الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخرس - قصة قصيرة

عبد الفتاح المطلبي

2014 / 5 / 25
الادب والفن


الخَرَسُ
قصةٌ قصيرة
عبد الفتاح المطلبي
(( من العجز أن نصمت حين يتوجب الكلام))
منذُ تلكَ الليلةِ التي انتُزِعَ فيها قلبُها الصغيرُ وقُذفَ بهِ بعيداً إلى هوةٍ لا قرارَ لها حيث أصبحت قصة زفافها القهري حديث كل سكان المدينة و إذ تمّ ذلك دون أن ينصرها أحد كانتْ تشيحُ بوجهها عن الدنيا حينَ لم يعدْ الكلامُ نافعاً، بقيَتْ صامتةً وقد سلَّمَ الجميعُ أنها قد أصيبتْ بالخرسِ نتيجةَ جِنٍّ ألمّ بها ليلةَ افترعها غولٌ بشريّ لا ميزةَ له إلا الجسامة والقوة الغاشمة، وبعدَ سبعةِ أشهر اندلقَ حَملُها ناقصاً بلافمٍ وكأنه دُميةٌ لمِ يعتنِ صانعها بتفاصيل ملامحها وقد كابدتْ أمه أثناء طلقها آلامها بصمتٍ مروع ، القابلةُ التي تشبه بغلاً لم تجد شيئا لتقوله فقد حصل ذلك تحت وطأة سكونٍ شامل وغادرت متلفعةً بخيبةٍ مريرة ولم يمر وقت كثير حتى شوهدتْ مجموعةٌ من الناس ِ وهي تدفنُ المولود الخديج بصمتٍ يزيده ثقلا صمتُ المقبرة التي دُفِنَ فيها وتقول الحكاية أن جميعَ من كان في المنزل والقابلةَ التي نزلَ على كفيها قد فقدوا أصواتهم تماما حال ولادته ولم يمض إسبوع حتى كان جميع سكان المدينة البالغ عددهم بضعة آلاف بلا صوت وكأن حبالهم الصوتيةِ قد استلت من الحناجر لم يدرك الناس بعد ولم يفيقوا من صدمة فقدانهم لأصواتهم لأن ذلك حصل أثناء ليل بهيم تخللهُ نومٌ ثقيل ولم يعد خافيا على أحد منهم أن شيئا فوق قدراتهم قد حصل فتابعوا الحياة بصمت على أمل أن تعود لهم حبال حناجرهم فجأة كما فقدوها فجأةً أيضا وراحت الليالي تكرّ طويلةً تفصلُ بينها نهارات قصيرة .
ذات ليلةٍ خلدَ الناسُ في االمدينةِ إلى النوم وقد فكّرَ الجميع بالمضي إلى يوم آخر لا يختلف كثيرا عن يومهم الذي مضى لا يُسمعُ لهم صوتٌ غير حفيف الثياب وصفعات أحذيتهم على أقفيةِ دروبهم أينما ذهبوا ، نام الجميع وفي رأس كل واحد منهم تفاصيل كثيرة تتعلق بشؤونهم الحميمة ولكنهم مع ذلك لا زالوا مذهولين ولم يفيقوا بعد من صدمةِ ما حصل ، ، حتى إنهم لم يستطيعوا أن يتجاذبوا أطراف الحديث حول الأمر خمّنوابعد ذلك أن لعنةً حلّت بينهم وعليهم أن يبحثوا عن أسبابها في رؤوسهم ، بين تلافيف أدمغتهم ولم يكن ذلك شيئا غريبا في هذه الأرض التي حَفَلتْ بالأخبار والروايات والحكايات واللعنات وكان لليلِ في كلّ ذلك شأنٌ يتعلق بأحداثٍ حصلت بينما كان ينشر دياجيرَهُ في عصور مضت وليس هناك ما يمنع أن يتكرر حصول الأمرمن جديد فقبل تلك الليلة التي اندلق فيها المسخ على يدي القابلة التي تشبه بغلا ومع بداية كل فجر كانت المآذن تضجُّ بأصوات المؤذنين في وقت واحد وكأنها ديكة تنادي بعضها لكنْ ما إن انفصلَ الخيطُ الأبيض عن الخيط الأسود في تلك الليلة المشؤومةِ وتهيأ كل مؤذن ليرفع عقيرته بالنداء للصلاة حتى اكتشف أنه قد فقد الصوت الذي ينادي به ،وحين جرب آخرون الحلول محل المؤذن أسقط في أيديهم إذْ كانوا قد فقدوا أصواتهم أيضا ولم يمر وقت كثير حتى اكتشف الجميعُ أنهم بلا صوت وكأن الحناجر خواء وصار هواء زفيرهم وشهيقهم يتردد في صدورهم صعودا ونزولاً دون أن يحدث ولو هسيساً، وبينما كانت الشمسُ ترتفع والساعات تمضي سادت بينهم فوضى عارمة من انفعالاتٍ تخلو من كل صوتٍ بشري وهم يحاولون استرجاع ضجيجهم القديم ولكن بدون جدوى بينما راحت أصوات الجمادات والحيوانات والطيور والكلاب وكل ما دب وهب تعلو حتى تلك الكائنات التي كانت تتسلل خلسة بين أقدام البشر وفي زوايا بيوتهم مستترةً بضجيجهم وصخبهم طوال النهار ونصف الليل قد سُمع لها حفيفا ونشيشا ودبيبا وهي تواصل سعيها لغاياتها ، لم يمض كثيرٌ من الوقت حتى لجأ الناسُ في المدينة إلى ما تيسر من الإشارات مستخدمين الأصابع والشفاه والحواجب والعيون وهز الرأس والوسط والأرداف ورفع الأيدي و الأرجل وهز الأكتاف والأعطاف والصفق بالكفوف والبقبقة بالشفاه وضرب العصي بالعصي وفي حالات كثيرة استخدموا الأسلحة النارية للتعبير عن فرحهم و حزنهم وحين تمكن منهم الغضب كان صوت السلاح بديلا لأصواتهم المفقودة للتعبير عما في نفوسهم المهزومة ،وحين تهيأ الليلُ لابتلاع نهارٍآخر وحين وجدوا أن العُجمةَ التي غزت حبال حناجرهم وبؤسَ ما آلت إليه وسائلهم في التواصل والتفاهم لم تؤمن لهم ربع ما تتطلبه حياتهم استغرقوا جميعا بضحك يائس لا صوت له مطوا شفاههم فكشفت عن نواجذهم وواصلوا هز رؤوسهم كما يفعل الضاحكون واضعين أكفّهم على بطونهم وكان هذا أقصى ما يمكن أن يفعلوه وبينما هم على ذلك واصلت الريح الغربيةُ إنتاجها لأصوات مسموعة فحين مرت على الأشجار سُمِع لها حفيفٌ وحين عبرت خلال التجاويف ومن فوق فوهات الأعمدة الفارغة سُمِع لها صفيرٌ وفي المدينة علا ضجيج السيارات والعربات ودبيب الأقدام المكتوم على الأرصفة وفوق الإسفلت وكان على الناس الإعتراف بهذه الوقائع والتعامل معها على إنها امتدادٌ لتلك الحكايات والقصص التي سجلها التاريخ ونقلتها الأجيال غابرا عن غابر و أن لا مناص من التكيّف مع حناجر َ لا تنتج صوتا ، وهكذا اعتاد الناس في هذه المدينة على ذلكَ حتى صار من الشائع أن تلد المرأة بلا صرخات الطلق ويأتي المولود بلا صرخته الأولى مختنقا بسائل الرحم لا يعرف كيف يبدأ شهيقا وزفيرا دون صراخ وفي خضمّ هذا الصمت المطبق كان مكفوفوا البصر يشعرون بفداحة خسارتهم إذ أنهم كانوا يتواصلون مع الآخرين عبر سماع أصواتهم والرد عليها بأصوات مسموعة والآن شعروا باندحار مريع بينما كان الصمّ البكم من الفائزين وقد جعلهم هذا الوضع أمهر الجميع في التواصل وقيادة الأحداث فهم قبل كارثة هذا الصمت كانوا لا يسمعون ويتقنون حديث الإشارة بعكس الآخرين الذين راحوا يخطبون ود الأبكم ويتوددون إليه ليعلمهم ما يتيسر من حديث الصم وصار كل أصمٍّ أبكمٍ ذا شأنٍ كبيروهكذا درج الناس على التخاطب بالإشارة وأصبحت لغة الصم البكم وسيلة لابديل لها وتحت وطأة هذا الوضع لا زالت المدينة تتكيف مع ظرفها العسير واستمر نهيق الحمير والكلاب ليلاً والديكة وقت الفجروالعصافير صباحا وجنادب الحقل في أول الليل بتأثيث ليالي و نهارات هذه المدينة بأصواتها دون أن يعترض أحد من الصامتين إذ أصبحت هذه الأصوات مقبولة تحت وطأة الحس بفقد القدرة على الكلام المسموع والجميع ينتظرُ معجزةً تعيد لهم أصواتهم فجأةً مثلما فقدوها بشكل مفاجئ، وحدها تلك الصبية التي زفّتْ للغولِ البشري قسرا وحُطّمَ قلبها الصغير كانت تعرف الطريق إلى كسر ذلك الصمت المطبق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا