الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استفتاء مقنّع وانتخابات صورية

خالد الصاوي

2005 / 8 / 11
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


كنت في الاعدادية حين سألت أبي –وهو محام - لماذا لا تذهب أبدا لتنتخب؟ فحكى لي من منطلق الصداقة التي رباني عليها عن الانتخابات الوحيدة التي شارك فيها في شبابه في الخمسينيات وفي حسبانه أن هناك مجتمعا جديدا يولد مع الثورة، توجه للصندوق وقال لا، وعاد لبيته مرتاح الضمير، لم يكن ضد الدولة الجديدة ولكنه أرادها "ديمقراطية" ولهذا كان ضد استمرار حكم العسكر، لم يكن يريد دولة فاروق مطلقا ولكنه لم يكن أيضا يريد دولة ناصر، كان متحمسا لنضالنا ضد الاحتلال قبل وبعد يوليو، وقد سعى وهو صبي للانضمام للمقاومة في القناة ثم تطوع في المقاومة الشعبية في 56 وفي 67، كان ضد الاقطاع وضد توحش الرأسمالية، ضد نفوذ السوفييت وضد نفوذ الأمريكان، مع الوحدة وضد اسرائيل، كان قوميا ليبراليا وسط كالكثيرين من مخلصي الطبقة الوسطى الصاعدة وقتها، حلم بدولة حلم بها أغلب جيله، دولة جديدة ناهضة بلا فساد ما قبل 52 نهائيا ولا فساد ما بعد 52 طبعا.
وطلعت النتيجة: 100% في دائرته..
قال أبي لنفسه لعلي كنت لا واحدة في كم ضخم من نعم لدرجة أنها نسبة لا تذكر، وبسؤال أصدقائه في نفس الدائرة عرف أنهم جميعا قالوا لا، ففهم القصة وقاطع الانتخابات بعدها هو وأصدقاؤه.
مرت الأعوام وتأكد لهذا الجيل أن الانتخابات في مصر أكذوبة ترتبط ارتباطا شرطيا وطرديا بجميع الأكاذيب الأخرى.. فالحرية أكذوبة والمعتقلات حقيقة، العدل الاجتماعي أكذوبة واللجان النقابية أكذوبتان، وحتى قوتنا العسكرية أكذوبة لدرجة أن الحرب انتهت قبل أن يستلم أبي يونيفورم المتطوع!
وبعد النكسة، اعتبر جيل أبي نفسه –وهم في الثلاثينيات من عمرهم وقتها- جيلا من المغتربين المصريين في مصر!
فممارسة الحقوق السياسية قاصرة على فئة من الناس دون غيرها تمتلك مقومات خاصة (قرون-اريال- قوة وسرعة التصفيق-حنجرة لا تعرف الرفض-ذاكرة تسع كل أقوال الرئيس.. الخ) والحسبة مفهومة.. تقول نعم حتى يعجب بصوتك التنظيم السياسي الحاكم -من هيئة التحرير الى الحزب الوطني- فيضمك لصفوف جيش نعم، وعندما تبلي بلاء حسنا تترقى ويكون من حقك أن تقول نعم في جريدة الحزب ثم تترقى لتقولها في التليفزيون الى أن تأتيك الفرصة الذهبية ويستقطبك احد الكبار لتكون من مجموعته ضد مجموعة فلان، وهنا تستطيع أن تدخل جو المؤامرة التي تدور في أعلى الهرم حيث تتنافس وتتناحر النخب الحاكمة تعبيرا عن مصالح متعارضة لكتل اقتصادية نافذة التأثير محليا ودوليا، بالرغم من تضامن هذه النخب الحاكمة –ولو رغما عنها- في مواجهة الجماهير، وفي اطار "التنظيم السياسي الوحيد بالبلاد".
اذن عرف جيل أبي وبالتجربة الطويلة أن انتخابات دولة العسكر باطلة دائما، ولهذا عزفوا عنها تماما، فكل انسان يحترم نفسه لا يقبل المشاركة في تمثيلية سياسية، ثم انه لا معنى لتحمل الحرّ والطوابير الا لو كان للمرء دور وكان لصوته أهمية، ولكن خارج التنظيم السياسي والاقتصادي الوحيد لا أهمية لأحد، وحيث أنها سلطة مجنونة بالتسلط فقد آثرت الغالبية العظمى من جيل ابي تربية أولادها في سلام وبالقدر الممكن المحافظة عليه من الكرامة متنمّرين للنيل من السلطة مع ذلك في ساحات المحاكم أو صحف المعارضة أو بالمعارك النقابية ضد رجالاتها، وطبعا.. بأهم أسلحة البروبجانده الشعبية المضادة.. النكتة!

في 25/5 /2005 -بعد نصف قرن تقريبا من صدمة أبي في النظام الجديد وقتها- وبعد سنوات من الاستفتاء على شخص واحد دائما وشيوع القناعة الشعبية بأن النتائج من صنع النظام وحده مهما حصل، وقع الاستفتاء العظيم على المادة 76، وتطور الأمر الى ضرب المعارضين في الشارع وانتهاك أعراض المعارضات مع صمت غامض عميق للناس، فتذكرت قصة أبي وكيف كان وقعها علي، لقد فكرت لعام كامل حتى رأيت تزوير الانتخابات في المدرسة الثانوية ضدي وأمام عينيّ عقابا لي على تمردي الدائم.. ومن يومها تبلورت في رأسي العبارة التالية: (اذا لم تكن هذه الدولة تحترم الانتخابات ولا المواطنين أصلا، فلا حل أمام من يشكو مظالمها الا تغييرها بالقوة)، وبدأت أتساءل عن كنه هذه القوة وأين توجد؟ في الجماهير؟ في الجماعات الدينية؟ في الجيش؟ في العصابات المسلحة؟ وبدأت أقترب من عالم السياسة مبكرا ولكن من هذا المنظور الذي راحت السنوات ترسخه في رغما عني.. وحيث أن جيلي لم ير وجه الديمقراطية أبدا كان علي أن ألجأ للاحتجاج الصاخب كلما استطعت ذلك..
فضربت في أول مظاهرة شاركت فيها بالأزهر ضد اجتياح لبنان (!)، ومنعت من التظاهر خارج الجامعة بالقوة في 84 و85، عوقبت بالفصل بالجامعة لمشاركتي باللجنة الوطنية للطلاب وحذف اسمي من لائحة المرشحين لانتخابات اتحاد الطلاب، وفصلت أيضا لالقائي الشعر المضاد دون اذن من الادارة، أطلق علينا الرصاص لمشاركتنا في مظاهرة مؤيدة لجنود الأمن المركزي في 86، هربت مرتين قبل القبض علي رغم عدم التزامي بأي تنظيم سياسي، اتهمت بدون سند واقتحم منزل أبي بحثا عني بلا داع حقيقي، اعتقل أصدقائي وسجن بعضهم، اشتبكنا في الانتخابات المحلية لبولاق الدكرور في 92 مع مرشحي الحزب الوطني والشرطة التي تحميهم دفاعا عن الصناديق هباء، نشطت بلجنة الحريات بنقابة المحامين دون نتيجة وكافحت في خدمة تيار المسرح الحر لانتزاع استقلاله دون جدوى، واصطدمت بالأوصياء على الأفكار وسبل التعبير والرافضين لأي تمرد أبديه من رعاية الشباب بالكلية الى ادارة أكاديمية الفنون الى الرقابة على المصنفات الفنية وادارة الهناجر مؤخرا.. وعلى مدى ربع قرن تابعت قذارات برلمانية واستفتاءات بيّنة التزوير جنبا الى جنب مع نمو الانفتاحيين وتدهور الطبقة الوسطى وتغلغل الاستعمار العالمي والرأسمالية العالمية والصهيونية بينما كل الخدمات تنحط الا ما خصص منها للسادة من الحكام والملاك.
ومع ذلك وسنة بعد أخرى كنت أزداد عندا ويقينا أن الحق لا يعيش بالمساومة بل بالنضال، وأن غدا لناظره –مهما بعد- قريب.. ولهذا استمرت محاولاتي الجنينية المبعثرة حتى اندلعت انتفاضة الأقصى ووجدت طريقي الحقيقي كما حدث لكل من نزل الشارع السياسي وقتها مرة أخرى بعد كمون أو للمرة الأولى في حياته، واندفعت مع المندفعين بحثا عن حل ليس للفلسطينيين فقط بل ولنا وللبشر جميعا..
ومع تلاطم الظروف العالمية والمحلية تباعا تجذّرت الحركة في الشارع جنبا الى جنب مع ازدياد احتجاجات المصانع وفقراء الفلاحين فاشتعلت المناورات لصالحها وضدها، واضطر النظام للرجوع خطوة للخلف في مناورة مع الجميع، تربصت أمريكا للصيد في الماء العكر، تحفز الاخوان وانطلق اليسار، وها نحن الآن ننتظر الانتخابات بنوعيها.. الرئاسية ثم البرلمانية، فماذا لدينا الآن؟ لدينا أسئلة جوهرية:
-هل هذا النظام يريد حقا اجراء انتخابات "حرة"؟
بالتأكيد لا! والا لترك كل تيار يعبر عن نفسه منذ سنوات طويلة وبحرية تامة مفرزا قيادات ذات برامج وعبر مؤتمرات شعبية حاشدة ومساحات اعلامية متساوية ودون تقييد لصحف المعارضة ولا مضايقات للعضوية في الأحياء الشعبية ومواقع العمل، ولكن النظام الذي يجرّم أحزاب الاخوان والشيوعيين والأحزاب المهنية والعمالية، ويضرب المتظاهرين ويفض الاضرابات والاعتصامات بالقوة ويطرد الفلاحين بالسلاح، ويزور الانتخابات ويحتكر الاعلام ويستعمل موظفي الدولة في مسيرات التأييد هو بالتأكيد لا يريد انتخابات حرة لأنه لا يضمن النجاح فيها رغم كل ما فعله –بل بسبب كل ما فعله بالذات- ولأنه مرعوب من منافسه الأكبر -التيار الاسلامي- الذي يستطيع اكتساحه في الانتخابات الحرة كما يتصور هو والجميع (عن حق أو عن مبالغة)، واذا كان النظام يريد انتخابات حرة فالسؤال هو لماذا؟؟ "لماذا يمسك النظام بقرني البقرة ويدع غيره يحلبها" كما قالها عمرو ابن العاص –بتصرف- في خطابه لأمير المؤمنين عقب فتح مصر رافضا أن يتولى غير العرب جني الاستقطاعات من المصريين.
لماذا يريد النظام انتخابات حرة لم يجبر عليها؟ واذا كان مجبرا عليها فكيف ينفذها بنزاهة؟ واذا كان حقا يريدها حرة أي يوافق على التغيير ولو جزئيا فلماذا لا يرشح الحزب الوطني شخصا آخر من باب التغيير الجزئي؟ ان اصرار النظام على مبارك هو اصرار منه على استمرار حكم الأمس للمستقبل، واذا أرادها حرة فعلا لما أصر على عدم تغيير رأس النظام نفسه.
- هل هذا النظام قادر حقا على اجراء انتخابات "حرة"؟
لا، فنمو الاحتجاج لدى القضاة على التراث التزويري لانتخاباتنا يعني استحالة تمريره بالطرق القديمة، وغالب الأمر أن النزاع بين القضاء والسلطة لن ينتهي لصالح القضاء بل لصالح السلطة ولأسباب مختلطة، منها تمسك السلطة بأداة التزوير لتلجأ اليها عند الحاجة -وهي أهون بالتأكيد من اللجوء للجيش- كما أن هناك مشكلات ادارية تخص قلة أعداد القضاة الى أعداد الصناديق وعدم دقة جداول الانتخاب لطول مدة العبث بها لصالح الحزب الحاكم، وبيروقراطية الجهاز الأمني الذي اعتاد وتمرس على طرق بعينها في التعامل مع الانتخابات، وتناقض أجنحة الحزب الوطني -الحرس القديم والجيل الجديد- حول شكل وسرعة التحول الديمقراطي المطلوبين، كل ذلك على تركة مهولة من التشكك الجماهيري والسلبية والتعاطف التحتي مع الصوت الاسلامي المستبعد بجناحيه –التحاوري والجهاديي- اضافة لحالة الاحتقان الاقتصادي والقومي والعقائدي وما قد تؤدي اليه من انفلات يتحول عادة ضد قوات الأمن التي استفزت الجماهير عبر السنوات القليلة الماضية على جميع الأصعدة، كل ذلك وحالة التربص الأمني "بالارهاب" وتربص الأخير بالجميع مع الكثافة الاعلامية للحدث نفسه والحساسية المصاحبة لذلك ودعوة البعض لمقاطعة الانتخابات مما سيزيد من احتكاك الأمن بالمحتجين ثم أخيرا عبث أمريكا بأنفها داخليا عبر منظمات مدعومة منها لمراقبة نزاهة الانتخابات (!) وهي غير مرحب بها من قبل الحزب الوطني ولا رجال أمنه ولا من مناضلي الشارع أصلا.. كل ذلك معا لا يؤشر لانتخابات هادئة متسامحة بل لمواجهات شوارع على الأرجح، وبقدر الهوجة الاعلامية التي تبدعها الدولة اليوم للدعاية للانتخابات الحرة، بقدر ما سيكون احباط المنخدعين فيها غدا، وبقدر ما سيأخذ العنف مسارا جديا للأسف.
وبفرض أنها انتخابات نزيهة وأمكن ادارتها بسلام، فان طرح المرشحين الرئاسيين العشرين بهذه الطريقة العشوائية وبعد كل هذا التراث التزويري والعبثي والقمعي لا يعني الا اننا سنختار واقعيا بين 3 مرشحين هم من نعرفهم في الحقيقة.. مبارك/نعمان جمعة/وأيمن نور، ومن المستبعد في تقديري لأي رابع أن يكسب وهو بلا خلفية شعبية مطلقا ولو تكلم للشعب من اليوم وحتى 7 سبتمبر في جميع القنوات، ففي الانتخابات الرئاسية لا يؤثر في الناس شخص الرئيس المتحدث قدر تأثير خطابه (رغم تصور الكثيرين لغير ذلك)، وحيث أن السلطة قطعت طريق الشارع على الوفد منذ تكوّنه وحصرته في القاعات المكيفة –وقد شهدت ذلك بعيني عام 90- فقد تجمد خطابه ولا أتصوره حاملا لنبض الجماهير، اضافة الى تصريح نعمان جمعة بعدم السماح بالأحزاب الدينية وهو ما سيفقده أصواتا كثيرة بالتأكيد، أما الغد فقد اشتغل الحزب الوطني على تشويهه منذ مولده وشكك الكثيرين فيه وفيمن وراءه وبهذا قلل فرصه في الحقيقة رغم الجهد الكبير الذي بذله الغد وأيمن نور للتواجد في الشارع، كما ان شبهة تأييد أمريكا للغد لا زالت تلاحقه كاللعنة.
أيها السادة.. انها انتخابات صورية واستفتاء مقنع!
فحتى بفرض ان توجه الناخبون للصناديق طواعية دون رشوة من الحكومة أو بلطجة من الحزب الوطني ومرّ الأمر بسلام وحسن ادارة، فلن يعطي هؤلاء الناخبون أصواتهم الا لمبارك، لأن "الاستقرار" سيكون بالنسبة لهم في هذه الظروف.. أفضل الاختيارات.
-ما البديل اذن؟
جمعية تأسيسية منتخبة، دستور جديد نقي من كل القيود، حكومة مؤقتة تدير البلاد لفترة معقولة ومكثفة من الممارسة الديمقراطية الفعلية واليومية، فتطلق يد جميع الأحزاب والتيارات لتنشط بحرية تامة، اقتسام عادل للاعلام الحكومي تفرز عبره الأحزاب قياداتها ورموزها الفاعلة التي تطرح برامجها على الجماهير وترتبط بها..
هل معنى ذلك شيوع الفوضى؟ بل العكس تماما، فهكذا فقط يمكننا احداث قدر من التغيير الحقيقي وتجاوز كل من الفوضى والاستبداد، وهكذا أيضا يمكننا تجنب المفاجآت الأخرى كالانقلاب العسكري والاحتلال بهدف تفكيك النظام -على الطراز الأفغاني والعراقي- والتداعيات الأخرى الغامضة التي يزخر بها الواقع الحي جرّاء الاحتقان القومي والطائفي الذي يضرب العالم والمنطقة العربية كلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا