الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جزء 2-3 من رواية الجمجمة لم تكن راسا فرغا

طالب عمران المعموري

2014 / 6 / 5
الادب والفن


كان هو العصر حين خرج من بيتهم العتيق بعدما ضجر من المكوث في البيت فهو تارة يكتب مذكراته وتارة يقرأ ، احد أقدم البيوت في القرية بيت من جذوع النخيل ، بناء ذا الاسيجة العريضة بشبابيكه وأبوابه المقوسة والتي لم تصبغ بعناية ، غرفتان ومضيف كبير (طارمة ) ، حوش الدار مع تخاريجه ، متوجها باتجاه الضريح عمران بن علي بن ابي طالب ع الذي شيدّ على احد التلال الذي يواجه قصر الطاغية مرورا بساحة كرة القدم التي تسمى بساحة عمران ، الساحة فارغة حيث أقامه الفريق حدادا على المرحوم قتيبة كريم الذي استشهد في احد معارك شرق البصرة .. فريق الجمجمة يضم مجموعة من الشباب ، منير عباس ، صائب كريم ،راجح ظاهر ، ميثم جهاد ،عباس علوان، كريم كنوش، رياض كاظم وآخرون، اقترب من بستان الحاج محمود التي تبعد عن القرية حوالي فرسخين مجتازا مقبرة الأطفال، كان المكان هادئا تماما الا من صوت خشخشة سعف النخيل المكتظة، حينها تذكر حكايات جدته نجيه.. كنا صغارا نلتف حولها وهي تذكي النار في الصفيحة النحاسية تحكي لنا عن هذه المقبرة ، من يمر من خلال هذا المكان عليه أن يتوخى الحذر من رمي الحجارة أو العظام من الجن الذي يسكن المقبرة ، فاغرين أفواهنا نستمع إليها بنهم شديد .. ثمة جلبة من الحمام تطير من تلك البستان أفزعتني ، حاولت اجتياز هذه الغابة بسرعة ارتقيت التل حذاء النهر ، كان المنظر جميلا جدا حيث النهر الحله الملتوي وهو يشق غابات النخيل، شمس المغيب وحمرتها القانية تترك أذيالها على شواطئ النهر،تنفس ملئ رئتيه،مرات متلاحقة يملاها بشذا الارض المعطر، .. ثمة قارب للشرطة النهرية يسير بعكس التيار من الجهة المقابلة يحدث دوائر تتسع باتجاه ضفة النهر حيث يجلس كاظم غلوه القرفصاء بيديه سنارة صيد يلعن صاحب القارب، لم يسعفه الحظ في الصيد هذا اليوم بالرغم من انه معروف بحسن حظه في صيد الأسماك ، فهناك صيادين ماهرين كل في جيله ،امثال شاكر عمران ،كاظم حسون ،جبار عمران ،حسين كنوش ،حسن عبد الرحمن وغيرهم، واصلت السير باتجاه القرية من الجهة الثانية بالقرب من نهر يسمى ب(النهر الصافي) وعلى ضفته شجرة التوت الكبيرة بظلها الوارف، يلجا إليها بعض الشباب للعب الورق او احتساء العرق، كونه مكانا متطرفا نسبيا عن القرية، كان المكان لم يكن ثمة احد سوى شاب رث الثياب بلحية كثة اقتربت منه .. نعم ، عرفت قصته المأساوية.. كل ذلك لم يفارق مخيلته مذ كان صغيرا ، تمرد على أبيه قاصدا عقه و أغاضته ، أراد أن ينتقم لإخوانه وأمه ، الأب السيئ الشديد المراس في أهله ، يضرب أطفاله بشدة وزوجته المسكينة تحتمل كل ذلك من اجل أولادها، شردهم لسنين ، وبعد مرور بضعة سنين عادوا إلى بيتهم ، أول ما بادر في ذهنه من سلسلة التمرد والانتقام ، واظب على احتساء الخمر حتى يعود ويفرغ ما بجعبته من شتم ولعن الأب وان كلفه ذلك الضرب المبرح الذي سوف يتلقاه من الأب ، وبالرغم من انه لم يعد صغيرا فهو شاب متزوج وله أطفال ، كل ذلك لم يشفي غليله ، تظاهر بالجنون ، هجر البيت سكن التلال والكهوف ، امتلك ناصية العناد والتمرد ، بيد إن جسده الذاوي الآخذ بالذبول ، شعره الأشعث ولحيته الكثة بملابسه الرثة ، آيل إلى الوقوع في مهاوي الأذى ، رؤيته تدعوا إلى الشفقة ، يحّمل الناس اللوم على أبيه وما فعل بهم ... أعجبه الدور، هرب إلى واقعه ، يرى نفسه عاقلا ويرى الآخرون هم المجانين . أحزنني رؤيته، عبرت النهر باتجاه الصف المتوازي للنخيل الشامخة لبستان رحمن الباوي ، نساء يحملن أطفالهن على أذرعهن ، بينما مجموعة من الشباب يخرجون بذور عباد الشمس من كيس ويضعونها في أفواههم ويبصقون القشرة ، إنهم يأكلون بأناقة مصدرين نوعا من الصفير
ثمة اطفال يسبحون في (الشريعة).. جواميس عبود المرزة تقاد من زرائبها باتجاه الشاطئ والغربان ماتزال جاثمة على مؤخراتها ، صبايا يحملنّ قِرب الماء، لان القرية طالما عانت من شحه الماء لسنين طويلة ، نساء يضعنّ الشموع في ماء النهر يطلبنّ (المراد) ينتظرنّ غائبا يعود، فكلما سمعنّ معركة جديدة نشبت على الحدود هرعنّ إلى الشاطئ أو إلى ضريح الإمام يتوسلنّ وينذرنّ النذور ، وعادات أخرى شاهدتها كانت النساء يعتقدنّ بها هي ( حجارة الدرب) وهي إن المرأة التي تنتظر غائبا زوجا كان أو أخا أو ابنا ، تخرج من بعد العشاء تجلس القرفصاء وتلتف بعباءتها في رأس الزقاق ترمي الحجارة على قارعة الطريق وتستمع إلى كلام الذاهبين والعائدين في داخل القرية ، تتفاءل حين تسمع بعض المفردات التي تعبر عن بشارة أو عودة أو الرجوع السريع تأول ذلك الكلام، إن الغائب بخير وانه سيعود قريبا من الجبهة هكذا الناس تعتقد، على نياتهم .
صوت الأذان المتعالي بصوت الحاج مالك محمد اشكح الفيحان ، الجهوري عاد بي إلى البيت .

3
عادَ بقدميه المتثاقلتين من جراءِ العمل المضني من الصباح إلى المساء في دكان البقالة ، ما عاد يتحمل أعباء عائلته الكبيرة التي قصمت ظهره وان الدنانير القليلة لم تسد رمق تلك الأفواه والتي تبدوا كأرانب – على أي حال أفضل من مرتب حكومي ، شهادة ورقة على جدار لا تجدي نفعا .. يتمتم بصوت يسمع نفسه .. هذا حال الكثير من شباب هذا البلد في زمن الدكتاتوريات وشباب أهل هذه القرية الريفية التي تحاط بأشجار النخيل والتي تنتهي عند نهر (الحلة) الملتوي كثعبان طويل يخترق النخيل الذي يشطرها إلى نصفين . ذلك النهر الذي طالما تغنى به الشعراء الحليين امثال موفق ابو خمرة ،..
انا احب الحلة لأني ولدت على بعد
موجتين من نهرها
فسمتني الحبوبة موفقا وقمطتني
بطين النهر
في المساء
اسرجت امي سبع شموع في كتاب
وسيستني بجاري البتول
داعية لي ان لا اكون شاعرا
لان أباها ـ رحمه الله ـ كان شاعرا
لا يطفر من مقلاة الا ليقع في اخرى
اشد وأقلى..
ضيع الصاية والصرّماية وتركهم بلا مأوى
انا احب الحلة فقد علّمني نهرها
القراءة والكتابة
واعارني كتبا ممنوعة
لا اعرف كيف حافظ على الدم المتخثر
فيها وهو الجاري منذ بدء الخليقة
ففي كل موجة دم ونواح
وكأن العراق ام ولد غريق تولول
ناثرة شعرها منذ بدء الشرائع في
الشرايع..
وتيقنت بأنّ النهر نواح الثكالى وأنين
المذبوحين
وان هذا الابيض المشتعل في
امواجه من منبعه الى مصبه شيب
تمشطه القرابين المسفوحة ليل
نهار..
أبعد كل هذا.. لا احب الحلة
أعشقها
وأعشق مجانينها المتأبطين كتبا
من مات منهم ومن بقي على قيد الموت
ابعد كل هذا الا يلتفت احد لنهر الحلة ؟؟؟

امتد نظره نحو الأفق الملوث بحمرة قانية كعجل مذبوح تلفظ احتضارها الأخير تاركة أذيالها أعلى الغابات المكتظة ،كان الهواء ساكنا نقيا باردا والفضاء مفتوحا ،ثمة صوت طقطقة حذائه على رصيف الشارع المؤدي إلى القرية الذي يلتف حول البحيرة كربطة عنق جميلة وزاهية، انزل كيس الخضار وبعض الفواكه ليستريح قليلا على الحافة الصخرية للبحيرة ، أشعل سيجارة ، نفث الدخان بقوة جال نظره صوب النوارس المحلقة وبعض طيور الماء التي تغوص هنا وهناك ،تلك البحيرة كانت بستان عامرة بالنخيل المثمرة بالوان التمور (الخستاوي والحسناوي والبربن )تعود الى الحاج عمران الشلال لكنها شملت بالحملة(تحت شعار )احياء مدينة بابل الاثرية ،عمل بحيرات صناعية ثمة تلال متواصلة حول القرية كأنها سور عظيم وتلال متفرقة هنا وهناك.وعلى بعد فراسخ قصر الحاكم الفاشستي الطاغية الذي شيده على قمة جبل وأضواءه المتراقصة على تموجات المياه التي أحدثتها حركة الطيور السابحة على ضفاف البحيرة وأضواء أخرى من أعلى التل المقابل للقصر الذي شيد عليه ضريح الامام عمران بن علي عليه السلام . ثمة عبق جميل تحمله ريح الشمال .. عطر إثارة فيه نشوة كبيرة بعثت في نفسه لحظة تأمل يندفع وراء خياله خارج محيطه وظروفه الشاقة حيث حلق بعيدا .. ربما كنت سببا في هذا الفقر وهذه المتاعب ....
لينا.. لينا .. لن أنسى تلك الأيام الجميلة حياة الطلبة ،أروقة الجامعة ومعرضي الشخصي الاول وهي تطيل الوقوف امام لوحاتي الفطرية والتي تفصح عن شخصيتي واثار طابعها الواقعي او ربما تظهر طابعي القروي التي كانت سببا للتعرف عليها ..
طيبة جدا جميلة ورقيقة، وجه طفولي ذا السحنة الحنطية، عينان واسعتان تحت حاجبين نحيفتين، انف صغير يعلو شفتين صغيرتين باسمتين وكأنها فتاة صينية، ذات شعر اسود يسيل على كتفيها ، من عائلة ثرية مثقفة وأمها حصلت على الماجستير في علم الاجتماع من جامعة السوربون الفرنسية وأبيها المتوفى كان قد حصل على الدكتوراه في القانون والذي شغل منصب وزيرا في الدولة ، تحب الشعر والموسيقى تتكلم الفرنسية والإنكليزية. اهتمت بي كثيرا وكانت تأمل أن أكمل دراستي العليا وتحثني على ذلك تهيأ لي المحاضرات والكتب المصدرية . كانت تنقل أخباري إلى أمها أول بأول، كان حلمها أن أكون فارس أحلامها.. كنت مثاليا وقد أفرطت في مثاليتي لاختياري الانفصال عنها بسب الفقر ومخاوفي ، ربما لا تستطيع العيش معي بمثل تلك الظروف، برغم ذلك فهي أبدت استعدادها لتحمل الظروف ، لكن لم تكن لدي القناعة الكافية أن تواصل الطريق معي ،ربما كنت ربا لهذه الأسرة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه