الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زعفران - قصة قصيرة

باسم السعيدي

2014 / 8 / 2
الادب والفن


إنها مدينة جميلة لاشك، في الجزء الشمالي منها تجد مجموعة من المقاهي والمطاعم، يطيب لي قضاء الوقت فيها الواحدة تلو الأخرى، ذلك اليوم كان المقهى هادئاً الا من موسيقى كلاسيكية تصاحب عادة قصائد حافظ، أرتشف فنجان قهوتي بين الحين والحين مستطرداً أخيلتي مع الموسيقى.
المقهى مفتوح الجنبات، مفسحاً السبيل الى العين لتستمتع بالخضرة التي تحيط بنا من كل جانب، والى النسائم التي تخرق الهدوء لتروي العطش الى رائحة أشجار السرو القريبة، المقاهي معلّقة، طبقات عليا، وطبقات سفلى بالقرب من جداول المياه التي تنحدر من أعالي الجبل، لكننا فوق نسمع خريرها.
حين أقضي مابعد الظهيرة في أي من تلك المقاهي أكون قد أفرغت ذهني من كل أمور العمل، والهموم الأخرى، لأتفرغ الى تطبيب جراح نفسي التي يتركها عليَّ التعامل مع رجال الأعمال، السواق، والباعة المتجولون، كل هؤلاء الذين يحاولون جاهدين " قسراً" إحتلال جزءاً من دورات عقارب ساعتي وإهتماماتي ليتركوا ترهاتهم التي لاتنقضي على خارطة يومي المترهلة.
تنجح في العادة فترة النقاهة الذهنية تلك، لمابعد الظهر في تلك البقعة المخضوضرة من أرض الله الواسعة، لأعود بعدها الى التلوث الذهني بمجرد العودة الى ضوضاء المدينة.
في تلك الظهيرة لم تكن الأشياء مختلفة، الأمكنة ذاتها، الموسيقى ذاتها، فنجان القهوة كغيره، إلا كتابي الذي أرتاد صفحاته كان مختلفاً، كنت أقرأ كتاباً إشتريته لشعر حافظ، بالإنجليزية طبعاً، لكن صورته على الغلاف لاتخطِئها العين، بصراحة لم أكن شغوفاً بشعره بقدر ما هي رغبة في الإطلاع على ثقافة شعب مأخوذ بأكلمه بشعر حافظ، للحظة تأمل في مفردة (Seduction) أي غواية، وتداعياتها في النص رفعت عيني عن الكتاب لتلتقي للحظة بعينين هما أجمل ما خلق الله من السحر. بعدها أشاحت الفتاة صاحبة العينين بنظرها نحو الفتاة الجالسة قبالتها، نهماً بقيت أتفرس ملامحها الجميلة الأخاذة. لم يكن بإمكاني رفع عيني عنها.
كانت جليستها فتاة تصغرها سنّاً، جميلة جداً، تنصت بعمق الى حديث السيدة، وهذه بدورها تلقي بالكلمات رويداً، كمن تقوم بترتيب زجاجات العطر على منضدة الزينة، واضعة كل واحدة في مكانها الصحيح خشية أن تنزلق من يدها فتكسر، أو ان توضع في غير مكانها. بالطبع لايمكنني سماع ماتقوله، ولكن ليس من العسير أن ترى الإتقان من خلال وقع كلماتها على الجليسة التي تبدي من الإهتمام ما يشي بعمق ودقة ما تسمعه.

لو كان بمقدوري ذلك هل كنت لأنصت الى الكلمات؟؟
تدارست مع نفسي لوهلة هل فعلاً ستهمني الكلمات؟ كنت مأخوذاً برقتها، قوة شخصيتها، قصديتها وجديتها في إدارة دفة الحديث، تبتسم بين الفينة والفينة فتلتمع عيناها، وتزمّ شفتيها الحمراوين، بانتظار توكيد إصغاء الجليسة لها.
تقدم النادل منهما ليضع على المنضدة فنجاني القهوة، كانت هي تعيد ترتيب اللفاع الذي تلف رأسها به، بعض من شعرها الأرجواني كان يرفض الإستتار بنفور، مطلقاً خصلاته لتتمايل مع نسمة عابرة أو تمايل رأسها إثناء الحديث.
ترك القهوة على المنضدة مغادراً بإبتسامة عريضة بعد أن شكرته على ما يبدو بإبتسامة أنيقة.
حاولت تتبع حركات يديها، لم يكن الحديث على مايبدو إنفعالياً قط، لأن حركات يديها كانت أشبه برقصة باليه، رشاقة مفرطة لأناملها ودعةٌ توحي بالطمأنينة، وقصدية كأني بين يدي رسامٍ أو نحاتٍ تمضي حركاته وفق إنسيابية مدروسة .. لم ألحظ أية حركة أو ميلةٍ نشازاً مطلقا... حتى كدت أصفق لها.
تنبهت على صوت النادل وهو يسألني إن كنت محتاجاً لشيء؟ أجبته ..قهوة أخرى .. ميرسي .. شكرته بلطف، وعدت الى قراءة حافظ من جديد.. حافظ وما يدريه انني شُغفت بهذه المخلوقة المدهشة؟
سكارى منذ أن كنّا بلا كأس ولاخمر
أتتنا نشوة الصهباء قبل القطف والعصر
سرى تأثيرها في الروح مثل النور في الفجر
أعدتُ قراءة المقطع الأخير: سرى تأثيرها في الروح مثل النور في الفجر.
نظرت اليها ملياً، كانت مثل قصيدة رشيقة الصياغة، بليغة المعاني، من أي زاوية نظرت اليها وجدتها أروع.
سألت نفسي .. ما هي مهنتها؟؟ ربما عازفة بيانو؟ إن دقة ورشاقة حركات يديها توحي بذلك، بل توحي بأنها راقصة باليه .. ثم تراجعت، لاتجد مدرسة باليه هاهنا في هذه البقعة من أرض الله الواسعة.. رسامة؟؟ ربما رسامة.. أظنها ليست كذلك، فالرسامون قليلو الكلام في تصوري، لأنهم مشغولون بإستشفاف المناظر والملامح التي تمر قدام أنظارهم، بينما تلك السيدة تتكلم والفتاة تستزيدها، كأنها تستمطر الأفكار والمعاني منها .. ربما شاعرة ؟؟
ربما، لكن الشعراء عاطفيون، ستبدو على حركاتها أو قسماتها لحظة غضب، أو لفتة حزن، أو قهقهة أو عضة على الشفاه .. لم يبدو عليها أكثر من رقصةٍ رومانسية متناغمة بين ملامحها وحركاتها.
ماذا تعمل ياترى؟
ما إسمها؟؟ هذا السؤال أصعب من سابقه، كان علي أن أقرأ كتاباً عن أشهر الأسماء
لهذا الشعب، ما إسمها؟؟ سأحاول أن أحزر، ما هو الشيء الجميل لديهم؟؟ الورود؟ روز .. ربما إسمها روز، لا أظن، لايليق بها إسم روز، وهو بلغتهم يعني (يوم) على أي حال فلا يليق بها، شمس؟؟ ربما شمس .. خورشيد في لغتهم، لكن خورشيد إسم رجل، أو هكذا يبدو لي... زبرجد؟ فيروز؟ تبدو أسماءاً قاسية صلبة لاتليق برقتها.
قررت أن أحجم عن توقع المزيد .. سأصمت، سأشرب القهوة صامتاً .. طبعاً صامتاً وهل أنا مجنون لأكلم نفسي؟
كانت أفكاري صاخبة الى درجة ظننت أنني ربما كنت أتكلم بصوتٍ عال الى نفسي.
القهوة جميلة .. وتلك السيدة جميلة .. والمقهى جميل، والخضرة جميلة، وخرير الماء المنساب في الجداول تحت المقاهي المعلقة جميلة .. كل شيء جميل.. آه .. ربما كان إسمها زعفران، وضعت فنجان القهوة على الطاولة، واعدت النظر اليها، ما الذي ذكّرني بالزعفران؟ لا أدري؟؟ لكنه إسم يليق بها، شبيه بقرمزية خصلات شعرها، بقرمزية شفتيها، بلون وجنتيها، رقيق كملامحها، رشيق كابتسامتها، ونادر كوجودها.. ضحكت في سرّي .. زعفران ربما كان اسمها، لم أكن لأطلق عليها اسماً سوى زعفران، إرتحت، وشرعت بشرب قهوتي .. لكنني امسكت فجاة .. وما الذي يؤكد لي إن اسمها فعلاً .. زعفران؟؟
هذه مشكلة ثانية .. كيف سأتأكد؟ هل أسأل النادل؟؟ ومن أين له أن يعرف؟ ربما يعرف؟ كلا كلا .. لا أظن، بل ربما .. ربما تكون من رواد هذا المقهى ويعرفها .. كلا .. أنا آتي بين الحين والآخر، وهذه هي المرة الأولى التي أراها فيها.
لايمكن أن يعرف .. هذا آخر كلام.
سأسألها .. ومن قال بأنها سترد علي؟ وإن ردّت .. فمن يضمن معرفتها للإنجليزية؟ أنا أعرف كيف أسألها بلغتهم المحلية .. (ما هو إسمك سيدتي) .. أستطيع أن أقولها لكنها ستضحك من لكنتي الغريبة، لابد أن تضحك.. لكن ليس ضحكها هو ما يقلقني، بل ردة فعلها على سؤالي، ربما ستشتمني وتقول: وما دخلك أنت أيها الحشريّ؟ وكيف لي أن أعرف ما الذي تتفوه به وأنا لا أفهم سوى كلمات قليلة أقضي بها حاجاتي الصغيرة؟؟
يا إلهي .. سأموت إن لم أعرف هل زعفران هو إسمها أم لا!! هل أصرخ : زعفران؟؟ فإن التفتت فسيكون هذا هو اسمها، والا فلا؟؟؟ فكرة رائعة .. بل فكرة غبية... لن أفعل.
يا الهي .. الزمن ينقضي .. سأغادر المقهى قبيل الغروب .. دون أن اعرف اسمها .. إنها خلال حركاتها تلتقط نظرة خاطفة نحو الجهة التي أجلس فيها، هل لاحظت وجودي ياترى؟؟ أم لا؟
لا أدري .. لكنني مأخوذ بفكرة معرفتها .. هل سأراها غداً؟؟ بعد غد؟ لأنني سأسافر الأسبوع المقبل الى بلدي، هل ألتقط لها صورة من هاتفي النقال؟؟ كلا كلا إنه أمر معيب، لن أفقد إحترامي لذاتي .. لن أفعل ..
يا الله .. هاهي تنهض .. ستغادران على مايبدو .. سأسألها حين تمر بقربي متجهة نحو البوابة .. بل سأسأل النادل حين تغادر.. بل سأصرخ زعفران .. أوووووه
ما الذي جرى لي؟ أنا أفقد صوابي .. سأتامل مشيتها فحسب سأشم عبيرها حين تجتازني فحسب .. ليس أكثر من ذلك.
يا الهي .. كم هي جميلة .. وكم هي رشيقة وحالمة في سيرها، كم هي أخاذة .. ما أطيب عطرها .. ها هي تقترب مني .. فلأدر وجهي بعيداً لئلا تلحظ نظراتي ..
لم أزل أتتبع خطواتها في مخيلتي عبر الممر نحو البوابة الذي يمر بجانب طاولتي.. أقدّر المسافة التي تفصلها عني.. يا للهول .. الآن هي بجانبي .. هاهو عطرها يزداد وضوحاً .. ماذا؟؟ لقد توقفت بجنبي بالضبط .. لم أتمالك نفسي من النظر اليها فإذا بها تنظر ناحيتي .. أدنت رأسها مني قليلاً كانحناءة أميرات عصر النهضة .. وقالت بصوت موسيقي خفيض لكنه واضح الى مسمعي:It is Zafaran. ( إنه زعفران).
ثم غادرت. وبقيت مشدوهاً أنظر الى خطواتها مغادرة المقهى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه