الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة معاصرة لرواية -الحرب في بر مصر- للروائي -يوسف القعيد-

أماني فؤاد

2014 / 4 / 12
المجتمع المدني


قراءة معاصرة "للحرب في بر مصر"
يوسف القعيد
د. أماني فؤاد
إلي متى نحن سائرون إلي الوراء ؟ نتقدم بمنطق الزمن خطيا إلي المستقبل ، لكننا نعود إلي الخلف !؟ إلي متي يبقى أخلص ما نجيده ، أو يفرض علينا ، النكوص إلي القديم والكائن المستقر ، حتى وإن تراكمت عليه طحالب القرون والعقود ؟
هناك من يثورون ويستشهدون وآخرون يتلقفون ثمار موتهم وتضحياتهم ، يقتنصون الغنائم ، ويخرجون من جحورهم ليكرسون للرجعية أو الأصولية ، أو للحكم الشمولي القمعي المستغل ، الديكتاتوري أو العسكري .
هناك من يحاربون ويستشهدون ، يقتلون من أجل تراب أوطانهم ، وآخرون ينالون شرف الشهادة ويأخذون المستحقات والتعويضات ويحتفظون بحياتهم ، لا يدفعون الموت ثمنا للحياة . تبقي العطايا والاستحقاقات في مجتمعاتنا لمن لم يقدم في سبيلها تضحية ، للطبقة التي اعتادت أن تحصد كل شيء ، ويبقى المجتمع طبقي بامتياز .
كأننا بصدد مواجهة سارقي البطولات ، فئة تمتص دماء الآخرين وبطولاتهم مرة بعد أخري ، ونحن لا نتعلم أو نتعظ من التاريخ .
تساءلت وأنا أعاود قراءة "الحرب في بر مصر" للروائي الكبير: "يوسف القعيد" ماهي المشاعر التي انتابت شخصية النص الرئيسية " مصري " وقت أن تلقى جسده رصاصات استشهاده في حرب السادس من أكتوبر 1973 م ؟ هل ساورته لحظة شعور طفيفة أنه في هذا المقام بديلا لآخر ، ابن العمده المدلل ، أنه يقوم بدور في إطار صفقة ، مقابل قطعة أرض يتعيشون منها ، أم أنه شعر أنه يزود عن وطنه ؟
لا ينتابني شك أن طيف كونه بديلا لم يراود ذهنه ، أتصوره حارب من أجل وطن وأرض هما عماد كيانه الذي لا يتجزأ ، لكن يبقى المجتمع الظالم هو الآلة حادة المقاطع التي تبتر كل ماهو نقي وحالم في هذا الوطن ، كل ما هو ضعيف لا تسانده قوة . تراه وهو مجرد جثة يسترجع وقت تشييع جثمانه كيف ظلم حيا ، وزيفت هويته ميتا .
استحضرت واقعية "القعيد" المأساوية من خلال شخصية "مصري" ومفارقة المجتمع معه آلافا من الشهداء الذين ماتوا من شباب هذا الوطن في ثورة 25 يناير 2011 م وما تلاها من موجات إلي ذهني ، مشهرين كأسنة حادة تصرخ ، تساءل واقعا لا يعرف معنى لقيمة العدل .
نشرت رواية الحرب في بر مصر لأول مرة عام 1978 م ، وأعادت دار الهلال نشرها هذه الأيام بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاد "القعيد" السبعيني ، يبقي بهذا النص وهج الإبداع الحقيقي رغم مرور تلك السنوات ، لمعالجته للقيم الإنسانية في مطلق وجودها مع التاريخ البشري ، لتجسيده لوطأة الظلم والمفارقات العنيفة التي تحدث للمستضعفين علي هذه الأرض، حكاية مصري بسيط من طبقة الفلاحين المعدمين في المجتمع المصري ، ذهب وهو الولد الوحيد في أسرته إلي التجنيد وخوض حرب بديلا عن ابن العمدة المدلل ، نتيجة لصفقة تمت بواسطة المتعهد والعمدة ووالد مصري ، المال والنفوذ والقوة حين يستبد بالفقر والضعف والهوان ، قضاء فترة التجنيد بدلا من ابن العمدة في مقابل قطعة من الأرض ، تساعد مصري ووالده وأسرته علي استمرار الحياة ، ومواجهة شظفها الشديد .
تندلع الحرب و يستشهد "مصري" ابن الفلاح البسيط ، ويذهب التكريم والاستحقاقات إلي العمدة وولده الذي لم يخض حربا ولا مواجهة ، غاية الظلم ومنتهاه .
اقترن موت مصري في النص بقرار وقف إطلاق النار في 22 أكتوبر 1973 م ، وهو ما يشير علي موقف الروائي الضمني من ملابسات الحرب ، وطريقة إدارتها ، وتوقيت انتهاءها ، ومن هم فئات هذا الشعب الذي دفع ثمنا ؟ كأن التضحيات كانت صفقة مع سارقي الأحلام ، أحلام بسطاء هذا الشعب التي كانت بلا ثمن مجزي حتي لحظتنا هذه ، التي تتكرر تجليات الظلم فيها بصور مختلفة .
ــ يقدم الروائي نموذجا للفلاح المصري المقهور تحت فقره وعوزه ، وتحكم مجتمع طبقي ممثل في شخصية العمدة مالك الأرض ومن عليها ، رغم قيام ثورة 1952 م وما تبنته من حلم العدالة الاجتماعية ، وساسة أوطان لا يعنيهم سوي أمجادهم الشخصية ، ولينقل الكاتب هذا العالم وظف تقنياته السردية المتنوعة لتصوير وتجسيد هذه الدراما السوداء ، استنطق الموت من خلال مشاهد تقطر مرارة وسخرية من مفارقات واقع ظالم ، ذلك حين حرك تابوت "مصري" وجعل كفنه يتململ وهو فوق رؤوس مشييعيه ، يقول علي لسان الصديق بعد أن أذاع الراديو موافقة مصر علي قرار وقف إطلاق النار " إن ما قيل ليس صعبا علي الفهم ، ولكن من حق الكل ــ خاصة نحن ــ أن نفهمه ونتمثله كل بطريقته الخاصة ، أهتز الصندوق من جديد ، بدا لي أن مصري فهم اللغز وبدأ في حل طلاسمه ، حركة الصندوق هذه المرة بدت أقرب إلي التململ أو محاولة التعبير عن عدم الرضا ــ لا أدري ــ أو محاولة قول إيضاحات اللحظة ما بعد الأخيرة ، حيث يكون الأوان قد فات " ص86 .
رسم مشهد دفن مصري علي أنه آخر ، ابن العمده ، وحركة التابوت دلالتان علي جوهر صراع الشخوص وانطباعاتهم علي الحياة في مجتمع يوقع ظلما متوارثا علي أفراده ، مهما ظنوا أن هناك فرصا للعدل والانتصار ، استخدم الروائي تقنية المشاهد المتحرك ليستنطق الموت الساخر من الحياة ، ويحرك الجمادات والموتي ؛ ليوحي بعمق سوداوية الواقع ورفض هذه النهايات المجحفة ، ربما ينتفض المجتمع رافضا لكل أنواع الظلم الذي يحياه .
ــ ويختار الروائي لحكي مأساة نصه المزج بين تقنيات السرد المتنوعة : الموروثة والحداثية ، فنستحضر طقس سرد الحكواتي في التراث ، وهو ما يتناسب مع أجواء النص الذي مسرحه الريف المصري وتقاليده الحكائية ، هناك دائما جماعة المنشدين الذين يتبادلون القص في ساحة القرية أو المولد المقام فيها ، يبدأ أحدهم الحكي و يستكمل آخر ، ثم يسلم القصة إلي زميل له لينسج جزء من خيوطها وهكذا .
عمَّق اختيار تلك التقنية من شده سوداوية هذا الواقع الذي يشبه تيمة متكررة ، تحدث بمجتمعاتنا ونتحاكاها ونتناقلها حتي تصبح جزءا موروثا مريرا نواجهه ، لكن لا نقوي علي تغييره.
يتحدث في النص ستة أصوات : العمده ، والمتعهد ، الغفير ، الصديق ، الضابط ، والمحقق ، فنلمس تقنيات الرواية البلوفونية ، أو رواية الأصوات المتعددة ، وهو ما نسجه الروائي في نصيه " الحداد " و" قسمة الغرماء " تحديثا لتقنيات الكتابة التي مارسها جيل الستينيات بدأب مع إبداعه ، واتساقا مع تغير المجتمع ذاته وقضاياه ، وتعدد مناظير الرؤية فيه .
كما يستعير الكاتب من تقنيات المسرح البريختي كسر الحاجز الوهمي بين السارد والمتلقيين ، يقول صديق مصري " أعتقد أنني جانبت أصول الذوق واللياقة التي تفرضها أصول الحديث ؛ لي العذر ، لم أجد من يقدمني لكم ، فليس في هذه الرواية مؤلف يتولي كل هذه الأمور نيابة عنا ، لهذا علي القيام بتلك المهمة بنفسي أنا صديق مصري " ص87 ، 88 ، وفي ظني أن اختيار الروائي لتلك التقنية استكمالا للسخرية السوداء من الواقع الذي تغيب فيه الحقائق وتزيف ، كما تقوم بمقام هزة متعمدة من المبدع لإيقاظ وعي قارئه وتجسيد منظومة الظلم الذي يقع علي المهمشين فيه .
يتبدى عمق التناول في هذا النص في تسليط الضوء علي أنواع الاحتلال الواقع علي المجتمع المصري في تلك الأونة التي كتب فيها النص ، فهناك الاحتلال الخارجي من قبل العدو الإسرائيلي وسيطرته علي سيناء ، وظلم الاحتلال الداخلي قبل وبعد ثورة 52 ، و حرب 73 ، فدائما ما تحكمت طبقة الأغنياء وكبار الفلاحين في مقدرات الطبقات الأدني ظلما وجورا ، من خلال أساليب الترغيب والترهيب ، وممارسة استغلال الأضعف ، يحاصرون رغباتهم المشروعة وحرياتهم ، وينتزعون حقوقهم .
في "الحرب في بر مصر" يستمر "يوسف القعيد" ينسق مشروعه الروائي السردي عن المجتمع الريفي ، وتجريد محاور القوي التي تحكمه ، حين يبرز النص قضية التفاوت الطبقي فيه ، هو ذات الوتر المشدود للريف الذي يعالجه الكاتب في آخر نصوصه "مجهول" ، مضيفا إلي واقعيته عالما من الرموز العالقة بالأساطير والموروثات، الخارج من جوف ثقافة ريفية شديدة القِدم، كما أنها شديدة الاستسلام لكل ما هو غير عقلاني ، في طقس عرفاني ينحو إلي عوالم التصوف والتساؤلات .
لم تزل الحرب في بر مصر قائمة ومستعرة ، فكما كانت مع عدو خارجي وداخلي وقت كتابة النص ، فهي إلي الأن مع أعداء الخارج والداخل وإن تعقدت معطيات الداخل والعلاقات الدولية بدرجة مركبة ، وتفرعت أهدافه وأطماعه ، كأننا لن ننفض عن نفوسنا ملابس الحروب أبدا ، أو كأن مجهول القعيد أخر إبداعاته هو الأفق الذي يفرض ذاته ، واقع بلا ملامح ، عالم لم يزل في طور التشكُّل ، فهو بر مصر الذي لا يعرف استقرارا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة مندوب دولة الإمارات في الأمم المتحدة |#عاجل


.. فيتو أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة




.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا


.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة




.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي