الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الذكرى ال 66 للنكبة ....ولكن آفة شعبنا قياداته

عبد المجيد حمدان

2014 / 5 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


عقب النكبة كتب ونشر عدد من القادة الفلسطينيين مذكراتهم . قارئ المذكرات يفاجأ ، ويندهش ، من كم وحجم المآثر والبطولات التي شهدها وشارك فيها كاتب المذكرات . وبعد الدهشة يقفز أمامه سؤال : إذن كيف ولماذا وقعت تلك الهزيمة الساحقة ، والتي توجت بالنكبة ؟
قديما قيل : آفة الفلسطينيين قياداتهم . كان هذا قولا صحيحا وما زال . فالمذكرات تريك حجم التمحور حول الذات . التركيز على ما هو فردي ، وإهمال ما هو جمعي . حقيقة الأمر أن بطولات فردية كثيرة وقعت ، لكنها عجزت عن تحويل المجرى العام . فكانت الهزيمة ، وكانت النكبة .
نعم آفة الفلسطينيين قياداتهم . فمنذ نشأة القضية الفلسطينية ، قبل مائة وثلاثين سنة ، ثبتت القيادات على منهج رفض المراجعة وإعادة التقييم . وهكذا ظلت الأخطاء ، وما تجره من مصائب ، تقع مرة بعد مرة ، وبعد عشرين ومائة مرة ، وحتى بعد ألف مرة . لماذا ؟ لأن الذات القيادية كانت ، وما زالت ، أكبر من القضية . والمراجعة وإعادة التقييم لا تكشف الأخطاء فحسب ، ولا تضع القواعد لعدم تكرارها وحسب ، ولكنها تكشف ضعف القادة ، وتعري عجزهم ، فتفرض استبدالهم ، وهو أمر ليس فقط بالمحظور ، ولكنه محرم .
آنذاك وفي كل وقت ، قبل وقوع النكبة وبعدها ، كانت المعرفة هي الأهم . معرفة القادة بحقائق الوضع ، ومن ثم بناء الاستراتيجيات على أساسها ، فقرار الدخول في المعارك ، إدارتها وقيادتها . فهل كانت القيادة تملك مثل هذه المعرفة ؟ المعرفة بحقيقة عدوها ؟ مطامعه وبرامجه ؟ علاقاته وامتداداته ؟ تحالفاته الإقليمية والدولية ؟ قدراته وإمكاناته الذاتية ؟ وأخيرا مقدرته على حشدها ، توظيفها وتفعليها ؟
لم تتوفر مثل هذه المعرفة ، ولو حتى في حدودها الدنيا ، وإلا لاختلفت الاستراتيجيات والقرارات . ففي فترة الأربعينات كانت الاستهانة بالعدو الصهيوني عماد التعبئة المعنوية للشعب . ومحورها أن اليهودي " ابن الميتة " . نذل ، جبان ، ناعم ، ولا يقوى على أية مواجهة . حدث ذلك رغم أن وقائع المصادمات مع المستوطنات ظلت تقول عكس ذلك . والمؤلم أن ذلك لم يقتصر على فكر القيادة الفلسطينية وحدها ، بل وتجاوزها إلى عقل كل القيادات التي شاركت ، فيما عرف بحرب فلسطين . أشاعوا حينها أن اليهود ما أن يروا الجيوش العربية الزاحفة حتى تنهار معنوياتهم ، ويستسلموا دون قتال . ربما بسبب هذا لم يخطر في بال أي من هذه القيادات ، والفلسطينية في المقدمة ، أن تعلن التعبئة العامة ، وأن تقرر ميزانيات حرب ، رغم أنها جميعا فرضت حالة الطوارئ ، وحظرت أي نشاط سياسي ، أو غير سياسي ، بدعوى حشد وتوظيف كل الجهود والطاقات في خدمة المعركة . وبالمناسبة دخلت الجيوش العربية الحرب ، كما كان حال القيادة الفلسطينية ، دون أدنى معرفة ، ودون أية معلومات ، عن قدرات وقوى عدوها .
مركزية القضية :
وفي هذه المراجعة السريعة جدا ، والقصيرة جدا ، هناك مسألة أخرى ذات أهمية قصوى . فقد رافقت سني عمرنا مقولة أن فلسطين قضية العرب الأولى والمركزية . ولم نتساءل عن أي عرب يجري الحديث : عامتهم ؟ فقراؤهم ؟ طبقاتهم الدنيا والوسطى ؟ مثقفوهم ؟ أغنياؤهم ؟ زعاماتهم ؟ ملوكهم ؟ ....الخ . اعتقدنا ، وما زلنا ، أن فلسطين قضية هؤلاء كلهم ، وفي المقدمة منهم الزعامات والملوك . ومع أن الحقائق عنيدة ، فقد واصلنا ، قيادات وجماهير ،القفز عنها .
في منتصف الأربعينات ، أثناء النكبة وبعدها ، أحاطت بفلسطين ست ممالك عربية – السابعة وهي المغرب كانت وما زالت بعيدة - وجمهوريتان . ثلاث من هذه الممالك ؛ العراق ، الأردن والسعودية ، كانت بريطانيا ، صاحبة وعد بلفور ، هي من وضع ملوكها على عروشهم . والملوك الثلاثة ظلت طموحاتهم وأحلامهم تتجاوز ما حصلوا عليه . ورغم أنهم كانوا أكثر من مدينين بالعرفان لبريطانيا ، فقد ارتبطت أحلام تحقيق طموحاتهم ليس بها فقط ، بل وبالحركة الصهيونية ، ابنتها المدللة . وأما الثلاثة الآخرون ، مصر ، ليبيا واليمن ،فإما أن بلدانهم كانت تخضع لاستعمار بريطانيا المباشر ، وإما أن قواعدها كانت تربض على أراضيهم . ومن ثم فقد كانت بريطانيا هي صاحبة قراراتهم . ولأن الحداية لا تحدف الكتاكيت ، كما يقول إخوتنا المصريون ، ولأن فلسطين كانت مطمع الحركة الصهيونية ، وموضوع وعد بلفور ، كان التنازل فيها وعنها ، هو ضمان ثبات عروش ، كما ضمان تحقيق رغبات وطموحات فأحلام ، أولئك الملوك .
هل غالطت القيادة الفلسطينية نفسها ، وهي تعرف هذه الحقائق ، ومن ثم ضللت شعبها ، حين ركنت إلى الوهم القائل بأن وطنية هؤلاء الملوك ، مشاعرهم القومية ،عروبية انتمائهم ، تسبق ، ولا بد أن تسبق ، وتتقدم ، على أحلامهم وطموحاتهم ؟ أم أنها في الحقيقة كانت لا تعرف ، رغم أن الوقائع كانت صارخة ، فركنت إلى هذه الفرضية ، وأخذت الشعب معها ، فكانت النكبة ؟
بعض الوقائع :
إذن تعالوا نسترجع بعض تلك الوقائع ، استنادا لكتابي : إطلالة على القضية الفلسطينية 2 ، لنتعرف على بعض جوانب الوهم ، الذي عاشت فيه قيادتنا الوطنية ، والتي جَرَّتْ شعبنا إليه ، فكانت النكبة .
الواقعة الأولى وتتعلق بطموحات ملك : تقول الواقعة أن تحالف الملك عبد العزيز آل سعود مع بريطانيا ، بدأ أيام كان لاجئا في الكويت ، الإمارة التي تحكمها بريطانيا ، على أرضية مساعدته لاسترداد ملك العائلة في إمارة الدرعية . لكن وبعد أن تم له ذلك دفعته بريطانيا لحيازة الأحساء أولا ، ثم للقضاء على حكم آل رشيد ، حلفاء الخلافة العثمانية ، وضم إمارة حائل - نجد – لملكه . وللتخلص من إزعاج الشريف حسين ، ومطالبته بريطانيا الوفاء بعهودها ، إثر الثورة العربية على الخلافة العثمانية ، دفعت بريطانيا السلطان عبد العزيز لغزو الحجاز وضمها إلى ملكه . ثم ألحقت عسير بكل ذلك لتنشأ المملكة العربية السعودية الحالية .
والآن مقابل كل هذه الخدمات ، ألم يكن لبريطانيا مطالب من السلطان ، قبل أن يصبح الملك عبد العزيز ؟ بلى . كان لها مطالب وفي فلسطين . فقد طلب السير بيرسي كوكس ، المعتمد البريطاني للعراق والخليج ، في عشرينيات القرن الماضي ، من الملك عبد العزيز آل سعود – كان وقتها سلطانا وليس ملكا – أن يوقع له على جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود . رد عبد العزيز : " إذا كان لاعترافي هذه الأهمية عندكم فأنا أعترف ألف مرة بإعطاء اليهود وطنا في فلسطين ، أو غير فلسطين ، وهذا حق وواقعي ".
لم يكتف السلطان بهذا التعهد الشفوي ، بل أخرج من جيبه ورقة وكتب بخط يده التالي – كان شبه أمي - : " أنا السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود أقر وأعترف ألف مرة للسير بيرسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى لا مانع عندي من إعطاء فلسطين لليهود المساكين أو غيرهم كما ترى بريطانيا العظمى التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة " . ثم وقعها بختمه الموجود دائما في جيبه .

الحاج عبد الله فيلبي – جون فيلبي ضابط المخابرات المعين لرفقة السلطان – سأله فيما بعد : " كيف تبصم يا عظمة السلطان بهذا الشكل ؟ ألا تتوقع أن يغضب العرب على عظمتكم فيما لو عثروا على هذه الوريقة ؟ " . رد السلطان : " العرب ؟ وين العرب ؟ نحن سلاطين العرب يا حاج فيلبي . لورنس اسمه ملك العرب ، وفيلبي اسمه شيخ العرب ، ولو انتظرنا رأي العرب ما أصبحنا سلاطين كما ترى ، وما دامت بريطانيا راضية فلا يهم غَضِبَ العرب أو رضوا ، وما دامت هذه الورقة عند كوكس فهي في مأمن " . وواصل فيلبي حديثه للسلطان : " ربما يسبب هذا التوقيع تشريد شعب فلسطين بكامله من فلسطين ؟" . وعلى هذه الجملة رد السلطان وهو يضحك بصوت مرتفع :" تريد أن أغضب بريطانيا لأن عددا من أهل فلسطين سيشرد ! أهل فلسطين لا يستطيعون حمايتي إذا لم تحمني بريطانيا من الأعداء ...ولتحرق فلسطين بعد هذا ... من يعرف في نجد شيئا اسمه السلطان ابن سعود لو رفضت أو عارضت أوامر سيدنا كوكس ؟ " . ويبدو أن السلطان انتبه لما قصده الحاج فيلبي فاستدار إليه يسأله :" أنت تمزح وإلا صادق يا فيلبي ؟ " . رد فيلبي : " لا يا عظمة السلطان أنا أمزح لأرى ما تقول " .
الواقعة الثانية :
في العام 1947 عرض مشروع التقسيم على الجمعية العامة للأمم المتحدة – 57 عضوا آنذاك - . وقف مندوبو الدول العربية الست ، الأعضاء وقتها ، ضده . وبعد التصويت لم يكتفوا بالشجب والاستنكار ، بل وأسمع بعضهم هذه الهيئة الدولية ما يمكن وصفه بتهديدات ضد اليهود كيهود . ولأن جرائم النازية كانت طرية في الأذهان ، فقد صبت التهديدات تلك في طاحونة الصهيونية ، التي حولتها إلى دعم دولي فاق كل أحلامها .
ولأن الملوك والحكام العرب عرفوا بمواقفهم المزدوجة ، أو بوجهين حسب التعبير الشعبي ، وجه وموقف حقيقي أمام الخارج ، ووجه وموقف مخادع وكاذب أمام شعوبها ، جاء التطبيق العملي لتلك التهديدات ، وكالعادة ، مناقضا لمنطوقها . أرسلت بعض هذه الدول ، الأردن ، العراق ، مصر وسوريا ، قطعات من جيوشها النظامية إلى فلسطين ، فيما اكتفت أخرى بالسماح لمتطوعين ، السعودية ، السودان وليبيا ، حسبوا عدديا على الجيوش النظامية . وجاءت المفاجأة في أن هذه الجيوش التزمت حرفيا بقرار التقسيم ، الذي سبق ورفضته حكوماتها . فلم يتخط أي منها ، ولو بسرية واحدة ، أي خط من خطوط التقسيم . حتى جيش الإنقاذ الذي شكلته الجامعة العربية من متطوعين ، التزم هو الآخر بخطوط التقسيم . ولم تدخل ولو فئة من هذا الجيش المناطق المخصصة للدولة اليهودية حسب ذلك القرار .
أكثر من ذلك التزمت هذه الجيوش ، والتي كانت أقل عددا وأضعف تسليحا ، حتى مع المتطوعين ، من جيش الهاغاناة بكثير ، بمواقف دفاعية عن مناطق تواجدها ، إلا إذا اعتبرنا مهاجمة مستوطنات في تلك المناطق استراتيجية هجومية . وكان أن من دخل منها في معارك هجومية ، لاسترداد ما احتله جيش الهاغاناة من مناطق تحت حمايتها ، دخل بمبادرة فردية من ضباط أبت عليهم شهامتهم غض البصر . وكان أن حوكموا على تجاوزهم للأوامر . ومقابل ذلك انسحب آخرون من مواقع ، تعهدوا بحمايتها وبعد تجريد أهلها من سلاحهم ، تنفيذا لأوامر قيادتهم ، ولتحتلها قوات الهاغاناة بدون خسائر – اللد مثالا - . وآنذاك صدق حدس الناس البسطاء ، حين أصدروا حكمهم بأن هذه الجيوش لم تأت للدفاع عن فلسطين ، وإنما لتأمين قيام الدولة اليهودية وتسليمها أرض الدولة الفلسطينية .
الواقعة الثالثة :
عهدت الجامعة العربية بقيادة الجيوش العربية إلى الملك عبد الله بن الحسين ، ملك الأردن . ولكي يمارس القائد فعل القيادة ، كان عليه أن يزور تلك الجيوش في مواقعها ، وأن يطلع على أحوالها وتسليحها ... ، وأن يشكل هيئة أركان واحدة ، وغير ذلك . لكن هذه الجيوش بتعليمات من حكوماتها ، رفضت استقباله ، وإطلاعه على أي تفصيل يخصها . لماذا ؟ لأن تلك الحكومات كانت تشك في إخلاص الملك ، وفي ولائه للقضية المشتركة . فقد كانت علاقاته بالقيادة الصهيونية ، واجتماعاته المتواصلة معها ، والتخطيط والتنسيق المشترك ، ومن ثم الاتفاقات التي يتم التوصل لها ، أوضح من أن تتم التغطية عليها . وقد خشيت بعض تلك الحكومات من أن يتآمر الملك ، مع القيادة الصهيونية ، على إبادة جيوشها ، إن هي سمحت له بتفتيشها والإطلاع على تسليحها وخططها .
كان من نتيجة ذلك أن خاض كل جيش منها حربه مع جيش الهاغاناة منفردا . وظل ملفتا للنظر حالة السكون والصمت التي تسود الجبهات الأخرى حين كان جيش الهاغاناة يشن إحدى هجماته على واحد من هذه الجيوش . ولما كانت كل الجيوش العربية ، ومعها المتطوعون ، مجتمعين ، أقل عددا وعدة من جيش الهاغاناة ، يمكن تصور نتيجة انفراد الهاغاناة بواحد منها كل مرة .
الواقعة الرابعة تخص الجيش العراقي الذي تسلم مسؤولية حماية المثلث الشمالي من فلسطين ، طبقا لقرار التقسيم . كان هذا الجيش هو الأكبر عددا – تسعة آلاف من أربعة عشر ألفا وصلوا الأردن – والأقوى تسليحا وقدرة قتالية ، وبالتالي الأكثر محطا للآمال الفلسطينية . لكنه وبعد قطع أكثر من ألف كيلومتر ، وتمركزه في مواقعه ، داخل خطوط التقسيم ، التزم حالة السكون والهدوء . وحين كان قادته يسألون ، كان جوابهم يتكرر ؛ ماكو أوامر . مرة واحدة جرى خروج على هذا الوضع . فحين احتلت قوات الهاغاناة مدينة جنين والقرى المحيطة ، كسر قائد الفوج العراقي ، المتمركز في المنطقة ، القاعدة الحاكمة لوضع الجيش العراقي . وطنيته لم تستطع الاحتمال . شن هجوما معاكسا استعاد فيه جنين والقرى المحيطة . كما حافظ قائد آخر على القرى المعروفة بقرى المثلث ، والتي جرى تسليمها لإسرائيل في اتفاقيات رودس ، وبعد انسحاب الجيش العراقي وعودته إلى بلاده .
الواقعة الخامسة تتعلق بجيش الجامعة العربية ، المعروف باسم جيش الإنقاذ . هذا الجيش تشكل من متطوعين تم تدريبهم في معسكر قطنا السورية ، وعهدت قيادته إلى عسكري سوري سابق هو فوزي القاوقجي . هذا الجيش الذي قارب تعداده الأربعة آلاف ، بأسلحته الخفيفة ، التزم هو الآخر بحدود قرار التقسيم ، وحيث لم يتخطاها شبرا واحدا .
لكن ما يلفت انتباه أي باحث كان رفض هذا الجيش القاطع لاستيعاب المتطوعين الفلسطينيين ، خصوصا من ثوار 37 – 39 ، في صفوفه . لماذا ؟ لأنه جرت تعبئة هذا الجيش ، كما حال جيوش عربية أخرى ، بأن الفلسطينيين خونة ، لم يكتفوا ببيع أرضهم لليهود فقط ، بل وتحولوا إلى جواسيس يعملون لصالح عصابات الهاغاناة . وفي مذكرات القادة الفلسطينيين ، التي سبقت الإشارة إليها ، لم يسأل أحد نفسه عن دافع متطوع جيش الإنقاذ ، القادم من العراق ، أو من سوريا ....الخ للدفاع عن أرض باعها أصحابها ، وعن خونة يتجسسون عليه ، بغية تسليمه للعدو فقتله ؟ ولأن قادة هذا الجيش تسلموا الإدارة المدنية للسكان ، يكون غنيا عن الوصف نوع معاملاتهم للسكان الخونة الذين جاءوا للدفاع عنهم . وما زاد الطين بلة أن بعض الأخوة العرب ، عاملوا اللاجئين الذين عبروا إلى أرضهم ، استنادا لتلك الفرية .
أما الواقعة السادسة وقبل الأخيرة ، في عرضنا القصير ، وشديد الإيجاز هذا ، فتتعلق بجيشنا الفلسطيني ، جيش الجهاد المقدس . فبين 29 / 11 / 1947 يوم صدور قرار التقسيم ، و15 / 5 / 1948 يوم انتهاء الانتداب ، دارت ما عرفت باسم الحرب الفلسطينية اليهودية . لم تكتف القيادة الفلسطينية برفض قرار التقسيم ، بل وقررت خوض هذه الحرب منفردة . وكانت النتيجة أن تمكنت القوات الصهيونية من تنفيذ مخطط للتطهير العرقي في كامل المنطقة التي أقرها قرار التقسيم للدولة اليهودية . وفيما قرأته لم يطرح أي من القادة أصحاب المذكرات السؤال : ولكن لِمَ وكيف حدث ذلك ؟
كانت القيادة الفلسطينية على علم بأن إدارة الانتداب البريطاني قد نجحت في تجريد الشعب الفلسطيني من أي سلاح . كان الشعب ، وحتى 29 / 11 أعزل تماما من السلاح ، وحتى الأبيض منه . ولا يمكن لعاقل تصور أن نجاح ثوار من ثورة 36 – 39 ، في تخبئة قطعة هنا أو هناك كان يمكن أن يشكل فارقا . وكون بعض الضباط الانجليز ، المتعاطفين معنا ، سربوا لنا بعض قطع السلاح ، أو حتى كل ما كان فائضا في معسكر من معسكراتهم قبل الرحيل ، يمكن أن يشكل هذا الفرق . وعلى عجل قررت القيادة إنشاء وتشكيل جيش الجهاد المقدس ، من الثوار القدامى ، وشباب متحمسين ، وبما تيسر من ذلك السلاح الخفيف . وفي إعدادي للإطلالة الثانية على القضية الفلسطينية ، ذهلت من تجاهل قيادتنا للحقائق ، والصراخ والعويل بخذلان العرب لنا بعدم تزويدنا بالسلاح المطلوب ، الأمر الذي دعا شهيدنا الكبير عبد القادر الحسيني للإقدام على ما يشبه محاولة للانتحار ، في معركة القسطل التي استشهد فيها ، وحيث شكل استشهاده نقطة تحول غاية في الأهمية في حربنا تلك .
هل كانت القيادة الفلسطينية تتصور أن تشكيلها اللحظي لجيش الجهاد المقدس ، بعدده وعتاده المحدود ، ومجموعات الثوار المنعزلين عن بعضهم البعض ، والمركزة جهودهم على حماية القرية أو الحي ، كان قادرا على إفشال قرار التقسيم ؟ ألم تكن القيادة على معرفة وعلم ، بأن الحكومات العربية ، حتى لو توفرت عندها الإرادة ، غير قادرة على تسليح الفلسطينيين ؟ ألم تكن على علم ومعرفة بأن العرب لو أعطوها السلاح ، فسيكون ذلك السلاح الذي خرج من حيز خدمة جيوشها ، التي سلحتها وتقودها بريطانيا صاحبة وعد بلفور ، أو فرنسا التي لم تتخل عن مطامعها الاستعمارية ؟ ألم تسأل نفسها عما إذا كانت الجيوش ، أي جيوش ، تستطيع دخول وكسب أي حرب ساعة إنشائها ؟
العجيب أن القيادة الفلسطينية كانت تعرف كل ذلك . وأكثر كان لا بد أن تعرف أن قيادة الحركة الصهيونية أمضت سنوات طويلة وهي تشكل ، تبني ، تدرب وتسلح عصاباتها . كانت تعرف أن فرقة كاملة منها تدربت في ساحات الحرب العالمية الثانية ، وأنها مسلحة بأحدث الأسلحة الثقيلة قبل الخفيفة ، وأن تعدادها يجاوز عشر مرات تعداد القوة الفلسطينية . وكانت النتيجة الطبيعية : نجاح القيادة الصهيونية في تنفيذ خطة التطهير العرقي – محو أكثر من 350 قرية فلسطينية عن وجه الأرض – والوصول إلى يوم 15 / 5 ، بحصتها حسب قرار التقسيم ، مطهرة تماما من أهلها الفلسطينيين ، وجاهزة لإعلان الاستقلال ، وذلك ما كان .
أما الواقعة السابعة والأخيرة ، في هذه المراجعة السريعة جدا والقصيرة جدا ، فتخص تهجير الطوائف اليهودية العربية . فمع نهاية الحرب وجدت القيادة الصهيونية نفسها تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي ، جرى تفريغها تماما من سكانها . ومع أن وتائر الهجرة اليهودية تصاعدت كثيرا إلا أنها كانت غير كافية لملء هذه المساحات الشاسعة وامتلاكها . وكان بقاء أحياء واسعة ، وفارغة في المدن المحتلة ، أمرا غير محتمل . وفي نهاية العام صدر قرار الأمم المتحدة رقم 194 القاضي بعودة اللاجئين إلى ديارهم التي طردوا منها . وفي محادثات لوزان كان تدمير القرى الفلسطينية ، فعدم وجود مساكن لاستقبال هؤلاء اللاجئين ، مبررا غير كاف لمواصلة إسرائيل رفضها لعودة هؤلاء اللاجئين .
وحدث عقب فشل هذا المؤتمر ما كان يوجب لفت نظر القيادة الفلسطينية . فقد بدأت في البلاد العربية عمليات دفع للطوائف اليهودية العربية وإجبارها على ترك أوطانها . وحدث أن أقطارا شاركت في حرب فلسطين ، العراق كمثال ، قامت بإجلاء طوائفها بالقوة ، وتحميلها على طائرات ، تلقي بهم في إسرائيل . وظل الواصلون بهذه الطريقة ينقلون ، وعلى وجه السرعة ، للحلول محل الأهالي المطرودين . كما ظل ملفتا للانتباه أن تعداد المطرودين من البلاد العربية ، والواصلين قسرا أو طوعا لإسرائيل ، يقارب عدد اللاجئين الفلسطينيين .
والسؤال الذي كان يجب أن يطرح آنذاك : هل وعت القيادة الفلسطينية ، ثم التي لحقتها ، معنى هذه الخدمة العظيمة التي قدمتها الحكومات والحركات ا لقومية والدينية الشقيقة ، وأيا كانت المبررات ، لإسرائيل ؟ لا أظنها فعلت ، بدليل استمرار قبولها ، فاستنادها للإعلان اللفظي لهؤلاء الأشقاء ، عن تمسكهم بحق العودة للاجئين الفلسطينيين .
والآن وبعد هذا الاستعراض القصير جدا ، والموجز جدا ، لغيض من فيض وقائع سبقت ولحقت النكبة ، يأتي السؤال : هل راجعت قياداتنا الفلسطينية المتعاقبة ، تلك الفترة ، وأي فترة أخرى ؟ والجواب : لا لم تفعل ، ليس فقط لأنها ترفض مبدأ المراجعة من الأصل ، بل ولأن قيادات فصائل الثورة استأنفت العمل من النقطة التي انتهت إليها قيادة الحاج أمين الحسيني الراحلة ، ومعتمدة ذات النهج . ولذلك تكررت الأخطاء وما زالت ، وعظمت المصائب وما زالت . أما الجديد ، وبعد أكثر من ستين سنة من تكرر الأخطاء والخيانات ، فهو أن سلطتنا تدخل المفاوضات وظهرها إلى الفراغ . بعد أن تبخرت الكذبة القائلة بأن فلسطين هي قضية العرب الأولى .
ولقد ظل الروائي المبدع نجيب محفوظ ، وفي رائعته أولاد حارتنا ، يختم كل فصل من فصولها بالعبارة التالية : ولكن آفة حارتنا النسيان . وعلى منواله نختم هذه المراجعة القصيرة جدا ، والسريعة جدا ، مكررين القول : ولكن آفة شعبنا قياداته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وزير الخارجية التركي: يجب على العالم أن يتحرك لمنح الفلسطيني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي عيتا الشعب وكفر كلا جنوبي لبنان




.. بلومبيرغ: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائف


.. التفجير الذي استهدف قاعدة -كالسو- التابعة للحشد تسبب في تدمي




.. رجل يضرم النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترمب في نيويورك