الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحاكم بامر ربه : صنعت فوضى اللعبة السياسية الها كونيا جديدا

رويدة سالم

2014 / 5 / 19
الادب والفن


صنعت فوضى اللعبة السياسية الها كونيا جديدا

حدثني من اثق بهم من الرواة الذين اخمدت اصواتهم فظلوا دوما مجهولين وبعض من الحكماء ممن ابتلعتهم الكهوف المنسية لأصحاب ثقافة الحرب من بين كل من مثلي ووصلوا لذات الخلاصة عندما عايشوا الاحداث وخاضوا غمارها ان الصورة التي تجلت رغم العتمة اختزلت كل مآسي البشر : صورة الخفاء والتعتيم الذي توجت فيه الفوضى العارمة التي ابتلعت العالم بأحداث جِسام شابَ لها كل وليد وأجهضت لهولِها كل حامل ووئدت بسببها البراءة والحرية والكرامة وولد إلـــه كوني آخر.
أتعرف كيف بدأت قصة الآلهة البدئية التي بلغ البشر بأسرع مما توقع صناع الكون الأولون نهاية تاريخهم في سبيل حمايتها ؟
بدأت من هنا في اليوم الاخير لسنة أعتقد ، ان لم تخني الحسابات ، انها كانت ( 2357 ) لأل إسكندر الاعظم.
يوم سقط قناع طاغية وولد إلــه واندحرت قيم وتسيدَت منافع وتضاربت مصالح وعجزت شعوب عن حماية تميزها وخصوصياتها المحلية وتهاوت بلدان بأكملها في اعماق الجُب بكل ما حمل أديمها وانصهر الكل في حلم كيان وهمي فرض فرضا من طرف حماة عقيدة وأنصار فكرة ادعت منشئوها انها كونية.
في ذلك اليوم الفارق حدثني الحكيم الذي سيأتيك ذكر خبره في بعض اجزاء نصنا هذا أن احداثا غريبة هزت هذه النقطة المعتمة في هذا المصر المنهك الذي يعود الان ليتجلى امامي كعروس مطعونة في عمق الذاكرة والجسد اغتصبها في ذات الوقت ثم وأدها الحبيب والعدو على فراش عهر واحد وان اختلفت الأغطية واللحاف الذي ستر الجريمة.
تعالت الأدخنة وتحطمت الدعائم وتاه الانسان في شتات مر عبر بواباته مراراً فلم يتعلم ولم يشفى من اسره ولم يتمكن من قطع حبائله لأنه في لاوعيهِ اختارَهُ قدراً. كلما اعتقد في كل مراحل تاريخه انه تجاوزه عاد ليتوه فيه من جديد مع عواصف جديدة لا يشعر انه من ينثر بذورها إلا لمّا تطوح به ثانيةً في فضاءات بلا قرار.
في هذه اليوم حطم زلزال فاق كل المقاييس التي ابتدعها العلم وتلك التي لم يكتشفها بعد مفاهيم ظلت امدا من الدهر مصانة في ذوات البشر فتشوهت وتقيحت وسالت العفونة على جنباتها.
يوم صارت مصداقية وعدالة القضايا المصيرية فيه مسألة مريبة ومثيرة للجدل وورث حق الدفاع عنها دجالون ومشعوذون يتعيشون على تضخيم معاناة الاخرين وأضحت الحلول وتحقيق العدل مجرد اوهام للتخدير والترميز والنرجسيات معرية الانسانية في كل سطحيتها وبذاءتها وغير هذا الزلزال الذي اجتاحه الخرائط وأضاع الحدود وباع ما تبقى من الاوطان للمتوحشين القادمين من عالم آخر... عالم المصلحة والرقص على الوجع الانساني.
قيل والعهدة على من روى انهم دخلوا البلاد من اوسع المنافذ وكانوا مكللين بالغار يسيرون في الارض مختالين ويدوسون بنعالهم الثقيلة قطع بلورية براقة نثروها في زمن مضى سلاح حرب وخداع وغواية. قطع بلورية تافهة القيمة في ذاتها استمدت ألقها الساحر من الانعكاس الجميل لأحلام المسحوقين ازاء هوس القراد اللاعق لأكبر قدر ممكن من دمهم. بدت تلك الاشياء التي تعادل الحلم بهاءً لنظر الموهومين المخدوعين لؤلؤاً ثميناً محملة بتلك الألوان الساحرة للقيم المنشودة التي نسيها المتغنون بالفلسفات المنطقية الاولى وأوصياء الالهة البدئية وورثة كل كتب القديسين والأنبياء المنسيين. يقال ان بريقها فتن من ادعوا علما وقدرة على التحليل العقلاني فاختلفوا في كنهها وتجادلوا وتفرقوا في تفسيرها وجدواها حد التناحر وسلب وميضها لُب التافهين فتحزبوا وتكتلوا وتكالبوا وتقاتلوا وزادوا الاوطان تمزيقاً وطَوَّح ما بقي من لمعان فيها برؤوس المهزومين المهدورين المقهورين فتعوذوا بشيوخ قبائلهم الذين زادوهم رهقا. ما بدى بينا في وضح النور كان شيئا واحد لا مراء فيه : تمزقت الجماهير شر تمزيق... تكتلت في وحدات هامشية محدودة القدرات والفعل... لعقت النعال وتباكت عند الابواب ثم في فورة الاحتراق قبل ان يغزو الرماد ما سيتبقى منها قدمت الأرواح فداء لحماية عروش ازداد عددها باضطراد نسبها من تلاعب ببوصلتها حال اندلاع الفوضى الخلاقة لبعض الأرباب القدماء أو لبشر استأصلوا من ذواتهم الناسوت وتماهوا في لاهوت جعل منهم الهة محدثة.
لم يكن طريقهم للوصول لعرش الاله الملك– والحق يقال – سهلا يسيرا.
تحكي بعض الروايات انهم لبلوغ درجة الكمال تلك عبروا بوابات الجحيم كلها.
- هل ذاقوا عذابات الانفصال عن الذات ؟ تسألني.
ربما...
قال الحكيم ان ما هو مؤكد فعلا هو انهم للبدء على اسس ثابتة امتلكوا بلاغة ومنطقا مؤثرا. جيشوا عبره المشاعر وجندوا الافئدة وقدوا اسلحة من قلوب فقدت الرحمة والتعاطف.
في مرحلة ثانية بذلوا كثيرا وبدون حساب : منوا بالعفو على المارقين ومنحوا العصاه الامان وجادوا بهيبة الشعوب على القتلة فدانت لهم الرقاب وكثر لهم الدعاء على المنابر وفي الساحات.
بعد ذلك ، عبروا تجربة انعدام الحس. صاموا عن الحق دهرا ولم ينفقوا. خاضوا بحارا من وجع الشعوب والدم فتعفنت البحار ولم يرتووا ولم يعقلوا. صنعوا من الحسك والصبار والسكوم اردية فبلي الشوك ولم يجرحوا. استباحوا طهر الازهار فضاع العطر ولم يتطهروا. انتقوها في البداية من الحقول المنسية ودرسوا ردة فعل المحكومين. داسها رجالاتهم ثم عرضوا البتلات المسحوقة في الاسواق. الجريؤون ممن لا يزال بقلبهم بعض حلم الذين تجاسروا وتظاهروا ادينوا لجرائم لم يرتكبوها ... حوكموا علنا ثم غيبوا في الدرك الاسفل من معتقلات لا يعرف كائن حي لها سبيلا.
بعد هدنة لم تطل كثيرا كرروا الامر ثم تدرجوا الى ان بلغوا اكثر الازهار شذى. ازهار عبقة بالمعرفة والفكر والعمل ملأ عطرها الكون صفاء وبهاء أجبرها عبيد الحكام بأمر اربابهم على الاختباء تحت كراسي المقاهي والنوادي الثقافية ودور العلم كجرذان حقيرة او تقديم مؤخراتها تذكرة عبور لذكرى وطن يتهاوى نحو مؤخرة دول العالم.
- كم نحتاج من مداد لنخط اسماءهم وما نالهم من ذل وتحقير ؟ تفكر ان تسألني.
ثق اننا لو امتلكنا كل مياه البحار والمحيطات مدادا لنفذت ولم نبلغ بعد نصف القائمة.
عبدوا بهم الطرقات للتحول الجلل. في بداية مرحلة انتهاكهم غزى التنديد ساحة الفعل لحين ولما تتالت الصفعات ذوى. ناب عنه السباب والشتم ثم تلاهما الهجس والهمس. الصمت ابتلع في النهاية ما تبقى من عويل.
في الاخير بعد ان على ذكرهم على العالمين احيوا وأماتوا. طافوا متنكرين في البلاد. امروا بسراح هذا وقلع اظافر ذاك وسلخ جلد أخر واغتصاب انثى امام ناظري ابيها وبطر بطن حامل وتقديم الوليد المشوه اليها وإغراق اطفال كانوا يلعبون بالرمل عند احد الشطان مثقلين بالحديد في عمق النهر قبل ان تخمد اصوات الفرح في حناجرهم.
تقرحت الجراح وتقيحت وعطنت ثم ابتلع المحكومون القبح عن طيب خاطر. احسوا بطعمه المر لكنهم كانوا قد فقدوا حاسة الذوق. رأوا الازهار تداس لكنهم كانوا قد فقدوا القدرة على الابصار. صاروا
Des brutes
كائنات بهيمية لا تعي... تردد في عته باد :
- يا احد يا محي يا مميت يا قائم الزمان ما اعظم برهانك واشد سلطانك واسطع بيانك واصدق اياتك.
- آمين...
- الف ألف آمين...
الحاكم بأمر الله ليس استثناء. هو وجه قذر من وجوههم التي بلغ اكتمال تحولها مداه ليولد ملكا اله. امتداد لكن بملامح اخرى. حاكم بأمر ربه من صنف اعمق تأثيرا واشد طغيانا.
اعتقد ان العودة لسرد للأحداث التاريخية اجدى فهي الوحيدة القادرة على شرح النهايات التي اكتسبت قداسة رغم كم العهر والخديعة بوضوح أكثر.
كتب المؤرخون أن الغموض والتضارب اكتنف حياة الحاكم بأمر الله منذ توليه الملك والى ان غيرت اللعبة السياسية والمشوهون للحقائق الاشد بساطة الواجهات المستهلكة في سبيل شرعية اكبر. لم ينجح احد في تقديم صورة واضحة لشخصيته وتقلبات احكامه كما فشلوا مع غيره من الساسة. لم يتمكن احد من معرفة ما كان يحدث داخل شرنقته العجيبة مع ما اكتنفها من خفاء. شرنقة حمت حقيقة ما كان يحدث في داخله كما لا تزال تفعل مرارا وتكرارا مع كل تجل لحاكم بأمر ربه جديد مانحة عهده مسحة مثيرة من العنف المفرط والطرافة المثيرة للسخرية والرهبة والروعة والخشوع.
لحظة الذروة الدرامية في الحكاية حدثت في ليلة 27 شوال سنة 411 هـ عندما خرج وقد ضاقت نفسه وأرهقه الضجر راكبا حماره الفخر. حكي كل الشهود في القضية أنه ورجاله سلكوا درب السباع وعندما وصلوا الجبل رد الحاكم ابا عروس صاحب العسس ونسيما صاحب الستر والسيف ثم سار متوغلا في شعب المقطم صحبة مكاريين اثنين. اعترضه في الطريق عشرة من عرب بني قرة وطلبوا صلة وإحسانا فأرسل معهم احد مرافقيه الى صاحب بيت المال وواصل مسيره رفقة المكاري الثاني نحو دير القصير في مكان يسمى صحراء الجب. عندما بلغ المكان الذي يقصده في شرقي حلوان كان بانتظاره عبدان لابن دواس انقضا عليه وطرحاه ارضا. قتلا الصبي الذي برفقته وقطعوا قوائم حماره ثم اجهزوا عليه وقطعاه وجمعا اشلاءه في كساء اخذاه لسيدهما.
حمل ابن دواس الجثة لست الملك التي ظلت ساهرة تنتظر ما سيؤول اليه الامر. حالما استلمتها امرت بدفنها في مجلسها ذاك وأنعمت على مساعديها بمال وتحف كثيرة. استدعت اثر التخلص من الحاكم خطير الملك كبير الوزراء وأعلمته بما حدث واستحلفته على الكتمان والطاعة فلبى امرها خشية على زوال ملك اولياء نعمته وتقوض اركان الدولة وخسارة منافعه. طلبت اليه بعد ذلك ان يستدعي ولي العهد عبد الرحيم بن الياس من الشام فكتب اليه على لسان الحاكم يأمره بالعودة وحال وصوله كان بانتظاره قائد الساحل الذي استقبله بما يليق بملك في مياه دمياط ثم سار به الى تنيس وقتله هناك.
"وتنيس جزيرة ومدينة جميلة وهي بعيدة عن الساحل بحيث لا يرى من اسطحها والمدينة مزدحمة وبها اسواق فخمة وجامعان وقد يبلغ عدد الدكاكين بها عشرة الاف دكان" سفر نامة.
كانت ست الملك ترقب تنامي كراهية الشعب لأخيها وتخشى ذهاب عصر المجد والسؤدد الذي بناه اباؤها. سارعت حامية مجد ابيها حال التخلص ممن كان سيقوض اركان دولة اباءها ويرمي بها وبأسرتها في البؤس والشقاء والدماء بتولي تسيير امور العرش بعد ان أذاعت ان اخاها سيغيب لسبع ايام وانه يمدها بأوامره لحين عودته. أمرت بالبحث عنه مبدية الجزع وأرسلت دمعة لم تقدر ان تحافظ طويلا على مكانها من الخد الاسيل. تدحرجت وتكسرت على البلاط مع عودة المفتشين بعد خمس ايام ومعهم ثياب ممزقة عليها اثار دماء وطعنات سكين. لكي تطمئن الخواطر المضطربة وتقضى على الاقاويل وزعت الف الف دينار بين مختلف الاولياء.
ابدت الحزن وأقامت عزاءه بالقصر ثلاث ايام واستدعت جماعة العرب الذين اعترضوه ليلة الجريمة وسألتهم ان يقدموا ما يعرفوه واعدة اياهم بالعفو والإحسان ثم ضربت اعناقهم.
لما استكملت خطتها واستتب لها الامر اعلنت بعد ستة اسابيع من مقتل اخيها بمساعدة ابن دواس الذي ما انفكت تحرص على كسبه في ذي الحجة 411 هـ ان الطفل ابي الحسن علي بن الحاكم خليفة ابيه والله و المسلمين. البسته تاج المعز لتأكيد عراقة المنبت وشرعية الانتماء والسلطة ووضعت على رأسه مظلة مرصعة وأركبته فرسا بمركب من ذهب. في فناء القصر قبل ابن دواس الارض بين يديه وحذا حذوه سائر القادة والزعماء وضربت الطبول وفتحت ابواب القصر ودخل الناس جميعا فسلموا وتمت البيعة.
تسأل :
- هل فكر الاكابر عن بكرة ابيهم بالمذلة في ركوعهم لطفل لم تجف اسناه بعد من حليب امه ؟
انهم لا يزالون يفعلون ذلك رغم مر العصور وتغير القيم وسيفعلون دوما فلما العجب ؟
المذلة من اجل المصلحة تتحول الى عز ويتبارى صغار النفوس في اظهارها دون خجل. يتماهون في ذلهم ويتحول الذل الى ضرب من القداسة التي لا تحد. يتوهون عاطفياً في مصلحتهم ويزوغون مصلحياً في عاطفتهم متخلصين بصعودهم السريع هذا نحو عمق الهاوية من عزة النفس الى ان تغدو كل القيم غير ذات معنى.
انظر حواليك وسترى نفس الصورة تتكرر في كل مصر : اطفال الحاكم يحملون على الاعناق ومن يتوهمون انهم ابطال الزمان وصناع مجد الدولة يلحسون العفونة حتى تغبر جباههم دون أي احساس بالخزي او العار.
اللعبة السياسية يخلق محركوها دوما اصناما جديدة وبيادق اللعبة يخلقون عبودية من نوع أخر : عبودية ذات لذة اكبر وانسحاق يبطن نشوة لا تضاهى.
لم يتعلم هؤلاء العبيد الأبديون في انسحاقهم منذ الازل ولن يتعلموا انهم وقود سرعان ما سيستهلك في اول منعطف لحماية اسرار وضمان استمرارية انتهاك شعوب.
هل شعر ابن دواس وهو يتحرك في الحيز الذي رسم له في لعبة ست الملك ان رأسه كان في اول قائمة الاعناق التي ستقطف وهل يشعر صغار النفوس الراكعين اليوم امام الحكام والملوك والذين سيركعون على مر التاريخ المعلوم انهم تافهون حد القرف ؟
قال معلمي الانطاكي ان سيدة البلاط بعد ان استوثقت من طاعة كتامة وباقي الطوائف والزعماء استدعت ابن دواس الذي صار يعتقد انه اهم رحل في الدولة وأمرت نسيم صاحب الستر بتدبر قتله بتهمة قتل الحاكم فقتله صبيان الخاص في ابهية القصر ثم قتلوا عبديه وبعد اشهر قليلة قتلوا خطير الملك وكل من له علم او صلة بالجريمة... الجريمة الكاملة التي تحركت البيادق فيها بأمر من الرأس المدبرة ذات القوة والحول.
بعد مقتله ظهر رجال ادعوا انهم الحاكم قد عاد من جديد وآخرون تباروا في تأكيد انهم قتلته الفعليين وأنهم سيكررون الفعل ابد الدهر.
ما صنع النسخ المثيرة للسخرية في مختبرات الاستنساخ كان الطمع او الوهم القاتل أما مدعي شرف القصاص غيرة على الله والدين وكرامة الشعوب فقد كانوا مجرد فدائين استهلكهم المتاجرون بالقضايا المصيرية فبحثوا عن احتراق يحقق لهم بعضا من ذاتهم المسلوبة او بعض من الدعاة الهائمين ممن ارادوا ان يجعلوا من انفسهم ابطالا وشهداء طمعا في جزاء رباني تخيلوا مع بلوغهم حدود الخبل القصوى ان الله لن يفطن لمحركاته الاساسية.
ست الملك روح اللعبة السياسية والرأس المدبرة للجريمة كانت تراقب كل التطورات وسيفها مشرع فلا تستغرب ان خمدت كل الاصوات وانضوى الجميع في خط الرواية المرسوم سلفا.
اخبرني الحكيم أن أحدا من الجماهير لم يتساءل يوما ان كان صناع السلطان وحماته يكترثون للدماء التي تراق على جنبات الطريق لأنهم كانوا يدركون في لاوعيهم أن كل من يتجرأ ويدخل ساحة الالغام تلك سيفقد الامان الذي يمنحه الحشد وتنكسر روابطه بالمجموعة التي ينتمي اليها فتسارع الجماهير حتى قبل ان يبلغ امره الحاكم او اتباعه ويغيب في اعماق دهاليز معتمة قدت على مقاس الموعودين بالعذبات القاتلة للعقل المتشكك لاحتجازه ضمن دائرة المشتبه بهم ومن ثم اقصاءه الى فضاء التيه والوحدة...
كل من برأ ست الملك من دم اخيها كان جبانا او عميلا او ذي مصلحة يخشى خسارتها لكن لا احد منهم شعر انه قد خسر ما هو اهم من أي منافع. لئن برأها الانطاكي فقد فعل ذلك كل المسيحيين من اهل مصر لان الرعب الذي بثه الحاكم في نفوسهم جعلهم يخشونه حتى في موته فأنى لهم ان يصدقوا ان امثاله يمكن ان يموتون ثم معلمي كان حالما لا يزال يؤمن بالإنسان ولم يمتلك الجرأة الكافية ليصدق بان الملك يمكن ان يشوهه الى هذا الحد. أما المؤرخ المسبحي فقد برأها لأنه كان من ذات المذهب وقريبا من الحاكم ومن القصر وروايته رواية قصر يغذيها التحفظ والتكتم على كل ما يمس بالشخصيات السامية في الدولة وصدق رجالات الدولة الكذبة الكبرى لان الثقافة التي قولبتهم جعلتهم يقتنعون ان لا خيار امامهم فإما ان يكونوا لاعبين فاعلين في المسرحية او ملعوبا برقابهم يرمون في المعتقلات او يصلبون وأمّنَ الشعب على براءتها لأنه كان يحتاج لذلك لكي يقدر ان ينام مطمئنا لقدره وان كان مصيره - وسيظل - متأرجحا على خط رفيع يفصل النار التي تحرقه عن الدخان الذي يعميه.

قال لي الحكيم في احدى ليالي سمرنا هناك في تلك الغرفة العفنة في المعتقل :
- لعبت هذه الاميرة وسيظل اشباهها – وهم والله لكثر لا يقدر حتى الالهة على لجم هوسهم بإراقة الدماء وإعادة صناعة الملك من جديد وان تقوضت اركانه - يلعبون دورا كبيرا في كل ظروف العصر الذي يتواجدون فيه. مثلها تماما سيشاركون في كل الحوادث المهمة والقرارات المصيرية وما ان تفلت خيوط اللعبة من ايديهم حتى يسارعون بالتخلص من المارق وتعويضه بواجهة اشد ليونة. ربما يجب ان نعترف انهم أكثر نباهة وسداد رأي وفطنة وحزم من كل البشر لا لأنهم يمتلكون الحكمة والمعرفة بل لأنهم بكل بساطة لا يتوانون عن انتهاج أي سبيل مهما يكن دمويا للحفاظ على السيادة وتوطيد عراها وتخليد ذكراها وإنقاذ مصالح - لا اوطان تنحدر نحو الدمار– يرونها مشرفة على الانهيار.
كل السياسات في عرف الثقافة التي يسودون عبرها الشعوب مباحة مهما تكن غادرة ما دامت تحقق اغراضا سياسية وتبرر خطورة الغايات التي اتخذت سبيلا لتحقيقها.
يشوهون كلهم ، كل من موقعه في اللعبة ، القضية العادلة باستخدامها ليتطهر النظام من عهره ويتحول الى الشهيد المدافع عن قضايا شعبه واستقلاله وحقه في الانسانية والمواطنة رغم انتهاكهم المتسمر لأبسط شروطها.
يعلمون أيضا انه حالما تحترق ورقة عليهم ان يتحركوا. بسرعة وبضربة واحدة يتخلصون من شبه الميت ويعوضونه ببيدق آخر. الحكام بيادق ايضا لو تعلم... اوراق تحرك على رقعة اللعب. يضربون بها بقوة فتلتهم كل من في طريقها او تلقى في المحرقة ان فشلت. يدركون ان قتل الحاكم او اختفاءه او خفاءه يجدد الدماء ويمنح فرصا جديدة. موت يبعث روحا جديدة لولادة لا تقل بشاعة وانتهاكا. موت مصطنع بكل جزئياته يمسح تاريخا من الارهاب ويؤسس لأخر أشد عنفا. موت في ظل انعدام الحلول الجذرية الواعية التي يؤسس لها ابناء الغد وعجز المظلومين عن ايجاد منفذ للتحرير من غبنهم يجعل الحاكم الظالم ضحية بقدر شعبه. يلبس رداء قضاياه المصيرية ويرقص على وتر الازمة محولا غياب العدالة وانتهاك القيم الرفيعة الى قضايا مصطنعة تخدم استمرار سلطانه.
تعلم ان موت الحكام كان رمزيا في مطلق الاحوال.
ينفي المتلاعبون بالنرد بعض الحكام من الرقعة ويمنحون الصولجان لخليفة اقدر على التلون وابرع خطابة او يخفون وجه الورقة المحروقة التي عافتها نفوس الشعب وبعد ان يشتد النزيف وتتعاظم المعاناة يعيدونه بوجه ثان ويظهرونه على المنابر لاعبا دور الضحية في لعب عالمية تهدد كيان الدولة واستقلالية الشعب الذي يغرق في يأسه من جدوى ثوراته وإمكانية تحقق العدل فيها فيصدق في غياب البوصلة ذاك ان الحاكم مظلوم يجب مساندته وتقبل اذاه كقدر.
وبذلك يصير الحاكم الاله المخلص ويتحول ظلمه الى حق شرعي تبيحه الحاجة لحماية الاستقلالية والصمود في وجه العدو الوهمي المفترض الذي يمنح حجما اكبر مما هو عليه حقيقة.
في هذه المرحلة من كل حكاية ملك يولد الحاكم الاله. الاله المحيي المييت الحي القيوم. ايمكن ان يوجد بعد من يمتلك الجرأة على لومه اذ يراه يواصل عدوانه تحت مظلة الشرعية متمسكا بالتحكم بالأقدار موجها لها ؟
في كل الاحوال يصيرون دوما الصنم المعبود وتتوارى كل الالهة دونهم. ينسجون خيوط الجريمة بحنكة لا تنفك تزداد حبكة في كل جولة ويتوه القطيع في حبائل اللعبة. وفي الجريمة الكاملة دوما غياب الحاكم يجعله اشد حضورا مما كان عليه يوما في حياته لذلك لا تستغرب اذ تجد الافاق تردد ولا تزال تفعل دوما بعد كل ثورة على الظلم والاستبداد :
- مات الحاكم... عاش الحاكم الاله... تقدس الاله المتجلي...
يمكن ان يكون هذا الاله الوليد ذات الحاكم القديم وقد غير قناعه او واجهة جديدة من ابناء الوطن المجهزين مسبقا لبيعه في المزاد او جماعة من رؤوس المال الجاهزين للمضاربة بالثروات في اسواق اجنبية او في بعض الحالات مجرد فكرة دخيلة تُسوق عبر الزخم الاعلامي وأبواق الدعاية المالكة لكل اساليب التأثير على عواطف الجماهير فتغيب الخصوصية المحلية وتُفرض قيما دخيلة لن تخدم بحال ابناء الوطن المنتهك.
لن اجرؤ على القول ان ابو علي المنصور بكل ما يرمز له من استبداد ملوك وتطرف زعماء وجبروت كهنة وشيوخ عشائر كان من اختراع بعض المؤرخين المسطولين فجرّة قلم لن تمحو شخصيات سقيمة صنعها المستكينون على حدود الشرف. عاصرته شخصيا وذقت من انتهاكه لإنسانيتي ما يفوق الوصف لاني فقط مختلف كما عاصر مؤرخون آخرون غيره من الحكام ونقلوا من اخبارهم ونفائس احكامهم ما لن يقدر امريءٌ على تجاهله لكني اقول بكل ثقة المواطن المنتمي والملتزم بقضاياه – فانا انتمي الى هذا المصر ككل منتمٍ من بينكم - اقول انه دون كل شعوب العالم يمتلك اهل شرقنا السعيد موطن كل الانبياء والآلهة براعة في خلق المقدس والقديسين وتأليه كل من يجد هوى في نفوسهم وان كان من الشياطين او المَرَدَة ويتمتعون بقدرة لا تضاهى على اعادة بناء الانسان في ابشع صوره بعد تحطيمه بكل حب و إعادة تشكيل الوجوه بعد تشويهها للمرة الالف بكل عطف وبعث الحياة في المسوخ التي جعلوا امهاتها تجهضها قبل الاوان بكل اخلاص المنشئين الاوائل للحياة.
ان فصل واحدا من فصول ما دونته المصنفات والكتب المكللة بكل صنوف الاعجاز والتفاضل لم يعدم ابدا اخبار الاب الحامي وبطولات القائد الرمز وجاه الملك المبجل وعزه ولم يعجز الكتبة عن ايجاد حلقات جهنمية الترابط تصل السلف الصالح بأفضل خلف وأشدهم طهرا. كلهم بدون استثناء وليد سلالة شريفة مطهرة سواء كان رباطها بالنبع الاساسي ذكوريا والدا عن والد او انثويا من رحم منزه طاهر وبقية الرعاع حشوُ وُجِدَ فقط لتكتمل فصول الحكاية.

دمتم بخير










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله