الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدمة في الشعر السريالي

عدنان محسن

2014 / 4 / 18
الادب والفن


السريالية والشعر
ألن جوفروا
ترجمة: عدنان محسن
إنّ الفكر الاستدلالي وما تعّوده الناس اجتماعيا وذهنيا لتأكيد أمر ما، يمارسان على المرء استبدادا تغدو حياته بسببه وكأنّها محكومة بضرورات لا علاقة لها بالشعر. إنّ الإنسان الذي يرفض الانصياع إلى بداهات كاذبة، الإنسان الذي يرى إلى اللغة كما يرى إلى جسد المرأة، يمتلكه ولا يقتنيه، وينفحه بنفحات لا نظير لها، الإنسان الذي يكتشف نفسه ويعلن أنّه شاعر وسط هذا الخراب الذي تنظمه العلاقات الاجتماعية، هذا الإنسان مُلزم بأن يختار واحدا من أثنين: إمّا الموت وأقصد رفض تخطي حدود الممكن أو الخيانة,وأعني القبول، بشكل خادع، بمسايرة العصر في أخلاقه وعاداته. وقادت هذه الخيانة عددا من الكتّاب إلى الاعتقاد بأنهم يلعبون دورا ما. دور من يُصقل مرآة في الطريق!
الشعر منذ عام 1945 وأنا لا أملك غيره، هو تشابك لا نهائي بين الفكر واللغة، وليس في رأسي سوى اشتراطاته. ومن أجل هذه الاشتراطات سأحاول إلقاء الضوء على مغامرة الشعر ضمن الآفاق التي أعرفها، وأعني الشعر السريالي. الشعر الخارج على دكتاتورية الوضع الراهن، وبين 1945و 1947كان من الواجب الخروج من رواق الطاعون الطويل، على حد تعبير بروتون، الخروج على عصر تمت صناعته بحيث يكون من المتعذر تجاوزه وليكون حاجزا يسدّ كلّ المنافذ.
الشاعر كائن يسمع تنفسه ويتكئ على أنفاسه وأعضائه وعقله ليهدم نظاما ما وليعارض تلك القوانين التي تبرمج الكارثة (ومن ضمنها قوانين اللغة)، كائن قد لا يصل بحومه فوق تخوم الكارثة إلى ما يريد، اعني الوصول إلى اكتشاف البصيرة الجديدة.
علينا أن نعرف أنّ نفاذ الصبر والصبر المفرط هما وجهان لعملة واحدة، حصيلتان من حصائل الفكر في تراكماته، وهما أيضا سبيلا الشاعر كي يعثر على مفاتيح أسراره، وكان الكثير منّا ينقّب عن تلك الأسباب التي أعاقت " مقاومة الأمس " في أن تكون " ثورة اليوم "، وكانت الصحيفة التي يشرف عليها ألبير كامو ( كومبا أي نضال) تحمل عنوانا فرعيا " من المقاومة إلى الثورة" وبمرور الأيام فقد هذا العنوان أهميته ولم يلبث أن يُطبع بحروف صغيرة جدا.كان كلّ شيء معتما، وكان على الواحد منّا أن يلوذ في المقاهي وفي الشوارع، وكنّا نقرأ بريبة ما يصدر من الكتب، هذا إذا استثنينا مال كولم ودو شازال القادم من جزيرة موريس وبحثه عن الحس التشكيلي الذي كان يثير إعجابنا ودهشتنا. وإذا استثنينا أندريه بروتون، يمكن القول إنّ أنتونان آرتو هو رمز تلك الفترة الأكبر.
بدأ كلّ شيء عندما خرج آرتو من مستشفى الأمراض العصبية في "روديز"، ويقال إنّ فرديز الطبيب الذي كان يشرف على معالجته أساء استعمال سلطته وأفرط في حمايته له. وبعد رحلته الشهيرة إلى دبلن، تنقل آرتو في ست مصحّات خلال تسع سنوات: لوهافر، سوتفيل، روان، سانتان، فيل افرار وروديز.وفجأة ظهر، وبالتحديد يوم 13 ديسمبر عام 1947 على خشبة مسرح دوفيه كولومبيه، بحضور أندريه بروتون وعدد من المثقفين وشعراء ما قاسوا ما قاساه. وكنّا نراه ونصغي إليه. كان يرتجف ويبدو أنّه فقد الذاكرة. وكان في كلّ هذا يفجّر فينا الحياة والكلام والوعي والصراخ، لنتجاوز ما يسود في المجتمع والثقافة من مظاهر وأفكار. كان جسده يتألق بعذوبة وصوته واهنا وقويّا في نفس الوقت.شيّد آرتو جسرا فوق نهر لم يتمكن أحد من عبوره، لكنّه جسر يتهدم من تلقاء نفسه، ولم يكن لأحد أن يجرؤ على تصوره.كلّ لغة هي لغة غير مفهومه، هذه هي حقيقة آرتو، بل هي الحقيقة التي لم نستطع للآن تمثلها. أما الباقي فليس سوى كلام فارغ.
الأدب غير الحقيقي أدب مفهوم بالضرورة. وأنّ قدر الكاتب أن يضع نفسه في مركز الفهم. ومن هذه الحالة وحدها يخرج بخلاصات وهمية: فأمّا أن يفهم أننا فهمنا أو يفهم أننا لم نفهم والنتيجة واحدة بالنسبة إليه. أمّا آرتو فكان يعتبر الفكر مطلقا والكلمات هي المستحيل بعينه، ووفق هذا المستحيل يتعذر التعبير عن المطلق، وبموجب ما يطلق عليه الحالات الدقيقة، يذهب آرتو أبعد من نظريات اللغة. فالفكر، وما يسمّيه الطبيعة الداخلية والديناميكية للفكر، لا يمكن فهمه، وما الشعر كما يرى آرتو سوى معرفة هذه الطبيعة والتي ينبغي علينا الاعتراف بأننا ما زلنا بعد نطوف حول مشارفها.
وفي العام 1928 شاء أندريه بروتون أن يخترق قارة المستقبل, ودعانا جميعا إلى مد هوائي الاستقبال إلى أعلى ما يمكن كي نعرف ما يدور في هذه القارة.إنّ شعرا يسعى وراء مجد بال يتلاشى، وهنا المفارقة، تحت وطأة هذا المجد نفسه. الباحثون عن المجد ليس بوسعهم قلب آلية الفكر القديم رأسا على عقب، وليس بإمكانهم الاحتفاء بمن يحاول قلبه. وفي الحقيقة، أنا لا أعتقد بإمكانية تدوين الحالات الديناميكية للفكر، ولا أعتقد بإمكانية تدوين الحالة الديناميكية للسريالية، لأنّ تيار هذه الحالات بل يصعد في التيار المعاكس، وأحسب أنّ وجهة النظر التاريخية والشعرية تغيرتا منذ ذلك اليوم البعيد الذي درس فيه بول فاليري التغيرات التي تحصل في الوعي أثناء النوم،وهذا ما قاده من " أغاث" إلى " ربة القدر الشابة"، ومنذ ذلك اليوم الأقرب، الذي أعلن فيه آرتو: ينبغي أن نفرغ من الروح مثلما ينبغي أن ننتهي من الأدب، وهذا ما قاده إلى قبائل التراهوماكس في المكسيك للبحث عن سبل سحرية للوصول إلى الحياة العليا للأفكار، هذه عبارة آرتو، منذ تلك الأيام والحياة تغيّر طريقة نومها رغم أنّ الأحلام لم تعد كما كانت عليه.
لا يمكن ولا ينبغي أن يكون عمل الشعراء بلا طائل. ففي كلّ فكرة ثمّة ما يصيب الرأس بالدوار وقدرات لم تستخدم بعد. وكم كبيرة دهشتي حين أقرأ إعمالا تنمّ عن قدرات لكنها لا تجعل من كلا م الذهن مادتها، وكأنّ الأمر ناجم عن معجزة ما.
لغة الذهن هذه حاضنة أفكار وحقول مغناطيسية لصياغة فكر جديد. مات آرتو مبكرا، ولا عزاء لي بأنني كنت يوما على بضع خطوات منه ولم نتبادل الكلام. قدر الشاعر أن يكون منعزلا وقدره أن تحكم أفعاله صنوف شتى من الممنوعات.وحدها الكلمات في الشعر ذلك الألق الممنوع على عقول متحجرة. الكلمات تعيش فينا ، في الأنفاس بل في الدم وكأنها نداءات إلى فضاء لا زمن له، إستنارات منتزعة من عتمة التاريخ، وينبغي استنطاقها كي نغيّر مجراه.وفي ما يلي بعض منها: الثورة، الشعر، الحب، السريالية، الدعابة، في كلّ واحدة من هذه الكلمات فكر ليس واضحا ولا أسعى هنا لإيضاحه، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية دخلنا في سباق عام للتوضيح، سباق قاد إلى التردي والتزييف والجمود. لا يحتاج الفكر ولا الشعر في أن يكونا واضحين كي يقوما أو يؤثرا على فعل ما. إنّ ما يُفسر لا يكون مفهوما إلّا في الحدود التي يمنحها التفسير. فالنقاء، حتى نقاء المجرمين، له مهد في الليل. وهكذا، حول هذه الطاولة وعلى مقربة من هذه الكتب وبين هذه الجدران، سأحاول أن أكون تفسيريا على أقل قدر ممكن. أعرف أنّه أمر ليس بالهين، وعكس ما يُنتظر مني لن أقول شيئا عن الشعر أو السريالية. سأحاول بالأحرى عرض الفكر، أن أعرض نفسي أمام الفكر والشعر. ومهما فعلت فلن يكون بمقدوري عرض نفسي أمام الفكر والشعر كما تقتضيه الكفاية.
الفكر واحد ومتعدد في الوقت نفسه، كما هو الثوري والسريالي. وإذا قلنا إنّ الشعر السريالي ليس واحدا ومتعددا فأننا لا نضع أنفسنا خارج الشعر إنّما خارج الفكر، أعني خارج أي مكان.السريالية والعالم ليسا سوى واحد. ثمّة القليل من الأشياء القابلة لمعارضة الشعر. من هذا القليل ما أشار إليه بروتون في " الخطى الضائعة ": لم يعد بالإمكان الانشغال بهاتين العقيدتين: الأخلاق والذوق.إننا نعيش عالما تحول إلى خرافته الخاصة حيث صار البناء الفوقي للذوق والأخلاق من عداد الأشباح الفاعلة والمريعة لتزيّف آلية الفكر الحقيقي.
لقد وضع كتّاب الأطروحات الجامعية السريالية في مراتب وقلّدوا روادها الرتب، فهذا مارشال السريالية، وذاك جنرالها، وآخر نقيبها. كما صنّفوا الشعر السريالي كما تُصنف الحشرات والسحلبيات، ووضعوه في خزانة الشعر النادر. ولاحقوا نشاطاتها: البيانات السريالية، عمليات الطرد، وتحدثوا عن روادها بروتون، سوبو، آراغون، ايلوار. وأثبتوا بعملهم هذا أنّ لا شأن لهم بحاضرها ولا بحضورها فقننوها داخل بلور وهمي.
ما هو الشعر؟
يكفي أن نقرأ قصيدة لأندريه بروتون، بيريه، أو نصا لأرتو، دوبري، لوكا، جويس منصور، ليتجلى كالبداهة ما غير الشعر(...). لكلّ شاعر نظامه ونظريته، وفصل النظام عن النظرية يعني تشويه الاثنين ونقلهما بلغة لا علاقة لها عضويا بالاثنين. وتكمن عبقرية بروتون، شأنها شأن عبقرية نوفاليس ورامبو ولوتريامون وسان بول رو وأبو لينير ومايكوفسكي وأرتو، أنّه يراهن على أن الشاعر لا يمكن أن يكون شاعرا تماما ما لم يكن قبل كلّ شيء منظرا. ونظرية الكتابة الآلية وبعض التجارب التلقائية الخالصة إنّما يمثل هذا كلّه في علاقة لا تنفصم عراها. وكان من الممكن أن لا يوجد شعر سريالي ولا توجد السريالية نفسها ما لم توجد نظرية سريالية. غير أنّ النظريات ليست، كما يراها البعض، مجموعة من الأفكار المنتظمة في سياق خاص وحسب، بل هي شأنها شأن الشعر نفسه منبثقة من ضرورات غامضة ينصاع لها الفكر.
فمقدار اللاشعور الذي يخلق الشعر هو نفسه الذي يخلق النظرية. والوضوح الرهيب في عبارة بروتون ولد في الليل وشارك فيه. النظريات النهارية لا حظ لها في ممارسة أي تأثير. فلئن كان لشخص بروتون هذا السحر، فذلك لأنّ نظريته ليلية. وجد بروتون نفسه يتقدم إلى الأمام ليلا ولم يفضلّ المشي في عز النهار(كان يقول هذا في نادجا). إلّا أن بروتون غيّر من وجهة نظره حول الآلية أكثر من مرّة. فهو كمنظر لا يماثل هيغل، لأنّه هيغل + ماركس+ ستبرنير+ فرويد+آخرين.وبالنسبة لمنظر معاصر تظل الأفكار وآلية التفكير سوداء، وخاصة تلك التي تبدو للوهلة الأولى منطقية، فالأفكار المنطقية هي الأكثر سوادا.
وينبغي الحذر من الوقوع في فخ الانصياع إلى وهم يدعو إلى الاعتقاد بسهولة القبض على حقيقة المرء وتحليلها وفهمها وتأويلها وتصنيفها أو اختزالها حسب اختيارنا لهذه النظرية دون غيرها. ويبدو واضحا أنّ الطرق الأحدث أوفر نصيبا على الفهم.إننا لا نفكر انطلاقا من فكرة نعتبرها موضوعا بحد ذاته. إننا نفكر وحسب، هذا هو كلّ ما في الأمر.
كان بروتون يقول " ينبغي أن لا نلقي بالخبز الملعون إلى الطيور " في اللحظة التي أدرك فيها أنّ السريالية زاغت عن مسارها الأول وانساقت في مجالات ليست مجالاته، كالنشر السريع والبحث عن الاعتراف والجديّة والثقافة. غير أنّ الخبز الملعون الذي يفتته بمنتهى العقل أساتذة الجامعات وكتّاب الأطروحات هو فكرنا. وما دمنا نستشهد دوما بهذه الكلمات فلنرددها ولا ننسى كلمة واقع. لا يمكن إلقاء هذا الخبز في قفص عطل الفكر، فعندما لا يعمل الفكر لا يبقى سوى بؤس الواقع. كما أنّ للفكر ثغراته وانكساراته التي كان آرتو يتحدث عنها بدقة متناهية. وللفكر خلله، عندما يصير الكلام مجموعة من التراكيب الجاهزة، موضوعة حسب نظام نحوي يفهمه الجميع عند الرابعة عشرة من العمر. وللفكر أيضا خلله الآلي، لعدم انتظامه وإخفاقه أحيانا أمام الظاهر الطارئة، وعندما نتحدث عن آلية نفسية خالصة، ننسى غالبا أنّها لا تتكشف إلّا عندما تتوفر شروط مثلى للإيصال والاستلام معا، وإلّا عندما تتوفر تلك الآلية التي تبث الإشارات والمفاهيم والصور الصوتية والمرئية تخلق اللغة من السحر، هذه الآلية هي الفكر الإنساني. وليس كلّ ما يُكتب بشكل آلي ناجم من الكتابة الآلية، وليس كلّ ما يبدو متأتيا منها ينبثق عنها، إذ ليس من السهل التنبؤ بظهورها. أذكر هنا على سبيل المثل، النصوص النثرية لبروتون في "الحقول المغناطيسية" و "السمكة القابلة للذوبان" وإنّما أيضا مقدمته لكتاب " المسدس ذو الشعر الأبيض".هذه مقدمة تعبر وحدها عن الثنائية في أسلوب بروتون الشعري والتنظيري. فالنص عبارة عن مقدمة لأشعار وقصيدة نثر في آن واحد، إنّه تعريف واضح للمخيلة كما هو تعريف غامض للسلوك في الوقت ذاته. ولكن اسمحوا أن أخرج مؤقتا عن الموضوع.
روى لي شاهد عيان أنّه في أبان الحرب العالمية الثانية، كان أيلوار في فيزلي، وكان يحب لعب الورق ويكره الخسارة. وفي أحد المرّات لعب مع زوجته نوش وخسر فتشاجر معها. وتحايلت نوش وعملت ما في وسعها كي تمنع عنه الخسارة، لكن بدون جدوى، وانتهت المشاجرة بصفقه الباب وذهب لينام. وفي الليل، ندم على ما فعل، وراح يكتب:
نوش
أكتب اسمك على دفاتري المدرسية، على طاولتي، فوق الأشجار، في مداخل السحب، فوق صدى طفولتي....الخ
وفي الصباح قرأ عليها هذه القصيدة كي تغفر له شطط الليلة الماضية. وكان عندهم في البيت أصدقاء، وأعلن أحدهم أنّ هذه القصيدة ستكون قصيدة مقاومة حقيقية لو استبدلت كلمة الحرية بكلمة نوش, ووافق إيلوار على الفور ونالت هذه القصيدة ما تعرفونه من الشهرة. وعلى مدى نصف قرن أفسدت هذه القصيدة أذواق أجيال كاملة من التلاميذ. وكان من الممكن اعتبارها قصيدة حب عادية إلى حدّ ما لو أنّ ايلوار أبقى على كلمة نوش، لكنها قُدمت كقصيدة مقاومة بمجرد إحلال كلمة محل أخرى.
إنّ ضرر هذه القصيدة جسيم لأنّ كلمة الحرية مشبّعة بضروب لا حصر لها من الأفكار الثورية، فكيف يكون من السائغ حشرها هكذا في الصباح وبشكل مفاجئ وببرودة دم وأثناء الحديث عن أشياء وأشياء لا علاقة للحرية بها. إنّ هذا اللصق لهو دليل انهيار ايلوار الشعري الذي وقع ضحيته تدريجيا. ويمكن أن نتحقق من هذا الانهيار عندما نفحص قصائده بدءا من اللحظة التي كانت تتركز وتتكاثف بشكل خارق للعادة خاصة " المثلث البشري" و "عاصمة الألم "و " الحب والشعر"، حتى تلك القصائد التي اختفى فيه صوت الشاعر عندما ذابت قصائده في صوت واحد يعبر نفس الجسور بعناوين مختلفة. إنّ هذا يلمّع، دوما ايلوار، لكنه يعكس دوما نفس الانعكاسات
ولأنّ الماء يصعد والنهر يتسع والحياة تتباطأ ولأنه ينبغي، رغم ذلك، أن نعيش، فقد شعر ايلوار بقوته وسطوته عند القرّاء.
أمّا عند بروتون فالأمر بالعكس تماما, ففي شعره تركيز تدريجي للفكر. وفي تجاربه الأولى، ترك بروتون الطاقة الذهنية، التي كنت أتحدث عنها، تخترقنا حتى جعل انسيابها يصل إلى " هواء الماء ", ثمّ أنّ بروتون مارس على هذه الطاقة رقابة تزداد صرامتها شيئا فشيئا، الأمر الذي قاده إلى كتابة قصائد " لغزيه " مشغولة بعناية فائقة في " كوكبات" على سبيل المثل. اللغز في شعر بروتون يكبر ويتسع ويختلط في نهاية المطاف في حياتنا.وإذا كنّا اليوم إزاء بروتون وايلوار مثلما كنّا بالأمس إزاء رامبو، فأنّ اختياري لا يقبل أي مجال للتردد..
" آخذ نصي، أنا في عطل"
إنّ قبائل سيو الهندية الحمراء التي اخترعت التبغ أبقت على اتصالها المباشر بذلك المد المقدس للفكر. هذا المد، بالنسبة للشاعر هو الكتابة الآلية.
الفكر لا يتجزأ، بالنسبة لمن أختار الكتابة الآلية، إلى أجزاء مبتذلة. الفكر لا يكون شيئا وإلّا ما قال أي شيء. وإنّ من يعتبرون الفكر مثل خزانة لها أدراج ظاهرة وأخرى معلمة وثالثة قابلة للانفتاح وللانغلاق، فإنّما يوقفون هذا المد بشكل خطير لا يمكن تداركه. الثورة السريالية هي غوص الفكر في مدّه الخاص والمشاركة المتواصلة في هذا المد هو السبيل الوحيد للعيش. إنّ الفكر الذي يضع كلّ شيء في أدراج، الفكر ذو الأدراج، يعتبر الانتقال من اللاوعي إلى الوعي مهمة عسيرة صعبة المنال، هذا الفكر يعرض في كلّ مناسبة نظامه التدريجي الانفصالي، لكنّه أمام السيل الحممي يتلاشى بأسرع من أجزاء الثانية.
وقد يرى الفكر ذو الأدراج، الفكر الثنائي القديم، الفكر الذي يعرض ولا يتعرض أمام المجهول، أنّ الشعر السريالي باعتباره" جنس أدبي" يندرج ضمن تاريخ الأدب ليضع له توصيفات غالبا ما تكون منتحلة، بهذا الشكل أو ذاك، من بروتون نفسه ونجدها في الكتب المقررة.
في الحقيقة، إنّ بروتون وبيريه وآرتو كتبوا وأصدروا كتبا ووافقوا على أن يُعلّق عليها، بل أنهم كانوا في غاية اللطف مع من كتب عنهم، لكن لا يعني أهذا موافقتهم على ما كُتب عنهم، وفي هذا الصدد، هل أن أسأل عن دلالة الكتاب في السريالية. الثورة السريالية تظهر في مجال الفكر والكتابة والنشر. والكتاب السريالي لا يختلف عن غيره من الكتب بشيء، رغم بعض الفوارق الطباعية، سوى في وظيفته، أعني علاقته بالقارئ
إنّ الكتاب يغيّر حياة المرء برمتها. وعن تجربتي الشخصية، أتذكر اليوم الذي وقع بين يدي. كنت في السابعة عشرة من عمري،لأول مرّة وبالصدفة وفي صالة موسيقى، حيث لم أكن أعرف ما أفعل، كتاب نادجا لبروتون. من تلك اللحظة طرأت في داخلي أشياء كثيرة. لم أكن أعرف بروتون بعد، وأكاد لا أعرف غنه شيئا. لقد أصابني دوار غريب، أو بالأحرى، تمت في داخلي مصالحة غريبة بين فكري وبين أشياء كان يجهل وجودها كما هي: فكر كشف نفسي إلى نفسي وانتابني الضحك. ذلك أنّي وجدت كلّ شيء مدهشا بشكل خرافي. مدهشة تلك المسافة التي تفصل الصورة عن أساطيرها، ومدهشة هي المسافة التي تمتلئ بعد قراءة النص. وفي ذلك الضحك، أحسست أنّ شيئا ما في حياتي قد تغيّر، وبالفعل تغيّرت حياتي بعد ذلك بقليل.
لماذا نحن بالمئات نتحدث عن السريالية التي يعتبرها الكثير من الناس ميتة؟ علينا أن نبحث عن سبب وجودنا لأنّ السريالية ماتت.لكنها حاضرة بيننا، السريالية تتقاطع مع تجاربنا والنص السريالي يمسنا بالصميم نقرأه قراءات مغايرة، وإلّا تفسرون حديثنا عن السريالية اليوم دون أن يدفع هذا الحديث إلى الضحك.
القراءة السريالية مختلفة:
إنّ القارئ الذي يقرأ النصوص السريالية كجنس أدبي لا يقرأ بنفس الطريقة التي يقرأ بها قارئ يجد فيها مد لأفكاره.ذلك المد المغناطيسي الذي يفصلنا عن الفكر العادي. الشعر السريالي يمنحنا الإشارة قبل التأويل والحاجة إلى التعبير. وينادينا، لأنّه كما يقول بروتون يطرق على النوافذ. الشعر السريالي لا يعبر عن شيء. فلا شيء يُعبر عنه لمن يصغي أو لمن يضع نفسه في حالة إصغاء. فالصوت الذي يتحدث في قصائد بروتون ليس صوته, بروتون شاعر يصغي للآخرين ويصغي إلى نفسه. وكلّ قمنا به من دراسات حول قصائد بروتون، وكلّ ما سنقوم به من دراسات، سيكون بالبداهة أكثر، لا يكشف لنا هوية هذا الصوت الذي يخاطب نرفال وبروتون. إنّه صوت يقيم المسافة. كيف نصفُ هذه المسافة؟ من أين نبدأ الحديث عنها؟ ومن أي ارتفاع نتحدث؟
كلّ شيء يجري كما لو كان هذا الصوت الذي يطلق عليه بروتون " الكلام السمعي" يفرض على من يصغي إليه أقصى المسافات الممكنة. صوت يخيف وقد أخاف بالفعل بروتون نفسه. صوت يقتضي منّا مقاومة آلية. وكان بروتون يقول: ليس بالإمكان الانسياق مع هذا الصوت دون أن ندفع الثمن، صوت كالهلوسة (ثمّة وشائج بين هذا الصوت والهلوسة ينبغي اكتشافها، لكن هذا أمر آخر).
ويبدو هذا الصوت أكثر ألفة عند بيريه. هو ليس صوت الشاعر نفسه. فسريانه وطرافته وهذا النوع من التهريج وهذا الجنون المعدي الذي ننغمر فيه يتجلى على نحو أكثر وضوحا وأثر تشتتا من صوت الشاعر نفسه.
بروتون وبيريه شاعران سمعا وسجلا شيئا ما، هو فكرهما, ومن العبث أن نتعرف لهما بما نعرف عنهما، فالمرء يحتفظ على الدوام بمخزون من الأفكار غير قابل على النفاذ. ويحتفظ بحقائق يعتمد عليها في إعادة بناء العالم وصياغته من جديد.
هل ثمّة فكر بال جسد؟ ليس هناك أبعد من " ما وراء الأشياء". الفكر المجهول جزء من العالم. في الفضاء المعاش، الفضاء المظلم، الفضاء الذي تتلاقى فيه الخواطر، الفضاء الذي تخلقه القصيدة، في هذا الفضاء ينبغي قراءة القصيدة، خارج الكتاب.
أي كلام آلي هو صورة مسبقة لكتابة ما.فعندما نتحدث أمام الجمهور نكتشف أنّ الفكر الذي يقودنا إلى الكلام ليس نفسه الذي كنّا نحسب معرفته، الفكر يخترع نفسه، تحديدا، في اللحظة التي يبدو فيها وسائله التي بفضلها يسيطر على زمام نفسه. في لحظة واحدة بوسع الفكر أن يكشف ويكتشف كلّ ما له صلة باللغة: الحب، الحقيقة، الحياة اليومية، بداية ونهاية العالم.
لا توجد آلية غير تلك التي تغيّر النظام. تلك تغيّر نظام الإدراك البشري برمته. ولا يُنجز هذا إلّا عندما نترك المجهول يتكلم بحرية.الشعر جنس يجب تحطيمه: ولأنّ حقيقته مرتبطة بخلق العالم، فأنّه يطلق إشارات ترتسم بسبب غموضها فوق الوضوح الكاذب الذي ما زلنا ننوء بسطوته.
على المرء أن يستنطق ليله، ومتى فعل ذلك رأى كلّ شيء.
ملاحظات:
السريالية والشعر مداخلة الشاعر الفرنسي ألن جوفروا في الحلقة الدراسية المكرّسة لتاريخ السريالية .
(...) النقاط الثلاث بين قوسين تعني أنّ الكاتب يحيل أو يستشهد بما ذكره عدد من المشاركين. ورأيت أنّ ترجمة تلك الاستشهادات تثقل النص ولا يفهمها إلّا من حضر تلك الحلقة الدراسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما