الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ظل الحاكم المدني بول بريمر: فساد وإفساد

محمد علي زيني

2014 / 6 / 6
الادارة و الاقتصاد


خلاصة
يعتبر الفساد، بشتى أنواعه، من بين أهم العقبات في طريق إعادة بناء العراق مادياً ومعنوياً. وكان المتوقع بعد سقوط النظام الدكتاتوري الفاسد في نيسان 2003 ومجيئ سلطة التحالف بقيادة بول بريمر أن تنتهي حقبة الفساد الذي كان يمارَس في ظل صدام حسين. وكان المتوقع أيضاً أن يقوم بريمر ومساعدوه، وهم القادمون من أمريكا وبريطانيا ودول أوربية أخرى تتسم بقلة الفساد وعلو مستوى النزاهة، بنقل تجربة العمل والتعامل بالنزاهة المعتادة بدولهم وترسيخ الأسسس اللازمة لبناء دولة عراقية جديدة ليس بحكم ديمقراطي فقط وإنما بنظام نزيه يتعالى على الفساد ويحاربه. ولكن الذي حدث هو العكس، والآمال التي انعقدت في بادئ الأمر على وطنٍ ستضعه أمريكا على سكة التطور الأقتصادي وبنظام ديمقراطي خالي من الفساد ظهرت بأنها مجرد خيال.
أن سلطة التحالف، التي سيطرت على نحو 21 مليار دولار من صندوق تنمية العراق لتمويل مهمة إعادة البناء، لم تنفذ واجباتها طبقاً للأهداف التي توخاها قرار مجلس الأمن 1483. فبعكس ما فرضه ذلك القرار لم تتبع سلطة التحالف الشفافية بالعمل من أجل "تلبية حاجات الشعب العراقي الأنسانية وإعادة البناء الأقتصادي وإصلاح البنية التحتية" كما نص عليه القرار. وقد حورب "المجلس الدولي الأستشاري والرقابي" - الممثل لمجلس الأمن في رقابة صندوق تنمية العراق - من قبل الولايات المتحدة نفسها. كما وجد هذا المجلس أن سلطة التحالف لم تحتفظ بسجلات وافية، وإن التحويلات المالية من الصندوق لا يمكن مطابقتها، والسلطات المسؤولة لم تكن متعاونة. كذلك شكى المجلس من الطرق الغير أصولية في إعلان المزايدات وإدارتها، ومن سجلات التوظيف المريبة، ومن عدم التحقق من كون قيمة العقود مناسبة ومعقولة، ثم بالأخص شكى من مبيعات النفط بدون وجود مقاييس أو عدّادات.
وجد المدققون أن سلطة التحالف لم تحتفظ بحسابات تخص مئات ملايين الدولارات من النقد المخزون عندها، وأعطت عقوداً قيمتها مليارات الدولارات الى شركات أمريكية بدون عروض للمناقصة، ولم تعلم ماذا كان يجري لمليارات الدولارات التي سلمتها للوزارات العراقية في ظل مجلس الحكم. إن الفساد الذي مارسته سلطة التحالف قد مهد الطريق لفساد الدولة العراقية برمتها. وباجتماع الفساد والأرهاب معاً نشأت بيئة طاردة للأستثمار، وبالأخص الأستثمار الأجنبي المباشر. لقد عرقلت هذه البيئة – وما زالت تعرقل - جهود إعادة البناء، ما نتج عن ذلك تباطئ عملية النمو الأقتصادي في العراق. فحيث كان من المفروض والمتوقع أن يحقق الأقتصاد العراقي نمواً يتجاوز 10% سنوياً بالأسعار الحقيقية بعد أن شهِد تراجعاً مستمراً بلغ معدله نحو 6% سنوياً خلال الفترة 1980 – 2002، نجد أن النمو الحقيقي لم يتجاوز 4.5% خلال الخمس سنوات 2005 – 2010، ذلك إذا تجاهلنا الرجة الأقتصادية في سنة الأحتلال (2003) حيث انخفض إنتاج النفط بشدة ثم ارتفع بشدة في السنة التي تلتها.
مقدمة
فُرض الحصار المالي والأقتصادي على العراق إمتثالاً لقرار مجلس الأمن المرقم 661 الصادر في 6 آب (أغسطس) 1990 بعد قيامه بغزو الكويت، ثم أُنهي ذلك الحصار إمتثالاً لقرار المجلس المرقم 1483 الصادر في 22 آيار (مايس) 2003 بعد احتلاله من قبل قوات التحالف بقيادة أمريكا وبريطانيا. لقد بقي العراق في ظل ذلك الحصار الخانق نحو 12 سنة و10 أشهر منقطعاً عن العالم الخارجي عدا قيامه باستيراد مواد ملحّة كالغذاء والدواء، بدون الأتفاق مع مجلس الأمن في بادئ الأمر وبالأتفاق معه فيما بعد. أن الحالة الغذائية والصحية المتردية جداً التي أصبح عليها الشعب العراقي خلال الحصار قد دفعت بمجلس الأمن الى إصدار أربعة قرارات يسمح بموجب كل منها للعراق بتصدير النفط مقابل الغذاء والدواء، كان أولها برقم 706 وتاريخ 15/8/1991 وآخرها برقم 986 وتاريخ 14/4/1995. ولكن العراق لم يقبل بتلك القرارات متعللاً بحجج شتى، إلا أنه وافق بالنهاية على القرار الأخير في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1996، أي بعد مرور نحو سنة ونصف على صدورذلك القرار. لقد استمر العراق لمدة خمس سنوات ونصف تقريباً لا يمكنه خلالها تصدير نفطه بصورة قانونية، وقد تعرض الشعب العراقي طيلة تلك المدة الى خسائر جمة بالأرواح والأموال والممتلكات كان بمقدور النظام العراقي تفاديها لو أراد ذلك.
صدام وبداية الفساد
منذ تأسيس الدولة العراقية الجديدة في سنة 1921 لم تمارس الحكومات العراقية المتعاقبة أي فساد مالي ملموس، سواء كان ذلك فساد رسمي (مقنن) أو غير رسمي. وقد استمرت تلك الحالة على نفس المنوال بعد سقوط النظام الملكي في تموز 1958 وإعلان الجمهورية العراقية. على أن هذا الأمر، وندعوه نزاهة الحكومة المالي، لم يستمر طويلاً بعد انقلاب تموز 1968 وقيام صدام حسين بتوطيد هيمنته على شؤون الحكم. فقد مدّ الفساد ذراعاً من أذرعه المتعددة الى خزينة الدولة بهيئة سرقة رسمية مقننة عندما أصدر مجلس قيادة الثورة – بعد تأميم النفط العراقي - قراراً في سنة 1972 ينص على وضع خمسة في المائة من واردات النفط المالية جانباً في حسابات أجنبية. وقد نقل صدام بنفسه ذلك القرار الى الخزينة والبنك المركزي ووزارة التخطيط من أجل العمل به، مبرراً ذلك القرار بقوله أن تلك الأموال ستستعمل لتمويل الحزب وإعادته الى السلطة في حال إخراجه منها1. لقد كانت تلك البادرة أول سرقة مقننة في تاريخ العراق الحديث!
بلغ مجموع واردات العراق النفطية منذ سنة 1972 وحتى آب (أغسطس) 1990، حين فُرض الحصار الأقتصادي عليه وتوقفت بذلك الصادرات العراقية بصورة رسمية، نحو 180 مليار دولار، وذلك طبقاً لما ورد في نشرات الأحصاء السنوية لمنظمة أوبك، ما يجعل الأموال التي سُرقت حسب قرار الخمسة في المائة نحو تسعة مليارات دولار. ولو وُضِعت تلك الأموال في حساب مصرفي بفائدة معدلها 7% سنوياً، وهذا مستوى للفائدة متواضع قياساً بمستوى الفائدة خلال الفترة 1972 – 1990، لأصبحت قيمتها الكلية نحو 17 مليار دولار.
لم يقتصر فساد صدام وطغمته على ما تم استلابه من أموال الشعب منذ 1972 وحتى توقف الصادرات النفطية إثر فرض الحصار، وإنما لجأ هؤلاء الى وسيلة مختلفة للسرقة بعد فرض الحصار قوامها تهريب ما أمكن تهريبه من النفط العراقي (خام ومشتقات نفطية) الى الأردن وتركيا وسوريا ودول الخليج، وحتى الى مصر. لقد قُدّرت واردات النظام من عمليات التهريب المذكورة ما ينيف على تسعة مليارات دولار2، كما قدّرها مصدر آخر بنحو 13.6 مليار دولار3، ذهبت هي الأخرى الى جيوب صدام وأعوانه.
أضف الى ذلك أن صدام وتابعيه تمكنوا من توريط بعض الشركات بما أصبح يُعرف "بفضيحة النفط مقابل الغذاء"، وذلك بالأتفاق بطرق ملتوية لاقانونية مع شركات مُشترية للنفط العراقي الخاص ببرنامج النفط مقابل الغذاء، لأستيفاء إضافات نقدية على السعر المعلن لدى الأمم المتحدة، أو الأستيلاء على جزء من الأموال المدفوعة لشراء النفط، أو استرداد جزئ من المدفوعات العراقية للشركات البائعة للغذاء والدواء وبضائع ملحّة أخرى. قُدّرت الأموال التي استولى عليها النظام بتلك الوسائل بنحو سبعة مليارات دولار4، وكانت تودع الأموال المستولى عليها بتلك الطرق في حسابات النظام الخاصة وبمعزل عن سيطرة الأمم المتحدة.
لقد بُدِّدت تلك الأموال الطائلة التي سرقها صدام وأعوانه من الشعب العراقي في بناء القصور واستيراد مواد الترف وشراء الذمم ورشوة الأنصار والصرف على أجهزة القمع وأنشطة الدعاية.
تسرب الفساد الى موظفي الدولة
لم يكن الفساد المالي بأنواعه المختلفة (الرشوة، محاباة الأقارب، السرقة الرسمية أو المقننة، الأحتيال، المحاباة الخاصة بين الموظف والعميل) منتشراً بالعراق قبل أن يوطد صدام حسين هيمنته على شؤون الحكم بعد انقلاب سنة 1968. إذ يمكن القول أن الفاسدين في الحكومات العراقية المتعاقبة كانوا قلة في البداية، حيث كان من النادر أن يتعاطى الموظف العراقي الرشوة – وهي أشهر أنواع الفساد المالي - إذ كان يُنظر لها نظرة دونية باعتبارها مخلة بالشرف، كما كان الناس في تلك الأوقات ينظرون الى موظف الحكومة المرتشي بازدراء.
على أن تلك النظرة السليمة نحو الفساد المالي بدأت تتغير تدريجياً منذ استيلاء صدام على السلطة والأنفراد بها والبدء بممارسة أفضل لعبة كان يحسنها وهي إشعال الحروب في المنطقة. في خضم تلك الحروب بدأ الشعب العراقي يمر بظروف مريرة وعصيبة منذ الحرب مع إيران ثم غزو الكويت وما تلاه مباشرة من خنق العراق بحصار ظالم دام نحو 13 سنة عانى الشعب خلالها أهوال العوز والفقر والحرمان. فنتيجة لحرمان العراق من تصدير نفطه، والعراق دولة ريعية يكاد يكون اعتمادها كلياً على الصادرات النفطية التي هي مصدر العملات الصعبة، بدأ الخزين من العملة الصعبة يتناقص تدريجياً حتى وصلت الحالة بالحكومة العراقية الى دخول السوق السوداء منافسة للآخرين، وفي مقدمتهم التجّار، من أجل شراء ما تيسر من العملة الصعبة مقابل طرح الدينار العراقي بالأسواق5. ونتيجة لذلك بدأ الدينار يفقد قيمته تدريجياً حتى انهار أخيراً لدرجة أصبح معها معدل راتب الموظف الحكومي لا يتجاوز إثنين الى ثلاثة دولارات شهرياً. وبانهيار القوة الشرائية للدينار انهارت معها حتى مدخرات العراقيين.
ارتفعت الأسعار بعد فرض الحصار إرتفاعاً جنونياً، ذلك لأن أسعار السلع داخل العراق أصبحت تعكس الكلفة الحقيقية للأستيراد بالعملة الصعبة (الدولار مثلاً) زائداً ربح المستورِد. وبانهيار الدينار أمام الدولار أصبح سعر السلعة فاحشاً مقيمةً بالدينار. بمقابل ذلك لم يرتفع الدخل الفردي لأغلب طبقات الشعب العراقي بنفس الوتيرة التي ارتفعت بها الأسعار. وغدت الفجوة بين الدخل والأسعار تتزايد باستمرار حتى انهار الدخل الفردي للعديد من شرائح الشعب العراقي، خصوصاً الشرائح ذات الدخل المحدود ويأتي في مقدمتها موظفو الدولة. نعم، ازداد المرتب الشهري للموظفين بمقدار مرتين الى ثلاث مرات ولكن تلك الزيادات لم تلحق بالطفرات الجنونية التي شاهدتها الأسعار، وبالأخص أسعار السلع الغذائية6. ومن أجل تأمين لقمة العيش أصبح العراقيون يبيعون الحلي وأثاث المنازل والملابس ولعب الأطفال، ومن لم يجد لجأ الى الأستدانة، ومن لم يجد اتجه نحو الجريمة ــ وحتى الفساد7.
كان المعوّل أن تقوم الحكومة العراقية برفع رواتب موظفيها بالتوازي مع ارتفاع الأسعار. ولكن ذلك سيستحيل على حكومة أصبحت مفلسة، كالحكومة العراقية تحت الحصار، وهي قد انتهت بالكاد تدبّرالعملة الصعبة اللازمة لشراء الأغذية التي تتطلبها البطاقة التموينية. لذلك شجّع صدام موظفي الدولة بالأتكاء على الشعب عند قيام الناس بمراجعة الدوائر الحكومية. وأصبح بعد ذلك مقبولاً وليس عيباً أو إهانة للموظف أن يقبل "بخشيشا" بعد إنجازه عمل لأحد المواطنين. وقد استمرت تلك الحالة على أمل أن تنحسر تدريجياً ثم تختفي بعد زوال أسبابها. ولكن، وبعد سقوط النظام وظهور الفساد وانتشاره بين علية القوم من موظفي سلطة التحالف المؤقتة وكبار موظفي الدولة والمقاولين والمجهّزين والوسطاء، إنتقل ذلك الفساد الى كافة دوائر الدولة العراقية، وتحول "البخشيش" الذي كان يكرمه المواطن إلى نوع من الأتاوة تُفرض عليه حين مراجعته الدوائر الحكومية لتمشية أعماله. وبمر الزمن واعتياد الموظفين على طلب الأتاوة أو الرشوة، بدأت القيم العليا بالأنهيار تدريجياً ثم انتهت بسقوط الأخلاق وتحول دوائر الدولة إلى مافيات تجبي الأموال من المواطنين ما وسعها ذلك. وتخلى أغلب الموظفين عن إداء الواجبات المناطة بهم وامتنعوا عن إنجاز أي عمل إلاّ بعد قيام المواطن بدفع الرشوة المفروضة، التي أصبحت أضعاف "البخشيش".
لقد رفعت سلطة التحالف، بعد سقوط النظام، رواتب موظفي الدولة إلى مستويات معقولة لتتناسب مع مستوى الأسعار للسلع والخدمات، قاصدة بذلك رفع الحيف وتوفير سبل العيش الكريم لتلك الشريحة المهمة من الشعب وهي عماد الطبقة المتوسطة في البلاد. ولكن ذلك لم يمنع الفاسدين منهم، وقد أصبحوا يتكاثرون بسرعة، من تعاطي الرشوة حتى أصبح هذا الأمر عملاً روتينياً. ولم تقتصر أعمال الفساد على تعاطي الرشى بل تنوعت الوسائل وتطورت الى ارتكاب جرائم على مستوى أعلى، منها القيام بعمليات التزوير والتعاون لمنفعة مقاولين طارئين والمشاركة مع مافيات الفساد.
الفساد في ظل بريمر
عانت الدولة العراقية من الفساد الرسمي الذي بدأه صدام في سنة 1972 طويلاً، ثم انتهى أخيراً بفرض الحصار على العراق في آب 1990. ثم عانت بعد ذلك من فساد صدام وأبنائه وجلاوزته بتهريب النفط الخام والمشتقات النفطية الى الخارج منذ بداية الحصار، وكذلك عانت من الفساد الذي شاب برنامج النفط مقابل الغذاء.
كان المتوقع بعد سقوط النظام في 2003 ومجيئ سلطة التحالف بقيادة بول بريمر أن تنتهي حقبة الفساد الذي كان يمارَس في ظل صدام حسين. وكان المتوقع أيضاً أن يقوم بريمر ومساعدوه، وهم القادمون من أمريكا وبريطانيا ودول أوربية أخرى تتسم بقلة الفساد وعلو مستوى النزاهة، بنقل تجربة العمل والتعامل بالنزاهة المعتادة بدولهم وترسيخ الأسسس اللازمة لبناء دولة عراقية جديدة ليس بحكم ديمقراطي فقط وإنما بنظام نزيه يتعالى على الفساد ويحاربه. ولكن الذي حدث هو العكس.
عندما انطوت حقبة الفساد بسقوط صدام ونظامه، بدأت حقبة جديدة من الفساد في ظل بريمر وبأساليب جديدة. ذلك أن الآمال قد انعقدت في بادئ الأمر على وطنٍ ستضعه أمريكا على سكة التطور الأقتصادي وبنظام ديمقراطي خالي من الفساد. ولكن العراق الجديد الذي أنشأته أمريكا جاء مخيباً جداً للآمال. فالمرحلة التي جاء بها بريمر كانت كارثية بكل المقاييس. إذ جاء الفساد كطوفان يحدث بعد انكسار السد. جاء وكأن الغاية من غزو العراق لم تكن للقضاء على نظام متخلف وفاسد، وإنما كانت لترسيخ التخلف ونشر الفساد بصورة أوسع. أي وكأن الفساد في ظل صدام لم يكن كافياً وليس بالمستوى المطلوب، كما لم يكن عادلاً إذ اقتصر على فئة قليلة تشمل صداماً ورهطه. بينما الفساد المطلوب يجب أن يكون عادلاً وممارسته شاملة: من الوزير نزولاً الى أبسط موظف أو عامل. وهذا ما حصل!
صندوق تنمية العراق
عند سقوط نظام الدكتاتور صدام حسين في 9/4/2003 تسلم السلطة في العراق مكتب إعادة الأعمار والمساعدة الأنسانية (ORHA)بإشراف الجنرال الأمريكي المتقاعد جَاي غارنر8. لم يستمر هذا المكتب طويلاً إذ حلّت محله سلطة الأئتلاف المؤقتة (CPA) ، وسرعان ما أُزيح الجنرال غارنر ليتسلم القيادة بدلاً عنه الدبلوماسي الأمريكي بول بريمر(Paul Bremer) في 21/5/2003. بعد الأحتلال بفترة وجيزة أعلن القادة العسكريون الأمريكان والسياسيون الكبار عن برنامج ضخم لأعادة إعمار العراق والنهوض به الى مستوى جديد من الرفاهية والتقدم9. وقارن الرئيس الأمريكي – بوش الأبن – هذه الجهود بخطة مارشال بعد الحرب العالمية الثانية10.
بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1483 الذي صدر في 22/5/2003، نصّت الفقرة 12 منه على إنشاء صندوق تنمية العراق(DFI) ، لحساب البنك المركزي العراقي، يخضع للتدقيق من قبل محاسبين عامين مستقلّين يوافق عليهم المجلس الدولي الأستشاري والرقابي(IAMB) لصندوق تنمية العراق. كما نصّت الفقر 20 من قرار مجلس الأمن على أن يجري بيع النفط العراقي ومشتقاته والغاز الطبيعي العراقي طبقاً لأفضل السبل المتبعة في السوق العالية ويخضع للتدقيق من قبل محاسبين عامين مستقلّين مسؤولين أمام المجلس الدولي الأستشاري والرقابي المشار له في الفقرة 12 المذكورة أعلاه، وتودع كافة مبيعات النفط والمشتقات النفطية والغاز الطبيعي في صندوق تنمية العراق، وذلك من أجل تأمين الشفافية، ويستمر العمل بهذا الصندوق لحين تشكيل حكومة عراقية بصورة أصولية ومعترف بها عالمياً.
بلغ مجموع واردات صندوق تنمية العراق نحو 21 مليار دولار خلال الفترة الزمنية بين 22 أيار (مايو) 2003، وهو اليوم الذي صدر فيه قرار مجلس الأمن 1483 الذى أنهى الحصار الأقتصادي وأسس صندوق تنمية العراق (DFI)، و28 حزيران (يونيو) 2004، وهو اليوم الذي سلمت فيه سلطة التحالف المؤقتة المسؤولية إلى الحكومة العراقية المؤقته التي تم تعيينها برئاسة الدكتور أياد علاّوي. وكانت مصادر تلك الأموال كالآتي: 11 مليار دولار عوائد الصادرات النفطية، 8 مليارات دولار من برنامج النفط مقابل الغذاء، 1 مليار دولار أموال مسترجعة بموجب قرار مجلس الأمن 1483، والباقي من مصادر متفرقة كالفوائد وغيرها. ولقد استُغل نحو ثلثي تلك الواردات لتمويل ميزانيات الحكومة لسنتي 2003 و2004.

إداء دون المستوى
أفاد تقرير المفتش العام المخصص للأشراف على الأعتمادات المالية المجهزة للوزارات العراقية، وفقاً للميزانية الوطنية خلال فترة حكم سلطة التحالف المؤقتة، إن سلطة التحالف لم تمارس السيطرة الوافية على ما يقرب من 8,8 مليار دولار تم تجهيزها من صندوق تنمية العراق الى الوزارات العراقية وفقاً للميزانية المذكورة. على وجه التخصيص، إن سلطة التحالف المؤقتة لم توطد أو تنجز إجراءات تنظيمية وافية، إدارية كانت أم مالية أم تعاقدية، لتوكيد أن أموال صندوق تنمية العراق قد استُغلت بطرق شفافة. نتيجة لذلك، ليس هناك ما يؤكد أن أموال الصندوق استُعملت لنفس الأغراض التي حددها قرار مجلس الأمن 148311، وندرج أدناه أهم النقاط التي وردت في التقرير:
• الرقابة الأدارية: الصلاحيات والمسؤليات الخاصة بأموال صندوق تنمية العراق لم تُمنح بصورة واضحة، كما أن الأنظمة والأوامر والمذكرات الصادرة عن سلطة التحالف لم تحتوي على توجيهات واضحة تخص الأجراءات والضوابط لتوزيع الموارد المالية للميزانية الوطنية.
• الرقابة المالية: لم تمارس سلطة التحالف المؤقتة السيطرة المالية الوافية لضمان أموال صندوق تنمية العراق كونها استُغلت بصورة أصولية. على وجه التخصيص، لم تمارس سلطة التحالف المسؤولية الكافية على أموال صندوق تنمية العراق المخصصة للوزارات العراقية كما في الميزانية الوطنية. إضافة لذلك، رغم أن سلطة التحالف نشرت على الأنترنت الميزانيات الوطنية المُصادق عليها مع التوزيع الكلي للوزارات العراقية، فإن الشفافية كانت مفقودة بخصوص الأستعمالات الحقيقية للأعتمادات المالية. أخيراً إن سلطة التحالف لم تحتفظ بسجلات وافية تؤيد خطط صرف الميزانية أو توزيع الميزانية أو التخصيصات النقدية التي تضعها قوات التحالف.
• الرقابة التعاقدية: لم تسيطر سلطة التحالف بصورة كافية على عمليات التعاقد الخاصة بصندوق تنمية العراق. على وجه التخصيص، إن دائرة العقود العائدة الى سلطة التحالف لم تنقد أو تتفحص إجراءات التعاقد المتبعة من قبل الوزارات العراقية. إضافة الى ذلك إن مستشاري سلطة التحالف الأقدمين ومساعديهم لم يراقبوا الوزارات في تدبير المشتريات أو عمليات التعاقد وقاموا بتنفيذ عقود من خلال عمليات الميزانية الوطنية وهي لم تكن متوافقة مع مذكرة سلطة التحالف المؤقتة رقم 4 الخاصة بالأرشاد.

إدارة سيئة أم فضيحة مدوّية؟
لا يمكن الكشف عن كافة حوادث الفساد التي طالت صندوق تنمية العراق، ولا عن كافة أسماء مرتكبيها، نظراً لغياب الشفافية من جهة وغياب السيطرة الأصولية واللازمة من جهة أخرى. لذلك سندرج في ما يلي الأمور التي تم كشفها من قبل المفتشين وشركات التدقيق وهي تعكس إداءً مزرياً لسلطة التحالف المؤقتة في تعاملها مع صندوق تنمية العراق تَمثل بسوء الأدارة والفوضى والأهمال. إن التعامل غير المتوقع لسلطة التحالف مع بلد كالعراق، تعرض لدمار شامل نتيجة للأحتلال والحروب المتوالية وحصار إقتصادي قاسي وظالم دام لمدة قاربت 13 سنة، يعتبر فضيحة عالمية بكل المقاييس.
1. قامت سلطة التحاف بالسيطرة في البداية سيطرةً كاملة على صندوق تنمية العراق، وبغضون 13,5 شهراً قامت بصرف 19.6 مليار دولار، ما يعادل أكثر من 90% من موارد الصندوق. وبعكس ما فرضه قرار مجلس الأمن 1483 لم تتبع سلطة التحالف الشفافية بالعمل من أجل "تلبية حاجات الشعب العراقي الأنسانية وإعادة البناء الأقتصادي وإصلاح البنية التحتية" كما نص عليه القرار.
2. تم حل سلطة التحالف المؤقتة في 28 حزيران (يونيو) 2004، وأُعطيت إدارة صندوق تنمية العراق بيد الحكومة العراقية المؤقتة، برئاسة إياد علاوي. وبهذا التحول أصبح العمل في ظل الحكومة العراقية أكثر ضبابية وفساداً من ذي قبل. فوزارة المالية العراقية لم تعين محاسباً للصندوق حتى شباط 2005، ولم يكن هناك حتى نهاية 2006 حساباً منفصلاً يسمح بالأشراف على أموال الصندوق. وفي كل مرحلة من مراحل العمل كان للمستشارين الأجانب الأثر الأكبر، ولربما النهائي، في القرار داخل وزارة المالية وكذلك الوزارات الأخرى المستهلكة للمال. وعلى الرغم أن برامج المساعدة الأمريكية كانت تدعي بأنها تعالج مواضيع "بناء الأهلية"، "ضبط عمليات التدقيق"، "ترسيخ الحاكمية الجيدة"، "إختيار المرشح الأنسب وإصلاح مهام الموظفين"، وما شابه ذلك من أعمال، ولكن، مع ذلك، استمرت عمليات الفساد والأعمال المحظورة بالتدهور والأنتشار مع الوقت12.
3. قام مجلس الأمن باستحداث "المجلس الدولي الأستشاري والرقابي" (IAMB) بعضوية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية العربي والأمم المتحدة، وكان الغرض منه رقابة وتدقيق صندوق تنمية العراق. ونظراً لأن هذا المجلس بطبيعة عمله سيكون وسيلة لتحديد المسؤولية، فقد حورب من قبل الولايات المتحدة التي فعلت كل شيئ لأعاقته وإضعافه. وعندما طلب المجلس التفاهم والأتفاق على ماهية العمل المطلوب وطبيعته قدمت أمريكا طلبات سببت أشهراً من المجادلات الدبلوماسية والتأخير. وعندما تم أخيراً الأتفاق في تشرين الأول (أكتوبر 2003) على أسس العمل لم يتمكن المجلس من عقد أول إجتماع له الا في كانون الأول (ديسمبر) ولم يوقع عقداً للتدقيق الا في نيسان (أبريل 2004)، أي بعد مرور عشرة أشهر لم يحدث خلالها أي عملية تدقيق13. وبناءً على إصرار الولايات المتحدة لم يملك المجلس سلطة ملزمة تتيح له الوصول الى المستندات المالية. أضف الى ذلك أن المجلس لم يملك صلاحيات للتحري أو المقاضاة، ولم يكن له موظفين دائميين ولم يملك صلاحيات البحث عن حالات الفساد أو الأحتيال. وعندما وصل فريق التدقيق (KPMG) الخاص بالمجلس قوبل ببرود وقضى أسابيع للحصول على رخصة تسمح له بالدخول الى المنطقة الخضراء حيث توجد سجلات سلطة التحالف. وأخيراً وبعد جهود متواصلة تخللتها صعوبات كثيرة أصدر المجلس تقريره عن التدقيق الأول في منتصف تموز (يوليو 2004) أي بعد مرور أربعة عشر شهراً على تخويل المجلس للقيام بالأشراف المالي على عمليات سلطة التحالف. ولكن بذلك الوقت كانت سلطة التحالف قد تم حلها وانقضى قرابة الشهرين على رحيل رئيسها بول بريمر الى أمريكا14.
4. شكى المجلس مراراً من أن السلطات الأمريكية والعراقية لم تحتفظ بسجلات وافية، وإن التحويلات المالية من الصندوق لا يمكن مطابقتها، والسلطات المسؤولة لم تكن متعاونة. كذلك شكى المجلس بخصوص الطرق الغير أصولية في إعلان المزايدات وتدبيرها، وبخصوص سجلات التوظيف المريبة، ثم بالأخص شكى حول مبيعات النفط بدون وجود مقاييس أو عدّادات. ولكن، مع كل تلك الشكاوى، تجاهل مجلس الأمن الأجراءات اللاأصولية التي أوضحتها الشكاوى ولم يتخذ خطوات إصلاحية لحماية "حاجات الشعب العراقي الأنسانية"15.
5. دأبت سلطة التحالف على ضبابية العمل وعدم الأعلان عن أسماء الشركات التي تعاقدت معها حين يكون الدفع من صندوق تنمية العراق. ولكن المفتش العام لسلطة التحالف(CPA-IG) أفصح أخيراً عن العقود التي زادت قيمتها على خمسة ملايين دولار، وذلك في ملحق أُعلنه في آب 2004. وفي تقريره الفصلي الأول قال المفتش العام "خلال مراجعاتنا لم نجد وصولات ساندة لبعض الفواتير، وكانت بعض الوصولات لا تحتوي غير توضيحات محدودة عن الخدمات أو المواد المستلمة، كما تم صرف أموال لخدمات مخالفة للأنفاق المسموح به". على العموم، كان استنتاج المفتشين هو "بينما لم يكتشف المفتش العام أية خسارات حقيقية في النقد، لكنها كانت عرضة لعمليات الأحتيال والضياع وإساءة الأستغلال"16.
6. فيما يتعلق بعمليات التعاقد أفاد المفتش العام لسلطة التحالف في تقريره بتاريخ تموز 2004، إن سلطة التحالف لم تصدّر إجراءات قياسية أصولية لعمل المشرفين على العقود، ولم تطور وسيلة فعالة لفحص ونقد العقود، ولا نظام للرقابة والمتابعة. إضافة لذلك كانت ملفات العقود أما ناقصة أو غير موجودة. كذلك لم يتحقق موظفو العقود دوماً من كون قيمة العقود مناسبة ومعقولة، ومن المقاولين بأنهم سينفذون العمل حسب الجداول المتفق عليها، ومن دفع استحقاقات المقاولين المالية بالأوقات التي تقتضيها شروط العقد17.

عينات من الفساد
أكّدت الفقرة 14 من قرار مجلس الأمن 1483 على وجوب أستعمال صندوق تنمية العراق بشفافية لسد الأحتياجات الأنسانية للشعب العراقي، وإعادة البناء الأقتصادي وإصلاح البنية التحتية العراقية....ولأغراض أخرى مفيدة للشعب العراقي. ولكن سلطة التحالف المؤقتة لم تأخذ بهذا الأمر ولربما فعلت عكس ذلك. ندرج هنا أمثلة واقعية عن حالات اللامبالاة وانحراف المسؤولية والأهمال والفوضى التي شابت أعمال سلطة التحالف في التعامل مع صندوق تنمية العراق، كما ندرج بعض حالات الأحتيال والفساد والسرقة التي تمكنا من الحصول عليها:

سلطة التحالف
1. بعد أيام قلائل من تسلم بول بريمر مهمته في العراق، أرسل صندوق تنمية العراق حمولات متعاقبة الى بغداد بواسطة طائرات حمولة نوع سي–130 هرقل. كان محتوى الحمولات أوراق نقدية جديدة من فئة 100 دولار، قيمتها الكلية بلغت نحو 12 مليار دولار. وصلت تلك الأرساليات النقدية الهائلة، والتي لم يماثلها شئ بالتاريخ، لتكون تحت تصرف سلطة التحالف المؤقتة من أجل تنفيذ الفقرة 14 من قرار مجلس الأمن المذكور أعلاه18. إن عملية جلب مليارات الدولارات بهذه الصيغة والتعامل بها نقداً بدون أن تترك بعدها أثراً هي بحد ذاتها دعوة وتسهيل لارتكاب الفساد.
2. إحتفظت سلطة التحالف بأكثر من 800 مليون دولار من ذلك النقد بدون سجلات، وذلك من أجل تمشية أعمالها. 200 مليون دولار منها احتفظت بها السلطة في غرفة أحد قصور صدام بعهدة جندي أمريكي كان يضع مفتاح الغرفة في الحقيبة التي يحملها على الظهر ويتركها على المنضدة بدون حراسة عند الذهاب الى الغداء19.
3. وجد المدققون أن سلطة التحالف لم تحتفظ بحسابات تخص مئات ملايين الدولارات من النقد المخزون عندها، وأعطت عقوداً قيمتها مليارات الدولارات الى شركات أمريكية بدون عروض للمناقصة، ولم تعلم ماذا كان يجري لمليارات الدولارات التي سلمتها للوزارات العراقية في ظل مجلس الحكم20.
4. لقد أثار فقدان الشفافية بالعمل الهواجس بوجود الفساد. فقد ادعى مدير عراقي لأحدى المستشفيات أنه عندما جاء لتوقيع العقد قام الضابط الممثل لسلطة التحالف بشطب المبلغ الأصلي ومضاعفته. وعندما احتج العراقي بأن المبلغ الأصلي كان كافياً أجابه الضابط الأمريكي بأن الأضافة هي صفقته للتقاعد. وحين سأل مجلس الحكم بريمر لماذا ارتفعت كلفة تصليح معمل السمنت في سامراء الى 60 مليون دولار بدلاً من 20 مليون دولار وهي القيمة الأصلية أجابهم الممثل الأمريكي بأن عليهم أن يكونوا شاكرين لأن التحالف أنقذهم من صدام21.
5. العراقيون المقربون للأمريكان، وكذلك الذين كانت لهم إمكانية الدخول بسهولة الى المنطقة الخضراء، وأولئك الذين احتلوا مناصب رفيعة في وزارات الحكومة العراقية أصبح بإمكانهم الحصول على فوائد ضخمة. وكان رجال الأعمال العراقيون يشتكون باسمرار من ضرورة قيامهم بدفع رشاوى عالية الى وسطاء عراقيين لمجرد السماح لهم للمشاركة في المناقصات التي تعلنها سلطة التحالف. وقد حصّل أقارب الوزراء العراقيين على أعلى المناصب، كما حصّلوا على عقود ضخمة22.
6. وجد المفتش العام أن سلطة التحالف قد أساءت الأدارة ولم توفر حماية وسلامة النقد والمجوهرات والأحجار الكريمة واللوحات الفنية والسيارات والأثاث والسجاد والمقتنيات الثمينة التي تم الأستيلاء عليها من النظام السابق خلال وبعد عمليات القتال. كما وجد أن سلطة التحالف لم تحتفظ بقوائم جرد الموجودات اللانقدية. وبذلك من الممكن أن تكون قد تعرضت تلك الموجودات الثمينة الى الضياع أو السرقة23.
7. جاء في تقرير لمعهد دراسات السياسة أن بول بريمر أصدر ما يقارب 100 أمر تعطي، بين أمور أخرى، الشركات الأمريكية الحصة الأعظم في عقود إعادة البناء (74%) في حين ذهبت 11% منها الى الشركات البريطانية ولم يحصل المقاولون العراقيون سوى 2% من العقود. أما حصة الأسد بين الشركات الأمريكية فقد ذهبت الى شركة هاليبرتون، وهي شركة خدمات نفطية كان رئيسها السابق ديك شيني الذي كان يشغل وظيفة نائب الرئيس الأمريكي عند إسقاط النظام. وجاء في تقرير آخر أن سلطة التحالف قد انشغلت قرب نهاية مدتها بموجة كبيرة من الصرف على مشاريع مشكوك في فائدتها تضمنت مليارات الدولارات من أجل فرضها على الحكومة العراقية القادمة. وفي الأسبوع الأخير من عمر سلطة التحالف أمر موظفون لجلب أربعة مليارات دولار نقداً من نيويورك لدفع تكاليف موجة الصرف الأخيرة، كان من بينها حمولة بمقدار 2.4 مليار دولار، وهي أكبر حمولة من النقد بتارخ بنك الأحتياط الفيدرالي الأمريكي24.
8. بقي العراق لمدة تزيد على أربع سنوات ينتج النفط الخام ويصدر، ويقوم بتكرير جزء من النفط الخام المنتج لسد الأستهلاك المحلي، ولكن كانت العمليات تلك تحدث بدون وجود مقاييس أو عدّادات لقياس كميات النفط المنتج والمصدر والمستهلك محلياً. فالأصول في الصناعة النفطية، وهذا ما يجري في جميع الدول المنتجة للنفط، هي أن تكون هناك عدّادات لقياس كميات النفط الخام المنتج، وعدادات لقياس كميات النفط الخام المصدر، وعدادات لقياس كميات النفط الخام الذي يذهب الى المصافي المحلية للتكرير، وعدادات لقياس كميات المشتقات النفطية التي توزع داخل العراق للأستهلاك المحلي، ولكن الذي كان يحدث في العراق هو خرق فاضح لتلك الأصول. بدأت عمليات سرقة وتهريب النفط الخام العراقي والمشتقات النفطية المكررة داخل العراق منذ سقوط النظام في نيسان 2003. وبجانب ذلك كان سكوت سلطة التحالف وسكوت الحكومات العراقية لغز لم يفهمه أحد سوى القبول وحتى التواطئ في السرقة والتهريب. وقد قُدرت الكميات المسروقة من النفط العراقي بين 200 ألف الى 500 ألف برميل يومياً. كما قُدرت قيمة ما يُسرق من النفط الخام بمعدل 5,5 مليار دولار سنوياً وما يسرق من المشتقات النفطية بمعدل 800 مليون دولار سنوياً. لقد بقيت مسألة العدادات النفطية خفية وغامضة لغاية الوقت الحاضر. فرئيس مجلس إدارة المجلس الدولي الأستشاري والرقابي أخبر مجلس الأمن في تموز 2004 بأن العدادات ستنصب قريباً في أرصفة التحميل ولكن ذلك لم يحدث. ذلك أن شركة هاليبرتون كانت تملك عقد نصب العدادت في بادئ الأمر ولكنها لم تقم بالعمل فانتقل العقد الى شركة بارسونز، ولكن العمل لم يبدأ حتى آيار 2006. وقد تسببت هذه الأخيرة بتأخيرات خطيرة في حين ادعى سلاح الهندسة الأمريكي بأن ميناء البصرة ستنصب له العدادات في منتصف 252007. لم يعرف لحد الآن فيما إذا كان نصب العدادات قد اكتمل، إلا أن كاتب هذه السطور بين في مقال له بتاريخ 23/12/2012 وبعنوان "هل العراق يحتضر؟" ذكر فيه إن 1,747 عدّاداً من أصل 3,646 لم تُنصب بعد. يمكن الأطلاع على المقال بنقر الرابط:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=337872
الوزارات العراقية
وضعت سلطة التحالف المؤقتة ميزانية الحكومة لسنة 2003 ورصدت لها نحو 6,1 مليار دولار، ووضعت أيضا ً ميزانية الحكومة لسنة 2004 ورصدت لها نحو 13,4 مليار دولار، أي أن مجموع ما تم رصده للسنتين 2003 و2004 بلغ 19,5 مليار دولار ولكن سلطة التحالف عدلت ذلك المجموع الى 19,9 مليار دولار في آذار 2004. لقد بلغ مجموع ما تم صرفه على الميزانيتين المذكورتين 8,8 مليار دولار لتغطية كلفة الرواتب والمصاريف التشغيلية والرأسمالية خلال الفترة تشرين الأول 2003 ولغاية 24 حزيران 262004. ندرج أدناه نماذج من الفساد والخروقات المالية والأدارية التي مورست في ظل سلطة التحالف خلال السنتين 2003 و2004 كما وردت في تقرير المفتش العام لسلطة التحالف (CPA-IG) المرقم 04-005 والمؤرخ في 30 كانون الثاني 272005:
1. لم تمارس سلطة التحالف المؤقتة رقابة كافية لتأمين حسن استغلال أموال صندوق تنمية العراق في دفع رواتب موظفي الوزارات. فعلى سبيل المثال خولت سلطة التحالف دفع رواتب 74 ألف حارس للمنشآت الخدمية دون التأكد من وجود تلك المنشآت ومن عدد الحراس. فعلى الرغم أن عدد الحراس المسجلين لتقاضي الرواتب في إحدى الوزارات كان 8,206 تبين أن العدد الحقيقي للحراس العاملين هو 602 فقط. وفي وزارة أخرى كان عدد الحراس المسجلين لتقاضي الرواتب 1,471 في حين تبين أن العدد الحقيقي للحراس العاملين كان 642 فقط.
2. بخصوص الحسابات الختامية للسنة المالية ولغاية 15 حزيران (يونيو) 2004، لم تجهز وزارة المالية العراقية تقارير مالية بخصوص الأنفاق من صندوق تنمية العراق لسنة 2003، ولم تخبر موظفي سلطة التحالف بأن البيانات المالية لشهري تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) لسنة 2003 قد فُقدت.
3. لم تحتفظ سلطة التحالف المؤقتة بسجلاّت أصولية وافية لأثبات مصروفات الميزانية. فبعد قيام مراقب الحسابات التابع لسلطة التحالف المؤقتة بفحص عينة من عشرة مصروفات خلال الفترة بين تشرين الأول (أكتوبر) 2003 و24 حزيران (يونيو) 2004 تبين ما يلي:
4. لم يحتو أي من العشرة مصروفات، والتي تراوحت قيمها بين 120 دولار و900 مليون دولار، على سجلاّت لخطط صرف الميزانية تدعم المبالغ التي جُهزت للوزارات.
5. ستة من المصروفات تم تجهيزها بدون مذكرات تخصيص من قبل سلطة التحالف المؤقتة.
6. إثنان من المصروفات مجموعها 616 مليون دولار جُهزت بدون مستندات صرف.
7. تم صرف ما يقارب 120 مليون دولار في آيار (مايو) 2004 بصورة غير أصولية نتيجة سوء أتصال بين دائرة الأدارة والميزانية ودائرة مراقب الحسابات، وكلا الدائرتين تابعتان الى سلطة التحالف المؤقتة.
8. لم تمارس سلطة التحالف المؤقتة رقابة كافية على أعمال التعاقد الخاصة بصندوق تنمية العراق. أن دائرة العقود لسلطة التحالف، على الأخص، لم تفحص إجراءات التعاقد إلاّ لوزارتين فقط من بين 26 وزارة عراقية. إضافة لذلك فإن مستشاري سلطة التحالف الأقدمين ومساعديهم لم يشرفوا على مشتريات الوزارات العراقية أو عملياتها التعاقدية، ونفذوا عقوداً للميزانية السنوية ولكن لم تكن تلك العقود مستوفية لتوجيهات المذكرة رقم 4 الصادرة من سلطة التحالف والتي وضعت إجراءات محددة لتنفيذ عقود صندوق تنمية العراق، والتي، أيضاً، تقضي بوجوب إدارة الأموال العراقية الموضوعة في عهدة سلطة التحالف بطريقة شفافة وبموجب القانون المطبق، وذلك لمصلحة الشعب العراقي ونيابة عنه.
9. من الأمثلة على غياب الأشراف أو قلته فإن خمسة من سبعة مستشارين أقدمين ومساعديهم من سلطة التحالف لم يساهموا بإلأشراف بصورة كافية على عمليات تعاقد الوزارات العراقية. بالأضافة لذلك تم الطلب من المستشارين الأقدمين للوزارات الحصول على المعلومات الخاصة بالعقود التي تم أبرامها بتمويل من صندوق تنمية العراق، ولم يستجب لذلك الطلب – لغاية 30/6/2004 - سوى ثلاثة من 26 مستشار وزارة أقدم (الأتصالات، الأسكان والبناء، والداخلية) بتزويد دائرة العقود بالأجراءات التعاقدية التي كانت تتخذها وزارات مجلس الحكم المؤقت. كما أن إحدى الوزارات الثلاثة التي استجابت للطلب أشارت الى أن أكثر من 250 عقد بقيمة ما يعادل 430 مليون دولار قد تم إبرامها ولم يحظر مستشار وزاري واحد من سلطة التحالف للأشراف على إبرام تلك العقود.
10. لقد نفذ مستشارو سلطة التحالف الأقدمون والمساعدون عقوداً للميزانية السنوية بدون ترخيص أو تخويل، و لم تكن العقود مستوفية لتوجيهات المذكرة رقم 4. فعلى سبيل المثال قام أحد المستشارين الأقدمين بتوقيع أربعة عقود لمصلحة وزارة عراقية دون عرضها للمنافسة ولم تحتوي تلك العقود على مواصفات وافية، كما كانت خالية من شروط التسليم. وقام مستشار آخر بتوقيع أكثر من 20 عقداً بدون تخويل. كذلك تم فحص عشرة ملفات للعقود وتبين أن سبعة منها لم تعرض للمنافسة، كما أن جميع العقود العشرة كانت مستنداتها مفقودة أو ناقصة.
11. إن سلطة التحالف ليس فقط لم تطبق أنظمة وزارة الدفاع الأمريكية في إصدار تقاريرها المالية، ولكنها فشلت حتى في تطبيق أنظمتها. فقد قامت سلطة التحالف في تشرين الأول (أكتوبر) 2003 بمنح عقد قيمته 1.4 مليون دولار الى شركة نورث ستار (NorthStar Consultants, Inc.) كمقاول لتقييم تصميم وفاعلية نظام الرقابة الداخلي على صندوق تنمية العراق، ولكن منتسبي هذه الشركة لم يكونوا محاسبين قانونيين مصرّح بهم، ولم يقوموا بفحص نظم السيطرة الداخلية كما تطلب العقد. ولقد نتج عن ذلك عدم تقييم الرقابة الداخلية على مصروفات صندوق تنمية العراق من والى الوزارات العراقية. وسبب ذلك أن ممثلاً من دائرة العقود لم يُخصص لمراقبة إداء المقاول. إضافة لذلك فإن مراقب الحسابات عدّل المقاولة (اي العقد مع شركة نورث ستار) شفوياً واستعمل منتسبي المقاول لأداء وظائف حسابية في دائرة مراقب الحسابات.
تعبيد الطريق الى فساد الدولة
استناداً الى ما ورد أعلاه في تقرير المفتش العام، يتبين أن سلطة التحالف المؤقتة لم تنجز مهامها الأجرائية والرقابية بصورة وافية سواء في النواحي الأدارية أوالمالية أوالتعاقدية المفروضة عليها من أجل تأمين استغلال أموال صندوق تنمية العراق بالشفافية اللازمة ومن أجل إنجاز الأهداف التي توخاها قرار مجلس الأمن 1483، بضمنها تلبية حاجات الشعب العراقي الأنسانية وإعادة البناء الأقتصادي وإصلاح البنية التحتية. وبناءاَ عليه فقد تهاونت سلطة التحالف في تحمل مسؤولياتها المناطة بها وفي إداء واجباتها، الأمر الذي أدى ليس فقط إلى حصول خروقات نتج عنها خسائر كبيرة في أموال الشعب، بل الى أخطر من ذلك بكثير وهو ضرب المثل السيئ أمام الحكومة العراقية والشعب العراقي بصورة عامة، وموظفي الدولة بصورة خاصة، في إداء الواجب وتحمل المسؤولية والعمل بنزاهة.
إن سلطة التحالف جاءت لحكم العراق – وإن مؤقتاً - بقيادة أمريكا وهي من بين أرقى دول العالم المفروض بها التحلي بمستوى رفيع في الأمانة والنزاهة وتحمل المسؤولية وإداء الواجب. على أن ما أقدمت عليه هذه السلطة في خيانة الأمانة وتعاطي الفساد الأداري والمالي والتهاون الفاضح مع حالات الخداع وإساءة الأستعمال وضياع الأموال، بل ولربما حتى التعمد في تبديد أموال الشعب العراقي، قد عبد الطريق الى ممارسة اللصوصية في إداء موظفي الدولة العراقية، من كبيرهم الى صغيرهم، وفتحت أبواب الفساد داخل العراق على مصاريعها ليدخل منها من تمكن، دون رادع من خوف أو عقاب، حتى انهار العراق بالنهاية الى حضيض سُلّم الدول الفاسدة.

الأداء الأقتصادي للدولة الجديدة
شهد العراق خلال عقد السبعينات من القرن الماضي إستقراراً نسبياً وزيادة كبيرة في واردات الدولة المالية نتيجة للأرتفاع المستمر في أسعار النفط، ما سمح للحكومة العراقية في الأستثمار بشتى القطاعات الأقتصادية ومن أهمها القطاع الصناعي، وكذلك نشر التعليم. ونتيجة لتلك الأستثمارات حقق الأقتصاد العراقي نمواً حقيقياً خلال ذلك العقد لم يحصل في العراق مثيلاً له من قبل. فالناتج المحلي الأجمالي حقق نمواً حقيقياً (بالأسعار الثابتة لسنة 1980) تجاوز 10% سنوياً.

ولكن هذا الناتج بدأ بالتراجع منذ تسلُّم صدام حسين للسلطة واشتباك العراق في حربين وتعرضه لحصار طويل ومرير. ونتيجة لما حصل، فقد تراجع الناتج المحلي الأجمالي بالأسعار الحقيقية خلال الفترة 1980-2002 بحوالي 6% سنوياً. وخلال تلك الفترة الطويلة أصبح الفرد العراقي أفقر بمر الزمن ليس فقط لاستمرار تراجع الناتج المحلي الأجمالي، وإنما للزيادة السكانية المستمرة أمام التدهور الأقتصادي المستمر. فبينما كان عدد سكان العراق نحو 14 مليون في سنة 1980، فإن هذا العدد استمر بالنمو ووصل نحو 32 مليون في 2010 وتجاوز 34 مليون في نهاية 2013. وبينما حققت حصة الفرد نمواً بالأسعار الثابتة معدله قارب 8% سنوياً خلال عقد السبعينات، فإنها بدأت بالتراجع منذ سنة 1980 بمعدل قارب 7% سنوياً بالأسعار الحقيقية خلال الثلاثين سنة 1980-2010. ولقد كان من المنتظر أن تحقق حصة الفرد من الناتج المحلي الأجمالي نمواً حقيقياً سريعاً بعد سقوط النظام ولكن ذلك لم يحدث، إذ إن الذي حدث هو نمواً متواضعاً خلال فترة السنوات 2003-2010 معدله نحو 6% سنوياً بالأسعار الحقيقية.
عندما تم احتلال العراق في سنة 2003 انتكس الناتج المحلي الأجمالي انتكاسة كبيرة بلغت نحو 35%، ولكن هذا الناتج حقق نمواً في السنة التالية (2004) بلغ 45%، بعد استعادة إنتاج النفط الذي توقف كلياً تقريباً في سنة الأحتلال. على أن ذلك النمو الهائل لم يستمر طبعاً بنفس الوتيرة بعد 2004 رغم استعادة جزء كبير من إنتاج النفط، ذلك أن النمو في سنة 2004 ظهر كبيراً لأنه انطلق من مستوى واطئ جداً نتيجة للأنتكاسة الكبيرة التي تعرض لها في سنة الأحتلال. بعد ذلك استمر النمو بالأسعار الحقيقية، ولكن بسرعة متواضعة جداً كان معدلها نحو 5.5% سنوياً. إن السؤال المطلوب جوابه الآن هو ما هي الأسباب التي جعلت النمو الحقيقي هكذا بطيئاً بعد أن توقفت الحروب ورُفع الحصار؟ أليس من المفروض أن ينمو الأقتصاد العراقي بوتيرة أسرع بكثير في ظل الحقبة الجديدة، ولنقل بمعدل سنوي مقداره 8% على الأقل؟
الجواب على هذا السؤال هو أن النمو الأقتصادي المرتفع يحتاج الى استثمارات هائلة وبتكنولوجيا متقدمة، خصوصاً في قطاعي الصناعات التحويلية والزراعة، لكي يتحول البلد تدريجياً الى الأنتاج بجودة عالية وأسعار تنافسية، متوجهاً بذلك نحو الأسواق الخارجية. إن أفضل من يقوم بهذا الدور هو الأستثمار الأجنبي المباشر (foreign -dir-ect investment) الذي يجلب معه ليس فقط الأموال الأستثمارية الوافية، بل يجلب معه أيضاً التكنولوجيا المتطورة وفنون الأدارة الحديثة. ولكن مثل هذا الأستثمار لن يدخل بلداً مالم تتوفر لديه البيئة المؤاتية.
والسؤال المناسب هنا كيف تتوفر البيئة المؤاتية للأستثمار الأجنبي المباشر وما هي الشروط؟ الجواب هو أن البيئة المطلوبة لجذب تلك الأستثمارات الأجنبية يجب أن تتصف بما يلي: (1) إستقرار أمني وسياسي (2) أدنى درجة ممكنة من الفساد (3) إقتصاد كلي مستقر (مثلاً وجوب توفر سياسة نقدية حكيمة تمنع التضخم المفرط) (4) موارد بشرية متطورة (أهمها العمالة الماهرة) (5) قضاء نزيه ومستقل (6) أسواق مالية واسعة (الجهاز المصرفي في العراق الآن متخلف جداً)، (7) العمل بشفافية وتوفير المعلومات والأحصائيات وتشجيع البحوث (8) إتخاذ الحكومة موقفاً ودياً نحو السوق، إذ تدع السوق يعمل بحرية حينما ينجح وتتدخل حينما يفشل (9) إنفتاح على التجارة الخارجية والأنتماء لكُتل إقتصادية ابتغاءً للتعامل مع أسواق واسعة. على أن الأنفتاح هذا له شروط، وكان عليه أن لا يحصل هكذا مبكراً كما حصل تحت سلطة برمر، حيث تم فتح أبواب الأستيراد بتعريفة جمركية متدنية في وقت كانت قطاعات الأقتصاد العراقي شبه ميتة، يأتي على رأسها الماء والكهرباء والصناعات التحويلية والزراعة. فسدد بذلك رصاصة الرحمة الى الأقتصاد العراقي الذي لم يتمكن من إنتاج أي شيئ ذي قيمة بمواصفات وأسعار منافسة لموجات البضائع المستوردة. واستمرت دولة العراق الريعية في الأعتياش على ما تدره العوائد النفطية.
إن توفير البيئة المؤاتية لا تتوقف على ما ذكرناه فحسب وإنما هناك أمور أخرى يجب معالجتها ومنافسة الآخرين بشأنها. ذلك أن العراق ليس وحده في أسواق الأستثمارات الأجنبية وإنما هناك دول أخرى تنافسه على نفس الأمول الجاهزة للأستثمار. إن المهم، من بين أمور أخرى، هي أن تقوم السلطات العراقية في العمل على إغراء المستثمر بما يلي: (أ) ضرائب أقل (ب) حكومة صغيرة وروتين قليل و(ج) توفير السهولة في بدئ الأعمال الجديدة، كأن توفر ما يُدعى الآن بسلطة النافذة الواحدة (one-stop authority)، ومعنى ذلك أن لا تدع السلطات العراقية المستثمر متخبطاً في دهاليز المتاهات الحكومية وفريسة للفاسدين والمحتالين من الموظفين وضحية للروتين القاتل، وإنما توفر له دائرة واحدة تقوم بمهمات تسجيل الأعمال أو الشركات، وتوفير الأرض، واستحصال رُخص البناء، وتسريع عمليات الأستيراد...إلخ.
خاتمة
جاءت أمريكا مع حلفائها لأسقاط النظام وليس بحثاً عن أسلحة محرمة، وهكذا فعلت. وأعلن القادة الأمريكيون، عسكريون ومدنيون، بأن لديهم خطة لأعادة بناء العراق وإعماره. حتى الرئيس الأمريكي آنذاك تبجح بالقول إن خطة الأعمار التي تريد أمريكا إنجازها في العراق ستوازي خطة مارشال التي اتُّبعت لأعادة بناء أوربا الغربية. ولكن ذلك لم يحصل، وإنما الذي حصل على أرض الواقع هو قيام سلطة التحالف المؤقتة بتبديد جزء كبير من أموال صندوق تنمية العراق على الفساد والمشاريع الفاسدة. وبذلك العمل أعطت أمريكا الضوء الأخضر لمن جاء معها من العراقيين لتسلم مقاليد حكم العراق بممارسة عمليات الفساد والأفساد، حتى أصبح التعامل على هذا المنوال في دوائر الدولة هو القاعدة والتعامل بنزاهة هو الأستثناء.
لقد تضرر الأقتصاد العراقي من الحروب ومن الحصار الذي دام لمدة طويلة، وقد عمّ الفقر بين العراقيين الذين استمرت تتزايد أعدادهم أمام تراجع الأقتصاد. إن الطريقة المثلى للنهوض بالأقتصاد العراقي هي الأستثمار في كافة القطاعات الأقتصادية، مع التركيز على الزراعة والصناعة التحويلية. إن الهدف من ذلك هو خلق قاعدة اقتصادية عريضة ومتنوعة، ذات نمو مستدام ومتوازن، تصلح أن تكون مصدراً ضريبياً لتمويل الميزانية الحكومية مع التخلص تدريجياً من الأعتماد على الأقتصاد الريعي الوحيد الجانب المستند الى استخراج النفط وتصديره، علماً أن النفط مادة قابلة للنفاذ، وكذلك قابلة للكساد في حالة تطوير مصادر بديلة للطاقة أفضل وأرخص من النفط.
الحكومة العراقية الآن تكاد تكون المشغّل الوحيد لمئات الآلاف من الأيادي العاملة التي تدخل سوق العمل سنوياً، وفي ظل هذه الحالة ستلتهم الميزانية التشغيلية حصة الأسد من العوائد النفطية ولن يكون هناك فائض من الأموال يُعتد به لتمويل الميزانية الرأسمالية، أي الأستثمار لأعادة بناء الأقتصاد بمختلف قطاعاته إضافة الى بناء البنية التحتية المدمرة. في هذه الحالة يجب الأبتعاد قدر الأمكان عن القطاع العام عندما يكون غير كفوء ولا يتمكن من البقاء على قيد الحياة إلا عالة على الخزينة العراقية، على أن يُستثنى من ذلك حالات معينة قد تضطر معها الدولة الأبقاء عليها، وغالباً ما تكون لأسداء بعض الخدمات الى الشعب بأسعار تقل عن الكلفة لأسباب قد تكون سياسية وليست إقتصادية بالطبع. وبخلاف ذلك يتعين التوجه نحو القطاع المختلط والقطاع الخاص. ونظراً لضآلة الأستثمارات العراقية الخاصة مقارنة بالأستثمارات الهائلة التي سيحتاجها العراق، يتحتم في هذه الحالة تشجيع الأستثمار الأجنبي المباشر، سواء كان عربياً أو غير عربي. هنا، وكما أسلفنا، ينبغي توفير البيئة المؤاتية لجذب هكذا استثمار.
إن الأرضية أو الأساس الذي سيسند بناء البيئة المؤاتية هو الأستقرار الأمني والسياسي، وهذا الأستقرار غير موجود. فالحكومة العراقية بتركيبتها الحالية المبنية على المحاصصة الطائفية والأثنية، وتدنّي كفاءة طبقاتها العليا، وعدم سلامة النوايا التي يحملها العديد من قادتها، وعدم توجهها الصادق نحو بناء البلد ولربما عدم قدرتها على ذلك، كل تلك المثالب لا تؤهلها لبناء أرضية مستقرة أمنياً وسياسياً صالحة لاحتضان الشروط المتبقية لبناء البيئة المؤاتية. بل إن الذي يحدث الآن هو العكس، فالأستقرار الأمني، كما نرى، هو مستمر بالتراجع. أما الأستقرار السياسي فهو ركيك منذ البداية.
والآن نأتي الى الفساد وهو محور هذا البحث، كما هو المحور الذي تدور حوله جميع الشروط الباقية لبناء البيئة المؤاتية. فالفساد أينما حل جلب الخراب لما حوله وتوقف السير على طريق الأستقامة ليدخل طرقاً عوجاء ملتوية، ثم لتفشل الدولة بعد حين. إن هذا ما هو حاصل في العراق. أنا لا أبرئ الشعب العراقي كلياً، فجزء مهم من الطبقة الحاكمة الجديدة أصبح يتعاطى الفساد، والفساد مرض معدي، ينتشر بسرعة أينما وجد حاضنة مناسبة. لقد كان الأمل في أن الفساد سيُقتلع من جذوره حال القضاء على صدام حسين ونظامه. أما طبقة الموظفين الذين تعلموا على أخذ "البخشيش" لمساعدة أسباب المعيشة خلال فترة الحصار فإنهم كانوا سيتوقفون عن هذه الممارسة حال تعديل رواتبهم الى المستوى المعقول. حينئذ سوف لن يبق من الفساد بالعراق سوى جزء قليل يمكن التعايش معه، إذ من المتعذر اقتلاع الفساد برُمّته من أي بلد كان كما يتبين ذلك من التقارير السنوية لمنظمة الشفافية العالمية.
على أن الذي حصل، مع شديد الأسى والأسف، هو أن تولى السلطة بعد سقوط النظام السابق رجال جاؤوا من أمريكا وبريطانيا وأستراليا وغيرها من الدول الغنية والقليلة الفساد، يقودهم بول بريمر. وعلى عكس ما كان متوقعاً منهم، ارتكب البعض من هؤلاء عمليات الأفساد والفساد باستغلالهم الفج لمليارات الدولارات الآتية نقداً من صندوق تنمية العراق والمخصصة لأجل تنمية العراق. ثم انتشر الفساد بعد ذلك بين العديد من موظفي سلطة التحالف. كما شاهد موظفو الدولة العراقية فساد البعض من رؤسائهم المستشارين الأجانب ولامبالاة البعض الآخر، وذلك ما دلّت عليه تقارير المدققين وأخبار الصحف. ثم جاء بعد سلطة التحالف دور الوزارات العراقية التي ثارت شهيتها للفساد بعد أن عرفت الكيفية التي تعاملت بها تلك السلطة مع الأموال العراقية. فانفتحت نتيجة لذلك أبواب الفساد على مصاريعها وتشجع الفاسدون العراقيون، كبيرهم وصغيرهم، ومشوا على الدرب المرسوم.
إن خذلان الشعب العراقي وتعاطي الفساد مالياً وإدارياً من قبل بول بريمر خلال فترة حكمه القصيرة قد ضرب مثلاً سيئاً، خطِراً، مدمراً، ممهداً بذلك الطريق للحكومات العراقية التي جاءت بعده للأمعان في ممارسة الفساد ما وَسِعها الأمر. لقد تحول العراق نتيجة نكبة الفساد تلك الى دولة فاشلة بكل المقاييس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصادر وهوامش

(1) أنظر زيني، محمد علي، الأقتصاد العراقي، الماضي والحاضر وخيارات المستقبل: الطبعة الرابعة، 2010، دار الملاك للفنون والآداب والنشر، بغداد، ص 360.
(2) المصدر السابق، نفس الصفحة.
(3) Michael Rowley, The Oil-for-Food Scandal, published in Slate, and updated Friday, Dec. 14, 2004. The article can be reached on the internet via the following link: http://www.slate.com/articles/news_and_politics/the_gist/2004/12/the_oilforfood_scandal.single.html
(4) المصدر السابق.
(5) زيني، مصدر سابق، ص 290 – 293.
(6) MEED, 7 May 1993, P. 23.
(7) كان القادمون آنذاك من العراق يقولون أن محدودية المرتبات لم تشمل الحرس الجمهوري والقوات المشرفة على سلامة الرئيس وأجهزة القمع. فقد ظل هؤلاء، إضافة الى المحسوبين على السلطة وطبقات المقاولين والتجار الأثرياء والمنتفعين من النظام، ظلوا بمنأى عن العذابات التي أصبحت تذوقها كافة طبقات الشعب الأخرى. فهؤلاء هم السند الوحيد الذي يعتمد عليه صدام للبقاء في السلطة، والبقاء في السلطة هو الهدف رقم واحد عند صدام.
(8) قامت الولايات المتحدة بتأسيس مكتب إعادة الأعمار والمساعدة الأنسانية Office for) (Reconstruction and Humanitarian Assistance “ORHA” في 20/1/2003، أي قبل بداية غزو العراق بحوالي شهرين، وكان يديره الجنرال المتقاعد Jay Garner وبعد سقوط النظام تم حل مكتب المساعدات الإنسانية وإعادة الأعمار، و بدلاً عنه تم تأسيس سلطة التحالف المؤقتة Coalition Provisional Authority (CPA).
(9) Global Policy Forum (GPF), War and Occupation in Iraq, Chapter 9 “Corruption, Fraud and Malfeasance”, P. 1. http://www.globalpolicy.org/component/content/article/168/37153.html#_edn6
(10)خطة مارشال هي أشهر عملية إعانة بالتاريخ حدثت بعد سنتين من انتهاء الحرب العالمية الثانية حين قامت الولايات المتحدة بموجب تلك الخطة بتقديم معونات مالية الى بلدان أوربا الغربية لمساعدتها في إعادة بناء قاعدتها الأنتاجية التي دمرتها الحرب.
(11)Special Inspector General for Iraq Reconstruction (SIGIR), Audit Report, Oversight of Funds Provided to Iraqi Ministries through the National Budget Process, Report No. 05 – 004, January 30, 2005.
(12)Global Policy Forum, op. cit., P. 2.
(13)جاء المجلس الدولي الأستشاري والرقابي {International Advisory and Monitoring Board (IAMB)}. بأمر مجلس الأمن الى الوجود في في تشرين الأول 2003، أي بعد ستة أشهر من الأحتلال، ليقوم بمهمة مشرف عالمي مستقل على إنفاق أموال صندوق تنمية العراق من قبل سلطة التحالف المؤقتة. وأمضى المجلس عدة شهور في البحث عن مدقق تقبل به الولايات المتحدة، وأخيراً، في نيسان (أبريل 2004)، تمكن المجلس من التعاقد مع فرع شركة (KPMG) في البحرين.
(14)Global Policy Forum, op. cit., P. 2.
)15)Ibid.
(16)Revenue Watch, Report No. 7, Disorder, Negligence and Mismanagement: How the CPA Handled Iraq Reconstruction Funds, September 2004, PP. 1-3, link: http://www.opensocietyfoundations.org/sites/default/files/irwreport_20041001.pdf
(17) Special Inspector General for Iraq Reconstruction (SIGIR), Audit Report No. 04-013, July 27, 2004.
(18)McClacthy Newspapers, February 8, 2007, link: http://www.angelfire.com/ca3/jphuck/Book23Ch.16.html
(19)The Guardian,Thursday 7July 2005.
(20)Ibid.
(21)Ibid.
(22)Ed Harriman, “Where has all the money gone?”, London Review of Books, 7 July 2005, PP. 4-5.
http://www.lrb.co.uk/v27/n13/ed-harriman/where-has-all-the-money-gone
(23)Revenue Watch, op. cit, p.6.
(24)Emad Mekay, ECONOMIY-IRAQ, New Government Left With Fraction of Rebuilding Funds, Inter Press Service (IPS), link:
http://www.ipsnews.net/2004/06/economy-iraq-new-govt-left-with-fraction-of-rebuilding-funds/
See also Global Policy Forum for even more information and details, op. cit., pp. 1-17.
(25) Global Policy Forum, op. cit., P. 4.
كذلك أنظر زيني، محمد علي، "هل العراق يحتضر؟" على الرابط أدناه:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=337872
(26)المقصود بالمصروفات الرأسمالية هنا هو شراء مواد رأسمالية مثل السيارات وهي ضرورية لتشغيل الوزارة وليس المقصود هنا المشاريع الرأسمالية أو الأستثمارية.
(27)Special Inspector General for Iraq Reconstruction (SIGIR), Audit Report, Oversight of Funds Provided to Iraqi Ministries through the National Budget Process, Report No. 05 – 004, January 30, 2005, PP. 7-9.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا يشتري الصينيون الذهب بقوة؟


.. أحد أبرز المباني التاريخية في كوبنهاغن.. اندلاع حريق كبير با




.. تضامنا مع غزة.. متظاهرون يغلقون جسر البوابة الذهبية بسان فرا


.. اندلاع حريق في مبنى البورصة التاريخي في الدنمارك




.. ا?سعار الذهب اليوم الثلاثاء 16 ا?بريل 2024