الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة الكون المعلوماتي

حسن عجمي

2014 / 6 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تميّز لغاتنا الإنسانية بين المادة و المعلومات. و على ضوء هذا التمييز نعتبر عادة ً أن الكون مادي أي يتكوّن من مواد قد تتحوّل إلى طاقة و العكس صحيح بينما المعلومات خاصة العقل فقط . يفصل تفكيرنا التقليدي بين الكون المادي و المعلومات على أساس التمييز اللغوي بين المادة و المعلومة. فبالنسبة إلى تفكيرنا التقليدي , وحده العقل يتشكّل من معلومات و علاقات بين المعلومات , أما عالمنا المادي فيتكوّن من ذرات مادية و طاقات متنوعة و مختلفة كلياً عن المعلومات التي من المفترض وجودها فقط في العقل البشري. لكن كل هذا تغير مع نشوء نموذج علمي معاصر مفاده أن الكون المادي نفسه يتكوَّن من معلومات و علاقات فيما بينها. هكذا العلم صحح لغتنا البشرية ؛ فالعلم هنا صحح لغتنا التي تميّز بين المادي و المعلوماتي. فهذا النموذج العلمي يؤكد على أنه لا يوجد تمييز حق بين الكون المادي و المعلومات بل كل ما يوجد في عالمنا المادي ليس سوى معلومات و عمليات تبادل للمعلومات ؛ فالمعلومات هي البنيات الأساسية للكون و التي بفضلها تتشكّل الذرات و الظواهر المادية كافة و طاقاتها ( Editors : Paul Davies and Niels Gregersen : Information and the Nature of Reality. 2010. Cambridge University Press )

لهذا النموذج العلمي المعاصر أهمية قصوى لأنه يمكننا من حل إشكاليات معرفية و فلسفية و علمية عدة. فلغاتنا البشرية توقعنا في مشاكل فكرية عديدة بسبب تمييزها بين مفاهيم و أشياء و ظواهر لا تمييز حقيقي بينها. لكن العلوم تصحح أخطاء لغاتنا من خلال الكشف عن عدم وجود تمييز حق بين هذه المفاهيم أو تلك كعدم وجود تمييز حقيقي بين المادي و المعلوماتي. النموذج العلمي المعاصر الذي لا يفرّق بين المادة و المعلومة يؤسس لفلسفة جديدة ألا و هي فلسفة الكون المعلوماتي التي تسعى إلى حل المشاكل الفلسفية و العلمية على ضوء اعتبار أن كل الأشياء و الظواهر مجرد معلومات و عمليات تبادل للمعلومات. و بالفعل تنجح فلسفة الكون المعلوماتي في حل العديد من الإشكاليات الفكرية. و تتمكن فلسفة الكون المعلوماتي من ذلك لأنها تنسف اللغة التقليدية و تستبدلها بلغة جديدة لا تميّز بين العديد من المفاهيم اللغوية التي نميّز بينها عادة ً.

اللغة المبتكرة التي تطرحها هذه الفلسفة لا تميّز بين مفهوم المادة و مفهوم اللامادة أي مفهوم المعلومة فتنجح بذلك في ربط المادي بالمعلوماتي ما يجنبنا الوقوع في العديد من المشاكل. فمثلا ً , إحدى المشاكل الأساسية في فلسفة المعرفة هي التالية: كيف من الممكن البرهنة على المعتقدات علماً بأننا لا نستطيع البرهنة عليها إلا من خلال معتقدات أخرى تحتاج بدورها إلى برهنة؟ هنا يظهر أنه من المستحيل البرهنة على أية معتقدات لأنه إذا برهنا على صدق أية معتقدات من خلال معتقدات معينة فالأخيرة تلزمنا بأن نبرهن عليها من خلال معتقدات أخرى و بذلك تتسلسل سلسلة البرهنة إلى ما لا نهاية أو تدور على نفسها فنبرهن على النتائج من خلال المسلّمات و من ثم نبرهن على المسلّمات من خلال النتائج فنقع في الدور. و في الحالتين لا تستقيم البرهنة فنقع في استحالة أن نبرهن على أي اعتقاد. لكن الذي أدى بنا إلى هذه المشكلة الفلسفية هو تسليمنا بأن المعتقدات وحدها قادرة على البرهنة على صدق المعتقدات و أن الوقائع و الحقائق خارج عقل الإنسان لا تستطيع ذلك لكونها تتكوّن من مادة مختلفة كلياً عن العقل و المعتقدات. على هذا الأساس , حل هذه المشكلة الفلسفية كامن في فلسفة الكون المعلوماتي التي لا تميّز بين المادة خارج العقل من جهة و العقل و المعتقدات من جهة أخرى. فبما أن الكون المادي يتكوّن من معلومات كما تؤكد فلسفة الكون المعلوماتي , و بما أن المعتقدات تتكوّن أيضاً من معلومات , إذن من الممكن للكون المادي خارج الإنسان و ما يحتوي من وقائع و حقائق أن يبرهن على صدق المعتقدات علما ً بأن المعتقدات و الكون مجرد معلومات. هكذا تحدث البرهنة على المعتقدات من خلال الوقائع و الحقائق خارج الإنسان فلا تتسلسل البرهنة إلى ما لا نهاية و لا نقع في الدور. فمثلا ً , حقيقة أن الشمس موجودة مجرد معلومة أو مجموعة معلومات , و بذلك تلك الحقيقة تتمكن من البرهنة على الاعتقاد بأن الشمس موجودة كون هذا الاعتقاد ليس سوى معلومة أيضاً. من هنا , نستغني عن البرهنة على صدق المعتقدات من خلال المعتقدات فقط و بذلك نحل المشكلة الفلسفية السابقة.

ثمة مشكلة فلسفية أخرى مفادها أننا نسلّم عادة ً بأن العقل مختلف عن الجسد بما أن العقل يتشكّل من معلومات غير مُحدَّدة في الزمان و المكان و من قبل قوانين الفيزياء بينما الجسد يتكوّن من مادة محكومة بالزمان و المكان و بقوانين الفيزياء الطبيعية. و بما أن العقل مختلف عن الجسد , إذن كيف من الممكن أن يتفاعلا؟ فنحن نعلم أن العقل يؤثر في الجسد الحي و العكس صحيح , و بذلك هما يتفاعلان بشكل دائم. لكن كيف من الممكن ذلك رغم أنهما مختلفان عن بعضهما البعض؟ تتمكن فلسفة الكون المعلوماتي من حلّ هذه الإشكالية من خلال الحجة التالية : بما أن الجسد الحي يتشكّل من جينات أي معلومات متوارثة على أساسها يتكوّن و ينمو , و بما أن العقل يتكوّن أيضاً من معلومات , إذن من الطبيعي أن يتفاعل العقل و الجسد و أن يؤثرا في بعضهما البعض. هكذا تحل فلسفة الكون المعلوماتي إشكالية تفاعل العقل و الجسد من خلال اعتبارها أن كلا ً من العقل و الجسد يتشكّل من معلومات. بالإضافة إلى ذلك , توجد مشكلة فكرية أخرى مرتبطة بالأولى ألا و هي : كيف من الممكن للعقل أن يدرك العالَم المادي رغم أنه من المُسلَّم به عادة ً أن العالم المادي يختلف جذرياً عن العقل؟ تحل فلسفة الكون المعلوماتي هذه المشكلة أيضاً من خلال اعتبار أن كلا ً من العالم المادي و العقل يتشكّل من الأشياء نفسها ألا و هي المعلومات. فبما أن العالم المادي يتكوّن من معلومات و تدفقها , و بما أن العقل يتكوّن أيضاً من معلومات , إذن من الطبيعي أن يتمكن العقل من إدراك العالم المادي لكونهما يتكوّنان من الأشياء نفسها ألا و هي المعلومات. هكذا تحل فلسفة الكون المعلوماتي هذه المشكلة أيضاً. و على ضوء قدرة فلسفة الكون المعلوماتي على حل المشاكل الفلسفية و الفكرية بشكل ناجح تكتسب هذه الفلسفة مقبوليتها.

كما أن بعض الأسئلة الأساسية في العلم و الفلسفة هي التالية : لماذا نشأت الحياة و نشأ العقل فالإنسان؟ لماذا الكون مُنظَّم بشكل دقيق بحيث يؤدي إلى نشوء الحياة و العقل و كأنه يوجد عقل مُدبِّر وراء خلق الكون و نظامه؟ و كيف من الممكن أن تولد الكائنات الحية من المادة غير الحية؟ تنجح فلسفة الكون المعلوماتي في الإجابة على هذه الأسئلة. بالنسبة إلى فلسفة الكون المعلوماتي , الكون المادي يتكوّن من معلومات و بذلك من الطبيعي أن توجد الحياة في عالمنا لأن الحياة تتشكّل من جينات هي في الحقيقة معلومات متوارثة على ضوئها تتكوّن الأجساد الحية و تنمو. فبما أن عالمنا المادي يتكوّن من معلومات , وبما أن الحياة تتكوّن أيضاً من معلومات , إذن من الطبيعي وجود الحياة في عالمنا ؛ فالحياة و عالمنا المادي يتشكّلان من الأشياء نفسها ألا و هي المعلومات. هكذا تنجح فلسفة الكون المعلوماتي في تفسير لماذا نشأت الحياة في عالمنا و لماذا وُجِدت أصلا ً.

بكلام آخر , تولد الكائنات الحية من المادة غير الحية لأن المادة غير الحية تتكوّن من معلومات تماماً كالكائنات الحية التي تتكوّن من معلومات كامنة في الجينات البيولوجية. فبما أن المادة غير الحية تتكوّن من معلومات , و بما أن الكائنات الحية تتكوّن أيضاً من معلومات , إذن من الطبيعي أن تنشأ الكائنات الحية من المادة غير الحية. من المنطلق ذاته , تنجح فلسفة الكون المعلوماتي في تفسير لماذا نشأ العقل. فبما أن الكون المادي يتشكّل من معلومات , و بما أن العقل يتشكّل من معلومات أيضاً , إذن من الطبيعي أن ينشأ العقل و يوجد في عالمنا. كل هذا يشير بقوة إلى مصداقية فلسفة الكون المعلوماتي على ضوء نجاحاتها. يبدو الكون و كأنه يوجد بدقة قوانينه و حقائقه كي يبني الحياة و العقل و ينتج الإنسان. لكن الحقيقة هي أن وجود الحياة و العقل فالإنسان ليس سوى نتيجة حتمية لحقيقة أن الكون المادي ليس سوى معلومات و تدفقها تماماً كالحياة و العقل و الإنسان.

بالإضافة إلى ذلك , اللغة ذاتها مجموعة معلومات متوارثة. فمثلا ً , في اللغة العربية مصطلح " الإنسان " مُشتق من " ينسى " , و بذلك بالنسبة إلى اللغة العربية الإنسان هو الذي ينسى. لكن الذي ينسى هو الذي يفكر. هكذا تتضمن اللغة العربية معلومة متوارثة مفادها أن الإنسان هو الذي يفكر. من هنا , تحتوي اللغة العربية على معلومات متوارثة شبيهة بالجينات البيولوجية أي بالمعلومات المتوارثة في الجسد الحي التي على أساسها تتشكّل الأجساد الحية. فاللغة تتكوّن من جينات أي معلومات متوارثة. مثلا ً , اللغة العربية تتكوّن على ضوء جيناتها أي معلوماتها المتوارثة كمعلومة أن الإنسان هو الذي ينسى أو هو الذي يفكر. على أساس هذه المعلومة يتم اشتقاق " الإنسان " من " ينسى " فتتشكّل لغتنا العربية. مثل آخر على أن اللغة مجموعة معلومات متوارثة هو التالي : في اللغة العربية من الممكن اشتقاق مصطلح " العالَم " من مصطلح " العِلم ". و بذلك , بالنسبة إلى اللغة العربية , العالَم هو ما نعلم. من هنا تتضمن اللغة العربية معلومة متوارثة مفادها أن العالم هو ما نعلم و لذا اللغة العربية مجموعة معلومات متوارثة على أساسها تتشكّل العربية و يتشكّل العقل العربي الإسلامي. لكن بما أن الكون المادي يتكوّن من معلومات , و بما أن اللغة مجموعة معلومات متوارثة , إذن من الطبيعي أن تنشأ اللغة في عالمنا المادي. هكذا تفسِّر فلسفة الكون المعلوماتي لماذا نشأت اللغة و لماذا من الطبيعي وجود اللغة في عالمنا. و بذلك تكتسب فلسفة الكون المعلوماتي فضيلة معرفية أخرى ما يدعم مصداقيتها.

أخيرا ً , فلسفة الكون المعلوماتي تقدّم لغة جديدة بفضلها تنجح في حل العديد من المشاكل الفكرية و الفلسفية و العلمية. و هذه اللغة الجديدة تصف و تفسِّر الأشياء و الحقائق و الظواهر كافة على أنها معلومات و علاقات بين المعلومات. كون بلا معلومات كون بلا مضمون. و كون بلا مضمون كون بلا وجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة القميص بين المغرب والجزائر


.. شمال غزة إلى واجهة الحرب مجددا مع بدء عمليات إخلاء جديدة




.. غضب في تل أبيب من تسريب واشنطن بأن إسرائيل تقف وراء ضربة أصف


.. نائب الأمين العام للجهاد الإسلامي: بعد 200 يوم إسرائيل فشلت




.. قوات الاحتلال تتعمد منع مرابطين من دخول الأقصى