الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن المجاهد والفقيه

عصام الخفاجي

2014 / 8 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



يكشف صعود الحركات الجهادية ظاهرة لم يلتفت إليها الباحثون والمراقبون، في حدود علمي، تتمثل في انقلاب علاقة السلطة بالآيديولوجيا أو العلاقة بين الجهادي بوصفه سياسيا ورجل الدين بوصفه منظّرا للجهاد.
طوال عقود، بل قرون، كانت حركات الإسلام السياسي تبدأ من اجتهاد رجل دين يقدّم تأويلا جديدا لتعاليم الكتاب والسنّة عن علاقة المسلمين بسلطتهم الزمنية وعلاقتهم بالمجتمع الذي ينتمون إليه. هل يطيعون الحاكم المسلم حتى وإن انحرف عن رؤيتهم للدين الصحيح أم يثورون عليه؟ هل يبدأ قيام دولة الإسلام من الأسفل إلى أعلى أو بالعكس؟ أي هل يبدأ الدعاة من المجتمع يبشّرونه ويثقفوه بالدين الصحيح حتى تصل غالبيتهم إلى الإقتناع بضرورة فرض نظام حكم يمتثل لقناعاتهم أم يسعون لتولي السلطة الزمنية التي تنقذ الناس من ضلالهم بقوة القانون والسيف؟ هل يقود رجل الدين السلطة أم يكتفي بدور المرشد والرقيب على صحّة تنفيذ الحاكم للشرع؟
هكذا بدأت حركة الإخوان المسلمين ومن بعدها حركات إسلام سياسية سنّية وشيعية كثيرة. تبّنت جمهرة من الناس تأويلات رجل دين وحوّلتها إلى تنظيمات سياسية يلعب فيها الأخير دور الأب الروحي أو القائد. ألهب الخميني حماس ملايين الأتباع بتأويله ولاية الفقيه الذي لم يعد إماما غائبا ينتظر المسلمون مجيأه ليملأ الدنيا عدلا بعد أن امتلأت جورا بل رجلا معاصرا ينوب عن الإمام الغائب ليقيم العدل في زمانه. وانطلق جهاديو السنّة من تعاليم سيّد قطب الداعية لفرض الإسلام بالقوة ليبتكروا أساليب متجددة للعنف المؤدي إلى أسلمَة المجتمع. وحين أعلن الأخوان تكييفهم لتعاليم المعلّم بما يتناسب والظروف المستجدّة جاء شيوخ جدد مثل عمر عبد الرحمن القابع في سجون الولايات المتحدة الآن ليضخّ مزيدا من الشرعنة على الجهاد العنفي وليكون الأب الروحي لتنظيم القاعدة.
ولكن من هو الأب الروحي لتنظيم القاعدة اليوم؟ ومن أي سلطة دينية تستمد داعش شرعيتها؟ من يشَرعن فتاوى الطبيب أيمن الظواهري أو ضابط المخابرات البعثي السابق أبو بكر البغدادي؟ لا يبدو السؤال شاغلا لبال هذين القائدين ولا أتباعهما. فالإنتصارات السياسية المتلاحقة للقاعدة منذ نجاح هجومها على نيويورك وواشنطن عام 2001 وانتصارات داعش المذهلة خلال العامين الماضيين كانت كفيلة بإقناع هؤلاء بأن اليد الإلهية تبارك أفعالهما فالفئة القليلة هزمت الفئة الكثيرة بإذن الله. وهكذا لم يعد قادة الجهاد مطالبين بتقديم الأسانيد الفقهية التي تؤكد صحة أفعالهم، بل بات رجال الدين مطالبين بإعلان الولاء والدعم لهم وإلا فقدوا أتباعهم. ولعل أبرز أمثلة ذلك ما يقوم به القرضاوي واتحاده العالمي لعلماء المسلمين الذي يبارك ويبرر للجهاديين ولا يوجّههم.
كأن ثمة ناموسا أزليا ينظّم العلاقة بين الآيديولوجيا والسلطة. يصعد السياسي متّكئا على كتف عقيدة فكرية. وما إن يرسّخ مركزه حتى يشرع بإخضاع "المنظّرين" لسلطته. ولعل بعضا من الجواب على السؤال عن العلاقة بين المثقف والسياسي والذي صار مبتذلا لكثرة ما أثير يكمن هنا، في العلاقة الملتبسة القائمة على الخضوع والمنافسة بينهما.
ازدهرت الماركسية الأوربية طوال أكثر من نصف قرن حين كان مفكرون لامعون يقودونها ويبلورون أفكارا تسعى لتأويل كتابات المؤسس كارل ماركس واشتقاق نظريات تتلاءم ورؤاهم الفكرية والسياسية. ومع صعود الماركسية الروسية وتأسيس الإتحاد السوفييتي اختفت أسماء المفكرين من قيادة المنظمة الأممية للشيوعية وبات الزعيم هو المفتي فيما أفَلَت المنظمة وصارت وظيفة كتَبَتها البحث في الكتب المقدّسة عمّا يتوافق مع فتاويه.
بوسع المتابع أن يجد تجلّيات لهذا الناموس في عدد لايحصى من الحركات العقائدية. فقد أحيل مؤسس حزب البعث ومنظّره ميشيل عفلق إلى إيقونة إسمها "القائد المؤسس" وظيفته كتابة مقالات تمجّد صدّام حسين الذي صار هو منتج نظريات البعث. وأزيح كبار المجتهدين الشيعة عن المشهد السياسي الإيراني لصالح خامنئي الأقل منهم درجة في سلّم الفقه الشيعي. وفي كل من تلك الحركات كان ثمة من تخيّل بأن الوضع لم يتغير بعد وصولهم إلى السلطة وأن السياسة ماتزال تابعة للفكر فأعدم آخر المنظّرين الشيوعيين اللامعين نيكولاي بوخارين وكان هذا مصير المنظّر البعثي منيف الرزاز فيما كان أقرانهما الإيرانيين أكثر حظا إذ أودع آية الله منتظري وآخرون في الإقامة الجبرية.
يتكرر الأمر في عراق اليوم. فقد صعدت قوى الإسلام السياسي الشيعي متّكئة على أكتاف المرجع الأعلى السيد علي السستاني ولم تكن وفود السياسيين السنّة والشيعة تنقطع عن زيارته أملا في الحصول على مباركته لما تعتزم اتّخاذه من خطوات. أما اليوم فإن رئيس الوزراء المالكي لايبدو معنيّا بتحذيرات السستاني له من التشبّث بمنصبه ولايبدو الجمهور معنيّا بها هو الآخر. وليس من المبالغة القول أن تأثير قاسم سليماني جنرال الحرس الثوري الإيراني المسؤول عن ملف العراق أكبر من تأثير المرجع الأعلى.
كنت أظن أن العلاقات الموصوفة تنتمي إلى حقل السياسة البحت حتى قادتني محاولاتي لفهم السلطة وأصولها إلى ميدان الأنثروبولوجيا التي كشفت لي أن "المثقّف" كان أول جنين للسلطة تاريخيا. "المثقف" هنا هو حكيم العشيرة أو ساحرها الذي يمحّضه أعضاؤها مكانة متميّزة إذ هو يتنبأ لهم بمواعيد الجفاف والمطر وفيضانات الأنهر ويلجأ إلى تعاويذه لدرء الأوبئة عنهم. هو، باختصار، من يقدّم نفسه حاميا للجماعة من المخاطر من خلال قدرته على مخاطبة أرواح الأجداد الموتى أو مخاطبة السماء. لكن مكانة الحكيم القيادية تتعرّض إلى إهتزاز عنيف حين تحتكّ الجماعة بجماعات أخرى تجاورها إذ يتقدّم المحارب، وهو جنين السياسي، إلى الواجهة لأنه يحمي الجماعة من مخاطر الغزو والنهب والإستعباد. ويحال الكاهن أو الحكيم إلى تابع للفرعون أو عرّافا للحاكم ينبؤه بالمواعيد المثلى لشنّ الحرب لكنه لايجرؤ على مناقشته في صحة قراره بالحرب.
وفي كل حالة من حالات إنقلاب العلاقة بين المؤدلج والسياسي كان ثمة من يثور على ما يعتبره انحرافا عن طبيعة الأشياء لكن التاريخ لايعرف حالات انتصر فيها الثوار فجمهرة الأتباع الساحقة معنية بمن يشعرها بالقوة في مواجهة الخصم لأن القوة في عرفهم هي مايؤكد صحة الآيديولوجيا ووظيفة الأخيرة لاتكمن في تقييدها بل في تبريرها.
في العرف الجهادي اليوم وفي أعراف كل الحركات العقائدية ثمة مشترك أساس: تقديس الفعل. على المنظّر أو الفقيه الذي صعدت الحركة على أكتافه الإيمان بأن "الشهداء أكرم منّا جميعا" وعليه تمنّي أن يكون معهم ليفوز فوزا عظيما. يتألق ستالين وهتلر وصدام حسين وأبو بكر البغدادي حين تأخذ جمهرة الأتباع بالتعاطي مع الفقيه/ المنظّر كمعلّم شاخ بعد أن أدّى دوره وبات مستحقّا لإحترام ممزوج بالشفقة، أب يزوره الأبناء بين حين وآخر ليطمئنوه بأنهم شاكرين لتربيته. يتألّق ستالين وهتلر وصدام حسين وأبو بكر البغدادي حين تنغرس عقدة الذنب في ذهن الفقيه أو المنظّر نفسه إذ يرى نفسه جالسا وراء مكتبه يتبحّر في المخطوطات والنصوص فيما يبذل أبناؤه وتلاميذه الأبطال دمهم من أجل إعلاء شأن العقيدة وتنفيذ تعاليمه.
لا ينكسر المشروع السياسي/ الجهادي، إذن، إن انبرى مفكرون إلى تفنيد غطائه الآيديولوجي سواء انطلقوا من الأسس نفسها مبرهنين على انحراف المشروع عن الآيديولوجيا الصحيحة أو سعوا إلى تفنيد كامل أسس المدرسة الآيديولوجية التي يتغطى بها. ينكسر المشروع بالأحرى حين يعجز عن إقناع الجمهرة بالقوة في مواجهة الخصوم وبالقدرة على حل مشاكلهم أو حين يكتشف الأتباع ضيق أو زيف الأنحصار في هويّة فرضها عليهم المشروع السياسي الذي ساروا وراءه.
لم تنكسر التجربة السوفييتية حين تعرّض الإطار الماركسي لتحديات فكرية بل حين اكتشف الناس أن البديل الرأسمالي الذي تربّوا على انحطاطه يقدّم لمجتمعاته ما عجز نظامهم عن تقديمه لهم. ولم ينكسر المشروع النازي والقومي لأن مفكّرين بيّنوا أنه سيقود إلى كارثة بل انكسر حين واجهوا الكارثة. ولن تكسر مشروع الإسلام السياسي وتفريعه الجهادي البراهين على انحرافه عن تعاليم الدين بل حين يعجز عن إشعارهم بالقوة في مواجهة الخصوم. وحتى ذلك الحين سيظل أتباع تلك المدارس مستعدين لتقديم تضحيات في سبيل غايات زائفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد