الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قنطرة الذى كفر: تساؤلات أثارتها رواية عبقرية

داود روفائيل خشبة

2014 / 7 / 18
الادب والفن


قادتنى الصدفة لرواية "قنطرة الذى كفر" لـ مصطفى مشرفة، وهى رواية مذهلة من عدّة وجوه. الكتاب الذى وجدته بين يدى هو نسحة من طبعة صدرت عام 1991 ضمن سلسلة كتاب "أدب ونقد"، من إصدارات مجلة "أدب ونقد". وتتصدّر الرواية مقالات نقدية لكل من: يوسف إدريس، شكرى عياد، محمد عودة، محمد روميش، إبراهيم أصلان، عبد الله خيرت، فريدة النقاش. قرأت الرواية قبل قراءة المقالات النقدية، قرأتها وأنا أظن أن كاتبها هو عالم الرياضيات العظيم على مصطفى مشرفة، ثم علمت أن الكاتب هو شقيق العالم الكبير. ورغم قراءتى لمجموعة المقالات النقدية التى تتصدّر الكتاب فإنى لم أستطع أن أكوّن فكرة واضحة عن مسيرة الرواية — لا أتحدّث عن مسيرة أحداث الرواية بل عن مراحل كتابة الرواية، فكرة وتأليفا ونشرا، ومع أن فريدة النقاش تتحدّث عن طبعة "أدب ونقد" باعتبارها طبعة ثانية إلا أنى لم أجد ما يشير إلى تاريخ صدور الطبعة الأولى. ونقرأ فى "كلمة المؤلف": "وكان الأجدر بى أن أنشر هذه القصة منذ مدة لا تقل عن ثلاثين عاما ولكن الذى منعنى عن كتابتها هو بعض ما أعانى من أمراض ومشاغل". فإذا كانت أحداث القصة تدور "قى أوائل القرن العشرين أى قبل قيام ثورة 1919 مباشرة"، فماذا نفهم من عبارة " منذ مدة لا تقل عن ثلاثين عاما"؟ منى كتبت هذه العبارة؟ فى الخمسينيات؟ والمؤلف يتحدث عما منغه "عن كتابتها"، فمتى كتبت؟ نفهم من مقال محمد عودة، الذى كان له دور هام فى كتابتها، أن كتابتها استغرقت زمنا طويلا. كل هذا من المهم أن نعؤفه تفصيلا وبدقةـ فإن هذا العمل الإبداعى الهام يستحق منا أن ندرس ظروفه وملابسانه بعناية شديدة. ويشير المؤلف فى العيارة التى اقتبستها منذ قليل إلى ما عاناه من "أمراض ومشاغل". من بين المقالات النفدية التى تتصدر الكتاب يتحدث يوسف إدريس وحده عن معاناة مصطفى مشرفة الأايمة إذ "أصابه نوع من الالتهاب المفصلى الذى جمد مفاصله كلها حتى مفاصل فقرات الرقبة فأصبح لا يستطيع أن يتحرك أو أن يتحرك أى جزء من أجزاء جسده وإنما هو ينام مستلقيا ليل نهار فإذا عنت له بعض الخواطر أملاها على أحد الأصدقاء أو على زوجة مخلصة من أخلص الزوجات فى العالم ...". هذه العبارة – التى يؤسفنى أن أجتزئ جزأها الأخير عن هذه الإنسانة العظيمة – هذه العبارة أراها هامة جدا إذ أنها قد تفسّر لنا بعض ما أراه يطلب التفسير فى الكتاب.
أرجو ألا أكون قد أثقلت على الفارئ بهذا المدخل الطويل الذى لم أجد منه مناصا قبل أن أبدأ الحديث عن هذا الكتاب الذى وجدته مذهلا من عدة وجوه.
تدور أحداث الرواية فى منطقة شعبية فقيرة فى نطاق حى عابدين بالقاهرة. وأشخاص الرواية الرئيسيين هم من أبناء هذه المنطقة الشعبية الفقيرة، بكل ما يطحنهم ويسحقهم من فقر ومرض ومعاناة وقهر، وكل ما تحدثه هذه البلايا من تدمير لإنسانية الإنسان. وهؤلاء الأشخاص يتكلمون بالطبع لغتهم الطبيعبة، لكن المؤلف لا يكتفى بأن يورد كلامهم وحتى خواطرهم بلغتهم الشعبية الطبيعية، بل يكتب الرواية كلها بتلك اللغة العامية الشعبية. ومن عجب أن هذه التجربة الرائدة التى أثبتت بالفعل لا بالقول قدرة اللغة العامية على الإبداع، لم تثمر ما كان ينبغى أن تثمر من أدب حى بلغة حياتنا المعاصرة. فحتى أصدق مؤلفى الرواية يترددون فى أمر كتابة الحوار بلغته الطبيعية، وحتى إذا كتبوا الحوار بالعامية فإنهم يكتبون الأجزاء السردية والوصفية بالعربية الفصحى. لماذا تأخـّر عندنا نشوء أدب راقٍ يُكتب كله بلغتنا المعاصرة الحية؟ أكتفى هنا بطرح السؤال، وهو سؤال يستحق أن يعود إليه الكتاب والمفكرون مرارا.
تدور أحداث الرواية، كما ينبئنا المؤلف، فى حقبة إرهاصات ثورة 1919، بل قد يرى البعض أن ثورة 1919 هى البطل الحقيقى للرواية. ليكن ذلك كما يكون، إنما المؤكد أن المؤلف كان يبنى الكثير من الآمال على ثورة 1919، كان يرجو بل ينتظر أن تؤدّى الثورة إلى تشكيل الإنسان المصرى تشكيلا جديدا. إذا أردنا شاهدا من الرواية على ذلك، فها هو الشيخ عبد السلام قنطرة، خريج دار العلوم الذى لا يجد عملا، والذى يؤدّى الصلاة وفكره مشغول بخليط من الهواجس الجنسية والمشاغل المادية الحياتية، نراه بعد أن انحدر به الفقر إلى حضيض القوادة، وبعد أن نال بالنفاق والمداهنة بغيته فى السفر فى بعثة إلى فرنسا، حيث رأى الإلحاد مقترنا بحرية العقل وسمو الأخلاق، نراه يعود إلى بلده فينفعل بالثورة ويشارك فى النضال الوطنى ضد المستعمرين وأعوانهم، إلى أن تثقل عليه وطأة تناقضات نشأته البائسة وما اكتشفه من مثاليات جديدة، فيكون الانتحار هو النهاية المنطقية لكل ذلك. كان المؤلف إذن ينتظر الكثير من ثورة 1919، لكننا نقرأ الرواية اليوم فنجد ما نرزح تحته من فقر وجهل وبؤس وقهر لا يختلف لا كثيرا ولا قليلا عما يصوّره لنا المؤلف فى ربع شيخ العطارين بعابدين فى العقد الثانى من القرن العشرين، أى قبل قرن كامل من وقتنا هذا. فأين ذهبت أحلام 1919؟ أين ذهبت تباشير الثلاثينيات والأربعينيات؟ أين ذهبت أحلام 1952؟ أين ذهبت بارقة أمل أكنوبر 1973؟ أين ذهبت نشوة يناير/فبراير 1911؟ هذا سؤال آخر أطرحه ويحتاج منا أن نعود إليه مرارا.
أصل الآن إلى صميم الرواية. فى نحو الثلث الأول من الكتاب يستخدم المؤلف أسلوب تيار الوعى ببصيرة ثاقبة وإحساس مرهف عميق، فنحيا فى هذا الجزء مأساة حب بائس تأخذنا إلى عمق أعماق الإنسان. فى هذا الجزء ترتفع الرواية فى المضمون الوجدانى وفى الشكل الأدبى معا إلى أرقى ما تَمَثـّل فى قمم الأدب الروائى الروسى والإنجليزى. قصة حب سيدة وأحمد، وطريقة حكيها، لا أتردد فى أن أضعها بين أروع وأرفع وأعمق وأصدق إبداعات الأدب على مستوى العالم.
لكن بدءا من نحو منتصف الكتاب أحس – وأعترف صراحة أن هذا ليس إلا إحساسى الشخصى – أن قبضة المؤلف على أدواته وأسلوبه ولغته أخذت ترتخى. وحين يمضى بقصة سيدة إلى نهايتها التعيسة، ورغم أن هذا الجزء استحضر إلى ذهنى رواية ألبيرتو موراڤ-;-يا "امرأة من روما"، فإنى لم أستطع أن أغالب شعورى بأن المؤلف لو كان أولى هذا الجزء مزيدا من العناية، أو لو أنه أعاد كتابته بما يستحق من اهتمام، لكان الناتج أرقى وأعمق تأثيرا.
فإذا وصلنا إلى الصفحات الأخيرة من الكتاب وجدنا المؤلف يتخلى تماما عن أسلوب الرواية ويلجأ للتقرير التسجيلى. وفى ظنى أن الضعف الأسلوبى فى النصف الثانى من الكتاب، ونبذ الشكل الروائى فى الصفحات الأخيرة، يرجع أولا إلى المعاناة الصحية الأليمة التى ابتلت الكاتب والتى حدّثنا عنها يوسف إدريس، ويرجع ثانيا إلى تعجّل الكاتب ومسابقته للزمن فى سعيه لأن يدرج كل شىء فى روايته. لو أنه اكتفى بالجزء عن الكل لتحقق له عمل إبداعى يقترب كثيرا من الكمال. رغم كل ذلك تبقى رواية "قنطرة الذى كفر" واحدة من أجمل وأرقى الأعمال الإبداعية فى أدبنا، وهى بالتأكيد تستحق مزيدا من الانتشار ومزيدا من الدراسة.
القاهرة، 18 يولية 2014
هامش: قد يتساءل قارئ، أفى هذا الوقت الذى تتدفق فيه دماء الأبرياء وتتناثر أشلاء الأطفال والعجائز نكتب عن الأدب والإبداع؟ أجيب واثقا: نعم! الأدب والفن والفكر الحر، هذا ما يحفظ علينا إنسانيتنا، والحفاظ على إنسانيتنا هو أولى أولويات حربنا على لاإنسانية الأشرار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 7 / 18 - 17:39 )
يقول الكاتب : (حيث رأى الإلحاد مقترنا بحرية العقل وسمو الأخلاق)! .
أقول : هذه هي المهزله بعينها!... فمتى كان الإلحاد مقترن بحرية العقل و سمو الأخلاق؟! .
تابع :
فضائح الدروانيه وفضائح اخلاق الملاحده الاجراميه (متجدد) :
http://antishobhat.blogspot.com/2012/11/blog-post_2522.html

اخر الافلام

.. أشرف زكي: أشرف عبد الغفور كان من رموز الفن في مصر والعالم ا


.. المخرج خالد جلال: الفنان أشرف عبد الغفور كان واحدا من أفضل ا




.. شريف منير يروج لشخصيته في فيلم السرب قبل عرضه 1 مايو


.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح




.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار