الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة البوح في الأدب

محمد هشام فؤاد

2014 / 5 / 12
الادب والفن


عرف الأدب العديد من الأعمال الفنية التي تُعَد ترجمةً ذاتية لكاتبها .. فإذا قام ذاك الكاتب بكتابة سيرته الذاتية وأحداث حياته في مجلدات فلن يستطع التحدث بحرية، ولن تنضح تلك الورقات بما يضمره هذا الكاتب بداخله فهو أبعد ما يكون عن ثقافة البوح مهما حاول من تحايلٍ علي السطور والكلمات أو لجوءٍ إلي التجريد والإشارة كما فعل طه حسين في سيرته "الأيام التي قام بنشرها عام 1929.


فالكاتب يستطيع بأعماله الفنية أن يصل إلي درجة كبيرة من درجات البوح عن ارتكانه إلي كتابة سيرته الذاتية سواء كانت أدبية أو تاريخية –حسب تقسيم د. جابر عصفور- ففي سيرته المباشرة يري نفسه وقد وقف مئات المرات محتاراً بين قطار التفاصيل .. والمسافات الشاسعة بين ما يريد أن يكتبه وبين ما يقع علي قرائه، وفي نفس الوقت المقربين إلي أن يصل خوفه إلي السلطة إذا عمدت تلك السيرة إلي أية قضايا سياسية جدلية شائكة .. وبالطبع الكاتب لابد وأن يزن ميزان سيرته بميزان رؤية الرأي العام ومطرقته التي لا ترحم ولا يفلت منها رقاب وسوطه الذي يجلد بلا شفقة أو اعتبارٍ لرصيدٍ أدبيٍ سابق .. وهنا يتعثر القلم، ويجف الحبر، وتزلق الكلمات من السطور، وتُمني نفس الكاتب بالبحث عن قوالب أدبية أخري تستوعب ما يريد أن يقوله دون خوفٍ من حدٍ أو مهابةٍ لسلطان أو اعتبار لوخز كلمات الرأي العام.


ففي قصة "زينب" –أول عمل قصصي واضح الملامح يؤسس لفن السرد- التي كتبها الأديب والمفكر محمد حسين هيكل –وليس محمد حسنين- عام 1916 نري أن الكاتب قد ترجم آرائه وأطروحاته السياسية والاجتماعية علي لسان أبطاله في هذا العمل الفريد، وهيكل -1956:1888- قد تتلمذ علي يد المفكر المصري أحمد لطفي السيد الذي ساعد وهو ونخبة الطلائع المستنيرين كمحمد عبدة والأفغاني في إثارة العقول المصرية وبعثها من ركدتها التي طالت تحت غياهب الجهل والظُلُمات. وفي تلك القصة لم يكتب مؤلفها عليها اسمه في بادئ الامر لتُفْتَتَح الرواية باسم "زينب مناظر وأخلاق ريفية" بقلم "مصري فلاح" .. فالريف ولقب الفلاح هما الستار الذي قبع ورائهما هيكل في عصرٍ كان يري فيه المصريون فنون الحكي والقصص هي بمثابة العبث والإفلاس الأدبي وخاصة عندما يخوض في غمار ذاك الحديث محامي ومفكر بقيمة محمد حسين هيكل.


فآثر كاتبنا هيكل منطقة الامان علي أن يُشّهَر به في عصرٍ كان فيه الشعر فن السادة والنُبلاء والمفكرين أما فنون القصّ فهي فنون العامة والدُهماء .. ونري حياة "حامد" بطل قصة هيكل هو ترجمة واقعية لحياة الكاتب؛ فالكاتب يتخذ من الأفكار الليبرالية والمبادئ العلمانية القائمة علي الحرية وضرورة إسعاد النفس البشرية وإحكام سطوة الأعراف والتقاليد خيطاً موضوعياً ليسِر عليها بطل العمل؛ مُفَسِراً في نفس الوقت قناعات وأطروحات هيكل السياسية والاجتماعية دون الإخلال بالقالب الأدبي الذي يحمل فن القصة أو الرواية. فها هي تلك الآراء -التي أفرد لها هيكل نموذج حامد- هي خلاصة ما تعلمه من أستاذه المفكر الفرنسي جان جاك روسو، لدرجة أنه تأثر في روايته زينب بأبطال رواية روسو الشهيرة "هلويزة الجديدة" التي كتبها في عام 1761.
وقد نشر أبو الوجودية الفيلسوف جان بول سارتر جانباً من سيرته الذاتية بعنوان "الكلمات" وقرر أن يكمل عمله في القالب التخييلي للرواية قائلاً: "لقد حان الوقت لكي أقول الحقيقة، أخيراً لا يمكن أن أقولها إلا في عملٍ تخييلي".


وإذا تتبعنا مؤلفات القاص الروسي الشهير أنطون تشييخف -1904:1860- نري أن حديث أبطاله وبوحهم ومونولوجاتهم –حديث النفس في غياب الآخرين- ما هي إلا تجسيداً لأفكار وآراء تشييخف التي تخص مفاهيمه عن السعادة وفلسفته في الحياة ونظرته للمجتمع المتسلط الكابت للحريات ولطموحات ووجود الإنسان المُهَمَش البسيط، ويكأن أبطاله وشخصياه الأدبية هما مرآته التي ينظر فيها فلا يري إلا نفسه المتسقة مع مبادئه ومثله التي جعلت صراع الأنا والآخر علي أشده؟!


وقد رأينا توفيق الحكيم في مسرحيته "السُلطان الحائر" التي كتبها في عام 1959 قد تناول فيها الصراع بين القوة والقانون وهو ما يُعَد إسقاطاً علي الواقع المصري إبان حكم عبد الناصر كما أكد الكثير من نقاد رغم نفي الكاتب وتضمينه في المقدمة بعض المعاني ليباعد بين ما يحدث في مصر وما يحدث في المسرحية وهو تبعيداً مقصوداً من الحكيم؛ حرصاً علي إرضاء الرقابة. ونراه قد تحدث عن فساد المنظومة الإدارية التي لم تضمن العدل مع الفلاحين وصغار الموظفين بأسلوب فكاهي ساخر في روايته "يوميات نائب في الأرياف" التي صدرت عام 1937. ورأينا أديبنا نجيب محفوظ قد تخلص من هذا الحرج بارتكانه إلي الرمز ليسقط به علي من يشاء ولينتقد من يشاء.


وفي ذلك يقول د. جابر عصفور في مُؤَلَفه النقدي "زمن الرواية": وأتصور أن ارتفاع درجة كتابة رواية السيرة الذاتية، كمياً وكيفياً، بالقياس إلي كتابة السيرة الذاتية في الادب العربي، قديمة وحديثة ومعاصرة، هي مظهر آخر من مظاهر رقعة اتساع المسكوت عنه في هذا الادب، ودليل علي تأصل نوع من الاسترابة التقليدية في تعرية الوعي لأحواله، ومن ثم النفور من كشف الإنسان عن دواخله التي ينبغي أن تكون محجوبة في قرارة اللاوعي، مختومة بأختام العُرف والعادة والمجتمع المتسلط والسلطة المتحكمة، وكل ما يول بين أندلس الاعماق وتفجر الرغبات المكبوتة بخطاباتها المقموعة التي يجب أن تظل مقموعة".


ولذا نري أنه مادام الكاتب أو المفكر يحيا في مجتمع متسلط وكابت لحريات الرأي والإبداع .. أي المجتمع الذي تشكل وعيه اليقينيات السائدة والأعراف الجامدة والموروثات الثابتة لابد وأن يتعثر ويفتقد متعة وصدق ثقافة البوح؛ لذا فلابد له من غطاءٍ أدبي يحميه سخط السلطة ومطرقة الرأي العام.


ويقول المفكر سلامة موسي في كتابه الرائع "عقلي وعقلك": "ومن هنا قيمة الترجمة الذاتية التي يكتبها المؤلف عن حياته. وهو بالطبع لن يقول كل شئ، ولكنه يرسم لنا المراحل الزمانية والبيئية التي تنتمي إليها مبادئه وأهدافه. وقد تكون القصة التي يؤلفها بخياله أصدق من ترجمته التي يذكر فيها حقائق حياته. ذلك لأنه يحس من حرية البوح والاعتراف في القصة الخيالية ما لا يحس به في الترجمة الذاتية". وكان المفكر الفرنسي رولان بارت –أهم مفكر ومُنَظِر فرنسي في القرن العشرين بعد المفكر جان بول سارتر- يري أن أي سيرةٍ ما هي إلا رواية لا تجرؤ الإفصاح عن اسمها.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا