الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطاب مفتوح الى الدكتور حيدر العبادي (الجزئ الثاني)

محمد علي زيني

2014 / 9 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


خطاب مفتوح الى الدكتور حيدر العبادي (الجزء الثاني)
إعادة البناء
تعرضتُ في الجزء الأول من هذا الخطاب، بصورة أساسية، الى وجوب إحلال الأستقرار الأمني والسياسي في البلاد. إن طبيعة هذا الأستقرار تستدعي ضرورة نبذ الطائفية والتفرقة بين مكونات الشعب الواحد بأي صورة كانت، حتى يتم تأمين إلتحام كافة شرائح الشعب وفئاته لكي تنتشر المحبة ويعم السلام والأستقرار في ربوع بلاد الرافدين. إن الأستقرار المنشود، بشكليه الأمني والسياسي، هو الشرط رقم واحد لتحضير الأرضية الصالحة والمتماسكة التي سنعيد فوقها بناء عراقنا الذي ناله الدمار أرضاً وشعباً. ومن أجل هذا الهدف النبيل ينبغي أن نجند كل إمكانياتنا المتاحة لأعادة البناء بيد وتنظيف أراضينا المقدسة من دنس الأحتلال باليد الأخرى. لقد أصاب البنية التحتية العراقية دمارٌ يكاد يكون كاملاً خلال الحرب التي دارت عليه إثر قيام الطاغية صدام حسين باحتلال شقيقتنا الكويت. وتراجع الأقتصاد العراقي تراجعاً رهيباً نتيجة لتلك الحرب من جهة واستمرار الحصار الأقتصادي على العراق لمدة قاربت 12 سنة من جهة أخرى. وبخلاف ما كان متوقعاً بعد سقوط النظام الدكتاتوري في 2003، لم يتوجه السياسيون، الذين تسلموا مقاليد السلطة من قوى الأحتلال، لأعادة إعمار البلاد ومعالجة حالة الفقر والمرض والتخلف التي استولت على الشعب العراقي المظلوم. بل على العكس، أهملوا البلاد ومن فيها، واستأثروا بالسلطة بكل ما أوتوا من قوة، وتوجه أغلبهم لسرقة المال العام بشتى الوسائل والطرق، ذلك المال، بالمليارات، النازف من خزينة الدولة والذي كان سيعمر البلاد ويوفر الخدمات. والآن، وبعد مرور 11سنة على سقوط الدكتاتورية لا نجد على الأرض إلا الخراب ولا بين الناس إلا الفقر والتخلف والبطالة ونزيف الأرهاب. أما الأقتصاد العراقي فقطّاعاته المهمة ما زالت ميتة، والنمو السنوي يتقدم، ولكن على استحياء، وما زال مقتصراً على قطّاع استخراج وبيع المواد الأولية (النفط الخام) حيث تتركز الأستثمارات، حتى أصبح العراق في الشرق الأوسط الدولة الريعية الأولى بامتياز. أما دخل الفرد العراقي فقد انحدر الى أقل مما كان عليه حتى في سنة 1960. وهل هناك عدالة في توزيع الدخل؟ كلا بالطبع. فما زالت الطبقة الفقيرة هي الشريحة الأكبر وما زالت الهوة بين الطبقتين الفقيرة والغنية تتسع. ولكن من هي الطبقة الغنية في العراق؟ كلا إنها ليست ملاّك الشركات الصناعية العملاقة، ولا أصحاب البنوك برؤوس الأموال الغزيرة، ولا شركات الأنتاج الزراعي الواسعة، ولا شركات التعدين الهائلة، ولا المبتكرين من روّاد خدمات الأنترنت وعالم السايبرسبيس. إنك لن تجد من هؤلاء الروّاد بالعراق بل تجدهم بأمريكا وأوربا وفي النمور الآسيوية والصين والهند. أما في العراق فإن الطبقة الغنية هي الطبقة ذات الرواتب والمخصصات الخيالية التي تسلطت على الحكم بعد سقوط الدكتاتورية، وطبقة المقاولين الفاسدين شركاء الطبقة الحاكمة، وطبقة الكومبرادور التجار الذين فُتحت أمامهم أبواب العراق على مصاريعها لاستيراد المنتجات الصناعية والزراعية لأغراق الأسواق العراقية بما يضر بتنافسية المنتجات العراقية، يا للفضيحة ويا للعار! متى يتسلم أبناء العراق الوطنيون الغيارى البررة من ذوي الخبرة والكفاءة والنزاهة مسؤولية القيادة لينتشلوا العراق من الهوّة السحيقة المظلمة التي وقع بها، متى! أننا فيما يلي سنرسم طريقاً يهتدي به رئيس مجلس الوزراء المكلف، عسى الله أن يهديه لخدمة العراق وشعبه، إذ لعله سيكون هو من سيقود العراق الى شاطئ السلامة والأمان وإعادة البناء والأزدهار، من يدري؟

1
إن الأنانية والفساد هما من بين أخطر الصفات التي يمكن أن يتصف بها السياسي، إذ أنه إن كان كذلك فسيدفع ببلاده، حتماً، الى الأسفل. وهذا ما هو حاصل للعراق منذ أن تسلمته تنظيمات المعارضة العراقية بعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق، والتي رجعت الى العراق في آذار 2003 مع قوى الأحتلال. إن العراق، كما هو معروف، ثري جداً من حيث الموارد الطبيعية والمياه والأرض والسكان والتأريخ. ولكن فصائل السياسيين الذين جاؤوا لحكم العراق بعد السقوط، بدلاً من استغلال ثرائه الواسع لإعادة بنائه أرضاً وشعباً، نزلوا به، بفساد أغلبهم وقلة معرفتهم وغياب وطنيتهم، الى حضيض الدول الفاشلة. ليس هذا فقط وإنما أصبح نحو ثلث أراضيه محتلة من قبل وحوش أوباش يدعى تنظيمهم "داعش". لقد أصبح العراق في هذا الوقت الحرج - نتيجة لما حصل له خلال العشر سنوات السود الماضية - بأمس الحاجة الى قيادة حكيمة، وطنية، نزيهة وكفوئة، تعرف كيفية استغلال ثرائِه الواسع والأنطلاق به سريعاً في طريق إعادة البناء والتقدم، ليسير بالمسقبل جنباً الى جنب مع دول ناجحة أخرى مثل كوريا والصين والبرازيل والهند. وسوف لن يستغرق النهوض بالعراق أكثر من عقدين الى ثلاثة عقود، شريطة توفر النوايا الحسنة والجهود الصادقة. إن أولى الأهداف الواجب تحقيقها من أجل البدئ بعملية إعادة البناء هو تحضير الأساس الرصين والصالح الذي سيحمل البناء الجديد. وليس هناك أفضل من الأستقرار الأمني والأستقرار السياسي كسَداة ولُحمة لتكوين هذا الأساس، وقد تكلمنا عن شروط هذا الأستقرار في الجزء الأول من خطابنا الى السيد المكلف بتشكيل الوزارة العراقية الجديدة.
2
ولكن ماذا نقصد بإعادة البناء؟ المقصود هنا هو إعادة بناء الأقتصاد العراقي ووضعه على سكة التطور بما يتضمن إعادة بناء البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية بكاملها وإعادة هيكلة الأقتصاد بالأنفتاح على القطاع الخاص وإحياء قطاعي الزراعة والصناعات التحويلية وتوسيع وتطوير قطاع الخدمات بما يشمل خدمات السياحة الدينية والترفيهية، وتنويع وتوسيع وتطوير القاعدة الأقتصادية لأحراز حالة من النمو المستدام، وليصبح الأقتصاد العراقي بصورة عامة مصدراً ضريبياً متنامياً لتمويل ميزانية الحكومة السنوية مع تقليص الأعتماد تدريجياً على ريع الصادرات النفطيةً. هذا هو أحد وجهي إعادة البناء، أما الوجه الآخر لأعادة البناء فهو الغاية الأساسية من كافة الجهود المبذولة في هذا المضمار، ألا وهي تحقيق الحياة الأفضل للمواطن العراقي. إن الحياة الأفضل المعنية هنا لاتتضمن فقط تحسين مستوى المعيشة بتوفير الدخل الأعلى، وإنما تتضمن أيضاً تحقيق مستويات متقدمة من التعليم والصحة والتغذية، مع فقر قليل وبيئة نقية وتكافؤ عادل للفرص وحريات فردية واسعة وحياة ثقافية غنية.
3
لقد مرّ الأقتصاد العراقي بفترة ذهبية خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، ولو قُدّر للعراق أن يستمر على ذلك المنوال، وبإدارة حكيمة، لانتهى الآن بمصاف النمور الآسيوية الناجحة ومنها كوريا الجنوبية. ولكن الحروب التي أشعلها صدام وما جلبت من دمار وحصار جعلت الأقتصاد العراقي يتراجع بالأسعار الثابتة بمعدل 6% سنوياً خلال الفترة 1980 – 2002 تلاها بعد ذلك سقوط النظام في 2003. وإذا كان الأقتصاد الكلي قد تراجع بتلك الشدة فإن دخل الفرد العراقي، وهو مؤشر مستوى المعيشة، قد تراجع بصورة أشد بسبب النمو السكاني المستمر. فعدد سكان العراق الذي كان 13,3 مليون في سنة 1980 ارتفع الى 24,5 مليون في سنة 2002، أي أن عدد سكان العراق كان ينمو خلال تلك الفترة بمعدل 2,8% سنوياً، ومُقدر له أن يصل الى نحو 45 مليون في سنة 2035 حتى بعد السيطرة على سرعة النمو. لقد بلغ معدل نمو الأقتصاد العراقي بالأسعار الحقيقية (أي الثابتة) خلال الفترة 2002 – 2013 نحو 5.4% فقط، ومعدل النمو هذا ضئيل جداً إذا أخذنا بنظر الأعتبار أن الأقتصاد العراقي كان يتراجع بمعدل 6% سنوياً خلال الفترة 1980- 2002، كما أن هذا النمو لا يمكن الأعتداد به كثيراً لأنه حدث بصورة رئيسية نتيجة الأستثمارات في القطاع النفطي.
4
كان من المفروض والمتوقع أن يحقق الأقتصاد العراقي بعد 2003 نمواً حقيقياً عالياً لا يقل معدله عن 10% سنوياً للتعويض، على الأقل، عن التراجع المخيف الذي بدأ يتعرض له منذ نشوب الحرب مع إيران. ولكن ذلك لم يحدث لأسباب عدة يمكن اختزالها بسبب رئيسي واحد وهو عدم تحقيق التصالح الصادق بين فئات الشعب المختلفة. ولقد نتج عن ذلك أن وقع العراق تحت سيطرة قوى متصارعة ومصالح متنافرة، تعاملت معه باعتباره غنيمة حرب، كل فئة تريد الأستحواذ على الحصة الأكبر، فغاب الأستقرار الأمني والسياسي واستعر الأرهاب واستشرى الفساد وتحول الحكم الى عملية هدم وليس بناء. إن عملية إعادة البناء ليست بالأمر الهيّن أبداً. فهي إضافة الى حاجتها الى مسؤولين تكنوقراط أكفاء في عمليات التخطيط والأدارة والتنفيذ، فهي ستحتاج الى استثمارات هائلة لا تقوى عليها الميزانية السنوية بجزئها الأستثماري. ولغرض تخمين ما تحتاجه خطة تنمية طويلة الأمد (لمدة 20 سنة) تبدأ في 2016 وتنتهي في 2035، مع افتراض أن الناتج المحلي الأجمالي سيحقق نمواً حقيقياً بالأسعار الثابتة لسنة 2015 مقداره 10% سنوياً للعشر سنوات الأولى 2016 – 2025 و12% سنوياً للعشر سنوات الأخيرة 2026 – 2035 وجدنا أن هذه الخطة ستحتاج الى 6,600 مليار دولار. إن دخل العراق من النفط، بموجب دراسة وكالة الطاقة الدولية (السيناريو الوسطي) سيبلغ نحو 5,000 مليار دولار حتى سنة 2035. فإذا افترضنا أن الميزانية التشغيلية ستستهلك 2,000 مليار دولار خلال سني الخطة، أي بمعدل 100 مليار سنوياً، فإن الباقي (3,000 مليار دولار) سيمكن تخصيصه لخطة التنمية.
5
إن الخطة بكاملها ستحتاج – كما قلنا – الى 6,600 مليار دولار. ولا ينفع مع هذا المبلغ الفلكي السطو على البنك المركزي العراقي، كما أراد أن يفعل رئيس مجلس الوزراء السابق، أولاً لأن الأحتياطيات الدولية (موجودات العملة الصعبة) لدى البنك المركزي تافهة إذا قيست بمتطلبات خطة تنمية طويلة، فهي لا تتجاوز الآن 70 مليار دولار على أحسن تقدير، وثانياً إذا تم السماح للسلطة التنفيذية باستغلال موجودات البنك المركزي لاستيراد معدات أو مكائن أو لتمويل مقاولات أجنبية لأنشاء مشاريع صناعية وزراعية، مثلاً، فإن الدينار العراقي سينكشف وتتدهور قيمته. إن هذا ما حدث خلال الحصار الأقتصادي على العراق ومنعه من التصدير. إذ بدأت موجودات البنك المركزي من العملات الأجنبية بالتناقص تدريجياً ما دفع المستوردين العراقيين باللجوء الى السوق المحلية وأسواق الدول المجاورة لشراء الدولار بالدينار العراقي. وحتى الحكومة العراقية كانت تفعل ذلك في الحالات الحرجة، مع الفارق أن الحكومة كانت تطبع الدينار بدلاً من اكتسابه ببيع البضائع المستوردة في الأسواق المحلية كما يفعل المستوردون من التجار. وعلى هذا النحو تدهورت قيمة الدينار العراقي وبالتالي انهارت، إذ أن العملة سلعة تتأثر قيمتها بالعرض والطلب. وبمقابل الأرتفاع الهائل للدولار مقابل الدينار تضخمت الأسعار الى مستويات فلكية. لذلك من أجل سد باقي الأستثمارات المطلوبة (3,600 مليار دولار) يتحتم اللجوء الى الأستثمار الخاص، جزء صغير منه سيكون عراقي وعربي، والباقي يتعين استقدامه بهيئة أستثمار أجنبي مباشر. إن هذه الأستثمارات الهائلة، أي بمعدل 180 مليار دولار سنوياً لمدة 20 سنة، سوف لن تَقدم الى العراق ما لم تتغير بيئته الحالية الى بيئة مؤاتية للأستثمار.
6
إستقرار الأقتصاد الكلي: إن للبيئة المؤاتية للأستثمار الأجنبي شروط يتعين استيفاؤها. ويأتي في مقدمة الشروط إستقرار الأقتصاد الكلي بما يتضمن السيطرة على التضخم. ذلك أن التضخم، إذا أصبح مفرطاً، كما حدث في العراق بعد فرض الحصار الاقتصادي، يعطل آلية الأسعار ويفقدها مزيتها في التعبير عن الندرة النسبية للسلع والخدمات ويضعف دورها في عملية تخصيص الموارد وتوزيعها على الأنشطة الاقتصادية المختلفة، كما يلغي وظيفة العملة المحلية كأداة للتداول والادخار. وتنحسر في أجواء التضخم المفرط قدرة الشركات وأصحاب الأعمال على التخطيط للعمل والإنتاج نظراً للأختلالات الخطيرة والمستمرة في الأسعار، إذ يستتبع تلك الأختلالات السعرية صعوبات كبيرة في تنبؤ التكاليف والأرباح.
7
توفير قضاء مستقل: إضافة إلى توفير الأستقرار الداخلي بأنواعه الثلاثة الأمني والسياسي والأقتصادي، يتحتم على الحكومة توفير الإطار القانوني لتنظيم عمليات الإنتاج والتوزيع، وتأمين حرية المنافسة في السوق، وتوفير قضاء مستقل للحسم في قضايا المنازعات التجارية، وتحديد حقوق الملكية الخاصة وضمان الحماية التامة لها وعدم جواز مصادرتها، ناهيك عن صيانة الحياة واحترام قدسيتها.
أسواق مالية واسعة: إن التنمية الاقتصادية بما فيها عمليات تأسيس الشركات وتمويل المشاريع الجديدة والتوسع في التصدير والاستيراد تتطلب أسواقاً مالية عميقة ووافية تأتي من خلال تطوير البنوك المحلية والانفتاح على البنوك والبيوتات المالية الأجنبية. إن توسيع الأسواق المالية وتنظيمها داخل البلد يشجع عمليات الادخار المحلي واستغلال المدخرات بكفاءة، كما أن الانفتاح على البنوك الأجنبية يزيد المنافسة ويستقدم رؤوس الأموال الأجنبية من أجل استغلالها محلياً، كل ذلك مواكبةً لحاجات الأستثمار المتزايدة. هذا ومن الجدير بالذكر أن النشاط المصرفي داخل العراق لا يزال ضعيف جداً ويئن تحت وطأة أنظمة مالية ومصرفية قديمة وبالية. إن العراق بحاجة ماسة إلى إصلاح مصرفي قوامه إعادة هيكلة البنوك العراقية، الحكومية والخاصة، من أجل تحديثها وتحسين إدارتها والنهوض بكفاءتها لتعمل وتتنافس بنجاح ضمن بيئة مالية حديثة وكفوءة. إضافة لذلك، يتحتم توسيع أسواق البلد المالية من أجل أن تفي تلك الأسواق بمتطلبات النهوض الاقتصادي المنشود حسبما تتطلبه خطة إستراتيجية اقتصادية متكاملة.
8
إنفتاح على التجارة الخارجية: عندما بدأت جهود التصنيع في دول الشرق الأوسط، ومنها العراق، كانت استراتيجية التنمية السائدة آنذاك هي استراتيجية إحلال الواردات بقيادة القطاع العام. فنشأت نتيجة ذلك صناعات عديدة تتسم بكثافة رأس المال، ولم توفر تلك الصناعات فرص عمل كبيرة للمواطنين. ونظراً لضيق السوق المحلية وضعف الطلب أصبحت الصناعات المذكورة تشتغل بطاقات إنتاجية أقل من سعاتها التصميمية وبكلفة إنتاجية عالية. ومما زاد في كلفة الإنتاج سوء الإدارة الحكومية (البيروقراطية). ونظراً لأنّ منتوجات تلك الصناعات تمتعت بحماية الدولة ضد المنافسة الأجنبية من جهة واحتكارها للسوق من جهة أخرى، فإن الدافع لزيادة الكفاءة الإنتاجية وتقليل كلفة الإنتاج لم يتوفر. وبتجمع تلك العوامل (أي كثافة رأس مال عالية، إنتاج بطاقة واطئة، جهاز إداري بيروقراطي كبير وغير كفوء، عدد عالي من العمال يصعب تسريحهم لأسباب قانونية وسياسية، دعم حكومي كبير لأسعار البضائع المنتجة، تعريفة جمركيّة عالية على البضائع الأجنبية المنافسة) ترعرعت صناعات خاسرة تحت الهيمنة الحكومية. وبعد أن أدركت الحكومات المعنية خطأ السياسات التي اتبعتها اتجهت، بسرعات متفاوتة، نحو الخصخصة، وهكذا بيعت العديد من الصناعات الحكومية في العراق إلى القطاع الخاص. إنّ مجرد بيع الصناعات الحكومية إلى القطاع الخاص لا يكفي، إذ يتعين بناء قاعدة إنتاجية واسعة كفوءة وقادرة على المنافسة في الداخل والخارج. إن ذلك يستوجب تحرر الاقتصاد العراقي وانفتاحه على الاقتصاد العالمي. إن التحرر الاقتصادي يستند إلى الفكرة القائلة بأنّ الأسواق الحرة، أو الأسواق التي تتوفر لها حرية العمل، هي أكفأ وأمضى وسيلة لتنظيم الاقتصاد، وأن التدخل الحكومي من خلال السياسات الحمائية، والسيطرة على الأسعار، وسياسات الدعم وغيرها من سياسات التدخل يجب أن تتقلص إلى الحد الأدنى. أما الانفتاح على الاقتصاد العالمي فنعني به تخفيض القيود على التجارة الخارجية والدخول في عالم المنافسة والتوجه نحو التصدير. على أن التحرر الاقتصادي بالصيغة التي طرحناها لكي ينجح لابد له من الارتباط بخطط لحماية الصناعات الناشئة، ومن بينها زيادة التعرفة الجمركية على السلع المماثلة المستوردة من الخارج، أو دعم أسعار الصناعات الناشئة المحلية لتحفيز الإنتاج وتوسيع القاعدة الإنتاجية. فبدون هذا الأمر سينتهي العراق مع الانفتاح الاقتصادي مجرد مستوردا للسلع والخدمات الأجنبية، كما هي حالته الآن.
9
الشفافية: الشفافية تعني عدم قيام الحكومة بالعمل في الظلام وبمعزل عن رقابة الشعب. فالشفافية تبدأ بإطلاق المعلومات ونشرها وتوفيرها للمستثمرين والباحثين والمحللين والمؤسسات ذات العلاقة. إن كل مسؤول حكومي معرض للحساب وكل دائرة حكومية معرضة للحساب من قبل الشعب، وإن ممثلي الشعب المنتخبين لهم الحق في الإطلاع على عمل أية دائرة وإداء أي مسؤول، خصوصاً أولئك المسؤولين عن التصرف بأموال الشعب.
الأستثمار البشري: إن الاستثمار البشري، أي تطوير الموارد البشرية، ليس هو عامل مهم في جذب الأستثمار الأجنبي فقط، وإنما هو ـ بحق ـ غاية من غايات التطور الاقتصادي باعتبار أن خير الإنسان هو المنشود من هذه العملية، كما أنه عامل أساسي في زيادة الإنتاجية وفي ارتفاع نمو الناتج المحلي. لقد دلت تجارب الخمسة عقود الماضية على أن الاستثمار البشري هو القاعدة الأساسية التي يستند إليها التطور الاقتصادي. ويكفي أن ننظر إلى تجربتي اليابان وكوريا الجنوبية في توسعهما الكبير في برامج التعليم والتدريب ومدى التطور الاقتصادي الذي حققتاه، لكي ندرك أهمية الاستثمار البشري في عملية التطور الاقتصادي. ويشمل الاستثمار البشري الإنفاق الحكومي على نشر التعليم وتوسيع التدريب والعناية بالصحة العامة. على أن النظام التعليمي الحالي بالعراق، والذي أُعد أساساً لتخريج موظفين حكوميين، قد عفى عليه الزمن وأصبح لا يتماشى مع متطلبات قطاع خاص ناهض يقود عملية التنمية كما نريد لها في العراق. ذلك أن القطاع الخاص، لكي يتميز بإنتاجية عالية وقدرة على المنافسة الخارجية، في عصر المعلوماتية هذا، سيحتاج إلى عمالة ماهرة ذات معارف واسعة وقدرة على استعمال الكومبيوتر والإلمام باللغة الإنجليزية لاستغلال ما تقدمه الشبكة العالمية (الانترنت) من علوم وتكنولوجيا ومعارف إنتاجية وإمكانيات تسويقية. إن ذلك يتطلب مراجعة عامة للمناهج التعليمية الحالية التي تركز على الحفظ والاستذكار فقط وتطويرها لتنشئة أجيال ذات إمكانيات تحليلية قادرة على البحث عن المعلومات والوصول إليها واستغلالها بما يفيد أصحاب المصالح وأرباب العمل.
10
سهولة في بدء الأعمال الجديدة: إن ذلك يعني تسهيل الأمور للمستثمرين وذوي الأعمال والأفكار للانطلاق من أجل إنشاء أعمال ومشاريع جديدة بأقصر مدة زمنية ممكنة. ويتضمن توفير السهولة في بدء الأعمال جملة إجراءات منها اختزال الروتين وتبسيط إجراءات التسجيل، والإسراع بمنح رُخص البناء. وقد بدأت الدول تتنافس في مجال إبداء التسهيلات للمستثمرين، ولربما كان أفضلها إنشاء حانوت الموقف الواحد، حيث تقوم دائرة حكومية واحدة بتسهيل وتوفير كافة الأجراءات المطلوبة للبدء بالعمل الجديد، وهذا ما فعلته المملكة العربية السعودية.
ضرائب أقل وحكومة أصغر: إن الضرائب غير العالية ستزيد من هامش الربح وتشجع على الاستثمار، كما أن حكومة ضامرة وكفوءة وخالية من البيروقراطية والفساد هي الأقدر على جذب القطاع الخاص والتعامل معه وتشجيعه على الاستثمار. وكنتيجة لمثل هذه الجهود سينتهي القطاع الخاص كونه هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي الحقيقي وهو الجانب الأهم في خلق فرص العمل وتوظيف العمالة في البلد، أما المجال الحكومي فسيكون هو الأصغر في معادلة التوظيف. إن ذلك سينطوي على القضاء تدريجياً على البطالة المقنعة والضاربة أطنابها لدى الحكومة في الوقت الحاضر.
11
إرتداد الى النظام القبلي: من بين السياسات التي كان النظام يتبعها، وذلك من أجل أحكام السيطرة على شرائح الشعب المختلفة، هي الارتداد إلى النظام القبلي المتخلف. فبالإضافة إلى الانعكاسات السلبية الاجتماعية والقانونية لمثل هذا النظام، فإن له انعكاسات سلبية على الاقتصاد أيضاً. ذلك أن النظام القبلي يرسخ مبادئ الأوتوقراطية والتفرد باتخاذ القرار بعيداً عن سلطة القانون والدولة وإن الولاء في ظل هذا النظام يتراجع عن الوطن ليتوجه بصورة رئيسية نحو العشيرة أو القبيلة. وينتج عن ذلك أن تتقدم الصلات القبلية على المؤهلات والجدارة الشخصية المتعلقة بالمهارات والتحصيل العلمي والخبرات المهنية في مليء الوظائف الحكومية وغير الحكومية، كما قد تؤثر تلك الصلات على اتخاذ القرارات والمسائلة في العمل، فيتراجع الإنتاج كماً ونوعاً تبعاً لذلك.
الحكم على أساس المحاصصة: المحاصصة، أو ما يحلو للبعض أن يدعوها زوراً "الشراكة الوطنية" إنما هي اصطفافات طائفية وإثنية وحزبية ينشأ عنها تسلط كل فئة على حصتها من الحكومة باعتبارها غنيمة أو لربما "بقرة" يستوجب حلبها باي وسيلة كانت ولأقصى مدة ممكنة، كما جرى خلال العشر سنوات الماضية. إن المحاصصة هي أكثر سوءاً من الارتداد إلى النظام القبلي المتخلف. ذلك أن النظام القبلي على تخلفه تصدر عنه أفعال تنم عن المروءة والشهامة والنخوة والتكاتف لأطفاء فتنة أو للدفاع عن حياض الوطن، ولكن المحاصصة هي تجسيد لحالة الدونية واللؤم وهي سياسة خطرة جداً تولد، دون أدنى ريب، انحرافاً في الولاء الواجب توجهه إلى الوطن، ليتحول هذه المرة إلى الطائفة والعرق والحزب والكتلة. والمحاصصة على هذه الشاكلة يستشري في ظلها فساد رهيب يقود الدولة بالنهاية إلى الفشل. وينشأ في ظل دولة فاشلة كهذه شعب مسخ، فاسد، لا يعرف معنىً للمواطنة ولا ولاءاً للوطن. إن العراق بحالته الحاضرة، هو مثال الدولة الفاشلة المسخ التي قضت سنوات طوال غاطسة الى الأذنين في نتانة المحاصصة.
12
خاتمة: إن المطالب التي وضعتها في الجزء الأول من هذا الخطاب، إن هي أُنجزت، ستنشر السلام داخل العراق وترسّخ الأخوة والتلاحم بين أبناء الشعب الواحد. إن هذا هو الأساس أو الأرضية الصلبة التي يمكن أن يُبنى عليه عراق المستقبل. أما المطالب التي طرحتها في الجزء الثاني من هذا الخطاب فهي اقتصادي بالدرجة الأولى، وهذا هو اختصاصي. إن الألتزام بتنفيذ هذه المطالب سيعيد بناء الأقتصاد العراقي على أسس صحيحة وبهدي أفكار مجربة تلتزم بها دول ناجحة. إن الأزدهار الأقتصادي الذي سيشاهده العراق نتيجة لتلبية هذه المطالب سيقود بالتأكيد الى ازدهار الفرد العراقي وتحسين مستواه المعاشي. إضافة لذلك ركّزت بعض المطالب في الجزء الثاني من هذا خطاب على إعادة بناء الأنسان العراقي بواسطة التركيز على نشر التعليم وتوفير الخدمات الصحية وتهيئة البيئة النظيفة وتشجيع العمالة الماهرة وتهيئة أسباب تعلم اللغات الأجنبية – وبالأخص الأنجليزية – والتمرس في استعمال الشبكة العنكبوتية (الأنترنت) وتكنولوجيا المعلومات. ولكن ليس كافياً التركيز وإعطاء الأفضلية هنا لتحسين مستوى المعيشة بتوفير الدخل الأعلى، وتحقيق مستويات متقدمة من التعليم والصحة والتغذية، مع فقر قليل وبيئة نقية. إن الذي ذكرته، على أهميته، إنما هو وجه واحد لتحقيق الحياة الأفضل. أما الوجه الآخر فيشتمل على تحقيق العدالة الأجتماعية بتوفير تكافؤ الفرص أما الجميع، وتوفير السكن الصالح لمن لا سكن له، وتأمين مرتب للمعيشة للعاطل عن العمل. أضف الى ذلك، ومن أجل تحقيق الحياة الأفضل، يتوجب توفير حريات فردية واسعة وحياة ثقافية غنية. لكن العديد من هذه المطالب المشروعة – وهي متوفرة في الدول الغنية – تخرج عن دائرة الأقتصاد لتدخل دائرة السياسة حيث يتوجب على السلطة التنفيذية تبنيها ونقلها من عالم الأماني الى عالم الواقع.
قبل أن أُنهي خطابي هذا، أود هنا تكرار القول بأن دولة كالعراق، تسلط عليها سياسيون لمدة أربعين سنة ونيف، ولم يجلبوا لها إلا الخراب، يجب أن لا يستهان بمشكلة إعادة بناءها فتُسلّم وزاراتها بأيادي من لا خبرة لهم، ناهيك عن الشك في نزاهاتهم ونواياهم. إن وزارة التخطيط هي إحدى الوزارات المهمة جداً، وينبغي أن يتسلم مسؤوليتها تكنوقراط نزيه وكفوء وذو روح وطنية عالية، إذ هو سيكون ماسكاً بعجلة إعمار الدولة ومسارها الأقتصادي. كما يجب، ونحن مهتمون بإعادة بناء بلد تعرض بكامله لعملية هدم رهيبة، إعادة تأسيس مجلس الأعمار الذي أشرف على إنجاز مشاريع كبيرة خلال السنوات الأخيرة من العهد الملكي مازالت تقدم للعراق وللشعب العراقي فوائد عظيمة. إن إعادة تأسيس هذا المجلس من ذوي الخبرات المتراكمة والكفائات والمعرفة من العراقيين من داخل العراق وخارجه سيضع العراق على الجادّة الصحيحة للأستغلال الأمثل للأستثمارات الغزيرة المتوقعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. واشنطن تعتزم فرض عقوبات على النظام المصرفي الصيني بدعوى دعمه


.. توقيف مسؤول في البرلمان الأوروبي بشبهة -التجسس- لحساب الصين




.. حادثة «كالسو» الغامضة.. الانفجار في معسكر الحشد الشعبي نجم ع


.. الأوروبيون يستفزون بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال الق




.. الجيش الإسرائيلي ينشر تسجيلا يوثق عملية استهداف سيارة جنوب ل