية بشدة مبدأ القياس ويسخر من استدلال الفقهاء بهذه الآية على تقرير القياس كحجة من حجج الشرع والتفسير الأصولي لأبن حزم في رده للقياس هو : (فلا شيء في العالم إلا وفيه شرع منصوص ، بإيجاب أو تحريم أو إباحة ) فكل الأمور الحاصلة والمتحصلة منصوص عليها منذ بدء انتهاء الوحي إلى يوم الدين وكل التغيرات والتبديلات والتحولات الكونية والاجتماعية والعلمية ستجد أدلة شرعية حرفية، كافية بدلالتها الظاهرة على تغطية حكمها وبيان شرعيتها. تلك النظرة الشمولية المتعارضة بل والمتصادمة بقوة مع الفهم المنفتح والقراءة التأويلية للقرآن والحديث تعد – في تقديرنا – واحدة من أهم أسباب تعثر مشاريع التجديد والإصلاح، فلا يمكن بحال من الأحوال تحقيق تقدم في مسيرة المصالحة مع العقل، والإيمان بالتقدم والسير نحو الأمام بالتقييد الحرفي الظاهري بالنص – قرآن وسنة – هذه مقاربة مناقضة لمنطق الحركة الدائمة في الوجود متعارضعة مع التبدل والتحول المستمر في جدلية الفناء والبقاء، فلا شيء ثابت في الكون ولا ثبات للعقل والفكر، وبالاستدلال العقلي نجد: الدعوة الجديدة – المحمدية – نسخت ما قبلها من شرائع - كما يؤكد الأصوليون – فهذا تبديل لشريعة مكان شريعة وبالاعتراف بكون الشرائع السابقة سماوية، فما كان من حاجة أو ضرورة لتبديلها، وبما أنها كانت تتنزل من لدن حكيم خبير قادر مقتدر، صح بالقوة قدرته على حمايتها وحفظها من التحريف والتبديل، لكن الحكمة الخفية في ترك الحال على ما هو عليه هي محاكاة التطور الكوني الذي وجد الوجود على صيرورته. لقد استعانت المدرسة الظاهرية في الفقه والفكر والعقيدة بالتأول لإخراج نصوص قرآنية عن ظاهر في مجال تفنيدها لحكمة التصوف ورؤيته للكون والخلق.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ-;---;-- عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) سورة الحديد الآية 4
لم يرض السلفيون في تفسير الآية إلا بالتأويل وتفسير والمعية بالعلم والرعاية والعناية والمراقبة، في حين يقف التفسير الظاهري هنا إلى جانب الفهم الصوفي الذي قرن معية العلم والإحاطة بالمعية الخاصة وبذلك جمعوا بين الظاهر والباطن دون نفي لأي منهما، والأمثلة على ذلك كثيرة.
لم تتغير الأحوال الكونية المحيطة بالدعوة الجديدة، فالكون منذ الأزل محض وجود متحرك ومتحول، مع النظر إلى وجود سكون وحركة نسبيتان. بالبداهة نقر بقدرة المنزل العلوي على إنزال شرعة واحدة لكل زمان ومكان، فهو لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) سورة يس الآية - 82- ( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ) سورة فاطر الآية - 44 - ولما طرأ التغير والتبديل والنسخ لما سبق وأقر ونفذ حكمه في الرسالات السابقة على الدعوة المحمدية، ولما حصل ذات الشيء في الرسالة الناسخة لما قبلها وجب الإقرار بوجود حاجة مستمرة للتبديل والتغيير، ولا ينقض قياسنا القول بالتمام والكمال للشريعة الأخيرة، فما جرى في حقها أثناء نزول الوحي وحتى بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى، حيث لم تتوقف السلطة الرسمية دينية كانت أم سياسية على العمل بموجب المصلحة والحاجة والضرورة، ما يثبت قياسنا بإتباع الصيرورة الكونية المتمثلة في الحركة والتحول الدائم للعقل المتوالد.
ربما تساعدنا معرفة المراحل الزمنية التي دُرست خلالها الرشيدية في جامعات أوربا على قدرتها الفذة كرافعة للتقدم والنهضة: فما بين عامي 1266 – و 1277 علّم سيجر البراباني، الأستاذ الشهير في الفنون في جامعة باريس التأويل الرشيدي لأرسطو وكان رائد تلك الحركة التي سميت بالرشدية اللاتينية. ( وفي عام 1270 أدان أسقف باريس ثلاث عشرة قضية من قضايا التعليم الرشيدي في معرفة الله وقِدم العالم وتماثل العقول البشرية والقدر .. وفي عام 1277وبدعوة من البابا يوحنا الحادي والعشرون أفتتح أسقف باريس تحقيقا وأصدر إدانة جديدة بحق 219 قضية.. وبالرغم من هذه الإجراءات واصلت الحركة الرشدية مسيرتها بعد أن تولى زعامتها مع سيجر آخرون من علماء جامعة باريس) ومن عام 1542 إلى عام 1567 علّم فيكو مركاتو بدعوة من فرنسيس الأول الرُشدية في معهد فرنسا ووجد له في فرنسا تلاميذ ) ( 14 ) كما ناهضت الأصولية الإسلامية الرشدية وحرقت كتبها وحظرت تدريسها تكررت ذات الحالة مع الأرثوذكسية المسيحية وها هي المحكمة البابوية تحاكم نظريات الرشدية وتدين منها ما يزيد على مائتي مسألة، المفارقة المعنية بالنظر هنا معارضة الأرثوذكسية المسيحية لنظريات ابن رشد إنما انطلق من رؤية مسيحية أصولية خاصة مبدأ التثليث، كذلك الحال أحرقت كتب ابن رشد في الأندلس الإسلامية بتحريض من الأصولية السنية المسيطرة هناك، الضحية واحدة والجاني متباين. رأت السلطة الكهنوتية في باريس تعاليم الفلسفة خطرا وداء ينبغي علاجه والشفاء منه، في حين وجدت الأصولية في قرطبة، وهي أصولية إسلامية متمايزة بشتى الصور التفصيلية عن الكهنوتية المسيحية، كفرا وإلحادا في ذات التعاليم، ربما كان ما حدث في الأندلس تأثر بصورة كبيرة بما يحدث في الشرق من تكفير الفلاسفة وتفسقيهم على يد الغزالي، فجاءت الأحكام حازمة جازمة: الفلسفة كفر وإلحاد في معظم مباحثها وأهلها كذلك، تشابه الحكم واختلف القاضي والقانون، الفلسفة التي حمل لوائها قاض وفقيه مسلم إصلاحي متعقل لم ترق لأسقف باريس الذي أدانها بدعوة من البابا أنذاك، يتكرر السيناريو في دار الخلافة الإسلامية الأندلسية لكن تتغير التفاصيل باستثناء المتهم وقرار الإدانة.
نهاية الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 2 / 26 - 20:27 )
العقل البشري لا يدرك كل شيء , في عام 1927 وضع (هايزنبرج) مبدأ (عدم اليقين) أو مبدأ (الريبة) , وهو مبدأ فيزيائي من المباديء التي تحكم الكون , هذا المبدأ يرى : ((أننا ممنوعون من معرفة الحقيقة الكلية , وليس لنا أن نختار إلا نصف الحقيقة أما الحقيقة الكاملة فنحن ممنوعون عنها)) , لذلك , الإنسان ممنوع من معرفة الحقيقه الكامله , و ليس له سوى نصف الحقيقه , نحن -كبشر- في علمنا لم نصل إلا إلى جزء يسير من نصف هذه الحقيقه , حتى نحوز على هذا النصف لا بد لنا من الإنتظار ملايين السنين .


2 - لماذا عبد الله خلف دائماً يستشهد بالكفار؟
نور ساطع ( 2014 / 2 / 27 - 05:28 )

لماذا عبد الله خلف دائماً يستشهد بالكفار؟

و يقول عنهم ( العظماء ) , أنا كنت أظن فقط الله هو العظيم

الآن عرفت حتى الكفار عظماء مثل الله و محمد!!

مثلاً لماذا عبد الله خلف لا يستشهد بعلمائه أمثال زغلول النجار و غيرهم على شاكلته

أليس دينه دين الحق و العلم و المعجزات!!!

دائماً يستشهد بناس كفار لا يعترفون بمحمد و قرآنه : )

ألا تخجل من نفسك يا غلام!

: )

اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة