الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة المأزومة..الحلقة المفقودة من الإحتجاج الإجتماعي إلى الصراع الطبقي

مجدى عبد الهادى
باحث اقتصادي

(Magdy Abdel-hadi)

2014 / 3 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


(1) مقدمة : جوهرية الصراع الطبقي :

(2) أزمة الصراع الطبقي في مصر :
* البنية الإجتماعية المُختلة
* تأميم الصراع الطبقي

(3) الثورة المأزومة في مصر :
* الدولة الرخوة : إنفضاض العقد الإجتماعي
* الدولة الفاشلة : ثنائية المطلبية والعنف

(4) اليسار المصري وأزمة الدور :

(5) خاتمة : من الإحتجاج الإجتماعي إلى التسييس الطبقي :





(1) مقدمة : جوهرية الصراع الطبقي :
---------------------

يعتقد البعض أنه من الجائز الحديث عن غياب الصراع الطبقي في مجتمعاتنا إنطلاقاً من سيادة الثقافة الزراعية وضعف الوعي بالمفهوم الوطني في إطاره الواقعي [1] ، والحقيقة هى أن الصراع الطبقي كقلب وجذر للصراع الإجتماعي هو واقعة قائمة ومُتمركزة في قلب كل حدث اجتماعي ، بحيث أنها لا يمكن إلغائها ، فقط الممكن هو الإلتفاف حولها بأكاذيب (مُفيدة) أو تحديد وتأطير مساراتها عبر عمليات طويلة مُكلفة ومُعقدة من الهندسة الإجتماعية ، دون نتائج مؤكدة رغم ذلك !!

فكافة أشكال الصراعات التي تعرفها المجتمعات مهما تنوعت أشكالها لها جذر طبقي بشكل من الأشكال وتتضمن بُعداً إقتصادياً بصورة من الصور، سواءاً كانت صراعاتً وطنية أو قومية أو دينية أو طائفية .... إلخ .

وهكذا فأي حديث عن غياب مُطلق للصراع الطبقي هو حديث مغلوط أو مُغرض ، فالصراع الطبقي قد يُموه أو يُحرف ، لكنه لا يغيب ، وربما – بل هذا هو الأغلب في الواقع - إمتلك سماتً خاصة نابعة من الخلفيات والجذور البنيوية والتاريخية للحالة المُحددة موضوع الدراسة .

ويقدم الأستاذ حسن خليل تشخيصاً لبعض الأسباب الرئيسية للنمط الخاص - المُشوه - للصراع الطبقي في مصر ، يُوجزها فيما يلي [2] :

1. هشاشة التكوين الطبقي
2. تسارع التحولات و التبدلات الطبقية من منظور تاريخي
3. التدخل الإمبريالي في الصراع
4. تأثير التركيبات الطبقية السابقة للرأسمالية
5. تأثيرات التطور العالمي للرأسمالية ( العولمة )

وهكذا فحديثنا في تلك المقالة عن أزمة الصراع الطبقي ، بدءاً من "تأميمه" الذي سعت إليه الدولة الناصرية ليس سوى ضرورة فرضها التعاطي مع تشوهات واقعية ذات جذور بنيوية وتاريخية تفاعلت مع مساعي سلطوية حقيقية نجحت حيناً وخابت أحاييناً !!

هذه الأزمة البنيوية نابعة أساساً من طبيعة البنية الإقتصادي الإجتماعية المصرية الشائهة – شأنها شأن أغلب رأسماليات المحيط التابع – والتي لا يجوز قياسها إطلاقاً على النموذج الرأسمالي الكلاسيكي وفقاً للتحليل الماركسي المعروف .

وبالطبع لسنا - في هذه العجالة - في معرض تبيان أصول وتبعات البنية الشائهة للتشكيلة الرأسمالية التابعة في مصر ، ولا حتى للخلفية التاريخية المُعقدة لانحرافات ثورة يوليو ، فسنكتفي فقط بالإشارة لها سريعاً ولإنعكاساتها على موضوعتنا المُتمثلة في أزمة الصراع الطبقي في مصر .



(2) أزمة الصراع الطبقي في مصر :
--------------------


§ البنية الإجتماعية المُختلة

فالمسطرة التي نقيس عليها لا يتطابق الواقع معها إطلاقاً ، وما نظنه رأسمالية هو رأسمالية تابعة من النوع الرث الردئ ، الذي تسيطر عليه بنية ريعية إستهلاكية غير إنتاجية ، وهو وضع لا يرتب مجرد اختلاف في الدرجة ، بل اختلاف جوهري في النوع ، يقود لنتائج مُختلفة جداً ، ليس فقط في توصيف البنية الإجتماعية ، بل أيضاً – وهو الأهم – في إستخلاص "الشكل الأساسي للقهر الإجتماعي" ، الذي تنبثق عنه كافة أشكال القهر الإجتماعي [3] .

ورغم أن هذه مهمة لا هى بالمُنتهية ولا باليسيرة - إذ ليس مطروحاً هنا وضع تصور نهائي عن الهيكل الإقتصادي الإجتماعي المصري والواقع الديموغرافي المُرتبط به ، بما يرتبه من آثار على التركيب الإجتماعي وطبيعة الصراعات الإجتماعية في مصر – إلا أننا سنحاول وضع بعض الملاحظات السريعة على سبيل المثال لا الحصر :

1. تضائلت نسبة قيمة القطاع الصناعي إلى قيمة الإنتاج القومي من 42.7 % عام 1960 إلى 27 % عام 1987 [4] ، وهو اتجاه استمر فيما بعد ، مُخفضاً من وجود الطبقات المُتماسة مع عمليات الإنتاج المادي وعلاقات الإنتاج المُتصلة بها ، ومُخفضاً بالتالي من مستوى الوعي الطبقي في المجتمع بعمومه.

2. تكشف إحصاءات أكثر حداثة عن تضائل نصيب القطاع الصناعي إلى نسبة 16 % للصناعة التحويلية و 22 % للصناعات الإستخراجية من النتاج المحلي الإجمالي عام 2008 [5] .

3. أما القطاع الزراعي فتضائل نصيبه وفقاً لنفس المقياس إلى نسبة 13 % من النتاج المحلي الإجمالي عام 2008 [6] .

4. يمثل قطاع الخدمات 49 % من هيكل الناتج المحلي الإجمالي لعام 2008 م ، بما يعنيه ذلك من سيادة لأنشطة ريعية وغياب للطبقات الإجتماعية الثورية بمعناها التقليدي في الأدبيات الثورية [7] .

5. تغلب المنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر على الإقتصاد المصري (1 : 10 عمال) بنسبة 98.1 % من المنشآت ، بينما تصل نسبة المنشآت الأكبر قليلاً (11 : 100 عامل) إلى 1.8 % ، فيما لا تتجاوز نسبة المنشأت الكبيرة (100 فما فوق) نسبة الـ 0.1 % من المنشآت [8] ، ولهذا علاقة قوية بصعوبة التنظيم .

6. تصل نسبة البطالة وفقاً لبعض التقديرات - واستناداً لأرقام البنك الدولي – إلى ما يُقارب الـ 30 % من جملة القوة العاملة [9] ، وهو ما يشير لتصاعد مستويات التهميش الإقتصادي الإجتماعي ، ويقع الجسم الأساسي لها بين الشباب بنسبة تصل إلى 88 % ، والمتعلمين بنسبة تصل إلى 93 % .

7. تشير بعض التقديرات إلى أن جملة غير المُلتحقين من قوة العمل بالقطاع الإنتاجي الرسمي قد بلغت حوالي 29.7 مليون نسمة ، وهى تشمل الواقعين في دائرتي البطالة والقطاع غير النظامي [10] .

8. رغم عدم وجود إحصاءات موثوقة ، لكن حدث تراجع أكيد في وجود الطبقة الوسطى ضمن البنيان الإجتماعي ، سواء بسبب إنخفاض الأجور الحقيقية أو بإلغاء تعيين خريجي الجامعات أو بسياسات الليبرالية الجديدة وما رتبته من إعادة توزيع للدخل لصالح الفئات العُليا ... إلخ .

9. "تقدر بعض الدراسات السكانية أن نحو ثلاثة أرباع المصريين يعيشون في مناطق حضرية أو (شبه حضرية)" [11] .

10. يصل عدد سكان المناطق العشوائية إلى حوال 12.2 مليون نسمة وفقاً للتقديرات الحكومية ، فيما تصل أعدادهم إلى ما يوازي الـ 16 مليون نسمة بحسب أرقام البنك الدولي (2010) [12] ، يسكنون 40 % من المناطق العمرانية في مصر [13] .

11. تبلغ الكثافة السكانية في عموم مصر 1092 نسمة / كم2 من المساحة المأهولة [14] ، وتصل إلى 46349 نسمة / كم2 في محافظة القاهرة [15] .

12. يمثل الشباب والمراهقون في الفئة العمرية (10 – 24 سنة) حوالي ثلث سكان مصر [16] .



§ تأميم الصراع الطبقي

تمثل قوانين يوليو الإشتراكية أوائل الستينات نقصلة مفصلية في التاريخ الإقتصادي الإجتماعي لمصر الحديثة ، وهى إحدى اللحظات التاريخية التي دار - ولازال – بشأنها جدل طويل وحاد يمثل بذاته تراثاً دالاً حول طبيعة الصراعات الإجتماعية الجارية في مصر عبر نصف قرن ، كذا عن طبيعة التحديات والحلول المطروحة التي تكشف عن تكرار وتشابه – لأوضاع يطول تاريخها لمئتي عاماً - يصل حد الملل !!

فالجدل الاقتصادي / السياسي المصري هو هو لازال دائراً كما كان دائماً حول الثنائيات الأزلية : القطاع الخاص / الدولة ، الرأسمالية / الإشتراكية ، التوجه للخارج / التوجه للداخل ، الإندماج في الغرب / التكامل مع الشرق ... ، إلخ .

ورغم المضامين الإجتماعية التقدمية لهذه القوانين ، إلا أن الإطار الذي أتت فيه يكشف عن طبيعة الطموح الناصري ، والذي يتجسد في مقولة أساسية هى "تحالف قوى الشعب العاملة" المنطوية واعياً على أطروحة "رفض الصراع الطبقي" ، والتي أسماها البعض عن حق "إيديولوجية الكل في واحد" !!

وهي مقولة مُتسقة تماماً مع إيديولوجية ذات جذر قومي ، ونابعة بداهةً من طبيعة الوعي التلفيقي للطبقة الوسطى ، كذا هى مقولة مصلحية تماماً إذا ما نظرنا إليها بمنظور سلطة ذات طابع "بونابرتي" .

فـ"العامل وصاحب العمل ، كل منهما مرتبط بالآخر ، وواجبنا أن نوفق بين الجميع" ، و "حكومة الثورة هى حكومة الأمة بطبقاتها جميعاً ، حكومة العمال والفلاحين ، وحكومة الموظفين والطلاب ، وحكومة رجال المال ، وأصحاب الأعمال ، وحكومة الفقراء والأغنياء ، حكومة الصغار المبتدئين وحكومة الكبار الناجحين" [17] ، إنها حكومة السوبرمان القادرة على جمع كل الخيارات وتوفيق كل المتناقضات !!

فهذه السلطة (البونابرتية) وتلك القوانين (الإشتراكية) التي ضمنت من جهة قطاعاً عاماً إنتاجياً بدلاً من الرأسمالية الإستهلاكية الخربة ، وحقوقاً عمالية أكثر بدلاً من النهب البشع لمصاصي الدماء البرجوازيين ، إرتبطت من جهة أخرى – واتساقاً مع طبيعة النظام – بتعزيز الهيمنة على النقابات العمالية والتنظيمات المهنية والتعاونيات الإنتاجية والإستهلاكية ؛ فكان لها تأثيراً مزودجاً ، ما بين بشائر تجربة تنموية حقيقية من جهة وتأميماً لمُجمل المجتمع المدني من جهة أخرى ، أو بمعنى أدق تأميماً للصراع الطبقي ، إنها الأبوية التي تعطي المزايا لتحتكر السلطة !!

وهكذا أصبح إحتكار / تصفية النشاط الجماهيري عموماً والنقابي خصوصاً جزءاً من إيديولوجية الدولة ، المُرسخة لسلطة أبوية يفنى فيها الجميع ، وليس مجرد ممارسة طبقية واضحة المعالم من طرف طبقة حاكمة مكشوفة !!




(3) الثورة المأزومة في مصر :
------------------


§ الدولة الرخوة : إنفضاض العقد الإجتماعي

مثلت قرارات 17 يناير 1977 أولى المحاولات الجادة من طرف الدولة لفض العقد الإجتماعي الذي عقدته "مرحلتها" الناصرية مع الشعب المصري ، والتأسيس لعقد اجتماعي جديد يقوم على النيوليبرالية العائدة على أكتاف اليمين العالمي المتطرف ، ترتهن فيه السلطة بالكامل بمصالح الكومبرادورية [18] المرتبط بالمركز الإمبريالي .

فرأسمالية الدولة [19] التي أسس لها عبد الناصر التي كانت قد شرعت لعقد اجتماعي " يقوم على ركيزتين أساسيتين : الأولى هي تقديم تنازلات اقتصادية واجتماعية هامة للقسم المنظم من الطبقة العاملة في القطاع العام مقابل القضاء على استقلالية الحركة العمالية وحرمانها من سلاح الإضراب ، والثانية هي إعادة توزيع الدخل والملكية لصالح الطبقة الوسطى وإخضاع الريف ككل – عبر التحويل المنظم للفائض الزراعي من الريف إلى المدينة – لأغراض التراكم في قطاع رأسمالية الدولة الصناعية" [20] .

وارتبط هذا التوجه بتوجه نحو تنمية وإشباع حاجات طبقة وسطى تتألف أساساً من بيروقراطية غير مُنتجة مرتبطة بالنظام ، دون أدنى اعتبار لمعايير الكفاءة والإنتاجية ، وتتضح عملية تنمية تلك الطبقة من "التضخم البيروقراطي الذي تم في سنوات التحول الإشتراكي 62 – 67 ، حيث ازدادت الوظائف داخل البيروقراطية العامة في هذه الفترة بنسبة 134 % ، وازدادت الأجور والمرتبات بنسبة 168 % ، وازدادت المصروفات الجارية بدون الأجور والمرتبات بنسبة 11 % " [21] ، "وإذا كان الدخل القومي قد ازداد في حقبة الستينات بحوالي 68 % ، استناداً إلى زيادة في العمالة الإنتاجية لا تزيد عن 20 % ، فإن الوظائف البيروقراطية العامة ازدادت بحوالي 70 % ، وازدادت المرتبات بحوالي 123 % ، ..، أي أن مؤشرات التضخم البيروقراطي قد جاوزت معدلات النمو في السكان والعمالة والإنتاج في تلك الحقبة" [22].

كما أن السيطرة الواقعية في الجمعيات الزراعية كانت لصالح متوسطي الملاك ، وليس صغارهم رغم كون الأخيرين الأغلبية ، فقد كان الفلاح وفق مفهوم السلطة الناصرية [23] هو كل من تظله سماء القرية !!

أما من جهة إشباع حاجات تلك الطبقة الوسطى ، فيتضح إنحياز الدولة [24] في المبالغة في الإتجاه الإستهلاكي بإدخال السلع المُعمرة التي كانت تدخل وقتها في عداد الرفاهية الإجتماعية [25] وهو أمر لا يمكن تبريره من الوجهة الإقتصادية ولا الإجتماعية بالنسبة لدولة فقيرة وبحاجة ماسة للبناء الإنتاجي .

وبصفة عامة أثبتت هذه الرأسمالية الدولتية "فشلها في غضون سنوات قلائل. فبعد خمس سنوات فقط من تطبيق القرارات الاشتراكية – في عام 1966 – انخفض معدل الزيادة في الدخل المحلي إلى 5 % بعد أن كان قد بلغ طيلة سنوات الخطة الخسمية (61 – 1965) 6 %. وهبط معدل الادخار المحلي إلى 13.7 % مما نتج عنه تحقيق عجز في ميزان المدفوعات. وانخفض الإنتاج في مجموع القطاعات السلعية بحوالي 1 %، ونقص دخل الفرد بحوالي 2.2 % . وفي عام 1967 هبط الإنتاج مرة أخرى بمعدل 1.8 %، وتناقص دخل الفرد بمقدار 5.7 % " [26] .

ثم كانت النكسة وما استتبعته من ضمور في الإمكانات التنموية بحكم توجيه الإقتصاد للحرب ، وقتل عبد الناصر بمؤامرة إمبريالية بمُشاركة من الرجعية العربية العميلة وربما بعض الأجهزة المحلية في مصر ؛ ليجيئ السادات للحكم برؤية مُختلفة جذرياً ، مدفوعاً بمصالح تلك الفئات التي كانت قد راكمت فوائضها المالية من النهب المُباشر وغير المُباشر للقطاع العام ، وأصبح ضرورياً بالنسبة لها فتح الأبواب والنوافذ ؛ لتتنفس أموالها بأرباح التجارة والوكالة والسمسرة !!

فبمجرد أن استقر الأمر للسادات ، أصدر أول قوانينه في شأن استثمار المال العربي والمناطق الحرة رقم 65 لسنة 1971م ، لُيردفه بعد نصر أكتوبر بقانون 43 لسنة 1974م في شأن استثمار المال العربي والأجنبي ؛ ليدشن البداية الحقيقية لسياسات الإنفتاح الإقتصادي ، والذي عُدل فيما بعد عبر عدة قوانين – سواء لعلاج مهازل حقيقية أو لمزيد من المزايا للمسثمرين - بدءاً من قانون 32 لسنة 1977م وصولاً لقانون ضمانات وحوافز الإستثمار رقم 8 لسنة 1997م .

مثلت هذه المجموعة من القوانين ضمن منظومة مُتكاملة من القوانين الإتجاه الجديد لـ "تحرير" الإقتصاد المصري ، فالبيروقراطية - الفاسدة - التي تأكد عجزها عن قيادة مشروع تنموي ناجح ، كذا الفئات الرأسمالية التي بقت ونمت في كنف الدولة ، وفي سياق علاقتها بتلك البيروقراطية ، كونا معاً الطبقة الجديدة ، التي كانت الشريك الخفي في الإطاحة بعبد الناصر ، والتي لا نستبعد أن يكون لها دوراً في النكسة نفسها [27] !!

وقد كان ذلك التحول والتغير في الموازين الطبقية طبيعياً في ضوء النمط الإقتصادي المُتمثل في رأسمالية الدولة ، فـ" نموذج رأسمالية الدولة ذو طابع انتقالي ، إذ أن من الحتمي تقريباً أن يتحلل إلى الرأسمالية البيروقراطية التي تعمل على الأصل العام لمصلحتها الخاصة وتتحول تدريجياً إلى طبقة مغلقة تتوارث المواقع ، قبل أن تتحلل نهائياً إلى الرأسمالية الخاصة ، أو إلى رأسمالية بيروقراطية جديدة تتمثل في المديرين التنفيذيين للشركات الخاصة ، وهى طبقة أصبحت ذات سطوة هائلة محلياً وعالمياُ ، بالذات إذا كان هذا النموذج ينمو ويتطور في ظل نظام ديكتاتوري بوليسي مثل النظام السائد في مصر منذ الإنقلاب الثوري في يوليو 1952 " [28] .

وهكذا انتهت الناصرية بسبب وسطيتها وثنائيتها وتناقضات شكلها مع مضمونها ؛ بعدما تفاعلت بداخلها هذه التحولات في التركيبة الطبقية ، لتتملك الطبقة الجديدة السلطة وتقودها نحو ذلك الإنقلاب الكبير في مُجمل السياسات الداخلية والخارجية ، بعد النصر "المُرتب" ، وصولاً لتلك اللحظة الرمزية ليناير 1977 .

لقد كانت انتفاضة يناير 77 هى المحاولة الجماهيرية الأكبر للحفاظ على مشروع الناصرية القتيل ، فرغم الدوافع الإقتصادية المباشرة جداً للإنتفاضة ، إلا أن فهمها ضمن السياق العام الذي أتت في إطاره ، كذا بعض شعاراتها الأساسية ، كانت تشير لوعي عالٍ جداً بالتحولات المُستجدة على الساحة الإجتماعية والطبقية ، كذا تضمن الأمر من جهة أخرى شعوراً بالخيانة تجاه الدولة "الراعية" ، التي أسست مشروعيتها وقبولها أيام عبد الناصر على نوع من التسوية العادلة نوعاً ، والتي سبق وقدمت الوعود تلو الأخرى قبل النصر !!

فمما يستوقف النظر في السياق الذي أتت يناير 77 في ذروته كانت حادثة احتلال العمال لمصانع حلوان في 1975 ، التي تضمنت من جهة مطالباً إقتصادية / طبقية دالة تتعلق بالحد من التفاوت في الأجور بين العمال والإدارة ، ومن جهة أخرى مطالباً سياسية واضحة تتعلق بحرية الصحافة وإقالة رئيس الوزراء .، وهى ليست حالة وحيدة بأي حال .

المهم ، تراجعت الحكومة عن قرارات إلغاء الدعم ، وغيرت إستراتيجيتها بالإتجاه نحو نهج تدريجي في التملص من التزاماتها الإجتماعية [29] ، كذا في التحول الرأسمالي الكامل .

وقد أكسبتها هذه السياسة [30] وقتاً مكنها من إحكام قبضتها بشكل أكبر على المجال العام السياسي والمدني ، كذا مزيداً من القدرة على احتواء التيارات السياسية والثقافية سواءً بالإفساد أو بالتفريغ من الفاعلية ، وساعدها في ذلك جهود حثيثة وخبرات كبيرة قدمتها القوى الغربية من جهة ، ومن جهة أخرى إنفتاح معقول في الحلول الفردية المُرتكزة أساساً على "الهجرة إلى النفط" !!

وهكذا كانت عقود الثمانينات والتسعينات الراكدة / الصاخبة ، والتي توسطها وصول مصر لحافة الإفلاس عام 1989 ، والذي كان يمثل من جهة الحالة المصرية لنهاية نموذج التنمية الإستهلاكية التابعة المُستندة للمديونية في العالم الثالث ، ومن جهة أخرى التناقض الجديد ما بين دولة الإنفاق الإجتماعي – المُتناقص رغم ذلك [31] – ونمط التنمية لإقتصاد تابع مُستند لقطاع خاص غير إنتاجي !!

ويمثل هذا التناقض الجديد مركز التحولات التي جرت على مصر في العشرين عاماً الأخيرة ، والتي يقصر مجالنا هنا عن شمولها ، لكنه كان على أي حال مركز تفسخ البنية التحتية وانهيار منظومة الخدمات الإجتماعية من جهة ، والإنهيار الكبير في منظومة القيم الإجتماعية والإقتصادية بتصاعد مستويات الفساد الإعتيادي [32] من جهة ثانية ، وأخيراُ وبالتبعية إنحدار الدولة إلى مُستنقعات "الدولة الرخوة" من جهة ثالثة [33] !!

وقابل هذه الرخاوة من قبل الدولة تجاه عموم مواطنيها من الكادحين والطبقة الوسطى ، إنحياز [34] شديد الفجاجة للطبقة الجديدة التي اندمجت بها بقايا الإقطاعيين القدامي ؛ ليتحقق أكبر استقطاب اجتماعي عرفته مصر منذ ما قبل ثورة يوليو 1952 على الأقل ؛ فالتفسخ المُتزايد للبناء الإجتماعي مع السياسات النيوليبرالية التي تبناها جمال مبارك وفريقه – لعلاج تناقضات دولة الإنفاق الإجتماعي المُتفسخة بالتخلص منها ولمصالح تخصهم بالطبع - سرعت من آليات الإنشقاق الإجتماعي ، المُرتكز على التبعية والريعية والفساد الإعتيادي والثنائية الإقتصادية .. إلخ ؛ لتغدو الخارطة الطبقية عملياً شرائحاً متزايدةً من الكادحين والمُهمشين في مواجهة دولة مافيوية تحمي السماسرة ومُستملكي الريع ومُحتكري الأصول والفوائض الإقتصادية ، بينما تعاني الطبقة الوسطى من إفقار اقتصادي وتهميش سياسي مُستمر !!

وهكذا تصاعدت وتيرة حركتين منفصلتين وبطريقة شبه متوازية في المجرى السياسي المصري بدءاً من الألفية الجديدة :

أولاهما : هي الحركات السياسية والنقابية والحقوقية الجديدة للمهنيين والناشطين أبناء الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة ، كذا بعض قطاعات الطبقة العاملة ، والتي بدأت تتمرد على سطوة الدولة على النقابات ، خصوصاً مع القهر الإقتصادي المتزايد لهذه الفئات الإنتاجية المُنظمة نسبياً ، كذا تمحور اهتمام القطاع السياسي منها حول قضايا الحريات والبنية التشريعية ترادفاً مع تصاعد وتيرة القمع البوليسي لنظام مُتفسخ ، ولم تغب بالطبع قضايا السياسة الخارجية التي تصاعدت وتيرة الإهتمام بها أكثر فأكثر مع تصاعد مستويات المهانة الوطنية والقومية بفعل التعديات الإسرائيلية على الحدود المصرية والعنف الصهيوني ضد الإنتفاضة الفلسيطينية الثانية والغزو الأمريكي للعراق وصولاً لإهانات الخليج المُتعددة للمواطن المصري ،

أما الثانية : فهي الحركات الإحتجاجية المُتناثرة بطول البلاد وعرضها ، والتي اتخذت أشكالاً عديد ومتنوعة يجمعها كلها عدم الإنتظام في الحركة وغياب التنظيم على الأرض ، فهي حركات تقوم وتنتهي لأحداث عابرة ، يقع أقلها في أوساط صغار الفلاحين والعمالة غير المنظمة وأغلبها بين مُهمشي النظام الإجتماعي في القرى والعشوائيات ، ممن يحتجون على الدولة الرخوة التي لا تعرفهم إلا كتهديد جنائي وموضوع للقمع ، فيما لا تقدم إستحقاقات المواطنة الطبيعية ، سواءاً كانت البنية الأساسية خصوصاً من مياه وسكن .. إلخ أو كانت السلع العامة عموماً من أمن وعدالة ... إلخ ، وقد كانت هذه الحركات هى الأكثر جذرية في الخروج على أجهزة الدولة التي إنفصمت علاقتها معها وثقتها بها منذ زمن ، وميدانياً كانت الأكثر جرأة في التعامل معها– مع الشرطة على وجه الخصوص – حتى أنها كانت تبادر أحياناً بالهجوم على أقسام الشرطة ، عندما تتصاعد الروائح العفنة للتعذيب والفساد وانعدام الكفاءة !!

وقد اتسع نطاق هذين الشكلين من الحركات ، وإن ظلها مُنفصلين بدرجة كبيرة ، بحيث أنه يكاد يكون ممكناً التأريخ لكل منهما على حده !!

فالطبقة الوسطى – في قطاعها المهني غير السياسي على وجه الخصوص - ظلت على استعلائها على الطبقات الكادحة والمُهمشة ، ولا نبالغ بالقول بأنها كانت نوعاً ما مع القمع الشرطي المتزايد بحق هذه الفئات ، كما أن أغلبها لم يكن يبالي حقاً بالقضايا الوطنية التي رفعت لوائها طليعتها السياسية ، ففي الواقع لم يكن توسع تحركاتها المعارضة سوى اعتراضاً على تهميشها من منظومة الإستغلال و"أبعادية" جهاز الدولة البيروقراطي ، فهى حقيقةً لم تكن لتبالي بالقمع ولا بالفساد ولا حتى بالمهانة الوطنية ، وقطاع كبير منها تتمثل مشكلته الحقيقية مع الجلاد في عدم استجابة الأخير لصراخه "أعطني حباً وحناناً" !!

وقد مثلت واقعة خالد سعيد نقطة مفصلية في هذه العلاقة ما بين الطبقة الوسطى المُتشوفة لأي عطف من عشيقها القديم مُتمثلاً في الدولة من ناحية والمافيا الحاكمة لهذه الدولة من ناحية أخرى ، فالمكانة الخاصة التي كانت تظنها الطبقة الوسطى لنفسها ، والتي كانت تحميها نسبياً من تجبر الشرطة ، هاهي قد انهارت في لحظة كشف دموي ، تبينت فيها أنها لم تفقد التأثير السياسي والتميز الإقتصادي فحسب ، بل هاهي قد انحطت إجتماعياً ، وأصبحت تُعامل معاملة الطبقات الدنيا !!

وكانت هذه هى لحظة الانفصام الكامل للعقد الإجتماعي ما بين الدولة والمُجتمع - خارج طبقتها المُهيمنة - ، فقد إلتقت حركتي التمرد لأول مرة ، وبقيادة الطبقة الوسطى ، ضد النظام الميت إكلينيكياً !!



§ الدولة الفاشلة : ثنائية المطلبية والعنف

لقد ساهم جملة ما سبق ، من تشوه في البنية الإجتماعية وهيمنة سلطوية على المجتمع المدني ، إلى أزمتين هيكليتين في المسارين السابق ذكرهما ، وبحيث دعمتا تأخر عملية التغيير بدايةً ، وانحراف المسار الثوري ليسقط في أيدي الفاشية نهايةً .

وتتمثل الأزمة الهيكلية في مسار الحركات السياسية والإجتماعية المُمثلة للطبقات المرتبطة نسبياً بالبناء الإنتاجي فيما يلي :

1. غياب التنظيم الفعال عن الحركات النقابية المهنية والعمالية .
2. غياب التنظيم بشكل كامل عن الفئات العمالية والمهنية في القطاع الإقتصادي الصغير السائد في الإقتصاد المصري .
3. سيادة أشكال تنظيمية غير إيديولوجية ولا برنامجية في الحركات الشبابية الجديدة .
4. سيادة الفساد والإختراقات الأمنية وغير الأمنية لأغلب المنظمات الأهلية .
5. ضعف عام في الحركة الحزبية لأسباب ثقافية وتنظيمية وتمويلية .. إلخ .

بينما تتمثل الأزمة الهيكلية في مسار الحركة الإجتماعية للفئات المُهمشة من البناء الإنتاجي فيما يلي :

1. غياب أي شكل من أشكال التنظيم ، بسبب عدم وجود هيكل ثابت للعمل لدي أغلب مفرداتها .
2. سيادة شكل واحد من الترابط المستديم نسبياً بين مفرداتها هو الترابط الجغرافي للحي أو القرية .
3. سيادة الأمية وضعف التعليم بشكل يعوق التواصل الفعال مع وسائل الإعلام المُتاحة للقوى المعارضة .
4. الإنتشار القوي نسبياً للقواعد السلفية ، بحكم كون المسجد مركز التجمع الوحيد المتاح .
5. سيادة المشاعر الطائفية بسبب الغياب النسبي للأشكال الأخرى للهوية أو على الأقل عدم فاعليتها وجدواها.

وقد ساهمت هاتين الأزمتين بما لهما من خصائص في غياب التسييس عن مُجمل الحركات السياسية والإجتماعية سواءاً كانت لطبقات مُنظمة أم لفئات إجتماعية مُهمشة ، وبحيث كان "الإحتجاج المطلبي" هو أقصى وأعلى الأشكال المُنظمة للفعل الإجتماعي الواعي في مواجهة السلطة ، والذي يتكامل معه "العنف" [35] باعتباره الشكل الوحيد المُقابل في ظل عدم استجابة الدولة .

وقد يُسهم في تأطير ما سبق مفهوم "اللاحركات الإجتماعية" الذي طوره "آصف بيات" ، والذي نراه منطقياً نشأةً وصيرورةً بالإرتباط مع نتائج تشوه البنية الإجتماعية وتوسع نطاق التهميش بالإضافة لرخاوة الدولة وتقلص الُسبل المُنظمة لمواجهتها ، وهو مفهوم يساعد نوعاً في توصيف ديناميكيات العفوية العامة للحركة الإجتماعية الجديدة غير المُنظمة وغير المُؤدلجة ، والتي تتدفق ببطء بعيداً عن المواجهة المُباشرة مع الدولة ابتداءاً ، وصولاً للصدام في أشكاله المتنوعة الحالية .

وإن كنا نميل أكثر للتركيز على ثنائية "المطلبية والعنف" كنمط طبيعي عام للفعل الإجتماعي في ظل دولة طبقية رخوة ، فهي دولة طبقية تتمترس أمام مصالح الطبقة المهيمنة وحدها ضد الجميع ، وهى رخوة تتملص من أدنى واجباتها كدولة تستمد مشروعيتها – وهى مشروعية احتكار استخدام العنف لفرض قواعد تنظيم المجتمع – من إلتزاماتها تجاه ذلك الجميع !!

هذه الدولة الرخوة ، دفعت المُحجتين بسلبيتها تجاه حقوقهم كمواطنين وبرخاوتها – أو تآمرها - تجاه الخروج على القانون ؛ إلى استخدام العنف كأداة وحيدة لإجبارها على الحركة للقيام بإلتزاماتها أو كبديل لها ، فأصبحت فعاليات قطع الطريق ضمن البرنامج اليومي للمواطن المصري كمُشارك أو كضحية !! وأصبحنا نرى الصور البشعة للإنتقام من البلطجية الذين يتحركون في الشارع طلقاء من كل يد رادعة ، وبحيث طبق الناس العقوبات بأنفسهم سواءاً كونوا لجاناً شعبية منظمة أم لم يكونوا !!

وبالوصول لهذه الحالة من قناعة الناس بغياب الدولة واحتلالهم لموقعها الطبيعي كمُحتكر للعنف ، نكون على أعتاب الدولة الفاشلة التي تجمع بين وجهي العجز ، فهي عاجزة عن القيام بمهامها تجاه مواطنيها ، كذا هي عاجزة عن السيطرة على المجال العام السياسي والإجتماعي لصالح طبقتها المُهيمنة ، وهو أمر يتيح من الفرص ، ما يحمل من مخاطر !!




(4) اليسار المصري وأزمة الدور :
-------------------

رغم كونه كان دائماً في مركز كافة النضالات السياسية وفي كثير من الحركات الإجتماعية ، إلا أنه بقي دائماً الأضعف وسط الجميع ، والأقل تحقيقاً للمكاسب السياسية والجماهيرية على الأرض !!

ويرجع ذلك جزئياً لبعض القصورات الجوهرية في ممارسة اليسار ، نذكر منها :

1. إنحباسه بالمُخطط الماركسي القديم عن رأسمالية تتصارع في إطارها طبقة عاملة وبرجوازية غير موجودتان بهذا المعنى والشكل في أي دولة من دول المحيط التابع اللهم إلا في الخيال وصفحات الكتب الصفراء !! وبالتالي فقد انعزل اليسار نسبياً عن الحركات الإجتماعية غير المُنظمة للمُهمشين ، ولا يُعذر اليسار هنا بصعوبة التواصل !!

2. تعامل اليسار مع الحركات العمالية المُرتبط بها – على قلتها وضعفها - بمنطق الحلقية الحزبية ضيقة الأفق ، فالهدف في كثير من الأحيان كان تحقيق مكاسب سياسية في مواجهة الأحزاب اليسارية الأخرى أكثر منه تحقيق مكاسب للتنظيم العمالي على المدى الطويل .

3. عمل بعض اليسار الرسمي على الإندماج في الإتحاد العمالي الرسمي للدولة ، وهو توجه مثير للريبة في ضوء استحالة تحقيق إنجاز من خلاله ، فوق الشبهات المُحيطة به في ذاته .

4. نجح بعض اليسار في أداء خدمات جدية على المستوى القانوني ، وإن كان لم ينجح من خلالها في إنتزاع مكاسب على الأرض ، بسبب غياب التنظيم القادر على التعبئة العامة خلف المكاسب القانونية [36] .

5. إحتفظ أغلب تنظيمات اليسار في مصر بموقع رد الفعل ، في ظل غياب إستراتيجية واضحة المعالم أو برنامج عمل يضمن حداً أدنى من تنظيم الممارسة السياسية أو النقابية أو الإجتماعية ، وهو ما قاد بالتبعية لتذيل اليسار للحركة "السياسوية" ذات المطالب الديموقراطية البحتة ، بشكل صعب إنجاز أي مكاسب للمشروع اليساري ، كذا صعب معه تمييزه كتيار ، وبالتالي عدم الإقرار أساساً بإنجازاته وتضحياته !!

ومع ذلك ، ورغم كل هذه الأخطاء ، فالحقيقة هى أن أزمة اليسار هى جزء من الأزمة البنيوية التاريخية العامة للمجتمع المصري ، بكافة تجلياتها على كافة الأصعدة ، وسواء تعلق الأمر بالبنية الإنتاجية المُتخلفة أو بالريعية والإستهلاكية المُتفشية أو بالرجعية والأصولية السائدة ... إلخ

والحقيقة أن هذه كما هي تحديات كما هي إستحقاقات على اليسار أن يتحمل مسئوليته تجاهها .




(5) خاتمة : من الإحتجاج الإجتماعي إلى التسييس الطبقي :
----------------------------------

وإنطلاقاً من توصيفنا السابق لمشكلات الصراع الطبقي المأزوم في مصر ، ومن قناعتنا بأن الصراع الطبقي هو الحقيقة الإنسانية الأكثر جوهرية في عملية التطور الإجتماعي ، فإن حل أزمة الثورة واليسار كتيار منوط بها ، هى في ردم هذه الهوة ما بين الأشكال المختلفة للإحتجاج الإجتماعي غير المُنظم من جهة والممارسة السياسية المُنظمة المُستندة لوعي طبقي من جهة أخرى .

وهكذا فالحل يكمن بدايةً في فهم ووعي حقيقي بطبيعة البنية الإنتاجية القائمة ، وبهدف رئيسي هو وعي "الشكل الأساسي للقهر الإجتماعي" باعتباره مركزاً تنطلق منه كافة الأشكال الآخرى للقهر في المجتمع ؛ وبحيث يكون ممكناً عندها الإمساك بالحلقة الرئيسية لالآم المجتمع ، كذا معرفة مركز الثقل في الحركة الإجتماعية ، والذي من عنده وحده نستطيع وصل الحلقة المفقودة ما بين الإحتجاج الإجتماعي والصراع الطبقي .

فمهمة التقدميين الأولى كانت وستظل دائماً هى "تفعيل الصراع الطبقي" ، لا نقول خلقه لأنه قائم دائماً وإن عاني من التموية والتشويه ، فمهمتنا هى باختصار وعي نقطة إنطلاقه الحقيقية إبتداءاً ، ثم تنظيم وتأطير حركة المُضطهدين ، الذين من جهة تقع على رؤوسهم الكتلة الرئيسية للقهر الإجتماعي ، ومن جهة أخرى يتحملون وحدهم عبء قيادة التحول التاريخي المُمكن والضروري في الحقبة التاريخية المُعينة .


----------------------------------------------------------------


[1] أي إدراك الوطن كمفهوم تاريخي وكشبكة مصالح إجتماعية ، يُعاد فهمه وتعريفه ووعي شبكة المصالح التي ينطوي عليها في ضوء الواقع المتغير ، وليس في ضوء مقولات إيدلويوجية تنطلق من تصور هوية أزلية ثابتة تحمل مضاميناً قيمية هى في غالبها غلاف لمصالح طبقية عفى عليها الزمن !!

[2] حسن خليل – الديموقراطية الشعبية المصرية – الحوار المُتمدن – العدد 3659 – 6/3/2012 م .

[3] فليس من الضروري أن يكون الشكل الأساسي للقهر هو القهر التقليدي للعمالة ، بل ربما كان – على سبيل المثال لا غير – قهر مُحتكري الأصول المُدرة للدخول الريعية لمُجمل المجتمع .

[4] د. محمد حامد الزهار – مشاكل اقتصادية معاصرة – مكتية الجلاء الجديدة – المنصورة – مصر – 1997 – ص 113 .

[5] أحمد السيد النجار – نحو برنامج اقتصادي لمصر الثورة – المجلس الأعلى للثقافة – مصر – 2012 – ص 30 .

[6] المصدر السابق – ص 30 .

[7] المصدر السابق – ص 30 .

[8] د. محمود عبد الفضيل – رأسمالية المحاسيب..دراسة في الإقتصاد الإجتماعي – مكتبة الأسرة – مصر – 2012 – ص 22 .

[9] أحمد السيد النجار – الإنهيار الاقتصادي في عصر مبارك – المجلس الأعلى لليقافة – القاهرة – 2012 – ص 108 .

[10] د. محمود عبد الفضيل – رأسمالية المحاسيب..دراسة في الإقتصاد الإجتماعي – مكتبة الأسرة – مصر – 2012 – ص 18 .

[11] تقرير مجلة الإيكونوميست البريطانية عن مصر عدد 15 يوليو 2010 م ، عن د. محمود عبد الفضيل – رأسمالية المحاسيب..دراسة في الإقتصاد الإجتماعي – مكتبة الأسرة – مصر – 2012 – ص 17 .

[12] د. محمود عبد الفضيل – رأسمالية المحاسيب..دراسة في الإقتصاد الإجتماعي – مكتبة الأسرة – مصر – 2012 – ص 28 .

[13] عبد الظاهر : العشوائيات في مصر تمثل 40 % من المناطق العمرانية – موقع جريدة اليوم السابع – 12/8/2012م .

[14] التعبئة والإحصاء : عدد سكان مصر يصل لـ 92 مليون – موقع بوابة فيتو – 27/2/2013م .

[15] مصر تواجه معضلات النمو السكاني مع 91 مليون نسمة – موقع أزمة الموارد - http://www.resourcecrisis.com

[16] موقع صندوق الأمم المتحدة للسكان – مصر - http://egypt.unfpa.org/Arabic

[17] تصريحات وخطب عبد الناصر – القاهرة – مصلحة الإستعلامات – الجزء الثالث – ص 242 ، عن "الدولة والطبقة الوسطى في مصر"- دكتور مؤمن الشافعي – دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع – مصر – ص 248 .

[18] رأسمالية الوكلاء والسماسرة التابعة غير الإنتاجية .

[19] يسميها البعض إشتراكية ، وهو ليس موضوعنا هنا على أي حال .

[20] ناجي حسين – الحركة العمالية المصرية عند مفترق طرق (الجزء الأول) – الشرارة - يناير 1996م – موقع مركز الدراسات الإشتراكية – مصر .

[21] دكتور مؤمن كمال الشافعي – الدولة والطبقة الوسطى في مصر..تحليل سوسيولوجي لدور الدولة في إدارة الصراع الإجتماعي – دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع – مصر – ص 305 .

[22] المصدر السابق – ص 305 .

[23] نرجو ان يكون واضحاً في ذهن القارئ فصلنا جذرياً ما بين عبد الناصر والسلطة الناصرية !!

[24] ولا يوجد إنحياز دون ثمن ، أي دون خسارة لأحد الأطراف بالتأكيد .

[25] من باب المقارنة فقط ، فالإتحاد السوفييتي ذي التجربة التنموية الطويلة نسبياً والدولة النووية صاحبة الأقمار الصناعية وأقوى جيش بري في العالم وقتها ، لم يُدخل هذه السلع المُعمرة للإستهلاك الواسع بين مواطنيه سوى في السبعينات .

[26] علي المصري – 46 عاماً على 23 يوليو 1952..الناصرية والتغيير – الشرارة - أغسطس 1998م – موقع مركز الدراسات الإشتراكية – مصر .

[27] لا نقصد هنا المشاركة بالعجز والفشل والفساد ، بل نشير لمصالح طبقية طغت على المصالح الوطنية بحيث دفعت للتواطؤ مع القوى الإستعمارية ، ونترك هذه كمجرد فرضية تسندها بعض القرائن ، وإن كانت بحاجة لبحث تاريخي دقيق .

[28] أحمد السيد النجار – الاقتصاد المصري في العقود الثلاثة الأخيرة – بحث ضمن كتاب الحركات الإحتجاجية الإجتماعية في مصر والتمهيد لثورة 25 يناير – مركز البحوث العربية والأفريقية والمجلس الأفريقي للبحوث الإجتماعية – ص 44 .

[29] وحافظت على مستوى ما من الإنفاق الإجتماعي – في التوظيف والدعم - المُتناقص باستمرار بتحكمات المنظمات الدولية و تحت وطأة التضخم والديون .

[30] كذا خدمها صراعها مع الإرهاب في تقييد وتحييد الصراعات الإجتماعية والطبقية وتحويل دفة الصراعات لوجهات أخرى تخدم إستراتيجيتها في السيطرة !!

[31] مشكلة نمط دولة الإنفاق العام أو الرفاهة أو الإشتراكية الديموقراطية ...إلخ هذه التنويعات هو أنه غير ممكن أساساً سوى في دول غنية حققت تراكمات عالية جداً من التقنية ورأس المال ، كذا مُتمتعة بتمركزات ريعية ضمن نمط تبادل دولي لا متكافئ !! وهما أمرين غير مُتاحين لأي دولة من دول العالم الثالث الفقيرة والتابعة ، وأخيرها غير مُتاح للأبد لدول النفط ولا لدول العالم الأول ذاتها !!

[32] يتفق الفساد الإعتيادي نوعياً مع الفساد العرضي ، من حيث كونه يشمل كل ما هو مُخالف بالمعنى الضيق للقانون ، وإن كان الفساد الإعتيادي يرتبط بأوجه فساد النظام الإقتصادي بما حوله من ممارسة فردية إلى ممارسة إجتماعية إعتيادية شبه معترف بها ، وهو يختلف عن الفساد الهيكلي الذي يعني مفهوماً تاريخياً يرتبط بإختلالات التشكيلة الإقتصادية الإجتماعية المعينة – وهى مفهومياً أوسع من النظام الإقتصادي - في شكلها الخاص وفي مرحلة تاريخية معينة من تطورها .

[33] يمكن أن تقدم الدراسة الإحصائية المقارنة للنفقات الإجتماعية المتناقصة مع النفقات الأمنية والعسكرية المتزايدة نتائجاً دالة على نتائج هذه التطورات ، ولكننا نتركها هنا كفرضية لسنا في موضع مناقشتها .

[34] وهذا الإنحياز طبيعي جزئياً بالنسبة لأي دولة – وبغض النظر حتى عن الهيمنة الطبقية وعن الحالة الخاصة للدولة الرخوة التي ينخر الفساد الإعتيادي بنيانها – في ضوء فهمنا لمنطق توزيع السلع العامة ، فيوضح مانسور أولسون في كتابه "منطق العمل الجماعي" أن جماعات الضغط وجماعات المصالح الفئوية أقدر على الدفاع عن مصالحها بالمقارنة بالمصلحة العامة المُشتتة بين ملايين المعنيين ممن يصعب تنظيمهم .

[35] بمستوياته المختلفة بدءاً من مجرد العنف اللفظي ووصولاً لحمل السلاح .

[36] الحد الأدني للأجور نموذجاً .


=========================================================


نُشر لأول مرة بفصلية "الطليعة 21" المصرية ، العدد السادس - خريف 2013









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير