الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قناعة الأربعين

سليم سوزه

2014 / 6 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كنت متديناً او هكذا كان يراني الناس وقتئذ. كان ديني ورقاً اقرؤه بشغف. اقرأ قصة الايمان لنديم الجسر والمراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي والاختصاص للشيخ المفيد والاحتجاج للشيخ الطبرسي. اقرأ كتب الخلافيات بين السنة والشيعة واحفظها عن ظهر قلب كي احاجج اصدقائي السُنَّة واغلبهم وانتصر لمذهبي. احببت الفقه رغم اني اكره عباراته المعقدة، تلك التي كتبت بلغة غير منتمية لعصرنا. كنت على وشك ان اتعمم في حوزة النجف العلمية واصبح شيخاً اهدي الناس للدين واخرجهم من ضلالهم.

نجلس حتى ساعات الصباح نتدارس الفقه انا واصدقائي من شيوخ الحوزة او متدينيها ونشتغل على تفكيك عبارات مراجع الدين الكبار ونحن نغط في عالم لذيذ من الاحلام. عالم يقول لنا كم نحن عظماء لاننا ولدنا في دين الاسلام، ذلك الدين الذي سينتصر على الارض ولو كره الكافرون.

كان عنادنا لسلطة البعث وجلاوزته يقودنا ان نغوص اكثر في هذا الدين، ليس في نصوصه فقط، بل حتى في مظهره، اذ تطول لحايانا ويشتد عندنا لبس السواد كلما احسسنا بعينٍ بعثية تراقب همهماتنا. العناد هو سلاحنا في مواجهة هؤلاء.

كانت روايات السفياني والخراساني واليماني وعوف السلمي والنفس الزكية والصيحة والخسف في البيداء وغيرها من علائم آخر الزمان المبشّرة بقرب ظهور الامام المهدي اهم ما كان يجذبني في هذا الدين. تلك العلائم والروايات كانت ذخيرتي التي اطلقها على رؤوس الحضور في المساجد والبيوت التي احاضر فيها. جميعهم عشقوا حديثي عن دولة الاسلام المؤجلة وسلطان المستضعفين. ذلك الحديث الذي فتح ثغرة في جدارٍ اسود، يتسلل من خلاله الامل الى نفوسهم. فمثل اي انسان يعيش في بيئة قهر وفقر واضطهاد وظلم، يتجه للغيب عسى ان يعوّضه ما يفوته في دنياه.

حزننا ابدي وفرحنا مؤجل، نعيش في عالم الورق الاصفر والكلمة المعنعنة لا نقوى على مفارقتها. وَضَعنا قدرنا على الاستخارة واوكلنا تفسير واقعنا للرؤيا مع اصرار على التلفظ بالفاظ التديّن ولي نهاية الكلمات بما يتماشى مع لكنة الحوزة التدريسية الممطوطة. انه زمن الاحوط وجوباً واستحباباً ولزوماً. كل شيء نراه بعين القادمين من زمن النبوة ولا يهمنا فارق ال 1400 عاماً.
ضعنا في التورايخ والمحظوظ فقط مَن اشتغل بعقله واستطاع ان ينفذ بجلده من كمية اللبس التي تنام عليها تلك التورايخ. هؤلاء انتقلوا من اقصى اليمين الى اقصى اليسار وصاروا كفاراً استحقوا اللعن عند كل فريضة نؤديها.

ربما كنت اشجع اصدقائي في نقد بعض الظواهر الدينية حتى بَدَوت عند بعضهم احياناً كمتمرد على الموروث حين تشتد النقاشات حول الدين والحداثة، ذلك لأني اصر على "تهذيب" الدين بقراءة الفلاسفة والمفكرين واحاول عبثاً ايجاد موائمة من نوعٍ ما بينه وبين الافكار الحديثة. لكني كنت معهم اعيش خارج الزمان والمكان وانتمي الى نص يصر على ارجاعي الى عالم الامس الذي اضاع النقل حقائقه واحداثه.

اليوم على اعتاب الاربعين عاماً، لم يعد الدين مشوقاً. ليس فيه ما يجذب. صارت الاطروحة الدينية برمتها محض تشكيك وسؤال ونقد. كل شيء في هذا الدين مريب يجعلني افكر الف مرة كيف لانسانٍ يعيش في قرن الانترنيت والآيفون والثورة الاعلامية يصر على سحل النص من سياقه التاريخي ليحكم واقعنا اليوم؟ نص غير بريء اخرجناه من بين اطنان التراب لا تستطيع كل مساحيق العالم تجميله.
كيف لي ان اقبل وانا العاقل بأن الاناء الذي يلغ فيه الكلب لا يطهر حتى لو غسلناه باحدث مساحيق الغسيل! وحده التراب يُطهّر مثل هذا الاناء. كيف لي ان اقبل بأن الموسيقى والفن والنحت ورسم ذوات الارواح حرام! لقد تعلّمنا ان العقل هو المقياس في الشريعة طالما يُثاب ويُعاقب به حسب الحديث القدسي المشهور، لكننا اتفقنا على الغاء عقولنا مرةً واحدة تجاه ما يبدو غريباً وغير منطقي في هذا الدين.

لعلنا اخترنا الدين وقتها لأننا لم نكن نعرف فكراً آخراً يزاحمه في بيئتنا المنغلقة تلك. زقاق فكري واحد هذا الذي كنا نعيش فيه جميعنا ولم يجرؤ اي فكر مغترب على مداهمته او تهديده.

لا اتحدث هنا عن عموميات الدين بل عن تفاصيله وجزئياته، فالدين جميل باخلاقياته وتعاليمه العامة، لكنه شيطان في تفاصيله، وقديماً قالوا الشيطان في التفاصيل. تنام الفتن في تفاصيله ويتمترس العنف في جزئياته شئنا ام ابينا. كلما يغوص المرء في تفاصيله يصبح اكثر عنفاً وعدوانية "للآخر" المختلف ويعاني لا استقراراً نفسياً، يتصارع حتى مع ظله. الابتعاد عن تلك التفاصيل والالتزام بعموميات الدين كفيل بزرع الراحة واعادة الهدوء للنفس المضطربة والمأزومة التي يعيشها المتديّن المقهور.
انها لعمري وصفة مجرّبة يستطيع من خلالها المتديّن التغلب على امراضه النفسية والاجتماعية ويعيش في راحة ابدية بعيداً عن حروب الطوائف التي تشهدها اليوم منطقتنا العربية والاسلامية برمتها.

نعم، انها قناعة الاربعين. العتبة الذي يتحوّل فيها فائض الوعي الى نضجٍ مطلق. ربما هي الحد الفاصل بين النبوة والكفر. ففي هذا السن فقط يمكن لك ان تكون نبياً او ملحداً، واراني نبياً حيث آمنت اليوم بعقلي وهجرت كل ما له علاقة بالتعصّب والتطرّف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #shorts - 7- Al-Baqarah


.. #shorts -10- Al-Baqrah




.. #shorts -12- Al-Baqarah


.. #shorts-1- Al-Fatihah




.. #shorts -2-Al-Fatihah