الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الآخر فى الأبنية السردية

محمد جلال الأزهرى

2014 / 8 / 2
الادب والفن


(قراءة فى رواية "قواعد العشق الأربعون")


".. لا قيمةَ للحياةِ منْ دونِ عشقٍ . لا تسأل نفسكَ ما نوع العشقِ الذى تريده ؛ روحى أم مادى ، إلهى أم دنيوى ، غربى أم شرقى ... فالإنقسامات لا تؤدى إلاَّ لمزيدٍ منَ الإنقساماتِ . ليسَ للعشقِ تسمياتٍ ولا علاماتٍ ولا تعاريف ؛ إنَّه كما هو نقى وبسيطٌ"
تلكَ هى القاعدةُ الأربعينَ مِنْ روايةِ "قواعد العشق الأربعون" للكاتبةِ التركية الأصل "إليف شافاق" ، ولعلَّ فى التنميطِ والتقعيدِ الموجودين بالعنوانِ ، ما يشى بدلالةٍ عكسية على أنَّ ليسَ للعشقِ بجميعِ مستوياته أية قواعد أو تنميطاتٍ رياضيةٍ .. وهذا هو ما دندنت حوله القاعدةُ الأخيرة آنفةُ الذّكرِ !

الروايةُ هى منتجٌ سردى عملَ على تخليقِ مساحاتٍ خضراءَ لحصدِ حُزمةٍ منَ القضايا الشائكةِ ، ودونَ إرهاقٍ لجسدٍ الروايةِ ، والذى بدوره منحَ المتلقى مذاقَ القراءةِ ومخاطبةَ الجوَّانيةِ الإنسانيةِ فى آنٍ معـًا .. فالروايةُ تأتى ضِمنَ قائمةٍ طويلةٍ منَ المنتوجاتِ السّرديةِ التى ظهرتْ فى عقابيلِ الحربين العالميتين ، إذ تم زحزحة العقل عن مركزِ الوجودِ ، بعدما ثبتَ كيفَ يمكن أنْ يفتِكَ بالإنسانِ مطوعـًا آلياته لتفتيتِ المقدّراتِ الحضاريةِ ، ممَّا سَمحَ للقلبِ باعتلاء سُدَّة الحكم الوجودى فى كثيرٍ منَ الأعمالِ الأدبيةِ بحثا عنْ عالمٍ جديدٍ لا تحكمه الرصاصةُ .. فالكاتبةُ عبرَ أروقةِ الروايةِ تمارسُ التصوفَ فلسفة وأدبًا ؛ كما لم تغضَّ الكاتبةُ الطرفَ عن قضيةٍ مثلَ قضيةِ الأنوثةِ المقهورةِ ذلك (الجيتو) الأنثوى ومشاكل الجنوسة فى عالمنا الثالث ،وهذ تجلَّى واضحا فى الشخصيةِ الرئيس داخلَ الروايةِ وهى "إيلا روبنشتاين" ، ثم فى شخصية مقهورةٍ مثل "البغى وردة الصحراء" .

كما أنَّ الروايةَ تستميز أيدولجيا بتفكيكِ الموروث السيسولوجى وإعادة بناءهِ لإكتشافِ (الآخرَ) بعيدًا عن التابوهاتِ المعلَّبة منْ مثل الجنس / اللون / الدين / العقيدة .. باحثة عن دينٍ عالمى ينشده المتصوفةُ ، قادرٌ على رأبِ الصّدع الحادث بين الظاهر والباطن ، وما بين الشريعة والحقيقة ، كمسألةٍ عتيقةٍ أكل وشرب عليها البحث الإسلامى منذ نعومة أظافره ! فهى رواية نحو الداخل تعمل على خلخلةِ بعضَ المفاهيم الكلاسيكية فى الحبِ والحياةِ ؛ مسددةً سهمَ قوسها نحو التشرذم الحضارى/الثقافى فى تكوينِ المجتمعات .. ولعلَّ نشأة "إليف شفق" سامهتْ فى ذلك ؛ فهى بنتٌ لأم تعمل بالسّلكِ الدبلوماسى ربَّتها بعد انفصالها عن والدها .. فساهم الترحالُ فى تعميقِ رؤية الكاتبة نحو المجتمعات والثقافات المتعددة وإلى إيجادِ القالب المفاهيمى ؛ لصهرِ المشترك الحضارى بعيدًا عن الخصوصياتِ الشعائرية/العقائدية .. فالنصُ صوفى جملةً وتفصيلاً يسعى إلى وحدة الإنسانية ؛ فنجد "إيلا" شخصية يهودية ، و "جانيت" ابنتها الكبرى تهوى الزواجَ من شابٍ مسيحى ، و "عزيز" الذى تراسله عبر بريدها الإلكتروني ، إيرانى تسرَّبلَ بضوء الإسلامِ بعد إلحادٍ ! كما أنَّ مدينةَ قونية التى يدخلها شمس التبريزى للإلتقاء برفيقه جلال الدين الرومى .. هى مدينة كونية تدهشك بمزيج حلوٍ منَ الأديانِ والعاداتِ واللغاتِ ؛ تشاهد فيها مسافرين عربا وحجاجا مسيحيين وتجارا يهودا وكهنة بوذيين وشعراء متجولين من الإفرنجة وفنانين فرسا وفلاسفة يونانيين ؛ وإنْ شئت قل : جميع هولاء يبدون شيئا متشابها من النقص وعدم الإكتمال ، فكل واحدٍ منهم يشكل تحفة فنية غير متكملة .. كما جاء ذلك على لسان "شمس التبريزى" لحظة دخوله المدينة ..

يبدأ التنامى الدرامي عبر خطين زمنيين ؛ فأمَّا الأولُ فلسيدة أمريكية فى منتصف عمرها ، متزوجة من طبيبِ أسنان ناجح ، ولديها من الأبناء ثلاثةُ ، ومنْ خلالِ عملها الجديد بإحدى الوكالات الأدبية يُسندُ إليها مهمة تقييم مخطوط رواية لكاتبٍ مغمورٍ ، وأمَّا الخطُ الثانى فهو الفضاءُ الزمكانى للروايةِ سالفة الذكر وهى عبارة عن سيرة ذاتية لأحد أشهر وأعظم شعراء الصوفية وهو "جلال الدين الرومى" الذى تحوَّل من فقيه وخطيب محلّى إلى شاعر عاشقٍ للذات الإلهيةِ منْ خلالِ جملةٍ منَ القواعدِ التى تعد دينـًا للعشقِ الإلهى تلقتها روحه من واضعها "شمس التبريزى" الدرويش الجوّال .. مستخدمةً الكاتبةُ تقنيةَ الظل والضوء لمزجِ الخطين الزمنيين ، ولربما بدا هذا للبعض مربكـًا بعض الشئ ، ولكن لعلَّ "شفق" عمدتْ إلى إظهارِ تعدد الأصوات وذلك الزخم السردى للمزاوجةِ بين عالمين .. عالم ربة المنزل الأمريكية التى تفتضح أمام نفسها لتعترف بأن حياتها روتينية وأنها شخصية سلبية مستسلمة ومتسلطة أحيانا ، وعالم التبريزى ذلك الدرويش المتمرد الذى يبث الحب فى ثنايا الكونِ عبر رحلاته بطول البلاد وعرضها .. وكأنَّ "إيلا" هى جلال الدين الرومى" وكأنَّ "عزيز" هو "شمس التبريزى" ؛ ويظهرُ للمتلقى أنَّ الرواية هى عبارةٌ عن فيلم تسجيلى تنتقل الكاميرا داخله من شخصيةٍ لأخرى لتسجيلِ شهادة كل منها .

أيضا تمخَّضتِ الروايةُ عن مجموعةٍ منَ الشخصيات المعزَّزة والمحفَّزة للإمتدادِ الأفقى للروايةِ دونما ترهل أو تداعٍ ، وأهم هذه الشخوص .. هى "البغى وردة الصحراء" و "حسن الشحَّاذ" و "السّكران" فهى شخصياتٌ دراماتيكية مقهورةٌ ، أبرزتْ عدة قضايا من خلال موقعها البانورامى داخلَ الرواية .. مثلما تستشعر العنفَ والسلطوية الذّكورية ضد الأنثى فى مشاهد "البغى" ، أو ما تراه ماثلاً فى مشاهد "المتسوّل" من تهميش إجتماعى صارخ ، أو ما يحدث فى مشاهد "السّكران" من كيفية النظر إلى العاصى داخل المجتمع المسلم ..

النصُ – ولاشك – ينتمى إلى النصوصِ التى تقبل التأويلَ على المستوى الدلالى ، وكأنَّه يستحضر مستوياتِ القراءةِ عندَ المتصوفة فهناك الظاهر ، ثم الباطن ، ومن بعده باطن الباطن .. وأخيرًا العمق وهى درجة الأنبياء ؛ نصٌ يطيرُ دونما جناح إلى عوالمَ أفلاطونية أجادتْ فيه الكاتبةُ اجتذابَ القارئ بدرجاته الثقافيةِ بتقنيات سرديةٍ وجملٍ حوارية لذيذة لغتها بعيدة عن التقعر والإغراب رُغم أنَّ النصَ الداخلى ينتمى تاريخيا إلى القرنِ السادس الهجرى ؛ إنَّه نص تسعى من خلاله "إليف شافاق" إلى إحداثِ تغييرٍ شاملٍ فيمنْ يقرأ الروايةَ ، وإعطاء القلب مكانته التى يستحقها ؛ كما تقرر هذا فى أولى قواعدها "إنَّ الطريقَ إلى الحقيقةِ يمر من القلب ، لا منَ الرأس ؛ فاجعل قلبك لا عقلك دليلكَ الرئيسى . واجه ، تحد ، وتغلَّب فى نهاية المطاف على النّفس بقلبك . إنَّ معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله" .. هذه وغيرها من الحسنات المجتمعة والمنجمعة بين أسطارِ الرواية تأكد المكانةَ المرموقة لروائية مثل "إليف شافاق" تنحِتُ لها مقعدًا ذهبيـًا بين أصنائها فى الصف الأول للرواية العالمية ، ولكن يبقى الكمال لصاحب الملكوت ؛ فلا تخلوا أعمالُ البشرِ منْ بعض الشرائد ولعلَّ النّقص فى بشرية البشرِ كمالٌ فوقَ كمالٍ ، وهاكم بعض الملحوظات:-

تقنياتُ السّردِ ومستويات اللغة

لا أريدُ أنْ أذهبَ مذهبا بعيدًا فى القول بأنَّ دراما النص كادتْ أن تتوقف مصيبةً إيَّاي بالضجرِ والمللِ خاصة فى نهاية الرواية وهذا – فى زعمي – راجِعٌ إلى ثبات وجمودِ المستوى اللغوى بين شخوص الرواية ؛ فلا شك أنَّ لغةَ الفلاَّحِ تحيدُ عن لغةِ الطبيب ، وكذا الصوفى لن تكون ألفاظه كمثل ألفاظ عالم لغوى ، ولكن "شافاق" لم تؤسس لكل شخصية من شخصياتها سيميائها اللغوى الخاص بها ، ولهذه الرواية خصوصية عظيمة بالنسبة لمستويات اللغة لأنَّ الخطَ الزمنى الأول لسيدةٍ تعيش فى العام 2008 ، والخط الزمنى الثان لرفيقين يعيشان فى القرن السادس الهجرى فاصلاً بينهما حاجزٌ زمنى بلغَ الثمانمائة عام ! ولطالما تساءلتُ : هل هذا مقصودٌ للمزجِ بين العالمين والخطين الزمنيين المذكورين آنفـًا لإسقاطِ الماضى على الحاضر منْ خلال التمازج والتماهى اللغوى بعيدًا عن المستوى الذرى اللغوى المفترض فى كل شخصية ؛ للخروج بحلول عملية لتلك السيدة المطعونة فى قلبها برتابة الحياة الخالية من التمرد ؟! ومهما بلغ حذقُ الكاتبةِ فى الإجابةِ عنْ هذا السؤال ؛ فلن تبرر فعلتها الفعلاء حينما جعلتْ شخصيةً مثل "شمس" وهو ابنُ القرن السادس الهجرى ، ينطقُ كلمة مثل كلمة "كليشيهات" ، أو لربما كانتِ الكلمةُ صوت المؤلفة داخل الحوار ، ولكن على هذا التفسير أيضا ، لا أستسيغ اقحام الكاتبة هذه الكلمة داخل المشهد .


قاتلٌ بدرجة فيلسوف

أجادتِ الكاتبةُ هيكلةَ شخصياتها فيزيقيا ، وعلى وجه الخصوص شخصية "شمس التبريزى" ولكن تبقى شخصية القاتل المسمى "رأس الواوى" لغزًا محيرًا لي ، فهذه الشخصية الورقية داخل الرواية نطقتْ بجملةٍ من الفلسفاتٍ العميقة الدالةِ على هيئة نفسانية وعقلانية ، ما كان لشخص يقتات على دماء البشرِ أنْ تكون له مثل هذه الفضاءات وذلك التفكير العميق ؛ كيف وهو رجل أمَّى يعمل ديوثا أمنيا للغانياتِ ؟! فهل يستطيع رجل هكذا أوصافه أن يقول "عندما تقتل أحدًا ، فإنَّ شيئًا منه ينتقل إليكَ – تنهيدة ، أو رائحة ، أو إيماءة . وأنا أدعوها لعنة الضحية" . أو أن يجول فى الساح والمقامات الفكرية قائلاً : "فى الواقع توجد فى داخل كل شخص رغبة دفينة فى قتل أحدهم ذات يوم" .. ما أود قوله أنَّ الشخصية التى لا تستطيع القراءة والكتابة لن تتحمل كل ذلك التكييف الفلسفى فهو حمل زائدٌ عليها ! حتى ولو انطلقنا فى تأسيس ذلك بناءً على نظريةِ المعرفة الحياتية عند الفيلسوف جون لوك ..

هذه الملحوظات وغيرها لا يتسع المقام لذكرها ، وما بين مشهدٍ مرتبكٍ وجملةٍ تحتاجُ إلى مراجعةٍ ؛ يبقى العملُ نصا روائيا جديرًا بالقراءة ،فهو نصٌ مفتوحٌ يُلهِبُ القريحةَ ويحفَّزُ العقلَ على سبر أغواره .. ويحلو لي أنْ أختمَ بكلمات قوية لشمس التبريزى ذكرتها المؤلفةُ فى مُقدمِ الروايةِ ، حيثُ يقول :-

"عندما كنتُ طفلاً ، رأيتُ اللهَ ، رأيتُ ملائكةً ، رأيتُ أسرارَ العالمين العلوى والسفلى . ظننتُ أنَّ جميعَ الرجال رأوا ما رأيته ؛ لكنه سرعان ما أدركتُ أنَّهم لم يروا .." أ.هـ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/