الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في أزمة الربيع العربي

سمير الحمادي

2014 / 5 / 26
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


على الرغم من مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الثورات العربية، ما تزال مجتمعات الربيع العربي تواجه تحديات لحظة البداية. قد يبدو هذا الأمر مألوفا في سوسيولوجيا الثورات، فاستنادا إلى الخبرة التاريخية، كل التجارب الثورية واجهت في البداية صعوبات الخروج من أسر السلطوية. صحيح أن جل هذه الثورات تمكن في النهاية من نفض الغبار عن طريقه والتقدم في اتجاه بناء نظام جديد مختلف تماما عن النظام القديم الذي تمت إطاحته، لكن الوقت يظل دائما هو المشكلة الكبيرة في كل مسار ثوري. فللتخلص من النظام القديم بكل متعلقاته المادية (النخبة السلطوية) ومشمولاته الرمزية (الثقافة السلطوية) لا بد من اجتياز عتبة "المرحلة الانتقالية"، وهذه المرحلة التي قد تمتد على مسافة زمنية طويلة (وهو ما يحدث غالبا) هي المحك الذي يتحدد في ضوئه مصير الثورة: إما أن تعبر بسلام (بأقل قدر من الخسائر) إلى الضفة الأخرى أو تظل تراوح مكانها (وتتراكم الخسائر) إلى أن يتمكن أرباب "الثورة المضادة" من الانقضاض عليها وإعادة عقارب الزمن إلى الوراء، فيتحول المشروع الثوري بزخمه وأحلامه إلى مجرد محاولة للتغيير تم إجهاضها في المهد (يسمي روبرت ماكيفر هذا النوع من مشاريع التغيير "انفجارات ثورية إجهاضية")، فتتحقق بذلك نبوءة روبرتو ميشلز الذي كان مقتنعا بأن قصارى ما يمكن أن تحققه الثورة، أي ثورة، هو استبدال نخبة شائخة ومترهلة ظهرت عليها أعراض الضعف والتآكل بأخرى جديدة موفورة القوة، وهذه النخبة الجديدة بمجرد أن توطد سلطتها حتى ترتد في سياساتها إلى وسائل النخبة القديمة التي حلت محلها، فيكون الحال في آخر المطاف أن الأوركسترا تغيرت لكن الموسيقى ظلت كما هي. وبحسب تعبير ميشلز، فإن "هذه اللعبة القاسية ستظل تتكرر دائما (في كل الثورات) بشكل لا نهائي". من هنا، تتعين الثورة مجرد خدعة متقنة تنطلي على عدد كبير من الناس (السذج)، محض سراب يلهثون خلفه دون تفكير، ثم في لحظة واحدة، في خطفة زمن، تنتزعهم من أوهامهم الحقيقة الموجعة، عندما يكتشفون ذات خيبة مروعة أن لا شيء تغير فعلا في الواقع، وأن الثورة الجامحة التي علقوا عليها آمالهم ودموعهم ليست، في حقيقة الأمر، سوى حادثة سير عابرة.. في تاريخ عابر.

حتى الآن، تبدو مقاربة ميشلز أقرب إلى الخبرة الثورية العربية الراهنة. فإذا كانت النخبة الجديدة التي تتولى السلطة في مجتمعات الربيع العربي تدعي أنها نجحت نسبيا في مواجهة تحديات "المرحلة الانتقالية"، وهي ماضية في طريقها نحو المستقبل وسط كل الصعوبات العملية التي تحيط بها، فإن الحقيقة أن هذه الثورات لم تغادر بعد "المربع الأول" في مسارها، وهو إزاحة الحكام: أي رؤوس النظام القديم. لقد أُهدر وقت ثمين في الهوامش دون طائل، والتفاوت بين "كلفة التغيير" التي تم تسديدها كاملة وما تحقق فعلا على أرض الواقع (حتى الآن) من تحولات في بنية الدولة والمجتمع كبير لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، بل إن هناك محاولات جدية تجري، بقدر من الإصرار، لملء الفراغ السلطوي الذي خلفه رحيل هذا الطاغية وذاك، وذلك بإعادة إنتاج النظام السابق الذي تمت إطاحته لكن في صورة جديدة أكثر حداثة، إذ يحدث في أحيان كثيرة أن ترتدي الثورة ثوب الطاغية نفسه الذي أطاحته كما تقول باربارا توكمان.

ففي تونس التي اشتعل فيها الحريق الأول، وفي مصر وليبيا واليمن، ما تزال الإرادة الشعبية غائبة في عملية صنع السياسات. النخبة الجديدة لم تبدأ بعد في تنفيذ البرنامج الثوري الذي وعدت به، بل إنها لا تتجاوب مع مطالب الثوار إلا على مضض، وتحت ضغط التهديد بالنزول إلى الشارع، أو النزول إليه فعلا، وهي لا تدخر جهدا في الإساءة إلى صورتهم المثالية في الوعي الجمعي، وتجريدهم من حريتهم وإمكاناتهم كلما سنحت لها الفرصة. أما الثوار أنفسهم، فقد بدأت مشاعر الإحباط تتسرب إلى نفوس كثير منهم بعد أن ظنوا أنهم أوشكوا أخيرا أن يحققوا أحلامهم في الخلاص، وأصبح التهديد بتفجير ثورة ثانية هنا وهناك من أجل استرداد الحلم / الفعل الثوري الأول الذي لم يحقق أهدافه وتم حرفه عن مساره لازمة تتكرر في كل تدويناتهم ومداخلاتهم الإعلامية.

وهنا، لا بد من التنبيه إلى مسألة أساسية: بحسب ماكيفر، فإن الدراسات التي تناولت مختلف الثورات التاريخية تتفق على أن تحول النخبة التي تتولى السلطة في مجتمعات الثورة من "التأكيد على مبادئ الثورة وأهدافها إلى التأكيد على وجوب الاحتفاظ بالسلطة" هو نزعة ثابتة وظاهرة مألوفة في كل التجارب (من هنا يأتي التناقض البارز اليوم في الحالة العربية ما بين سياسات الحكام الجدد باسم "الثورة" والجماهير التي قامت على أكتافها تلك "الثورة"). أي أن الرهان الأساسي لمن يحكمون في مجتمعات الثورة هو توطيد سلطتهم وليس تحقيق المطالب الثورية، فهذه القضية لا تعنيهم إلا بقدر ما تتقاطع مع مصالحهم، ومهما ادعوا العكس، فإنهم لا يتخلون عن السلطة بسهولة.. من دون تكاليف، ومن دون تضحيات أخرى يبذلها الثوار. هذه حقيقة بارزة في كل الثورات التي قامت في فترات تاريخية مختلفة، مع بعض الاختلاف في التفاصيل، وهي الخطر الأساسي الذي يتهدد الربيع العربي في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخه. طبعا، لا يجب أن نتجاهل أو نُسقط من الحساب دور العامل الخارجي في الحد من الاندفاعات الثورية، فتاريخ الثورات كما يقول أدولفو غيلي هو "تاريخ التدخلات الخارجية الهادفة إلى منع توسع هذه الثورات ونشر الفوضى فيها وسحقها".

ما العمل إذاً؟

علينا أن نعرف أولا أن الارتداد يمكن أن يطال أي ثورة في أي وقت، فلا توجد ثورة محصنة أو مستقرة تماما. الثورات كلها وجدت نفسها، في لحظة ما، في عين العاصفة، تواجه أزمات خطيرة (نموذج الثورة الفرنسية شديد الدلالة في هذا الخصوص، ويجب أن يظل منحوتا في الذاكرة). لكن ما يقلل من احتمالات هذا الارتداد / الفشل هو مستوى الزخم الذي تحافظ عليه الثورة، ودرجة الروح الثورية التي يبديها الثوار (الزخم الجماهيري كما تقول روزا لوكسمبورغ هو العنصر الحاسم، هو الصخرة التي ينبني عليها النصر النهائي للثورة). فأن يعتري الفتور الحماس الثوري يعني أن تصبح الثورة كالقشرة اليابسة، من السهل كسرها. أما أن يعود الثوار أدراجهم إلى منازلهم، ويتخلوا عن قضيتهم، فمعنى ذلك أن الثورة تختنق في صمت، فلا بد، إذاً، من جرعة هواء عاجلة، وإلا حلت اللعنة على الجميع. فالثورة هي صراع حتى الموت بين المستقبل والماضي كما يقول فيديل كاسترو، ولا يمكن التوقف في منتصف الطريق. وهنا، يحسن بنا استحضار عبارة جورج بوشنر الشهيرة: "من يقومون بنصف ثورة، إنما يحفرون قبورهم بأيديهم".

إن أهداف الثورة المضادة المتربصة واضحة في كل الأحوال (من علامات "الثورة الحقيقية" أن يكون لها "ثورة مضادة" كما يقول سي رايت ميلز). فهي تسعى إلى الانقضاض على الثورة والعودة بها إلى المربع الأول إما بقمعها، أو استيعابها واحتواء مطالبها، أو الاستيلاء عليها، أو إسقاطها إذا نجحت وأصبحت في السلطة. كل الثورات المضادة تسير في هذا الاتجاه، ولا يوقفها إلا سياسات الاستجابة الثورية: أي الاتجاه المضاد الذي تأخذه حركة الشارع، وإصرار الثوار على الحفاظ على ثورتهم والوصول بها إلى بر الأمان. وبر الأمان، هنا، ليس فقط رسم معادلات جديدة للسلطة في ترتيبات ما بعد سقوط النظام. فكما يقول ماركوس (وهو ثائر مكسيكي بارز): "المشكلة (في حالات الثورة) ليست في الوصول إلى السلطة. فلقد بات معروفا... أن النضال من أجل السلطة هو نضال من أجل الكذب". بر الأمان الحقيقي في كل مسار ثوري هو تلك اللحظة الخاصة والمتوهجة التي يتم فيها استعادة المصير العام، عندما يتغير الوضع تماما ويصل الشعب إلى مستوى تقرير مصيره بيده، فإن نور الحرية يشع على الجميع. الحرية التي بحسب إجنازيو سيلون تتجسد في "إمكانية الشك، إمكانية ارتكاب الأخطاء، إمكانية البحث والتجربة، إمكانية أن نقول "لا" لأي سلطة أدبية أو فنية أو فلسفية أو دينية أو اجتماعية أو حتى سلطة سياسية". وفي النهاية، فإن الهدف الحقيقي والنهائي لكل ثورة كما يقول جان جينيه هو "تحرير الإنسان".. تحريره تماما.

إن تعثر الانطلاق في التغيير الثوري العربي الراهن يعني أن عملية كنس الشوائب العالقة في بنية الدولة والمجتمع من النظام القديم لم تتم بعد، وأن جيوب المقاومة ما تزال فعالة، وطبعا، هذا التعثر يكلف مزيدا من الوقت والجهد، ولكن التأخر في الانطلاق أفضل من قطع المسافات ثم الارتداد إلى الوراء في كل مرة.

ليس ضروريا أن تصل الثورة، وهي تنسج حكايتها الخاصة، إلى حيث كان ينبغي أن تصل بسرعة، المهم أن تشق طريقها، والمهم أن تصل إلى هدفها في نهاية المطاف. وكما يقول لينين: "لا يوجد جدول زمني للثورة. يجب (فقط) الاتجاه دائما إلى الأمام".

من الحكمة، دائما، أخذ "الحكمة" من التاريخ.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم


.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟




.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة


.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا




.. كلمة مشعان البراق عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتي