الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدمة في بنية التقديس العقلية اللاواعية

عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)

2014 / 6 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مقدمة في بنية التقديس العقلية اللاواعية
ألمقدس و اللغة واصالة العبودية
لم يكن الفيلسوف الالماني الشهير لودفيغ فيورباخ مبالغا عندما ظن ان تاريخ الانسانية هو تاريخ التبدلات الدينية ، فالنزوع البشري الجارف والضروري نحو ابتداع المقدس (وهو هنا في ابسط تعريف له التحريم و الابتعاد والتجنب والخلاص والرغبة ) وحرصه التاريخي الفائق على ديمومة عملية توليد ذلك المقدس وتجديده وإكسائه والصعود به الى مستويات تجريدية راقية من خلال الممارسات السحرية والطقوسية البسيطة أولا والمعقدة لاحقا ومن ثم الممارسات العقلية التأملية في مراحل أخرى ، إن هذا النزوع لم يكن نزوعا طارئا او مفتعلا او وقتيا إنما هو ناتج عن وجود بنية عقلية لا واعية ذات بعد تطوري بايو - تأريخي تضطلع بهذه المهمة بالغة الخطورة مهمة ابتداع المقدس لما لها من ارتباط حساس ووثيق ببقاء النوع البشري على قيد الوجود ، فالانسان مساق بحكم البنية اللاواعية لأن يتفقد شيئا أو قوة او انسانا آخر حيا أو ميتا ليعبده .
والبنيات العقلية اللاواعية التي كان لها الدور الحاسم في نجاة البشرية من الانقراض لم تكن إلا نتاجا للحتميات الطبيعية شأنها ككل الوجود الحيوي وذلك لكون الحياة بمجملها وظيفة من وظائف المادة الجامدة بالوصف المتألق لكلود ليفي شتراوس ، وهي تمثل في حقيقتها تشكيلات دماغية عمادها الذاكرة الراسخة المنبثقة عن تجارب اصيلة ومتكررة لزمن طويل ومنزوية بعمق تحت مستوى الوعي وكذلك خوارزمية سلوكية مميزة تلتقط مضامينها من التجربة الواقعية المعاشة ، وليس ثمة شك في ترابط مختلف تلك البنيات واقتران تطورها ببعض وبدرجة عالية من الحيوية لكن بنية التقديس بالذات ولدت في منطقة تتشابك عندها معظم البنيات اللاواعية حيث ترتبط معها بصلات وجود وإثراء متبادل .
ويختفي خلف عبارة التقديس معنى عميق مركب لتلك البنية وهو الاستعداد العبودي الناتج عن المشاعر المهتاجة المرتبطة بشكل مباشر بمتطلبات الحفاظ على البقاء الفردي وما يستتبعها من نظم تحريمية (تابو) وطقوسية إذلالية – تملقية لاحقة تنضج تدريجيا لتنتصب ايدلوجياً بصيغة أديان لا يمكن باية حال من الاحوال تصور المساس بافتراضاتها ، وهذا يؤكد أن سايكلوجيا العبودية اصيلة لدى الانسان وليست دخيلة على تطوره أو انها نتجت عن ظرف فرضه التطور الانتاجي - الاجتماعي وفق الفهم الماركسي . واستطرادا فذلك لا يعني بالطبع خلودها بل ان جذور بنية التقديس ذاتها ستتبدد وتقتلع وتتهاوى بناءاتها بفعل رسوخ الوعي وتعمق وضوحه وامتداده وتراكم المعرفة لديه واقترابها الشديد من الامساك بالحقائق عبر التطور العلمي الهائل في كل المجالات وبالتأكيد فلن يكون ثمة مقدس في مستقبل غير بعيد سوى الانسان وحده ومتطلبات مستقبله الكوني .
وتظهر جذور التقديس واضحة في منطقة المشاعر والانفعالات حيث ترتبط تلك المنطقة باشكال الحماية و نظم المحافظة على بقاء الفرد والنوع الغريزية ارتباطا جوهريا لكنها بعيدة عن مستوى الوعي تماما ومن الضروري هنا ملاحظة آثار التلازم بين النضال الفردي للبقاء وبين نجاح النوع في تحقيق ذلك من خلال تكوين الغريزة الجنسية ، يقول الفيلسوف الشهير آرثرشوبنهاور ( إن الغريزة الجنسية تمثل عبقرية النوع فهي تصنع من الفرد اداة لتنفيذ غاياتها ) ، ولا يمكن ان تعرَف العواطف والانفعالات باحتسابها افكارا فهي تسبق الافكار وبكلمات ادق فهي من نوع مختلف حيث أن الافكار بحاجة الى لغة على درجة كافية من النضوج بينما تقف العواطف والمشاعر في منطقة بعيدة عن اللغة وليس صحيحا ما ذهب اليه ديكارت وكذلك سبينوزا بوصفهما العواطف " افكارا غامضة غير وافية " ، كما ان وصف الرواقيين للعواطف كوقائع مرضية لم يكن موفقاً ، فالعواطف والانفعالات تنتمي الى مناطق الغرائز المنتجة للألم واللذة في الطبقة الثالثة من المخ التي تسمى النظام أو العقل الحوفي وتوجد في الثدييات عامة وهي تحيط بالطبقة السابقة التي تسمى بطبقة الزواحف ، ومن مهامها السيطرة على العواطف والتصرفات الاجتماعية بشكل رئيسي ، وعلى الشم ، واللذة والألم ، و الذكريات أيضاً ، وهي تطوير حساس و مهم للغاية لوسائل الدفاع والمحافظة على الفرد ، وكما قال ريبو " فان اللذة والالم مجرد نتائج علينا ان نسترشد بها عند البحث عن العلل المختبئة في نطاق الغرائز وعند تحديدها " فالانفعالات النفسية الحاصلة بصيغة ردود افعال مباشرة وسريعة لا يمكن ان يتضمنها الفكر المتأمل والحاصل في طبقة اللحاء من المخ ، يقول وليم جيمس " لا وجود لأية خامة عقلية مستقلة منفصلة يصنع منها الانفعال " ، لذلك ظل الموقف الانفعالي مؤقتا على الدوام ولا يشكل استمرارا عقليا او نفسيا فهو مرتبط بظرف واستثارة من نوع معين ويزول بزوالهما ، لكن شدة الانفعال وتكراره الزمني دفع نحو الانتقال الى ومضة عقلية طارئة هي الآخرى ولكنها متكررة بفعل اعادة التجربة ونقل تأثيراتها وراثيا ( والحديث عن النقل الوراثي يتم على مستوى الخلايا حتما وليس الكائن ككل إنما التغيير الحاصل في الخلايا سيظهر بشكل تغيرات عامة ) مما جعلها مهيأة لأن تتثبت وتندرج تدريجيا في سياق بنية عقلية لا واعية وهي بنية التقديس .
وليس من العسير البرهنة على ان الانسان البدائي في موقفه المذهول وهو يواجه المخاطر والتحديات الجسيمة التي يزخر بها واقعه حينذاك كان يعبر عن انفعاله باطلاق اصوات والقيام بحركات معينة ناشئة عن تقلصات وانبساطات لا ارادية ( ولم تكن تلك الاصوات سوى البدايات الجنينية لنشوء اللغة و الطقوس ) وتلك الاصوات لم تكن حروفا مطلقا فهي تنتمي حسب مصطلح ميشيل فوكوه المشتق توراتيا الى زمن ( ما قبل بابل ) حيث اللغة متحررة من الحروف القادرة على تصويرها شأنه شأن كل الحيوانات الآخرى التي كما قال الباحث يركس (R.X. Yerkes) (إن انفعالات الحيوانات الدنيا وتعابيرها المناظرة متعددة الى أبعد الحدود ) ، كذلك فإن العالم و الرحالة الشهير اتشارلس دارون في كتابه عن ( التعبير عن الانفعالات عند البشر والحيوانات ) يقول ( إن لواقعة التعبير اساسا بيولوجيا واسعا فهي ليست مقصورة على الانسان وحده ) ، فالحيوانات تتوفر لديها القدرة على التفرقة بين أنواع المنبهات والتحديات والتهديدات وإلا لم يكن بمقدورها أن تعيش وتستمر في الوجود لو انها فقدت القدرة على التمييز بين ما ينفعها وبين ما يضرها وتلك القدرة منبعثة أولا عن الحساسية السايتوبلازمية ومن ثم نشاط الطبقة المخية الثالثة المشتركة بين البشر وعموم الثدييات ، لكن ما ميز الكائن البشري عن سائر المنتجات الطبعية الحية امتلاكه لقدرة توريثية مرهفة تستطيع التقاط التجارب ذات التأثير المتصل بالبقاء ومجمل تجاربه الانفعالية الاخرى لتنقلها بيسر وامانة وفعالية الى الاجيال اللاحقة بصيغة استعدادات عقلية لاواعية أثبت و أطول عمرا بينما لم تمتلك الكائنات الاخرى تلك الميزة الخطيرة بنفس الكفاءة والقدرة مما أدى الى انقراض أنواع كثيرة منها ومنع من تطور ادمغتها الى المرحلة الرابعة المتطورة ، وعلى العموم و كما قال الباحث الكبير آرنست كاسيرر ( فالكائن العضوي له ذاكرة تحتفظ ببعض تأثيرات صحية أو مرضية وتوجد على نفس النحو صورة لا واعية ذاتية هي الحساسية العضوية التي تمثل اساسا للوعي الانفعالي بمراتبه العليا ) .
ورغم الاعتقاد السائد بان ظهور المقدس يسبق نشاة الطقوس عند التفكير بهما للوهلة الاولى وهذا ما ذهب اليه العديد من العلماء لكن التدقيق والدراسة المعمقة يدلل على انهما مترافقان وثمة اسبقية نسبية للطقس على المقدس بالظهور ، فالطقس الذي كان في الاصل صوتا و حركة بسيطتين نفذهما فرد او جماعة هلعة للتعبير عن انفعال ما سواء كان رغبة او ميلا او خوفا تطور بتطور الموقف العقلي نحو التقديس وراح ينمو ويتعقد ليكون اكثر تعبيرا عن سيرورة البيئة النفسية للفرد وبتلازم ضروري للجماعة البشرية و يساعد مع عناصر أخرى عديدة على انضاج المقدس شكلا ومضمونا بنقل أجزاء خطيرة منه الى حيز الوعي والتأمل .
لقد وجد الانسان المنفعل بمفاجأة ما أو المصدوم برهبة ما أو المتطلع لتحقيق رغبة ما والمحكوم بذاكرة محدودة خابية وقدرات مكبلة اقرب الى العجز بكل انفعالاته مصدرا لتقديس ما يواجهه ولفترة لا تزيد عن زمن صدمته او رهبته ومن ثم ليختفي ذلك المقدس من ذاكرته الى أن تتاح له مواجهة اخرى وفق ذات المقاييس ، وهكذا جرت الامور لزمن طويل من عمر تكون البنية اللاواعية للتقديس ، ويمكن وصف هذه المرحلة وفق مصطلحات سيغموند فرويد بأنها مرحلة تشكل العصاب ( Neurosis ) حيث كانت ضرورية للغاية من اجل تقدم الوعي الانساني واكتمال بنائه ، يقول فرويد في كتابه مستقبل وهم ( ان الطفل الانساني لا ينجح في التقدم الى المرحلة المتحضرة ما لم يمر بمرحلة العصاب ) وهذا الطور في مسيرة بنية التقديس اطلق عليه أوسنر طور توليد الالهة المؤقتة وهو يراه مقدمة لمرحلة اخرى أكثر تطورا حيث ارتبطت الآلهة في الذهن البشري النامي بنشاطات معينة واطلق عليها تسمية مرحلة الآلهة الوظيفية ، وهذا الطور بمرحلتيه هو الأصل في مفاهيم التقديس على خلاف ما ذهب اليه العالم كودرنغتن الذي رأى ان جذر الديانة الميلانيزية الاسترالية يكمن في مفهوم " القوة الغيبية " الذي يتخلل الاشياء والاحداث كلها سواء كانت موضوعات او اشخاص إذ من الواضح ان مثل هذا المفهوم التجريدي ينتمي لمرحلة متقدمة ، ومفهوم الاله المؤقت الانفعالي هو طور اقدم بكثير من فكرة القوة التأملية العقلية و يتكون فيه محتوى متهيج معين يتضمن تقديس (أي الامتناع المنفعل أو الاقبال المنفعل المصحوبان بطقس عابر) حالة طارئة و مؤقتة سواء كانت كائنا او ظاهرة تبعث شعورا عنيفا سرعان ما يختفي باختفاء الشعور المتأجج الباعث ، وقد بين أوسنر ومن خلال أمثلة عديدة في الادب الأغريقي أن هذا الطور كان مستمرا حتى في الفترة الكلاسيكية ، فكل ما يبهج أو يحزن او يقمع هو كائن إلهي مؤقت يظهر ويختفي كما المشاعر تماما عندما تصعد وتسيطر بقوة ثم تخبو حتى تتلاشى ، إن بنية التقديس اللاواعية تضمنت في هذه المرحلة اشكالا من التحريمات و التصويتات والطقوس غاية في البساطة وفي متناول الجميع وبصيغ يشترك بها الجميع .
إن تجربة الآلهة المؤقتة المرتبطة بالمشاعر المتأججة ظرفيا وبشكل متكرر ترسبت عصبيا في عمق دماغ الانسان بصيغة استعداد تقديسي يمكن أن يملآ بأي مضمون أو مقدس واستنادا للتجربة الفعلية المعاشة وسط بيئة معينة ، ومن البداهة القول إن كل ذلك تم لدى الناجين من المواجهات أو الفائزين بها أما من خسروا تجربتهم فقد ذهبوا وللأسف سدى ، ومن الطبيعي فإن منظومة التوريث لدى البشر وغيره تسمح بنقل التجارب الناجحة حسب أما التجارب الفاشلة فتموت حتما مع اصحابها وهذا ما عبر عنه دارون بصيغة البقاء للأصلح ، وعملية الترسب العصبي تلك وفي كل المجالات هي التي وقفت دوما وراء التطور الحثيث في نمو الدماغ و تمدد حجمه وتعدد طبقاته وفي توليد الشبكات العصبية الجديدة بفعل المنقول الوراثي ، إن إضافة خلية جديدة لعضو موجود بفعل الحاجة والتهديدات إنما هو عمل ابداعي جبار تطور الدماغ بموجبه و بسبب وتحكم من مباشر من الابنية العقلية اللاواعية .
لقد بلغت بنية التقديس اللاواعية في نهايات هذا الطور مستوى اهلها لأن تشكل نظاما راسخا جديدا للتقديس تثبت فيه نماذجا محددة من المقدسات والطقوس وطبقا لقاعدة دارون ذاتها في اطار ما اصطلح على تسميته بالمرحلة الطوطمية حيث تمكنت الاجيال المتعاقبة من الحصول وراثيا على استعداد عقلي تقديسي لا واعي محدد بنمط بنية عقلية لاواعية تطورت عبر آلاف السنين وبتلازم تام وتأثير فعال متبادل مع بنية عقلية لا واعية اخرى وهي بنية اللغة . ان العلاقة بين اللغة كبنية لا واعية وبين بنية التقديس اللاواعية هي علاقة اصيلة صميمية ووجودية لكلا الكيانين فقد كان من المستحيل الاحتفاظ بأي استعداد بنيوي تقديسي من دون ولادة الاستعداد البنيوي اللغوي ، واللغة هنا تشمل الصوت والحركة حتما ، اي الطقس ذاته ، فاللغة ولدت أصلا كطقس وتطورت وفق هذا المنحى ومهما اختلفت وتغيرت مضامين بنية التقديس فإن اللغة ستبقى تحمل بثبات السمات الاساسية الاولى للبنيتين بسبب كونها منتج منقول عبر الذاكرة الاجتماعية ، وفي اطار هذا الفهم يقول العالم الفرنسي دوتيه ( douted ) في كتابه السحر والدين في شمال افريقيا ( بينما تتغير المعتقدات فإن الطقوس تظل سائدة مستمرة مثل الحيوانات الرخوية التي تساعدنا في تحديد العصور الجيولوجية ) .
ان صعود انفعال ما بكائن أو بظاهرة طارئة سيترافق مع ولادة صوت وحركة هما ( دلالة ) ذلك الكائن ورمزه الذي سيكون دائميا مع تكرار التجربة ومن دون هذا الرمز – الاسم لن يتمكن الانسان من الاحتفاظ بأية ذاكرة وكذلك لن يستطيع القيام باي عمل عقلي تأملي راقي ، ويتوجب التنويه الى أن الدلالة غير المفهوم رغم اقترابهما ، فقدرة المفهوم لا متناهية بينما قدرة الدلالة متناهية ومحدودة كما بين ذلك شتراوس في كتابه ( الفكر البري ) وأضاف موضحا ان الدلالة هي وسيط يقع بين التصور والادراك وهي ما يصح تحديده استنادا الى طريقة دي سوسور في تحليله لفئة الدلالات الألسنية كصلة بين الصورة والمفهوم تلعب في اطار اتحادهما وعلى التوالي دور الدال والمدلول ، يقول ارنست كاسيرر ( قبل الشروع بالعمل العقلي في ادراك الظواهر وفهمها لابد ان يكون عمل التسمية قد سبقه وتوصل الى نقطة امتداد معينة لأن هذه العملية هي التي تحول عالم الانطباعات الحسية الذي تملكه الحيوانات الى عالم عقلي اي عالم من الافكار والمعاني ) .
كان منطلق اللغة في رسم المعاني هو سلسلة المناظرات والتشبيهات والاستعارات الصوتية والحركية لكن العقل البدائي غير القادر على ادراك تلك المقارنات المجازية عدها حقائق قائمة وراح يتبعها في سلوكه وتفكيره ونتيجة لتراكم تلك العمليات العقلية فقد كثرت المترادفات وأدى ذلك الى ظهور وفرة من التركيبات الصوتية الدالة على ذات الشيء أو الظاهرة وذلك ادى الى الجناس الذي رآه كاسيرر نقطة ضعف اللغة التي تمثل اصل ظهور افكار الالهة الخارقة ومن ثم ولادة الاساطير ، و الانسان البدائي الذي وقع اسيرا للتشبيهات وقوة الاستعارة و مارس طقوسه وردد الاصوات والكلمات المرافقة من غير أن يتامل أو يفكر إنما هو يخضع تماما لمشاعره المستعرة التي تتصل ببقائه واستمراره واشباع حاجاته ومتطلباته الغريزية .
إن ارتواء بنية التقديس العقلية اللاواعية بمضامين طور الطوطمية حصل بذات الوقت الذي اصيبت فيه العائلة البدائية بنكسة جسيمة شكلت هزة عنيفة جديدة تمثلت بمقتل الاب المتكرر على يد الابناء الثائرين وما نتج عن ذلك من رضات نفسية شديدة أثرت على مستقبل البشرية وعلى بنيتي اللغة و التقديس بالذات وغيرت من معالمهما ، وهذا مثل منطلقا لولادة مؤثر اجتماعي جديد و خطير ساهم بقوة في اغناء بنية التقديس وهو الفعل الطبقي وغدت سايكلوجيا التقديس مشدودة بقوة نحو قطبي الموت والطبقة .
وقد تشبعت بنية التقديس بذكرى ذلك الاب المقتول وما تلى ذلك الحادث المروع المتكرر من سلسلة صراعات دموية عنيفة هددت الوجود العائلي واجبرته على انتاج سلسلة طويلة جديدة من التحريمات والانظمة وتبنت طوطم الاب و ألهته عبر سياقات متصلة من الطقوس و الاناشيد حتى تراكمت عبر الزمن لتفرض اساطيرا وميثولوجيا ثرية مستندة الى تطور اللغة وتراكم مفرداتها وتنوع استعاراتها ، ومما ساهم بهذه المسيرة الطويلة حقيقة أن الذاكرة والاستعداد العقلي هما موضوعان اجتماعيان بقدر كونهما فرديين حيث أن مبدأ الاستمرارية وادامة الطقوس واللغة تتم على المستويين الفردي والاجتماعي معا .
إن الاستعداد العقلي التقديسي متمثلا ببنية التقديس اللاواعية والذي بات في هذه المرحلة قادرا على تمثل الالهة المؤقتة ومن ثم الطواطم وطيف واسع للغاية من الاشياء والكائنات وحتى البشر الآخرين من الاموات أوالاحياء ( حيث وجدت عبادة الاسلاف التي عدها هربرت سبنسر أصل كل الاديان ) وعبر الزمن وبتطور الدماغ ونمو الذاكرة و ثباتها وبحضور الوعي و تركيزه اصبح مفهوما ان ما يواجه الانسان الفرد من مخاطر إنما يتركز بشكل كامل في معضلة الموت الفردي ، وليس تطرفا القول أن تاريخ الوعي البشري هو في حقيقته فعاليات الرفض الدائم العميق لمأساة الموت ، ووعي الموت ألقى الانسان في أتون صراعات مادية وفكرية تزخر بافتراضات حلول سرعان ما تصطدم بالحقيقة المرة المستمرة والمتمثلة في نهاية الافراد وانعدام القدرة على تلبية متطلبات غريزة البقاء ولعل ما جاء في سفر الجامعة من التوراة نموذجا بينا يحمل التوجع الحزين الذي تردد صداه بين كلمات جلجامش امام جسد انكيدو الميت ( لأن ما يحدث لبني البشر هو يحدث للبهيمة وللفريقين حادثة واحدة ، كما تموت هي هو يموت وللكليهما روح واحد فليس للإنسان فضل على البهيمة لأن كليهما باطل ، كلاهما يذهبان الى مكان واحد ، كلاهما من التراب وكلاهما يهودان الى التراب ) .
إن وعي الموت كحدث قاتم خطير كان نقطة انقلاب كبرى في التركيب العقلي الانساني برمته سواء الجانب اللاواعي منه أوالواعي ، ودارت معظم الطقوس حول هذه المعضلة الكبرى المستعصية على الحل المادي ، ووجد مفهوم المزدوج المادي الروحي طريقه الى العقل الانساني وهو مصروع بخوفه وعجزه معا ازاء الجسد االميت ثم ازاء الموت كحدث غامض مخيف ، يذكر كلود ليفي شتراوس أن طقوس هنود الفوكس (وهم قبيلة بدائية في امريكا) متمحورة حول هاجس اساسي وهو التخلص من الاموات والحيلولة دون انتقامهم من الاحياء لما يشعرون به من الم الفراق وهم يمارسون انماطا من الالعاب لا يمكن أن تفهم إلا كطقس خلال احنفالات التبني التي تهدف الى استبدال القريب الميت بشخص حي واتاحة الفرصة امام روحه للرحيل النهائي . إن طقوس الخوف من الموت والموتى تطورت لتصبح العابا حيث ينقسم المجتمع البدائي الى فريقين يمثل أحدهما الموتى والذين سينتصرون في كل الاحوال فيما يخسر فريق الاحياء دوما في محاولة لبث الفرح والرضا في ارواح الموتى كي لايؤذوا احدا من القبيلة ، وجذر كل الالعاب التي يمارسها الانسان اليوم هوذلك الطقس القديم الذي ادامته المجتمعات البشرية بفعل بنية التقديس ذاتها ، وحتى الولادة نظر اليها الوعي البدائي من زاوية الموت ايضا ، فالبدائيون لم يفهموها كناتج للعملية الجنسية إنما وضعوها في قالب اسطوري لاطبيعي ، يذكر ارنست كاسيرر أن قبيلة الأرونتا الاسترالية تزعم أن أرواح الموتى الذين ينتمون الى نفس الطوطم ينتظرون إعادة ولادتهم في مواقع معينة ثم ينفذون الى أجساد النساء اللائي يصادف مرورهن في تلك البقعة فيحملن اطفالا بتلك الارواح ، وتفسر بنية التقديس اللاواعية غرابة أن تستمر هذه الفكرة وشبيهاتها في ديانات مجتمعات متقدمة الى حد اليوم ، فتلك التجربة القديمة ما زالت موجودة بصيغة ذكريات مطمورة واستعداد تقدسي قائم ، وحتى في مجتمعاتنا فما زالت جهود ارضاء أرواح الموتى قائمة وبشتى الصيغ والمسوغات بدءاً من اقامة الولائم وانتهاءا بالزيارات المتكررة للقبور وفي مناسبات بعينها .
ولعل المزدوج المادي الروحي هو المنتج الأكثر ثراءا وعطاءا الذي هيأت لابتداعه بنية التقديس العقلية اللاواعية ، فبعد أن تمكنت هذه البنية من مد جذورها والتقاط موضوعاتها من مستوى الوعي الحاصل في طبقة اللحاء الدماغية الناشئة والنامية باضطراد وليس فقط من مناطق الغرائز والعواطف أخذت بالتوسع والتعمق السريعين وقدمت اسسا لحلول افتراضية تمكن الفرد البشري من استيعاب نمو وعيه ومواجهته للحقائق غير القابلة للتفسير أو التغيير ، و لعبت ظاهرة الاحلام ( والتي هي وعي بدائي بمستوى وعي الحيوانات ومسيطر عليه تماما بالبنى اللاوعية ) المتكونة في طبقات اللاوعي والمتصلة جدليا ببنية التقديس اللاواعية دورا خطيرا في دفع العقل البشري في مستواه المتطور لاختراع فكرة ذلك المزدوج المهم الذي ساهم بحل الكثير من التعقيدات ، فقد كان الانسان البدائي يعامل الحلم بواقعية كاملة ويعده امتدادا طبيعيا لأحداث ووقائع يومه ( وهذا ناتج عن قربه الزمني من مرحلة تحكم الحلم بحياته انطلاقا من كونه وعيه المتاح ) ، وقد لاحظ الانتروبولوجي البريطاني إيم تورن في دراسته عن الهنود الحمر البدائيين في غويانا عام 1884 إيمانهم بأن صور الناس التي يرونها في أحلامهم هي عبارة عن نفوس أو ارواح قد تركت الجسد لمدة من الزمن وعليه يعتبر الشخص الواقعي مسؤولا عن جميع الافعال التي رآها النائم في حلمه .
إن المزدوج المادي – الروحي شكل اساسا قويا لولادة الافكار التقديسية اللاحقة ولعل اروع ما استطاع انجازه هو الارتقاء بقدرة الانسان العقلية لمواجهة الاخطار والمخاوف وعدم الهروب منها كذلك فقد بث الطمأنينة في النفس البشرية بتجاوز ألم الموت عبر التبشير بعالم آخر بعد الموت يبعث فيه الانسان في حياة أخرى نظيرة للحياة الدنيوية وتمتاز عليها بخلودها وهي الرغبة الدفينة الأغلى التي سعت بنية التقديس لتحقيقها ولو في مجال الفكر حسب الى ان تتم تلبيها واقعيا ، ومتابعة كتاب الاموات المصري القديم يظهر بشكل ساطع مدى تطلع البشر الى عالم ما بعد الموت ويبين اسلوب معالجة قضية الموت والخلود ، ويصف سيغموند فرويد هذا المشهد السايكلوجي بدقة عندما يقول ( إذا لم يكن الموت نفسه أمرا عفويا وإنما قعل صادر عن ارادة جبارة وإذا كنا نحن أنفسنا محاطين في كل مكان من الطبيعة بكائنات تضارع وتشبه الآدميين الذين يحيطون بنا فإننا نتنفس الصعداء عندئذ ونشعر وكاننا في بيوتنا وإن كنا نعيش في جوف الميتافيزيقا ) .
إن بنية التقديس اللاواعية تحكمت بالانسان البدائي وما زالت تتحكم بأفراد من مجتمعات كثيرة لم تكن فاعلة في موضوع التطور العلمي و العقلي الشامل الذي انجزته الانسانية والذي ساهم بتخفيف سطوة هذه البنية ، وكان من نتائج فعلها مع ترابطها ببنية اللغة ذلك الكم الهائل من المعالجات الاسطورية والسحرية حيث كانت تلك المعالجات احكمت أسارها للعقل الانساني وبات مؤمنا بها بشكل قاطع ، وبلغ من تحكم بنية التقديس اللاواعية بالكائن البشري انها تؤثر في كل مناطق الدماغ اللاواعية في حالات معينة مثل تجاوز المحرمات الامر الذي يؤدي الى اضطرابات فسلجية قد تنتهي في حالات كثيرة بما يعرف طبيا بالموت الودوني ( voodoo death ) ، يقول الدكتور هربرت بنسن أن أي خرق للحواجز والمحرمات يحتم الموت على المنتهك متى ما اصبح واعيا لما اقترف ، إنها قوة هائلة لهذه البنية في التأثير والتحكم ، ويذكر الدكتور بنسن حادثة وقعت لشاب افريقي زار صديقا له فحضر له طبقا من افراخ الدجاج والتي هي محرمة في عقيدته فأكلها دون ان يعلم وبعد سنة من ذلك اليوم سأله الصديق إن كان مازال يحرم أكل افراخ الدجاج فقال نعم لم افعل قط فهي محرمة وعندما علم انه أكلها قبل عام ذعر واصابه هلع شديد ومات بعد قليل . وفي تفسيره لحالة الموت المفاجيء تلك يقول الدكتور بنسن انها بسبب اضطراب في وظيفة القلب حيث يتوقف دوران الدم ويخفق في وظيفته ، وحيث أن حركة القلب ناتجة عن بنية غير واعية فإن تأثير بنية التقديس اللاواعية عليها سيكون حاسما وسيؤدي الى اختلالها و الى فوضى في الاشارات الكهربائية المتحكمة بالقلب لينتهي الى التوقف المفاجيء .
لقد مارست هذه البنية دورا حاسما في ديمومة البشرية وساعدت على تحقيق اهدافا إنسانية كبرى وستبقى تمارس هذا الدور المؤثر من محلها المستتر الخطير .
عباس يونس العنزي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص