الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قانونيّة القرآن ... بالقرآن (1)

ناصر بن رجب

2014 / 7 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


(أو كيف يُقدِّس القرآن نفسه ... بنفسه؟)

Canonisation du Coran… par le Coran ?
Anne-Sylvie Boisliveau
Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée,
« É-;-criture de l’histoire et processus de canonisation dans les premiers siècles de l’islam »
N° 129, juillet 2011, p. 153-168

تأليف: آن سيلفي بواليفو
ترجمة وإعداد: ناصر بن رجب

ملخّص
إنّ قانونيّة القرآن (أي الاعتراف بالقرآن ككتاب مقدّس) لها ميزة تختصّ بها عن غيرها (من النصوص المقدسة الأخرى) من حيث أنّها مُعلَنة داخل النّص القرآني نفسه. فدراسة الصيغة التي جاء فيها هذا الإعلان تكشف لنا عن بَرْهَنة قوّية جدّا تُضفي على التِّلاوات المحمّدية سلطة قرآنيّة. كيف تتناسق هذه البرهنة، ذات المظهر الموحَّد، مع الحقيقة التاريخيّة للمسار الذي سلكته الجماعة الإسلامية لإضفاء الطابع المُقدَّس على القرآن، وخصوصا في ضوء فرضيّات المستشرقيْن جون ونسبرو وألفريد-لويس دي بريمار؟ ونحن إذ نميِّز بين عمليّة تثبيت النّص النهائي وبين الإعتراف بسلطة النّص باعتبارهما المكوِّنين لهذا المسار، فإنّنا نفترض تطوُّرًا غير متوازي لهذين العنصرين: إنّ التعبير عن سلطة النصوص المحمّدية يكون قد سبق فِعْليَّة هذه السلطة، التي هي بدورها قد تكون سبقت مسار تثبيت النّص. وهذا التعبير داخل النّص لا يكون نتيجةً لهذه القانونيّة ولكن سبَبًا لها.

القانونيّة ودرجة السلطة
القانونيّة تعني الإعتراف من طرف جماعة بالسّلطة المقدّسة لنصّ مُثبَّت. فالمسار الذي تتخذه القانونيّة هو إذن مسار اختيار مجموعة من النصوص، وهذا المسار هو الذي يتضمّن أيضا تثبيت هذه النصوص. كما أنّه أيضا مسار يقود هذه الجماعة إلى اليقين بأنّ هذا النّص يمتلك سلطة دينيّة أو قُدسيّة.
لقد تناولتْ دراسة حديثة ومهمّة جدّا عن مفهوم "القانون" في اليهوديّة مَبدءًا من مبادئ الفلسفة التحليليّة يُسمّى "مبدأ المحَبَّة". حسب هذا المبدأ، كُلَّما زاد تقديرنا أكثر لشخص مَّا، كلّما زاد تساهُلُنا معه أكثر، أي "تَسَامُحُنا" معه، حول ما تعنيه أقواله: وهكذا، عندما يكتب أحدُ المقرّبين منّا جملة مُضطربة بلا معنى فإنّنا نُصوِّب المعنى ونقول: "لقد كان يريد أن يقول كذا وكذا"، ونُضيف "ما عبّر عنه، له بالتأكيد معنى". وهذا الشيء ينطبق أيضا على الطريقة التي تأخذ بها جماعة بعين الإعتبار الأقوال التي تعتقد بأنّها إلهيّة: فعندما لا نفهم مقطعًا من الكتابات المقدّسة، فإنّنا نعتقد أنّنا لسنا في مستوى إدراك السّر الكامن فيها، لأنّ الإله بالضرورة لا يمكنه إلاّ التصريح بأشياء منطقيّة وحسنة. بهذه الطريقة كذلك تفكّر جماعةٌ مّا إزاء كِتَابها المقدّس. وهذا ما لاحظه دانيال ماديغين حين يقول بأنّ: تماسك النّص هو افتراض تفترضه الجماعة وتضطلع به. من جهة أخرى، استعمل ج. براون أيضا هذا المفهوم في دراسته الحديثة عن قانونيّة صِحاح السُّنة. وبناءً على هذا، فإنّ درجة القانونيّة "تُقاس" بدرجة "المحبّة" والتعاطف التي نكِنُّها لها.

لنوسِّع قياسَ هذه القوّة القانونيّة لنصّ مّا إلى درجة السّلطة التي نمنحها له. إنّ درجة السلطة لا تقتصر على تماسك نصّ مّا، ولكنّ هذا النّص يمتلك سلطة مُطلقة إلى حدٍّ يُرغمنا على الإيمان بكلّ ما يقوله ويوجِب منّا أن نحترمه احتراما مطلقًا. فالقانونيّة تفترض بالخصوص الوعي بالصّفة المُلْزِمة لنصّ مّا. وهكذا فإنّ حقيقة قانونيّة القرآن يمكن قياسها بمقتضى ما يُفتَرَض وجوده من منطق وأريحيّة وسط الجماعة الإسلامية، وخاصّة بمقتضى السّلطة التي تمنحها له.
ولكنّنا نقترح هنا التعرّض لقانونيّة القرآن ليس مباشرة على أنّها مسار تقنين أُنجِز فِعليًّا داخل الجماعة الإسلاميّة، ولكن من خلال التعبير عن قانونيّة صرّح بها النّص القرآني نفسه. الأمر يتعلّق إذن بصياغةٍ مُزدوَجة لهذه القانونيّة (تثبيت النّص وسلطته) داخل الخطاب القرآني نفسه، وبما تتضمّنه وما تعنيه.

تعريج على نصّ الكتاب المقدّس العبري
نجد في سفر التّثنية صيغة تُسمّى "صيغة القانون"، وهي تتمثّل في الكلام الذي وُضِع على لسان موسى: "لا تَزِيدوا كَلِمةً على ما آمُرُكُمْ به ولا تَنْقُصُوا مِنه، حافِظِين وَصَايَا الرَّبِّ إِلَهُكُمْ التّي أنا أُوصيكُم بِها" (التثنية، 4، 2؛ أنظر 13، 1 "بكلّ ما أنا آمُرُكم به تَحرصون أن تَعمَلوه، لا تَزِدْ عليه ولا تَنْقُصْ مِنه"). فالأمر يتعلّق بصيغة مركزيّة في تطوّر فكرة أنّ أسفار التوراة أُقْفِلت وإلى الأبد. بهذه الصياغة وبصياغات أخرى، وأيضا من خلال كلّ أجزاء التوراة التي تُصوِّر موسى وهو يتلقّى ويُبلِّغ وحيًا إلهيًّا فإنّ المكانة القانونية للتّوراة تبدو مُعلَنة في نصّ التوراة نفسه. غير أنّنا نلاحظ أنّ:
"هذه الصياغة، التي تُسمّى "صياغة القانون"، تظهر أساسا في سياق أدب أسفار الجامعة والأمثال (...)؛ وقرانها بالمفهوم الحصري لـ "قانون" تمثّل مع ذلك تطويرا ما بعد بيبلي post-biblique. في الواقع، الصيغة لها وجود ما قبل تاريخي طويل في الشرق الأوسط القديم، أين كانت تهدف في الأصل إلى منع تحريف مراسيم ملكيّة تحتوي على مجموعات من القوانين والمعاهدات (...). ولم يقع استعمالها من جديد إلاّ لاحقا من طرف المؤلِّفين الإسرائيليّين لسِفْر التثنية وتوراة موسى. وهذه الصيغة تهدف بوضوح إلى منع أيّ تجديد أدبي وعقدي وذلك بالمحافظة على الوضع القائم للنّصوص (Levinson, 2005 :15-16).
وهكذا نلاحظ أنّ الصياغة نفسها لاختيار القانون وسلطته عرفت تاريخا مُتعدِّدا قبل أن تصل إلى تطبيقها على نص الكتاب المقدس وإلى الدلالة على قانونيّته. ومع هذا، ليس من المؤكَّد أن تكون هذه الصيغة قد دلّت صراحة، عند ظهورها في النّص، على المكانة القانونيّة للمجموع النّصي المتألِّف من كتب التوراة الخمسة كما قنّنها الأحبار في القرن الأوّل. ما نلاحظه هنا الآن هو أنّ ظاهرة قانونيّة التوراة تمرّ إذن باستخدام صيّغ تكرّس قانونيّتها في النّص.

عودة إلى القرآن: كيف هي المسألة؟
الخطاب القرآني: خطاب حِجاجي
حتّى وإن كان الخطاب القرآني، خاصّة في نسخته المُتَرجَمة، يمكن أن يبدو من بعض النواحي "مُفكَّكًا"، إذ هو "يمرّ بدون مناسبة من موضوع إلى آخر"، وحتّى "عشوائي" (ج. بارك)، "مُتنافِر ومتشظّي" (دي بريمار)، فهو في الحقيقة منطِقي ومُبَرهَن". فقد سمحت دراسات حديثة (كويبرس) حول الترتيب الداخلي للسّور بفهم لماذا تتجاور فيها عناصر تبدو في الظاهر مُتباينة: فالترتيب يخضع لقواعد أشكال دائريّة مَرِنة مشتركة المركز تندمج كلّها الواحدة داخل الأخرى، والعناصر المتطابقة تتقابل كما لو كانت منعكسة داخل مرآة. وهذه التطابقات تبدو وكأنّها مفقودة عندما نقوم بقراءة خطّية وجزئية، في حين أنّها تبرز من خلال قراء مُوسَّعة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ عددًا من التطابقات والتكرارات في مجمل المصحف تظهر أكثر عند القراءة الشفويّة. يستعمل القرآن هذه التطابقات وهذه الهياكل الدائريّة لكي يُبرهِن، كما يستعمل أيضا عدّة أساليب بلاغيّة ومنطقيّة أو مُتضمَّنة (Gwynne, 2004 -;- Urvoy, 2002, 2007). وقد لطّف دو بريمار من حكمه على أسلوب القرآن مشيرا إلى "عناصر التلاحم البلاغيّة" للنّص، و"التنظيم داخل بعض التأليفات" بالإضافة إلى وجود "مواضيع عقديّة متكرّرة" (دو بريمار).
غير أنّنا إذا ما درسنا النّص في مجمله فإنّنا نلاحظ أنّ أقوى محاور البرهنة للخطاب القرآني تخصّ بالذّات مكانته القانونيّة (القدسيّة).
على غرار المثال البيبلي فإنّ القرآن يستعمل صياغة غاية في الإتقان عن قانونيّته الخاصة به؛ وسنتناول في جزء أوّل من مقالنا هذه الصياغة كما نخصّص الجزء الثاني لنتأمَّل في مدى حضور ومغزى هذا الخطاب.

خطاب القرآن حول قانونيّته بالذّات
يحتوي الخطاب القرآني على برهنَة قويّة لصالح سلطة النصوص المحمّدية. هذه البرهنة هي في نفس الوقت طاغيّة – تكاد تكون موجودة في كلّ مكان – ودقيقة – تلعب على ما هو مُضمَر. فهي تخلط بين ميزات ثلاث كنّا قد حلّلناها بالتفصيل في أطروحتنا (بواليفو) :
- القرآن يقدّم نفسه بنفسه على أنّه "كتاب مُقدّس"؛
- يتحدّث عن مسار ظهوره كـ "وحي نزل على نبيّ"؛
- يُطوِّر وسائل بلاغيّة مختلفة لإرساء سلطته واستباق أيّ تشكيك وأيّة معارضة.
سنعرض هنا الخاصّية الرئيسيّة مع تلخيص للخاصّيتين الثانويّتين. ولنلاحظ عرَضًا أنّنا بإمكاننا أيضا وصف هذا الخطاب كخطاب ذاتيّ الإحالة autoréférentiel : القرآن "يتحدّث" عن نفسه. فالقرآن يشير إلى نفسه سواء كـ "آيات يتلوها النّبيّ" – أي ضمنيّا محمّد – ("اتْلُ مَا أُحِي إليكَ من كتاب ربِّك"، 18، 27) أو كـ "آيات يتلوها الله على النّبيّ"("تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ"، 2، 252؛ 3، 108؛ 45، 6) أو "أنزلها الله على النّبيّ" ("إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ" 4، 105؛ 5، 48)، أو مُشيرا إلى هذا وذاك معًا في صيغة واحدة وبصورة ضمنيّة.

يُقدِّم القرآن، في خطابه القويّ ذاتيّ الإحالة، أُسُس سلطته من خلال إعطاء مكانة لـ "آيات مُوحَى بها" مُعبَّرٌ عنها بلفظ "كتاب" يُطبِّقه القرآن على نفسه. يتطوّر هذا الخطاب في ثلاث حركات ليست كرونولوجيّة ولا حسب مواضيعها، ولكنّها حركات متداخِلة ومُتوزِّعة في النّص حسب المنطق البلاغي الخاص بالقرآن.
الحركة الأولى هي خطاب عن "الصُّحف" الأولى التي تُحيل إلى "ما أُنزِلَ" على اليهود والنصارى ويُعطيها القرآن تعريفات خاصّة. وهكذا فهو يختزل تقريبا كتب اليهود في "التوراة"، وكتب النصارى في "الإنجيل". وهذان الكتابان "أُنْزِلا" من عند الله "على" "نبيّ"، وهما على التوالي موسى وعيسى. من حيث الكمّ، نرى الخطاب عن التوراة هو الأكثر حضورا، إلى درجة أنّه يكتسي نفس أهمّية الخطاب عن القرآن.
الكتب الأخرى التي يذكرها القرآن هي كتب تُعتبر مرتبطة باليهوديّة: الزبور، الذي يُحيل إلى كتاب المزامير، على أنّه "أُنزِل" على داوود؛ ثمّ صحف إبراهيم وموسى. والقرآن لا يعترف بكتب خارج الإطار اليهودي والمسيحي. فكلمة "كتاب"، في جلّ الحالات التي يستعملها فيها القرآن، تعني بوضوح "كتابة مُقدّسة، قدسيّة، موحى بها" وليس فقط مجرّد كتابة عادية. من ناحية أخرى، ما يهمّ ليس خاصيّتها التدوينيّة (أنّها مكتوبة)، كما لاحظ ذلك دانيال ماديغان، الذي برهن أنّ كلمة "كتاب"، بالإشارة إلى الأصل الإلهي، كانت تفيد الإلتزام المستمر لله إلى جانب البشر، بمعنى تجلّي القوّة والعلم الإلهيّين (ماديغان، 2001). هذه المفاهيم هي ولا شكّ مُتضمَّنَة داخل كلمة "كتاب"، ولكنّ دراستنا نحن أظهرت أنّه في الواقع، إذا كان "كتاب" يعني فعلا "كتابة مقدّسة"، فإنّ هذا يأتي بمعنى "كتابة مقدّسة بالمفهوم اليهودي والمسيحي" كما كان يفهمها أو كما تريد هي أن يفهمَها "المؤلِّف"، وبهذا المعنى فإنّ "كتاب" يترجم مفهوم "الكتابة الموحى بها". وبما أنّ الأمر يتعلّق بمفهوم، بمنزلة، حينئذ لا يهمّ في الحقيقة أن يكون مُجسَّدا في "كتابة". وهكذا فإنّ القرآن يقدّم مفهوم الكتابة المقدّسة في شكلها اليهودي/المسيحي (بواليفو، 2010: الجزء الثاني).
الحركة الثانية هي عبارة عن نظام لتوازيات صريحة وضمنيّة في نفس الوقت بين تقديم الكتب المقدّسة القديمة السّابقة وبين تقديم القرآن الجاري تنزيله – والذي يُدعى هو أيضا "كتاب". تقليديّا، نلاحظ في هذه التَّوازيات التأكيد على أنّ القرآن له نفس محتوى الكتب المقدّسة السابقة. هذا والحال أنّ تحليلنا يُظهر أنّ هذه التَّوازيات تُؤسّس على أنّ القرآن يتمتّع بنفس المنزلة التي تتمتّع بها الكتب المقدّسة السابقة وله نفس المكانة التي تحظى بها. فهناك تماهي (تطابق) من حيث المنزلة والمقام قبل التماهي من حيث المحتوى وذلك بالّرغم من وجود مقاطع يمكن بالفعل أن يقع تأويلها في هذا المعنى الأخير. ما يهمّ "المؤلِّف" هو أن تُقدَّم الآيات المحمّديّة على أنّها "كتابة مقدّسة على الطريقة اليهودية/المسيحيّة"، وذلك بالشكل الذي يحدّده القرآن. بالإضافة إلى هذا فإنّ تحليل تقديم مفهوم "كُفْر"، أو الموقف الرافض للقرآن، يُظهر في الحقيقة أنّ هذا "الكُفر" يُفسَّر بمثابة موقف رافض لمكانة القرآن ومنزلته: رفض لمنزلته ككتابة مقدّسة "على الطريقة اليهوديّة/المسيحيّة"، أي بمعنى رفض أصله الإلهي. إنّ رهان الحِجاج حول طبيعة القرآن، قبل أن يتعلّق بمحتواه ورسالته، يتعلّق أساسا بمكانته (بواليفو، 2010: الجزء الثاني).
أخيرا، الحركة الثالثة تتمثّل في حِجاج أكثر دقَّة يقوم بطريقة ضمنيّة بتجريد الكتب المقدّسة السابقة من أهليّتها بالرّغم من أنّها تُستخدَم كأنموذج لتوضيح منزلة "كتاب". هذه المحاججة تَستَعمِل خاصّة تُهمة "التحريف" و "الإفتراء". بالطبع كانت تهمة "الإفتراء" موجَّهة قبل كلّ شيء للنّص القرآني: فقد وُضِعت على لسان المعارضين. إلاّ أنّها تُستعمَل من ناحية على التّأكيد بقوّة على أنّ القرآن، تحديدًا، ليس "حديثًا يُفترى"، ومن ناحية أخرى، فإنّها تَردّ على المعارضين تُهمة "الإفتراء" – مع العلم أنّ هؤلاء المعارضين هم أصحاب كتب مقدّسة وإلاّ لماذا يقيمون الدعوى على القرآن بأنّه ليس بكتاب مقدّس حقيقي؟ وتهمة "التحريف" تشمل في نفس الوقت الكتب المقدّسة التي هي بحوزة اليهود والنصارى وكذلك موقف هؤلاء من كتبهم المقدّسة. والكتاب المقدّس الوحيد الذي يبقى حقيقة في متناول سامعي القرآن أو قرّائه حينئذ هو القرآن نفسه، وذلك باعتبار أنّ الكتب الأخرى التي بأيدي الشعوب المجاورة قد فقدت كلّ مصداقيّتها. هذا في حين أنّ صورة هذه الكتب المقدّسة تظهر خِلسة إيجابيّة كمحدِّد لمفهوم "الكتاب". هذا الحِجاج القرآني هو، في نظرنا، أصل التناقض التالي: حسب العقيدة الإسلامية الكلاسيكية فإنّ المؤمنين يعتقدون في كلّ الكتب المقدّسة في حين يرفضون سلطتها الفعليّة في الشكل الذي تقدّم نفسها فيه. (بواليفو، 2010: الجزء الثاني)
هذه المكوّنات الثلاثة للخطاب القرآني يتجاوب صداها في النّص الذي يتلقّاه السامع أو القارئ: وهكذا ترتسم له صورة للقرآن "كتاب مُنزّل" يتمتّع في الوقت نفسه بمكانة مساوية للكتب المقدّسة السابقة مُلتحِفة بالهَيبَة الإلهيّة، وفي في ذات الوقت يَتعالى، في الواقع اليومي، على "افتراءات" الأمم المجاورة.
نجد قسما كبيرا جدّا من النّص القرآني يُستعمَل ليدعم تأكيد المكانة القانونيّة للنّص. نشير فقط للمجموعتين المنهجيّتين الأخْريين الفاعلتين داخل النّص:
1 – القرآن يتحدّث عن "تاريخه"، أي في الواقع عن ظاهرة نشأته. وهو يستعمل الأسلوب التفخيمي ويسلّطه هنا على الطريقة التي تم بها تبليغ هذا النّص، أو بالأحرى هذه النصوص، هذه "القراءات"، من الله إلى محمّد ثمّ من محمّد إلى مستمعيه. وجوهر البرهنة هو الإلحاح على الأصل الإلهي لهذه القراءات، وتصوير مسار ظهور هذه القراءات باعتبارها في نفس الوقت "تنزيلاً" وكذلك "وحيًا". والهدف من هذا هو إظهار أنّ القراءات التي أذاعها محمّد هي نصوص تلاها الله ثمّ بلّغها بنفسه له. إذن، فالخطاب القرآني يُقدّم هذه القراءات على أنّها وحي حقيقي "على الطريقة اليهوديّة/المسيحيّة" كما يعرِّفها هو.
2 – يستعمل النّص القرآني طرائق بلاغيّة تُوطِّد دحض الشّك والإعتراض: بهذا تترسّخ سلطة القرآن كنصّ وكظاهرة. من بين هذه الطرائق هناك التكرار، والإعتراضات القاطعة جدًّا، البروز المفاجئ للتّذكير بالماضي واستحضار قيام الساعة وما أعّد الله فيها من جنّة ونار حتّى يقتنع السّامع أو القارئ بالطّابع المُلحّ لما يُقال، أو أيضا استعمال صيغ التعجّب العديدة التي تحمل في طيّاتها أحكاما قيميّة، غالبا ما تكون شديدة السلبيّة، توعز بقوّةٍ مثلا إلى العواقب الوخيمة لمن يسلك مسلك الشّك والإنكار.
إنّ وصفنا هذا للصّياغة التي وردت فيها قانونيّة القرآن في القرآن هي نتيجة قراءة تزامنيّة للنّص: أي دراسة النّص ككلّ، والذي في مُجملِه يُكوّن معنى، مُعبِّرا عمّا يريد المُؤلِّف تبليغه بواسطة هذا النّص. القراءة التزامنيّة هي تلك التي تُمارَس في إطار ديني حين ما يتعلّق الأمر بالعقائد وليس بالأحكام. وهي طبعا القراءة التي يُمارسها المؤمِن أو التي تُمارَس من أجله: هذا المقطع من النّص أو ذاك يفسِّره ويؤكِّده هذا المقطع الآخر أو ذاك، والكلّ يتماسك داخل مجموع أشمل. وفيما يخصّنا، فإنّنا أضفنا في هذه القراءة البحث عن إرادة "المؤلِّف".
وقد تمخّض عن كلّ هذا أنّ ما يهمّ "المؤلِّف" بالدرجة الأولى هو أن يقتنع من يستمع إليه أو يقرأ له بأنّ قراءات محمّد، المُشخَّصة مع القراءات التي يلقِّنها الله له، هي كتابات مُقدّسة حقيقية "على الطريقة اليهودية/المسيحية" وبالتّالي فهي تتمتّع بمكانة سلطويّة مطلقة، خاصّة وأنّ الكتابات المقدّسة الأخرى لا يتعرف بها النّص في حقيقتها الفعليّة وسط الأمم الأخرى.
فالأمر يتعلّق هنا ليس فقط بخطاب عن السلطة القانونيّة (المقدّسة) للقرآن، ولكن أكثر وخاصّة ببرهنة قويّة لصالح هذه السلطة: إنّ سلطة القرآن هي سلطة مفروضة، ويجب القبول بها. يضاف إلى هذا أنّ النّص "يُعرِّف" المصحف (الكتاب) الذي يستلم نتيجة ذلك سلطة: فهو يُثبِّت أنّ النّص مكوّن من قراءات يتلوها محمّد والتّي بُلِّغت إليه من طرف الله. فهذه الأقوال، وهذه الأقوال فقط، هي التي أُعلِن عنها أنّها قانونيّة. فالقرآن يستعمل صيغة تأخذ بعين الإعتبار، في نفس الوقت، شكل إختيار المصحف الذي سيُطلق عليه "كتاب مقدّس" [المصحف الشريف]، وشكل إعلان السلطة الحتميّة للنّص. ولكن هذا الشكل الأخير هو الذي سيقوم النّص خصوصا بإبرازه.

(يتبع...)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 7 / 15 - 00:49 )
1- القرآن الكريم يتفق مع العلم في الكثير , مثال :
- ملخص موضوع: ترتيب خلق السماوات والأرض :
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?20696
- البروفسور (ألفرِد كرونر) , يُعلق على نشأة الكون كما جاءت في القرآن الكريم :
http://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=28265

2- رأي مُفكري و فلاسفة أوروبا بالنبي -صلى الله عليه و سلم- :
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=191262161078033&id=100005827500635

3- أقوال المفكرين الغربيين في القرآن الكريم :
http://www.sirajalnoor.com/article/al-kutub-al-samaviyya/what-did-the-western-philosophers-say-about-quran


2 - سلطة القرآن مفروضة ويجب القبول بها
johnhabil ( 2014 / 7 / 15 - 02:09 )
يقول السيد ناصر بن رجب : إنّ سلطة القرآن هي سلطة مفروضة، ويجب القبول بها
أهو كده الدين وإلآ بلاش
بما معناه السلطة للسيف وليس هناك أي مجال للإختيار وقبولها واجب وفرض
ويتابع الكاتب :والنص مكون من قراءات يتلوها محمد بإملاء من الله ،، هي التي أُعلن عنها ( قانونية
ومن باب القانون :أجاز الله نسخ آيات كثيرة . ومنها، وما ننسخ من أية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها ( على السكين يابطيخ )، وتعريف النسخ هو ابطال حكم (قانون أو قلب الحلال حرام والحرام حلال والصح غلط ، والمرغوب ممنوع وأخيرا نصل إلى نتيجة صرح بها الشيخ محمد عماره : ليس هناك إزالة أو محوأو نسخ في أحكام القرآن ( التي يسميها السيد ناصر بن رجب قانونية) لآن هؤلاء الذين يدعون بوجود النسخ سينسفون الاسلام من اساسه . لأن الحياة تتطور والقوانيين تتغير وتتبدل وسينتهي الاسلام
ومنها رضاعة الكبير - الرق - وملكات اليمين - ميراث المرأة - أية الرجم زواج المتعة وهناك نشطاء حقوقيين يعارضون عقوبة أبو لهب الأبدية ويستنكرون عدل الله ومراحمه
وإذا بعدك تصرٌ على قانونية النص فأبشر بنتائج الدكتور عمارة


3 - نقل
بلبل عبد النهد ( 2014 / 7 / 15 - 12:23 )
جل القران منقول من اساطير اليهود او من الشعر الجاهلي


4 - قبل التعليق الرجاء قراءة الموضوع johnhabil
ناصر بن رجب ( 2014 / 7 / 15 - 20:10 )
أنا آسف، يبدو أنك لم تفهم موضوع المقال جيدا. باختصار شديد. في اليهودية وخصوصا المسيحية قامت الكنيسة ورجال الدين باختيار النصوص الدينية (الأناجيل الأربعة تحديدا) وأضفت عليها صيغة -القانونية- أي اعترفت بها كنصوص مقدسة ألهمها الله لكتّاب الأناجيل، ولذلك نجد في الفضاء المسيحي كتبا قانونية وكتب أخرى لم تعترف بها الكنيسة وتدعى الأناجيل -المحرَّفة- (أبوكيرفا). أما في الإسلام فإنّ سلطة النص (القرآن الموجود في مصحف عثمان) الدينية وقدسيته يفرضها القرآن نفسه من خلال حديثه عن نفسه بأنّه -كلام الله المنزَّل- وأنّه -لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه-، إلى آخر الآيات التي تتحدث عن هذه القدسية وتفرضها على الأمّة المؤمنة. إذن قانونيّة القرآن وقدسيّته لم تأته من الخارج كما هو الحال بالنسبة للكتابات المقدسة الأخرى ولكنّها نابعة من داخل النص نفسه...
وشكرا على المرور والتعليق

اخر الافلام

.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س


.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: صيغة تريتب أركان الإسلام منتج بش


.. عشرات المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى




.. فلسطينية: العالم نائم واليهود يرتكبون المجازر في غزة