الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قاسم حميد فنجان.. بين الميتا والواقع قايين إنموذجاً

عمر مصلح

2014 / 7 / 26
الادب والفن


أولُ جريمةٍ في التأريخ فتحت أول سجل للتبرير ومنها انطلقت الشرارة الأولى لإيجاد المسوغات، وشرعنة غير المشروع إنسانياً..
وللولوج إلى هذا العالم المشتبك والموغل بالعمق وبالأمراض النفسية والعقلية، وما يترتب عليها من احتيالات، لابد من التحايل عليها والاشتغال على منطقة الغرائبية كي تكون بمنأى عن الانجراف بسيول غضب جارفة، متوقعة.. وكذلك لخفض القلق عند الأنا
وقابيل، يعتبر أول من سن سنَّة القتل، ومن ثم تعددت الأسباب والدوافع والنزعات..
وبمهارة محترف ولج الأستاذ المتمكن قاسم فنجان هذا العالم بكامل طاقاته، مستعيناً بحشود من التراكمات المعرفية التي استنهضتها الكوارث، كي يكون شاهد عيان محسوم الولاء للشرف.. على جريمة سبقتها وتلتها جرائم لا حصر لها..
حتى صارت بعض الأسماء شواهد العصر، مثل ( الزعيم ) و ( المصير ) و ( الخراب ) لارتباطها الكوارثي على الذات والمجتمع.
وهنا تقصَّد الكاتب الإبقاء على وحدات القص وأبعادها.. واستطاع أيضاً، بمهارة فائقة، استدراج الذائقة بكل هوياتها إلى منطقة محرَّمة، وخطيرة جداً، وتناغم نصياً مع مجاهل الارتياب تارة، والتأكد تارة أخرى، فانثال مثل درويش، لايعي مايردده إلا من خَبَر التصوف..
فما أن يتهادى قرائياً بغية خلق حالة استرخاء، حتى يعود لصعقة كهربائية، ليحكي تجربة جيل قَرْني، راح ضحية النرجسية التي سحقته تأريخياً، حتى صار خارج خارطة الأشياء.
وكلما بادر اشتراطياً لدمغ الوقع بالشواهد، عاد إلى الانثيالات التي ظلت مهيمنة إلى مابعد قطع مسافة من جسد النص..
حيث يستنهض القيم الإلتزامية، ويريح العقل الذي أثاره وجعله يسعى بين ساعتين ( ألولادة والموت )..
فما بين الكينونة والعدم وجود مقهور رسمه فنجان بحروف تنطق بالجور وتتأسف.
ولم يدع للتأويل فرصة أثناء السرد، كونه كان جامحاً، وكل جملة من جمله تشعرنا بأنها مدعومة لوجستياً من قبل الروح والقلب والعقل..
وليس ثمة فرصة لولادة تأويلات جديدة.
وعمل على التراكيب الباعثة على نوع القصدية باستحضار الأضداد، وتوظيف التراكم المعرفي، بإسناد واضح من الشعور المُدرِك.. بنص سردي يحكي قصة تأريخ، متزاوج مابين الغرائبية والرمزية الجيدة، بإدانة الجميع..
فتمثَّل بحراً هائجاً، متموجاً، ثائراً لايرحم.

سيحل انقاذي بلا شك .. قال هذا في سرّهِ وأبتسم للجميع . كان تحت تأثير وهم السطوة الكبرى ، لذا لم يرَ في حشود المعتقلين سوى حرسٍ جديدٍ له..
"من الممكن أن تنحني ، من المستحيل أن تموت.
هذا ما قالته له مخلوقاته السحريةُ في أحقابٍ غابرةٍ ظلت تلقي ظلالها على مشهد أسرهِ الغائمِ ، حيث سوّغتْ له ذاته الرهينة هشاشةَ المشهدِ ومهدت له سبل النجاةِ لذا صمم على الحياة رغم انحسارها وأستدعى للخلاص اردته الصلبة ، غضب فأنفضَّ الحرس من حولهِ ، هدأت مشاعرهُ المتوترة حين وكزتهُ هراوة الجندي فأدرك ان اللطف لن يأتي وأن ما آل اليه الحال عسير، صار يجثو وحيداً خلف قضبانٍ باردةٍ وأخذ يقبل بالتدريجِ مآل الكارثةِالعظمى .
في غضون سنواته المنصرمة أعلنه المصير طاغوتاً لن يدوم الا بالدم، لذا ارتشفت شفتاه الناشفتان من ضرع القتل جرعةً لم تخنهُ في صراعاته المنقرضة، وخانته في مشاكسة اخيرة .
أدرك القسوة قبل الجميع فأتخذ سبيله منفرداً بالظلم، شاكس الشيطان على الغواية وساعده بالتحريض على القتل ، أذهله بنصب الفخ الأولِ للغراب المبشر بالقبر وأرداه قتيلاً في الحفرة ، راح يتملى الضحيتين في العراء وينظر ببصيرة المجرم للرسوم المشوهةِ، استغرقه المشهد الدموي فأرخى ضميره لنـزوة القتل ،وأحس بأكتمال جرمه الوحشي فأعلن نفسه زعيماً ومصيراً وخراب .
تواترت ألحكايات عنه وأضفت جميعها عليه صورة مجرم بالولادة ، الولادة ألتي لم تتمكن العلوم القديمة ولا المعارف الحديثة من تحديد مخاضاتها المختلفة لوقوعها في أزمنة الغياب ، ولادة قال عنها المؤرخون انها وقعت في عصور أنقرضت لفرط فسادها ، وخلفته نطفة في جثة هالكة ساعده التفسخ فيها على الحياة فنما، وأنفلت من أسر الجيفة ، شاهده الشيطان فتبناه وسماه وأطلقه عند البلوغ نقمة على الأخرين، وآخرون رأوا فيه تراكماً بشرياً شاذاً لكوارث وأزمات وحروب تلاقحت ما بينها وأنجبته رمزاَ لدمار شامل ، لهذا و لغيره لم تكن له ساعة تشير للولادة كما لم لتكن له ساعة تشير للموت أيضاً .
أما في سنوات صيرورته المعقدة فقد التقاه في خرائب مجهولة مردةُ الجان ، علموه السحر ومنحوه الحكمة و اوكلوا إليه مهمة الخطيئة ، سألهم عن رؤيتها فتجلت أمام عينيه التائهتين كوارثه التي سيرتكبها لاحقاً ، أدرك حينها ان الخطيئة مصيره المحتوم، وأعتبرها منذ ذلك اللقاء البعيد سبباً وجودياً لكينونته الآفلة ، لذلك تاقت نفسه المتجهمة لملكوت خالد فأسس حضائر للقتل وخرائب للزنا وخلف مزابل من لصوص تناسلوا على مرأى منه فبارك شذوذهم بالويل ، مضوا على ظلام خطيئته الماكرة وانضووا تحت إرادته القاهرة فأسماهم أجنته وأسموه الزعيم ، أسبغوا عليه صفة القاتل المعجزة وقاموا بتسريب أفكاره الرمادية للعرصات القصية ، تفاقم عددهم حتى اصبحوا نظائر له في البطش ثم أمسوا فيما بعد ازمات تعرقل سير حياة هانئة كانت قبل أن يظهره المردة مصيراً أسود و يعلن عن نفسه زعيماً أوحد للخراب .
توالت على ازمنته حكومات مختلفة روع بعضها خطره الجسيم وهدد بلا شك بقلب حكمها ، لذا قررت وبأصرار الساسة المزيف أن تلقي القبض عليه لذلك استدعت القتلة و أشركت العاطلين والمتشردين و عت الصعاليك والدجالين وأناطت أدارة المهمة للسياسين الذين اعتبروها هبة غالية من السماء ، شرعوا بتنفيذ الخطة بحماسة عالية وفتشوا عنه في كل مكان ، قاموا بنصب فخاخ لاتحصى وكمائن لاتعد ، نثروها في الجو والبر والبحر لم يفلحوا بالأحاطة به ، فشلوا بالأستدلال عليه فقرروا أن يحجموا عن المواصلة ، حين بات امر ألقاء القبض عليه مستحيلاً التجأوا للمناورة فأمروا بفصم الوحدات المشتركة واوعزوا للقوات بالأغارة على الشعب ، أتهموه بالتخاذل وعدم الدعم لتعزيز مهمة البحث بالدليل ، وهكذا انحرفت الخطة عن مسارها بجنون وأخذت الجحافل الهائجة تداهم الناس في بيوتهم ، أكتظت الزنازين بالأبرياء وفر الناجون من الهجوم مذعورين الى المنافي ثم تذكر رئيس المهمة وهو يتفحص الفوضى بمرآة فطنته الباهرة أن المطلوب ليس له صورة تدل عليه ، رفع الأمر لحكومته التي ارتأت تعليق المهمة لإشعار مفتوح و أمرت بأطلاق سراح الشعب المسجون .
رغت فرحة النجاح بأقرار الحكومة وابتهج الساسة بالنصر أما الشعب الخائف فأقر سراً بالفشل الذريع للمهمة ونكوصها تماماً.
تكللت المحاولة بالخيبة ولم تثن عزمه على الأيغال بالبطش ، راح يواصل ارتكاب الخطيئة بسرور ملتذاً بطعمها الذي تذوقه في سنوات صيرورته المريبة ، أخذ يقيم المجازر وينشب الحرائق ويعمم الهلاك حتى فاقت أعداد ضحاياه الحدود وسرى خطره يستشري مقوضاً هيكل الحياة البشري ، بُهتت الحكومة من مماراساته الجائرة فألغت التأجيل وألتجأت للأدباء و الفنانين ، تشاورت معهم في حل المعضلة الكبرى فأوصى الطرف الثاني بالجنون حلاً للوصول الى صورته الشخصية أولاً .
تبرع الشعراء والفنانون مكرهين بسحناتهم الشفافة للعملية المجنونة واشرف على سلخ ملامحهم في مجازر خاصة اوغاد و ساسة ، خلطوها في بواتق عظمية مًلئت بالدم البارد ، سُخن المحلول فطفقت من المزيج البشري رغوة بيضاء سرعان ماستحالت الى ملامح واجمة نفرت من البوتقة وتلاشت في الهواء ، فزع الخبراء وانتابهم الهلع من الغياب المفاجئ للأدباء والفنانين فأمروا باعادة التجربة لكن بملامح اخرى ، جلبوا لذلك لصوص وقتلة وأفاقين وصهروا ملامحهم في البوتقة نفسها فأستقامت من لجة المزيج قامة بأطراف ووجه سفاح ، قامة تلقفتها في الحال عدساتهم السرية ولملمت أشعتها السحرية ما تيسر لها من حضوره الأثيري وهكذا ظهرت للوجود صورته الأولى .
انتابه الزهو وهو يرى نفسه لأول مرة مؤطراً في صورة منقوش على حاشيتها السفلى " مطلوب " ، فخَرَ في سره من منجزهم المعادي وأمر أجنته بسرقة الأختراع السحري ، سرقوه فسلخت ملامح كثيرة وسفكت دماء غزيرة ، طور ببراعته الخارقة الأختراع العجيب فاعتدلت قامات مرعبة منه ، قامات داعب بها شهوته الأزلية بالخراب ووسع سمعته الموحلة بالدم ، قامات أربك سفرها الأرض وفاق مدها المهووس الخبل عينه حينما فاقت صوره ُصور ساسة الشرق والغرب جميعاً .
أستاء الساسة من غزارة حضوره الفوتوغرافي ودخلت الحكومات ما بينها بمشاجرات كادت ان تؤدي الى حرب كونية ، أستشاطت الشعوب المغلوبة على امرها دوماً بالغضب وحسمت المعارك الشفاهية للساسة بالتضحية ، أقسمت بخرابه على الوفاء وعدم التخاذل ، أقتنع الساسة بالميثاق واعلنوا على الملأ صيغة الأتفاق الرسمي ،اتفقوا عليه جميعاً حكومات شعوب وأصدقاء وأعداء وأقوياء وضعفاء ، ساقوا كل ما يملكون صوب تحقيق أبادته وحيداً ، نبشوا قبور ضحاياه التي اهملها و فتشوا عن ظلال تشير الى مكامنه السرية ، طلبوا العون من السحرة والنساك فهيأوا أفواجاً من الجن تقودها مردةً مجربين في المعارك الأنسية ، أنساقوا بموجب تفويضات سماوية حصل عليها النساك بعد خلوات مريرة ، أكتملوا و أكتملت الحملة العظيمة وانتظر الجميع ساعة الصفر .
تسربت الأخبار الى أجنته فنقلتها بدورها له ، كان وحيداً ممعناً في وحشته أبكم و أصم و أعمى يجالس كهولته ويقتات على ذكرياته الغابرة ، زعزعه النبأ الصاعق للحملة فتسربل بغريزة البقاء وحث بسحره الأسطوري حواسه على المعركة وأعلن النفير ، رأى ببصيرة المجرم المحترف أعدادهم المجنونة وفكر بمراوغة يحرج بها الحشود الهادرة ، فكر ملياً فلم يجد سوى الأستسلام وسيلة مثلى للأنتصار على الموت ، شق صوته الرخيم الحملة من قلبها معلناً عن نفسه بصوت واثق :
أنا يا سادة من تطلبون !
جاءَ الإعلانُ المباغتُ ليبدِّدَ الحملةَ ويحملَ الحشودَ على العصيانِ ، إنحلَّ ميثاقُ الوفاءِ المبرمِ بينَ الشعبِ والقيادةِ وسادَ الهرجُ والمرجُ ثم تسلّلتْ الى العقولِ المرتبكةِ رغوةٌ إسمُها الحريةُ ، رغوةٌ فتحت الأبواب لحلول فوضى لم تشهدها البلدة سابقاً ، أدرك الكل في الحال تأزم الوضع وإنحلاله فأنفلتوا يعتريهم الشك من مبادرة إستسلامه الرخيصة ، تصدى الساسة لما أسموه بجموح الرغوة فقمعوا العصيان بالقنابل ، هدأت سرائر المتشككين وخمدت نيرانهم المتأججة وأسدل الستار على مهزلة الإستسلام ، لتبدأ بعدها مهزلة المهازل .
في اللحظات الأولى للتسليم رأى الرعب المرتسم في الوجوه ومسّ بخبرته المتراكمة هلعها الشديد ، إبتسم في سره وشكر السطوة التي ترافقه أينما حلَّ وقال بزهو:
مضيت نحو مصيري راضياً عما اقترفته حياتي في حياة الآخرين ، لم أندم مادامت أجنتي قد عاهدتني على الحياة ، خمنت بفطرتي أن الأمور ستجري على مايرام، وأن إنقاذي قادم لا محال على الرغم من قضيتي الخاسرة بمنطق القضاء حيث تخلى الدفاع عني حين أحبطت عزيمته القضائية جرائمي الغزيرة وحدا الحال المستحيل به لإلتزام السكون ، ساعدني هذا الصمت في تثوير الشارع الإنساني فتدحرجت مشاعر الخامدين تطالب لي بمحاكمة عادلة ، رفضت الحكومة اللغط المتعالي فقامت تظاهرات حاشدة وتلتها إحتجاجات هادرة وأكد الشغب المنتظم بادرة الإنقاذ الوشيك، ثم أدركت بحدسي العالي إنني في الطريق الى المحكمة . دبّ الأمل في حياتي من جديد وتناهت لروحي همهمة جذلى شاغلت بها أحزان الترقب منتظراً أطلالة المنقذ الذي حلّ بلا موعدٍ كالآجال الغامضة ، حلّ كالصاعقة مزعزعاً الحال الرتيب الذي المّ بي طويلاً ، خطى فتابعته الأنظار بإعجاب شديد ، خطى وكان لوقع خطواته أثراً أشدّ من وقع مطارق القضاة على الجمهور ، توقف فسكن كل شيء ، رمق القضاة بعينين جريئتين فأرتبكوا ، حولَ نظراته الثاقبة نحوي فأرتعشت ، أدار رأسه ملتفتاً الى الجمهور فأعتدلوا بلا وعي مرددين رجع صوته الذي شقّ السكون :
أنا حاضر عن المتهم .. هو حاضر عن المتهم .
إضطر القضاة تحت رغبة الحضور الملحة بقبول الطلب وأذنوا بفتح الجلسة ، فتحت الجلسة وسمعته بروحي يشرع في مرافعته صامتاً ، كانت عيناه تنثان الحكمة فتهطل الإشراقات متدفقة نحو أفئدة الجمهور ، تشبّعوا بها تماما وأنتقلت عدواها فيما بعد الى قلوب القضاة الذين تسمروا مذهولين من الحال المشوش، هدهدت هالته الحكيمة القاعة بالهدوء وغمرت الطمأنينة جميع الأشياء، إستسلم الكل للسكون الجميل ولم يجرؤ أحد على إختراق خلوته المبهمة، في عزّ الصمت أصغيت لرجع أصوات بعيدة كانت تجتاح السكون وتتناغم معه، رأيتها تستقر كالأرواح في الأشياء لتحرضها على الكلام، أصغى الجميع بإندهاش للجماد المدافع عني وشاهدوا النبرات المدافعة تترافع بحرقة في الفضاء ، تعالت حدتها لتأمر عقارب الساعات بالسكوت، توقف الزمان وغاص المكان بحالة راكدة وسكتت الجمادات أخيراً ثم تحولت الجلسة الى رؤيا محورها الحب حين أخذ الحضور يتضرعون بلا زمن من أجلي وراحت الأدعية الرحيمة تتوالى بسرعِ مذهلة لتترهل في ذاكرة القضاء المحدودة ، تمطّتْ المرافعةُ برخاوةِ الزمنِ المشلولِ، واضطرَّ القضاةُ لتأجيلها بعدما أتخمتهم رؤىً رائعةٌ شاهدوها في غفلةٍ من زمانهم الحقيقي . خلّفت الجلسة الناجحة في نفسي حالة رائعة ، حالة حطت في سجني لتمسح عني أدران القلق الذي أحاط بي إبّان التسليم، أحسست بالإنتصار مرة أُخرى وأنتظرت بلهفة إطلالته البهية تسارعت الأيام لتعلن عن بدء الجلسة الثانية، بدأت الجلسة وحضر القضاة مبكرين الى القاعة مصطحبين معهم عوائلهم، أما الحضور فتفاقم عدده بعد أن شاعت أنباء الجلسة الأولى، إنتظر الجميع قدومه بشوق وإضطراب ،أنتظروا حتى وصل ، وصل وقابلته القلوب قبل العيون، تخطى بينهم بإختيال ثم أخذ يتفرس فيهم بشدة ، بادلوه إبتسامات إختلطت فيها ملامح الحيرة والخوف ، كان واجما فافتتح دفاعه بالغضب ، دافع دفاعاً مستميتاً أفقده السيطرة على جسده وأخلّ بجميع ثوابته البايلوجية ، إنفصلت أعضاؤه فجأة على مرأى من الجميع وطارت في الهواء ، تابعتها العيون المذهولة بإنبهارٍ، كانت أطرافه تترافع وجذعه يدافع ورأسه يعترض ، رفع الجمع الغبي رأسه بحيرة الى الأعلى ، متابعاً إنفلات الوضع بإعجاب ومنصتاً بإعياءٍ للمرافعة السامية ، لم يخفِ القضاة إنبهارهم الممزوج بالزهو مما حدث في الجلسة لكنهم تهيبوا من القادم ، لذا مالوا مكرهين للتأجيل بعد إن إنتابهم الفخر الذي ألصقه المحامي المجهول بصنعة القضاء الرتيبة .
تكللت الجلسة بالنجاح وذاعت شهرتها كالنار في الهشيم ، لذلك توافد الناس على المحكمة من كل الاصقاع واقلق سير المرافعات زحام المتوافدين , أمرت الحكومة بهدم المحكمة القديمة وانشاء محكمة كبرى، لم تتمكن المحكمة الجديدة من استيعاب السيول البشرية الجارفة لذا اضطرت الحكومة للهدم والبناء والهدم ، حتى استحلت المحكمة في جولات الدفاع الاخيرة مساحة البلاد باسرها .
انشغلت العدالة بجرائمي واهملت دعاوي المجرمين ، شيدت لتفادي الإحراج العالمي زنازين لاستقبال الجناة فقط ,فمات المجرمون متعفنين من الانتظار ومات قضاة من المتعة ،وتلاهم اخرون من الصبر والمحامي ما فتىء يدافع بذات الهمة الاولى يلغي الادلة والجرائم عني ويبتكر قانوناً تعتمده هيئة المحكمة بالدفاع عني حتى صرت اتحول بموجب قانونه الجديد من مجرم الى ضحية ومن جانٍ الى مجنٍ عليَّ ، اما ضحاياي فاصبحوا بنظر العدالة مجرمين طالب بمحاكمتهم وتطوع بالدفاع عنهم ,وافقت المحكمة على طلبه الاول ورفضت الثاني لعدم كفاية الحياة للدفاع.
حانت جلسة النهاية وكانت شتائية قارصة ,غزا الثلج البلدة وحطت قدماه الصقيعيتان في القاعة حتى تسيدَ البياض على المكان تماماً وعكست الوجوه الباردة مرارة الانتظار الساخن ,وصل وسبقته في الوصول غلالات دافئة شع َّعلى اثرها حضوره متقداً كجمرة , شاع الدفء في كل شيء وبدأت حنجرته الملتهبة تترافع بكلمات كالحمم النارية , ذاب الثلج وتجمرت الحروف في الهواء وتحولت القاعة الى جحيم مستعر ،استنشق الجميع حرارة الموقف وخمنوا ببلادة حدوث المعجزة وحصول المستحيل، وجاء المستحيل حين ابتدأت كلماته المستعرة تهوي من الأعالي لتتلاقفها امواج السيول التي لفت المكان بعصبية ،هدأت السيول وارتفع شواط الحروف على هيئة كلمات مرئية تعشقت فما بينها لتخرج بلقطات تطورت بالتلاقح الى مشاهد سينمائية امتزجت مع بعضها البعض لتخرج بفيلم ملتهب ، كان الفيلم يعرض بالألوان الطبيعية كوارثي وجرائمي السابقة ،أعتراني الحزن والغضب معاً حينما رأيتني ضحية لضحايايَ الكثيرة ، تالمت وأنا أرى تحول شخصيتي من مجرم الى ضحية , تفاقم حقدي القديم على ضحاياي حينما رأيتهم يقطعون اوصالي في الوهم كما كنت أقطعهم في الواقع ، شاهدته يأمرهم بالكف عن تعذيبي في الفيلم كما عذبتهم في الحياة ، ينصاعون لأمره و ينـزلون من شاشة الهواء الى الأرض ، يستأذنون الحضور المندهش من الحال العجيب وبلطف يفتحون الأبواب والنوافذ لتغادر السيول الفائرة حسب رغبته ، جفت الجلسة و لم يفلح الأبطال بالصعود الى شاشة الهواء مجدداً فجف الفيلم ونشفت الشخصيات بعد ان أستمتع القضاة و الحضور بالعرض الذي أسموه عرض المعجزة .
تعاطف القضاة لدى مشاهدتهم سفري الوحشي مرئياً وغمرتهم شخصيتي الفيلمية بالوجع فبكوا وبكى الحضور لبكائهم وبكيت حتى ضجت القاعة بعويل مرير ، راع الجميع ما حاقني من ضيم في حياتي القاسية وأزعجتهم سنوات الصبر والقهر التي قضيتها مكرهاً في السجن رغم برائتي الصورية ، أنتفض الجمهور وأجبر القضاة على البراءة ، وافق القضاة اللذين تواطأ وا مع سحر المحامي الخارق، وقرروا أن يجئ القرار الأخير على لسانه وصدر القرار هكذا :
إن الجرائم المرتكبة تتحقق بعد نواياها وبما ان المتهم لم يلق القبض عليه متلبساً بتهمة النية أو مرتبكاً لجريمة خلال فترة مكوثه في السجن لذا اقرر براء ته من كافة الدعاوي الصادرة بحقه وأنقض كافة القرارات المتخذة ضده وأوصي بتعينه مستشاراً في محكمتكم ... رفعت الجلسة !
أُطلق سراحي وأعتبرته الحكومة نهاية للنشيج الوطني وعاد النظام للبلاد التي اربكتها المحاكمة الغريبة ، أما المجهول فأنتزعته الأصقاع بعيداً ، غادر وظلت مرافعاته الخالدة علامات يقوض بها القانون أركان القضاء الفاسدة .
حفظ المحامون عن ظهر قلب تكتيكاته الدفاعية ولجأ المحققون اليها للبت في الجرائم المعقدة وهكذا عاشت حكاياته الخارقة في ذاكرة الآخرين وأسطره المؤرخون للذكرى بأعتباره حدثاً لن يتكرر الى الأبد .
صارت ذكراه النائية ذاكرتي التي اغرف من وحي خرافتها الحكمة و لمعرفة ، كنت أسبغ بها على دعاوي المظلومين صفات الخلاص لكي انقذهم، وبها أيضاً كنت أوصد على الظالمين ابواب النجاة حتى أحبسهم ، هكذا انعطفت حياتي من مسارها الشائك، وانحرفت هادئة هانئة لم يعكر صفوها سوى صعقة حلت كالزلزال على رأسي .
في صباح غائم لم أنسه ما حييت رأيته متهماً خلف قضبان السجن الذي أحتواني سابقاً ، لم أصدق ما رأت عيناي فأقتربت منه ، كان هوَ بهيئته الجليلة ينتصب ساهماً بوجهه الذي كان يكتظ بوجع بان على ملامحه القاسية ، كانت عيناه الجريئتان تجوسان المكان بخوف وحيرة ، خلت الدهشة ستأخذ الحضور وسيفاجئهم حضوره المريب ، لكنهم لم يكترثوا به وظلت أعينهم متسمرةً بوجه القضاة ، تقدمت نحوه وأنحنيت أمامه فامتدت كفاه الكريمتان من خلل القضبان ورفعت رأسي ، شاهدته يتكلف بأبتسامة حزينة نشج لها قلبي فأنتحبت ، روعني مشهد أعتقاله الغريب فألتفت وصرخت في الحضور المتحجر ، تفتتت صرختي في حنجرتي وضاعت أصداؤها في فراغ سحيق ، بكيت وألصقت وجهي على القضبان وسألته أن يتحدث ، لم يفعل وآثر السكوت على الكلام ، لم أحتمل صمته المميت فاتجهت بخطى يائسة صوب القاضي الذي لم يأبه بي ، زعقت به فأشاح بوجهه عني غاضباً ، التجأت لأقراني المستشارين فتظاهروا بأنشغالهم بصياغة القرار الأخير ، استرقت النظر الى أكفهم وهي تضع القرار المشؤوم ، قرأتـه و تأكدت بغريزة المجرم و القاضي بأن القرار 2003 / 4 / 9/سياسيـة المؤرخ فـي 8 /صفر/ 1424* سيفضي به الى الموت ، أستحضرت أطياف مواعظه وفتشت عن معجزة لخاتمة النكبة ، لم أرَ حلاً سوى الملاذ به للخروج من المأزق المستحيل ، لذت به بعد أن ساورني الخوف عليه فرأيت روحه المستترة في كل شئٍ تلامس روحي بقوةٍ و تلوح بالوداع الأخير الذي جاء به صوت القاضي القاضي بالأعدام شنقاً حتى المـوت .
تكممت الأفواه وأطبق الرعب على العيون ولاح صمت القبور على المحكمة ، تابعت بدهائي الغابر ما ينُسج من خراب وتأكدت بفطنتي الشيطانية من الأدلة ، ساقتني نحوها غريزتي الخارقة فرأيتها ، كانت الأدلة أوراقاً بيضاء خالية من أي شئٍ بعثرتها فشعت ببياض براق ملأ القاعة بأسرها ، لملمتها بألم و نثرتها ثانية فوق الرؤوس فتسامت مجرجرةً معها القضاة والحضور و الأشياء الى الأعلى ، تداعت القاعة بأسرها وآل كل شيء الى الأنهيار إلا هوَ ظل كما كان سابقاً راسخاً صامداً ينظر بأسى للفوضى وعيناه تترقرقان بدمعتين وخزتا قلبي، فبكيت .

*أو قابيل في القرآن الكريم .
*التاريخ الهجري و الميلادي للأحتلال العالمي للعراق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا