الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوكراينيا بين خيار التقسيم والتوازن الإستراتيجي الدولي, الحلقة الثالثة: الأزمة الأوكراينية بين الأهداف الغربية والمشروع الروسي الأوراسي

هيثم الحلي الحسيني

2014 / 4 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


مقاربة تأريخية وجيوسياسية :الحلقة الثالثة


نشوء الأزمة الأوكرانية المعاصرة ومعالمها
كثيرا ما تعاملت روسيا مع أوكرانيا, كالشقيق الأصغر المشاكس، فهي تؤمّن لها إمدادات الوقود الضرورية, باسعار مخفضة ودفوعات آجلة, مع دعم تقاني في صناعاتها الرئيسة, وخاصة المكننة الزراعية, التي يعتمد عليها إقتصاداتها بشكل رئيس, فضلا عن إستيعاب أسواقها للمنتجات الأوكراينية, وما تجنيه من مرور أنبوب الغاز الروسي, العابر الى أوروبا, مبررة ذلك بالتزامات تجاه شعبها الشقيق, لكن روسيا في النتيجة, قد ضمنت عدم إمكانية إفلاتها خارج نفوذها, بما ينسجم ومصالحها الحيوية فيها, من خلال التلويح عند الحاجة, بورقة إستحقاقات الدفوعات المتراكمة, أو الفوائد في التجارة البينية, في الإتحاد الكمركي, الذي يضم الى جانب روسيا, كلا من بيلاروسيا وكازاخستان.
لقد وعت المدركات الإستراتيجية الروسية, ما قد يحصل من تداعيات في الإقليم, يستهدف مجالها الحيوي, نتيجة إستمرار الطرق الأوربي الأمريكي, على وتر التقارب والشراكة الإقتصادية, مع دول الإتحاد السوفيتي السابق, وهو ما أثبتته الأزمة الأوكراينية الراهنة, وفي هذا السياق كان التحذير المبكر, لرئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب "الدوما" الروسي، "أليكسي بوشكوف"، من "مؤامرة أوروبية بدأت معالمها تتضح, وهدفها الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش, وتنصيب رئيس بديل, يقبل مشروع الإندماج والشراكة مع أوروبا".
وقد حرصت روسيا, من خلال الضمانات السياسية والإقتصادية, في مقاربتها للملف الأوكرايني, على عدم تمكين الغرب من تحقيق نواياه في أوكرانيا, الذي يسعى اليها من خلال نافذة الاتحاد الأوروبي, وقد نجحت روسيا في تقديم البديل, وهو مشروع الاتحاد الجمركي الموسّع, الذي يضم الجمهوريات الأوربية السوفيتية السابقة, وهي روسيا وجورجيا واوكرانيا وبيلاروسيا واذربيجان وارمينيا ومولدوفا, ضمانا لنفوذ روسيا فيها, التي تعتبرها ضمن منطقة إهتمامها الجيوستراتيجي, ومجالها الحيوي, والذي يعد خطوة تأسيسية لمشروع الإتحاد الأوراسي, الذي يخطط له كبديل إيجابي, لتجمع رابطة الدول المستقلة, الذي يضم الجمهوريات السوفيتية السابقة, لما يعانيه من تعثر وإخفاق.
ومن جهته, دأب الغرب الأوربي, الى إحياء مشاريع التقارب القديمة الجديدة, مع تلك الدول ذات الحاجات الماسة الى الدعم المادي, فكان مشروع الشراكة الإنتسابية, أو مايسمّى بالشراكة الشرقية مع الإتحاد الأوربي, والذي رأت روسيا, أنه تجريد لأوكرانيا, من سلطاتها في إدارة التجارة والإقتصاد والسياسة الخارجية, بما يعبّر عنه "سيركي كلاسيف", المستشار الشؤون إقتصادية الرئيس الروسي, وعضو الأكاديمية الروسية للعلوم, بأنها "وثيقة نزع السيادة الأوكرانية الى بروكسل", بإشارة الى الإتحاد الأوربي وحلف الناتو1 .
المخرجات الإقليمية في الأزمة الأوكرانية
وكان برنامج "الشراكة الشرقية", قد أطلقه الاتحاد الأوروبي في إجتماع براغ, في العام 2009, وفق أهداف التكامل الإقتصادي مع مجموعة دول الاتحاد السوفيتي السابق, عبر تقديم دعم لتعزيز مؤسسات السلطة, والمساعدة في تطوير قطاع الأعمال، إلا أن مشروع "الشراكة الشرقية", لا يتطرق إلى إمكانية العضوية في الاتحاد، ويفترض تقاربا سياسيا واقتصاديا مع هذه المنظمة الإقليمية، بما في ذلك تسهيل نظام منح تأشيرات الدخول الى بلدان الإتحاد, والتعاون في مجالات الطاقة, والتجارة الحرة, وقد جرى التخطيط لتنفيذه, ضمن المؤتمر الأوربي, بحضور الدول المعنية في إتفاقية الشراكة .
فكانت الرؤية الأوكرانية, تتطلع الى مشاركتها مع الاتحاد الأوروبي, في وضع برنامج اقتصادي, يسبق إنضمامها للمشرع, أو يؤهلها لذلك, من خلال استئناف التعاون الإيجابي مع صندوق النقد الدولي، وإعادة النظر في القيود التجارية, التي فرضتها دول الإتحاد الأوربي على أوكراينيا, والمشاركة في تحديث منظومة نقل الغاز الأوكرانية، وإزالة المحدّدات, التي لا تسمح بالتعاون البيني لأوكرانيا, مع روسيا ومجموعة الدول المستقلة, وتحديدا دول الاتحاد الجمركي, وهي كازاخستان وبيلاروسيا, إضافة لروسيا.
وكان متوقعا, أن النتائج لن تكون إيجابية, في ميزان التطلعات والتمنيات الأوكرانية, والتي يمكن تشبيهها بمسك الرمانتين بيد واحدة, أو أن الرئيس الأوكرايني, كان قد هدف الى إلقاء الحجة, إزاء الضغوط التي يتعرض لها في الداخل, وبالذات الأقاليم الغربية, والمعارضة السياسية التي تمثلها, وفي المقابل, كانت شروط الاتحاد الأوربي, مجحفة اقتصاديا وسياسيا، وما عرضه من دعم مال, غير مجزٍ, فضلا عن مطالب أخرى, تهدف الى غلق النافذة عن روسيا, والمحيط الشرق أوربي والأوراسي, أو السوفيتي السابق, ومن بينها السماح لرئيسة الحكومة السابقة, حليفة الغرب وزعيمة المعارضة "يوليا تيموشينكو", بمغادرة سجنها, الذي تقضي به حكما بإدانتها بالفساد المالي, بحجة السفر للعلاج في ألمانيا.
فكان قرار الرئيس الأوكرايني, هو الحضور الى مؤتمر الشراكة الأوربية الشرقية, الذي عقد في العاصمة الليتوانية "فيلنوس", بصفتها الرئيس الدوري في الإتحاد الأوربي, يوم 29 تشرين الثاني 2013, لكنه أوقف إجراءات التحضير للإنظمام للشراكة الشرقية الإنتسابية, قبل أسبوع من موعد عقد المؤتمر, وبالتالي جرى رفض المشروع, من داخل أروقة الإجتماع, معلنا أن الأسبقية في سياسته, هي لعلاقاته بروسيا ودول الرابطة.
شملت الصدمة كلا من الشارع الأوكراني والمعارضة التي يمثلها, أو أنه كان قد جرى التخطيط والإعداد مسبقا, للتعامل مع تك الصدمة, والمشاهد التي تلحقها, كما وقد شملت الردود السلبية, بلدان الإتحاد الأوربي, فضلا عن دول حلف الناتو والولايات المتحدة بالذات, التي أبقت أبواب المشروع مفتوحة, بأمل أن يعدل الرئيس عن قراراته إزاءها, وذلك ما بينته صراحة, مفوّضة الخارجية الأوربية, "كاترين إيشتون", بإن "اتفاقية الشراكة الانتسابية, مسألة مهمة جدا بالنسبة لنا, وآمل بأن نحرز تقدما في هذه المسألة بأسرع وقت ممكن", كما اعتبرت رئيسة ليتوانيا "داليا غريباوسكايتي", البلد المستضيف للمؤتمر، أن أوكرانيا قد اختارت طريقا "نحو المجهول", مما يؤكد تبييت النية, لطبيعة الخطوات القادمة.
ومع إتهام الغرب لروسيا, بأنها قد مارست ضغوطا لمنع تنفيذ الإتفاقية, لكن الرئيس الروسي بوتين، عرض بالمقابل, عقد حوار ثلاثي يشمل الإتحاد الأوروبي وأوكرانيا وروسيا, لدراسة النتائج المترتبة عن إتفاقية التجارة الحرة مع أوروبا، خاصة وأن روسيا ومجموعة رابطة الدول المستقلة, ترتبط معها باتفاقية مماثلة, لكن ذلك قد جوبه برفض مبيّت, من قبل الإتحاد الأوربي.
فكان نزال التحدي, قد شهد مسرحه, بما عرف بقمة الشراكة الشرقية, الذي عقد في "فيلنوس", والذي إستهدف الى جانب أوكرانيا, كلا من جورجيا وملدافيا, التين أبديتا موافقتهما على الإنضمام فيه, بعد رفض بيلاروسيا وأرمينيا, للأسباب التي بينت في الحلقة السابقة, لكن الهدف الرئيس في المشروع, كان أوكرانيا, وهي العقدة الحقيقية فيه, أو الصيد الثمين, الذي استهدفته أوروبا, بدعم وتشجيع من الناتو والولاليات المتحدة, وحيث لا تشكل كل من جورجيا وملدافيا, ما تشكله أوكرانيا, بالنسبة للمدركات الروسية.
لقد حضر رئيس أوكرانيا, فصول مؤتمر القمة, وعينه على الحاضنة الروسية, وخاصة إمداد الطاقة, وإستحقاق الدفوعات المالية, وعضويتها في الإتحاد الكمركي, الى جانب روسيا وبيلاروسيا "روسيا البيضاء" وكازاخستان, الذي يوفر لها موارد مالية رئيسة, وكان في جعبته الى المؤتمرين, مشروع الاصلاحات الاقتصادية, طلبا المساعدة المالية من الغرب، مع وعد يصعب الإيفاء به, بالانضمام الى الشراكة الإنتسابية مع الاتحاد الاوروبي.
لكن دول الإتحاد الأوربي, وكما كان متوقعا, فرضت عليه شروطا بعضها تعجيزية, من بينها تعديل قانوني, يسمح بإطلاق سراح رئيسة الوزراء السابقة "يوليا تيموشينكو"، فضلا عن تعديلات في القوانين المجتمعية, وفتح الأسواق الاوكرانية امام إغراق السلع الغربية، وفق إتفاقية التجارة الحرة, والتي ستكون أوكراينيا, طرفا ضعيفا في المنافسة فيه, وبالتالي فرض الإبتعاد عن الشريك الروسي, الذي يرى أن سوقه, لا يمكن أن تكون مصبّا للمنتجات الأوكراينية, التي ستتراكم في السوق الأوكراينية, وفق المدرك الإقتصادي, فضلا عن العامل السياسي, ضمن المرتكزات الإستراتيجية الأخرى.
فأثارت الإشتراطات الأوربية, حفيضة رجال الأعمال ورؤوس الأموال والصناعيين الأكرانيين, "الأليكارية الأوكرانية", الذين ترتبط مصالحهم الإقتصادية مع روسيا، حيث تمثل السوق لتصريف منتجاتهم, فضلا عن مصادر موادها الأولية وتقاناتها, وغالبيتهم ينتسب الى الشرق والجنوب الأوكرايني, الناطق بالروسية, مع إنتماءاتهم السياسية الى حزب الأقاليم الحاكم, ونفوذهم فيه, وبالتالي في القرار السياسي, فكانت معارضتهم القاطعة للمشروع، لأنه سيعني إنهاء الإنتاج الصناعي, وتفشي البطالة, وما ستتبعه من أثار مجتمعية.
وكان الرئيس الأوكرايني, قد طلب لتمكينه من الإيفاء بمتطلبات الإنضمام للشراكة الأوربية, جرعة إنعاش مالية للإقتصاد الأوكرايني, وتخفيف شروط الإقراض, التي عرضها على القمة, من صندوق النقد الدولي, فكان كل ما عرضته دول الإتحاد, هو مبلغ مساعدة, لا يتعدى الستمائة مليون دولار, في الوقت الذي تبلغ مستحقات الدفوعات الى روسيا, عن الطاقة والقروض والتسهيلات المادية الأخرى, قرابة الستة عشر مليار دولار, وهو ما عبّر عنه الرئيس الأوكرايني, بالإهانة الأوربية لأوكرانيا, فكان البند الحاكم, الذي أفضى الى رفضه المشروع, وعودته الى كييف, خالي الوفاض.
وعندئذ توجه الى روسيا, التي وافقت على منحه قرضا مجزيا, بقيمة خمسة عشر مليار دولار, وبشروط غير ثقيلة, وعلى تخفيض كلف الغاز المصدر الى اوكرانيا, بما يؤمن حاجات الإقتصاد الأوكرايني, وسد العجز في مدخولاته, مع تأكيد الرئيس الروسي, ان الهدف من المعونة, "مساعدة الشعب الاوكراني الشقيق في تجاوز الازمة الاقتصادية الخانقة".
فكانت تلك الشرارة التي اشعلت لهيب الأزمة, التي شهدت ساحة الإستقلال "الميدان", في كييف العاصمة, فصولها الدامية, وقد حاول الرئيس, التعامل معها بروية, معتقدا أنها لا تعدو كونها ردة فعل, إزاء ما يكنّه الشباب في الغرب الأوكرايني, من تعاطف مع الإتجاه الى أوربا, وما يعتبرونه الحلم الأوربي, وخاصة وعود تسهيلات السفر والإقامة, التي عرضها الإتحاد الأوربي في دوله, والتي تجد أصداءها, مع تفاقم أزمات البطالة, وإنحسار فرص العمل في الأقاليم الغربية, خاصة ما تعانيه, من ندرة المشاريع الإنتاجية, والتي كانت علّتها, عزوف مواطني تلك الأقاليم, عن الإنخراط في أسواق العمل, مقابل أحلامهم بالسفر وإيجاد فرص الحياة الأفضل, في المهاجر الأوربية, وبذا مثلت نتائج المؤتمر, إحباطاً كبيراً لهم.
ولم يتردد الاتحاد الأوروبي, في انتقاد روسيا وتحميلها مسؤوية الرفض الأوكرايني لمشروع الشراكة الإنتسابية, في إتهامها بممارسة ضغوط و"إبتزاز" على أوكرانيا، بينما خرجت المعارضة الأوكرانية, الممثلة للأقاليم الغربية, في تظاهرات إحتجاجية, تطالب بإجراء انتخابات جديدة، واستقالة الرئيس "فيكتور يانوكوفيتش", على خلفية إتهامه "بالتواطؤ" مع روسيا, والسير بركابها, ثم مطالب إعادة النظر بقبول إتفاقية الشراكة, وقطع قنوات التعاون مع روسيا, التي يشملها عضوية الإتحاد الكمركي, مع روسيا وبيلاروسيا وأوزبكستان, وبالتالي دول رابطة الدول المسقلة.
وسرعان ما تطور الموقف, الى إحتجاجات وإعتصامات, وتمرد على السلطة والدولة, مع ظهور نوايا إستخدام العنف, وفقدان السلمية فيها, بحجة مواجهة قمع الأجهزة امنية, مما يؤكد تبييت النية لذلك التصعيد, بتدخل ودعم وإسناد وتمويل, من جهات خارجية أوربية, كانت تؤمن ديميومة الإعتصام, خاصة أن مادته الرئيسة, من الشباب العاطل عن العمل, في الوقت الذي تؤكد الدولة, أن منتسبيها الذين يحاولون بسط الأمن في المدينة و"الميدان", هم عزّل غير مسلحين.
وقد عادت ساحة الإستقلال "الميدان" الى الواجهة, الذي كان رمزا وموقعا للثورة "البرتقالية", في العام 2004, والتي هدفت الى عزل أوكراينيا عن روسيا, ضمن نفس الدور, ولكن بأدوات أخرى, وغير سلمية, وبات يدعى "ميدان أوروبا", فالثورة البرتقالية, كانت مادتها الطبقة المتوسطة, وكانت المعارضة وراء تنظيمها, كما أنها كانت تتمتع بوجود قيادة موحدة, أما هذه الإضطرابات, فأدواتها هم من الشباب في مقتبل العمر, الذين لا يرون لأكثر من تحت أقدامهم, ولايعون بوضوح ما حدث في العام 2004, وجل ما يهدفونه, هو حرية التنقل الى بلدان الإتحاد الأوربي, بحثا عن فرص الحياة التي يحلمون بها.
كما أن المعارضة الأوكرانية, وقادة الإعتصام في "الميدان", لم تكن موحدة في أهدافها, ولا يجمعها, سوى رفض التقارب مع روسيا, دون فهم تداعيات فقدان الشريك الروسي, في مجمل الحياة الأوكرانية, إن في الطاقة أو الإقتصاد أو السوق التجارية, فضلا عن الإستقرار السياسي والتوازن المجتمعي, وبالنتيجة سقوط العشرات من القتلى والجرحى, في صفوف الطرفين.
وكثيرا ما يقارب الإعلام الروسي الرسمي, تلك الأحداث, بما حصل في ميادين الربيع العربي, بدعوى أن التجربة قد نقلت حرفيا, وقد جرى ترجمة الخطابات والتعليمات, من العربية الى الروسية أو الأوكرانية, لكيفية التعامل مع أفراد الأمن, وإستخدام مواقع التواصل الإجتماعي, في ديمومة الإعتصام وشحذه, مع الفارق الواضح, في الأسباب والنتائج.
كما يجري مقاربة ما حصل, من إستهداف للتراث العلمي والوطني, في البنية التحتية والثقافية والأثارية في بغداد, تحت مرأى القوات الأمريكية, إذ جرى تخريب ونهب المتحف الوطني والمكتبة الوطنية ودار الوثائق العراقية, ونهب الخزانة المركزية وموجوداتها, وتكرر المشهد في طرايلس الغرب والقاهرة وصنعاء, فقد حصل أيضا, تخريب ونهب مقتنيات المتحف الوطني في "كييف", وكذا موجودات الخزينة من المسكوكات الذهبية والعملة الصعبة, ويدّعي مكتب الرئاسة الروسية, أنه قد جرى نقلها بطائرة خاصة, رصدت يوم 2 أذار, دون أن تخضع لترتيبات الفحص في المطار2 .
ومن سجنها، دعت "يوليا تيموشينكو", التي طالبت أوروبا بإطلاق سراحها, الى ديمومة الإحتجاج وتصعيده, بهدف إسقاط الرئاسة والحكومة المنتخبتين, كذلك كان موقف الزعيم "الميداني" الشاب, "أرسيني ياتسينيوك", الذي كان ضمن التحالف الذي تقوده "يوليا", والذي يوصف بالتشدد القومي والعداء لروسيا, وقد تولّى رئاسة الوزراء لاحقا, في الحكومة التي شكلها قادة التمرد.
وقد تسارعت الأحداث, وفق ما خطط له القادة في الميدان, وقبل إنتهاء العام 2014, تصاعدت حمّى الإعتصامات لتشمل مدنا أوكرانية أخرى, مع إجراءات غير فعالة, اتخذتها السلطات ضد المحتجين, واقرار البرلمان "الرادا", قانون منع التظاهر, ثم المفاوضات التي إضطر الرئيس لإجرائها مع المعارضة, والتي إنتهت الى إتفاق مفصلي, جرى عقده في 21 شباط, يضمن اجراء تعديل وزاري, وإلغاء قانون منع التظاهر, والتحضير لإجراء أنتخابات مبكرة, خلال شهر ايار, وإجراء تعديل قانوني, يسمح بإطلاق سراح, زعيمة المعارضة, "يويا تيموشينكو", مع التعهد بالمقابل, بإنتهاء الإعتصام, وعودة الحياة الطبيعية, في الميدان والعاصمة, والمدن الأخرى المنتفضة.
وتؤسس الشرعية الأوكراينية, ممثلة بالرئيس المنتخب دستوريا, ومن خلفها روسيا, على هذا الإتفاق, الذي جرى توقيعه مع المعارضة, في التأصيل لحل سياسي للأزمة, لكن ذلك لم يلق صدى, إذ سرعان ما تصاعدت وسائل الإحتجاج, لترتسم بطابع العنف وإستخدام السلاح, في ممانعة منتسبي الأمن الرئاسي, والموظفين الحكوميين, أو المنتمين للإئتلاف الحكومي مع حزب الأقاليم, كالأحزاب اليسارية, والمواطنين الداعمين للرئيس والدستور وإجراءات الشرعية, خاصة في أقاليم الشرق والجنوب, من الناطقين بالروسية, وبات يطلق على مجاميع التطرف والعنف, بالفاشيين.
وذلك في ظل ترحيب وحضور غربي رسمي فاعل في "الميدان", من بينهم وزراء خارجية بولندا والمانيا وفرنسا, والنائب "باول كاول", رئيس وفد البرلمان الأوروبي الى أوكرانيا, وكذا السناتور الأمريكي "جورج ماكين", الذي يعتبر التغير الحاصل في مصر العربية, هو "إنقلاب عسكري على الشرعية المنتخبة", في الوقت الذي كانت زعامات هذه الدول, في مؤتمر "فيلنوس", قبل ذلك بأيام, تعتبر الرئيس الأوكرايني شرعيا, في قبول تمثيله لبلده في المؤتمر, فضلا عن تطلعاتهم, لتوقيعه إتفاقية الشراكة معهم, بصفته شريكا مقبولا, في تناقض صريح, حيث بات الغرب داعما, للرافضين لهذه الشرعية, بالوسائل التي قد تبدو بعضها مشروعة, كون الرئيس يعد فاقدا لشرعية الإنجاز, حيث الفشل الإداري والسياسي, وتداع الحالة المعيشية للسكان, وهو ما تعهد به في برنامجه الحكومي, لكن الغرابة تكمن في الوسائل غير المشروعة, التي دعمها الغرب, ممثلة بفرض سلطة بديلة بالقوة, وفي إستخدام العنف السياسي والمجتمعي, وفي عدم الإحتكام لصندوق الإنتخاب.
ومن بين الإجراءات غير الدستورية, منع إستخدام اللغة الروسية, واغلاق المدارس والجمعيات الثقافية والاجتماعية الروسية, فضلا عن إعلان الكنيسة الاوكرانية في الغرب, انفصالها عن "بطريركية" موسكو, لتكون تحت رعاية "بابا الفاتيكان", رأس الكنسية الكاثوليكية في العالم, برغم أن الكنيسة الأوكراينية, أرثوذكسية المذهب تقليديا وتأريخيا, أو كما يطلق عليها بالروسية, بالديانة "البرافا سلافنية", بمعنى الصحيحة والممّجدة, وفق التركيبة المجتمعية في أوكراينيا, التي قاربتها الحلقة الأولى من الورقة, وقد تعرّض المتشددون الغربيون الأوكرانيون, على متولّي الفروع الإقليمية للكنيسة, بهدف السيطرة عليها.
فكان قرار الرئيس, يوم 23 شباط 2014, هو ترك البلاد, بعد أن تنقل بين مدن خاركوف ودونيتسك, القريبة من الحدود الروسية, وذات الأغلبية الناطقة بالروسية, ثم ظهر في مؤتمره الصحفي, في مدينة "راستوف نا دانو" الروسية, أو "راستوف على نهر الدون", المشاطئ لبحر الأزوف, قرب اللسان الشرقي الروسي للقرم, معلنا أنه سيعود لبلاده, بعد تأمين أمنه وأمن أسرته, وأنه لا يزال يعد الرئيس الشرعي لأوكرانيا, معتبرا أن إتفاقه الذي أبرمه مع قادة الإعتصام, والذي تم في قصر الرئاسة, لا يزال هو المرجعية في الحل السياسي, للقضية الأوكرانية, وهو ذات الموقف الذي تعتمده الرئاسة والدبلوماسية, ووسائل الإعلام الروسية.
فجرى تشكيل سلطة قوامها قادة الإعتصام في "الميدان", إذ شكل "باتسيونوك" حكومته غير المنتخبة, وهو ذي جذور بولونية يهودية, ويشغل رئاسة الحزب اليميني المتطرف, الذي يدعو الى منع اللغة الروسية بدعوى الوطنية الأوكراينية, وتفكيك الروابط مع روسيا, في الجوانب السياسية والإقتصادية والمجتمعية, والى خصخصة وسائل الإنتاج, والإنضمام الى الإتحاد الأوربي, والغريب أنه أعلن تحالفه مع "نيكوبوف", زعيم الحزب القومي الإجتماعي, الذي يوصف بالعنصرية والتشدد القومي الأوكرايني, و"معاداة السامية", غير أن الموقف من روسيا, قد جمع النقيضين معا.
وقبلها أعلن عن إنتخاب "اليكسندر تورخينوف", رئيسا لمجلس النواب "الرادا", ليصبح رئيسا مؤقتا للبلاد, وقد اضطر الكثير من قادة حزب الرئيس المخلوع "الأقاليم", لإعلان تأييديهم, للحكومة والرئاسة غير المنتخبة, ربما لضمان أمنهم ومواقعهم.
وفي المقابل, فقد أجرت بعض القطعات المنتخبة الروسية, الآلية والصاروخية والمدرعة, المدعمة بإسناد القوات الجوية وطيران الجيش, تمارين تعبوية "مناورات", عند المناطق المتأخمة للحدود مع أوكرانيا, ومع أن وزارة الدفاع الروسية, قد أعلنت أنها ضمن سياقات العمل الإعتيادية, والتدريب السنوي, لكن ذلك يشير الى إجراءات ردع محتمل, وإستعراض للقوة, ضمن مبادئ السوق "الإستراتيجية", العسكري والعام.
وتزامنت الأحداث, مع ظهور علامات واضحة, بأن "القرم" على موعد مع تغيير سياسي, يشكّل فيه الرد الروسي الأول على أحداث "الميدان", إذ سيطر ممثلوا الأكثرية الروسية فيه, على الدوائر الحكومية والمنشآت الرئيسة, وبدعم من الحكومة المحلية, جرى بشكل علني, الإفصاح عن رغبات الشعب في شبه الجزيرة, بالإنضمام الى روسيا, ومع أن الكتلة التترية, قد عارضت هذا التوجه إبتداءً, على خلفية الذاكرة التأريخية, في القمع الذي تعرضت له, خلال الحقبتين القيصرية والستالينية, لكن الشعب التتري القرمي, قد تواصل في النهاية, مع رغبة سائر شعب القرم, بل باتوا يدعمونها, بعد أن قدّمت لهم السلطات المحلية, ضمانات المساواة, في المواطنة والحقوق المدنية, ومن بينها اللغة والثقافة والدين والتقاليد والأعراف.
ثم جرى التعامل الروسي مع قضية القرم, وفق الرؤية الروسية, المبنية على مبدأ حقوق الشعوب في تقرير مصائرها, ضمن ميثاق الأمم المتحدة, برغم إعتراضات السلطة القائمة في كييف, ودول الإتحاد الأوربي وحلف "الناتو", مستندين على المبدأ الأخر في نفس الميثاق, الذي يضمن إحترام وحدة البلدان, وعدم تقسيمها, لكن الرد الروسي, في الإعلام والديبلوماسية, بيّن أن ذلك مستندا الى سوابق مماثلة, قد حصلت في إستقلال "تيمور الشرقية" في أندنوسيا, في العام 1999, ثم جنوب السودان, في العام 2011, إذ كانت كرة اللهب, قد استعرت في إلاعلان عن إستقلال إقليم "كوسوفو", عن صربيا, في العم 2008, وجميعها قد جرى ترتيبها, وفق إجراء إستفتاءات شعبية.
وهو ما حصل فعلا في القرم, الذي بينت نتائج الإستفتاء فيه, قبولا واسعا لخيار الإنضمام الى الإتحاد الروسي, بنسبة تجاوزت التسعين بالمائة من المصوتين, الذين تجاوزوا نسبة الخمسة والثمانين بالمائة, فيما رفض خيار العودة الى دستور 1992, ضمن الدولة الأوكراينية, وبما يظهر التوافق بين المكونات السكانية الثلاث الرئيسة, وهي الروسية والأوكراينية والتترية, وفق تسلسل حجمها في شبه الجزيرة, إذ حرص المنظمون للإستفتاء, إستخدام اللغات الثلاث لها, في وثيقة الإقتراع3 , مع بوادر لظهور رغبات مماثلة, في الأقاليم الشرقية والجنوبية, الناطقة بالروسية, على خلفية ما يخشاه مواطنوها, من إجراءات إنتقامية.
وستنصرف الحلقة القادمة من هذه الورقة, الى دراسة المخرجات المستقبلية, لمسارات الأزمة الأوكراينية, ضمن سياقاتها الإقليمية والدولية, وتأثيراتها في أمن حوض البحر الأسود, ونزاع النفوذ الدولي فيه, خاصة بين روسيا وحلفائها من جهة, وبين الإتحاد الأوربي وحلف "الناتو" من جهة أخرى, وإمتداداتها في الوسط القاري الأوربي غربا, وفي مستقبل المشروع الأوراسيوي شرقا, الذي تتطلع روسيا من خلاله, الى إعادة مكانتها الدولية المشروعة, ضمن مجالها الحيوي, ومرتكزات أمنها ومصالحها الإستراتيحية, بما ينسجم ومواردها وقدراتها الجيوسياسية, ومقوماتها التأريخية والجغرافية, بما يعد إنتاجا, لنظام دولي تعددي جديد.
الهوامش:
1 سيركي كلاسيف, مستشار الشؤون الإقتصادية للرئيس الروسي بوتين, وعضو الأكاديمية الروسية للعلوم, مقابلة مع سلام مسافر, روسيا اليوم, 16 أذار 2014.
2 نفس المصدر السابق.
3 وثائق مركز الإتصالات الأوراسيوي, موسكو, آذار 2014.



دهيثم الحلي الحسيني
باحث في الدراسات الإستراتيجية
ومتخصص في العلاقات العربية السوفيتية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشدد مع الصين وتهاون مع إيران.. تساؤلات بشأن جدوى العقوبات ا


.. جرحى في قصف إسرائيلي استهدف مبنى من عدة طوابق في شارع الجلاء




.. شاهد| اشتعال النيران في عربات قطار أونتاريو بكندا


.. استشهاد طفل فلسطيني جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي مسجد الصديق




.. بقيمة 95 مليار دولار.. الكونغرس يقر تشريعا بتقديم مساعدات عس