الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الكواكبي.. ومعضلة الثورات العربية

سمير الحمادي

2014 / 6 / 29
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


ونحن نتابع في ترقب وقلق تطورات الثورات العربية التي كسرت حواجز التوقع، واستطاعت أن تُسقط بقفزة واحدة أربعة من أنظمة الاستبداد العتيدة في المنطقة، يبرز كتاب في منتهى الأهمية والجرأة لا يمكن تجاهله أو تجاوزه في هذه اللحظة الفارقة والخارجة عن المألوف في مسار التاريخ العربي: كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" (1902) لصاحبه المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي (1849 ــ 1902)، الذي قدم فيه أهم محاضرة في نقد الاستبداد وتشريح أصوله عرفها الفكر العربي الحديث والمعاصر (مع الإشارة إلى أن الكواكبي اقتبس واستلهم كثيراً من أفكاره من كتاب الشاعر الإيطالي فيتوريو ألفيري "في الاستبداد" الصادر في العام 1777، وهو كتاب حاز شهرة واسعة في أوربا في القرن التاسع عشر، وترجم إلى أكثر من لغة ليس من بينها العربية.. للأسف).

في هذا الكتاب المرجعي (هو في الأصل مجموعة مقالات كان الكواكبي قد نشرها في صحيفة "المؤيد" المصرية في العام 1901، ثم صدرت في كتاب من تسعة فصول، هي: "ما هو الاستبداد؟"، "الاستبداد والدين"، "الاستبداد والعلم"، "الاستبداد والمجد"، "الاستبداد والمال"، "الاستبداد والأخلاق"، "الاستبداد والتربية"، "الاستبداد والترقي"، "الاستبداد والتخلص منه")، يفتح الكواكبي النار، بجسارة قلَّ نظيرها، وبتحرر فكري متميز، وبلغة ثائرة هادرة، على الاستبداد في أدق المفاصل التي تشكل عوالمه، بما هو المسئول الأول، الأساسي، الحاسم، والنهائي، عن حالة "الفوات التاريخي" التي تعيشها المجتمعات العربية ــ الإسلامية اليوم ("الفوات التاريخي" مصطلح متأخر صكه ياسين الحافظ في سبعينيات القرن الماضي للدلالة على أن "الشعوب التي تعيش حالة الفوات هي التي يشكل وجودها في عصر معين ضرباُ من غلطة تاريخية أو مفارقة تاريخية، باعتبار أنها تعيش في مرحلة تخطتها شعوب أخرى".. كُتاب آخرون يستخدمون مصطلح "الانسداد التاريخي" بالمعنى نفسه تقريباً)، ويتضح هذا من نوعية الأسئلة الدقيقة والحارقة التي يطرحها ويناقشها بوعي واقتدار يُحسد عليهما: ما هو الاستبداد؟ ما سببه؟ ما أعراضه؟ ما إنذاره؟ ما دواؤه؟ ما هي طبائعه؟ لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعية المستبد؟ ما تأثير الاستبداد على الدين؟ على العلم؟ على المجد؟ على المال؟ على الأخلاق؟ على الترقي؟ على التربية؟ على العمران؟ من هم أعوان المستبد؟ هل يُتحمل الاستبداد؟ بماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟

النقطة المهمة جداً في الكتاب (والكتاب مهم في الجملة)، التي نتوقف عندها هنا، لما لها من ارتباط مباشر بالسياق (الثوري) العربي الراهن، هي حديث الكواكبي عن "قواعد رفع الاستبداد" (في فصل "الاستبداد والتخلص منه")، والتي يحددها في ثلاث قواعد:

ــ الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.

ــ الاستبداد لا يقاوَم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج.

ــ يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدل به الاستبداد.

يقول: "يلزم أولاً تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية السياسية المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها، والأولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين بل عشرات السنين حتى ينضج تماماً، وحتى يحصل ظهور التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمني في الطبقات السفلى. والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر، فيأخذ بالتحذر الشديد والتنكيل بالمجاهدين، فيكثر الضجيج، فيزيغ المستبد ويتكالب، فحينئذ إما أن تغتنم الفرصة دولة أخرى فتستولي على البلاد، وتجدد الأسر على العباد بقليل من التعب، فتدخل الأمة في دور آخر من الرق المنحوس... وإما أن يساعد الحظ بعدم وجود طامع أجنبي، وتكون الأمة قد تأهلت للقيام بأن تحكم نفسها بنفسها، وفي هذه الحال يمكن لعقلاء الأمة أن يكلفوا المستبد ذاته لترك أصول الاستبداد، واتباع القانون الأساسي الذي تطلبه الأمة، والمستبد الخائر القوى لا يسعه عند ذلك إلا الإجابة طوعاً، وهذا أفضل ما يصادف، وإن أصر المستبد على القوة، قضوا بالزوال على دولته، وأصبح كل منهم راعياً وكل منهم مسئولاً عن رعيته، وأضحوا امنين، لا يطمع فيهم طامع، ولا يغلبون عن قلة، كما هو شأن كل الأمم التي تحيا حياة كاملة حقيقية".

بيد أن تحقيق هذه الحياة الكاملة الحقيقية دونه شرط أساسي وجوهري يحرص الكواكبي على استحضاره بشدة: "من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يراد ويمكن أن يُستبدل بها الاستبداد، وليس هذا بالأمر الهين الذي تكفيه فكرة ساعات، أو فطنة آحاد، وليس هو بأهل من ترتيب المقاومة والمغالبة. وهذا الاستعداد الفكري النظري لا يجوز أن يكون مقصوراً على الخواص، بل لا بد من تعميمه، وعلى حسب الإمكان، ليكون بعيداً عن الغايات ومعضوداً بقبول الرأي العام... (ذلك أن) الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأما التي تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئاً، لأن الثورة غالباً تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً".

لنركز هنا على العبارة / الفقرة الأخيرة التي تشرح معنى القاعدة الثالثة (يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدل به الاستبداد)، باعتبارها العبارة التي تلخص جوهر وأساس كل الغموض والالتباس والتعقيد الذي تواجهه مجتمعات "الربيع العربي" اليوم، في هذه المرحلة المشحونة والمتوترة التي تشهد استقطابات وصراعات أيديولوجية وسياسية حادة أفسحت المجال لبروز / تصاعد مظاهر ومستويات الانفلات والفوضى والمواجهات ومحاولات الارتداد إلى حالة السلطوية من جديد (سلطوية الإسلام السياسي والعسكر). ذلك أن المسلم به في مختلف التحليلات التي تتابع تفاعلات الزمن الثوري العربي الراهن أن غياب البديل (الديمقراطي) عند الثوار هو الذي أدى إلى "إخفاق" الثورات العربية (مع التحفظ على هذه الكلمة: "إخفاق" لأنه من المبكر جداً الجزم بهذا المصير) بعد أن نجحت، في مرحلتها الأولى، في إطاحة حكم أربعة مستبدين دفعة واحدة.

فالثوار الذين "خرجوا" في تونس ومصر وليبيا واليمن لإسقاط بن علي ومبارك والقذافي وصالح لم يحملوا معهم وقت "خروجهم" تصوراً واقعياً لمرحلة ما بعد لحظة "الخروج" (نستخدم هنا مصطلح "الخروج" بحسب التحديد / الاشتقاق الذي قدمه عزمي بشارة في كتابه: "في الثورة والقابلية للثورة"، 2011). "خرجوا" فقط بإرادتهم الصلبة المفتوحة وأحلامهم العارية الجامحة، ولم يفكروا في كيفية التفاعل مع ما ينتظرهم في المستقبل من تحديات وصعوبات وإكراهات واقعية، كان التحرر وكانت الديمقراطية محركهم الأساسي، هم الذين مدوا رقابهم طويلاً لسلاسل الاستبداد، وكانت لديهم أفكار وقناعات مثالية في هذا الإطار، لكن دون رؤية واضحة ومحددة قادرة على قراءة الواقع في حركة تحولاته وتقلباته وتفعيل / تنزيل هذه الأفكار والقناعات على الوجه المطلوب ديمقراطياً، لم يهتموا بالإعداد والترتيب للمستقبل الذي هو أهم ما في الموضوع، والهدف الذي تقوم من أجله الثورات كلها، لذلك تتراءى الصورة اليوم في مجتمعات الثورة دراماتيكية ومشوشة، خاصة بعد أن "اختطف" الإسلاميون جهد وعرق الثوار الحقيقيين وصعدوا إلى الحكم على حساب أحلامهم (قبل أن تتم إطاحتهم هم أيضاً).

إن غياب الرؤية البَعْدية لدى الثوار هو العامل / المحدد الأساسي الذي أفسد هذه اللحظة الخاصة جدا من التاريخ العربي، وجردها من كثير من عناصر توهجها وفرادتها، وجعلها تبدو بهذا الشكل الغائم والمبهم في يومياتها، وعلى هذه الدرجة من الهشاشة والسوء في تفاصيلها.. هو الذي يصوغ اليوم معادلات الارتباك ويؤثث فضاءات الفوضى في عملية "الانتقال الديمقراطي" في مجتمعات الثورة التي يحاول الفاعلون من قوى "الثورة المضادة" التحكم في مجرياتها / مساراتها والتلاعب بقواعدها / اشتراطاتها لتحريفها عن خطها الطبيعي وتحويلها إلى مجرد لحظة "انتقال سلطوي" تكفل لهم إعادة بناء أنظمة استبدادية جديدة تكون على مقاس اختياراتهم مصالحهم السياسية والاقتصادية الخاصة.

إن الفاعلين الذين يؤدون اليوم الأدوار الأساسية على منصة السياسة في العالم العربي ما كان لهم أن يفكروا في الوصول إلى هذا الوضع المتقدم، حتى في أضغاث أحلامهم، ويقلبوا الطاولة على الجميع لو كان للثوار منذ البداية رؤية / إستراتيجية واقعية لإدارة الشأن العام في مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة التي ثاروا عليها ثم أطاحوها بكل سهولة، ما كان لهم أن يتسلموا مفاتيح القرار ويؤكدوا حضورهم في معادلة السلطة بهذا الشكل المكثف والضاغط لو لم ينسحب أصحاب الحق من المشهد في بداية العرض مخلفين وراءهم مساحات واسعة من الفراغ.

إن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وانتقال الإسلاميين (على سبيل المثال) من الهامش إلى السلطة في هذا المنعطف التاريخي الصعب هو فقط تأكيدٌ عملي لهذه الحقيقة العلمية البسيطة التي نعرفها جميعاً.. من هذا المنطلق يجب أن ننظر إلى المشكلة، وعلى هذا الأساس يجب أن نبدأ في البحث عن مخرج لاسترداد الحلم الثوري الذي بات اليوم أشبه بكابوس ثقيل يجثم على أنفاس أوطان وشعوب كل ما تطلبه أن تتحرر من عبودية الحكام وتعيش حياة طبيعية.. خارج أسوار الاستبداد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي