الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأأبين ماهر جرجس (قصّة)

داود روفائيل خشبة

2014 / 9 / 4
الادب والفن


تأبين ماهر جرجس (قصّة)
داود روفائيل خشبة

عاش ماهر جرجس حياته كلها فى عزلة شبه تامة. فى سنواته الأخيرة لم بكن له غير صديق واحد هو عبد الرحيم طه. كانت علاقاته مع كل الناس طيبة، لكن عبد الرحيم كان الشخص الوحيد الذى تربطه به صداقة حمبمة، أو على حد تعبيره، كان الشخص الوحيد الذى يتبادل معه حديثا ذكيّا. يمر عبد الرحيم بمحل ماهر الإسكافى ويأخذ مقعده بجوار ماهر، وقد تمضى ساعة أو أكثر من ساعة لا يتبادلان حلالها غير كلمات مقتضبة، حاصة حين يكون فى المحل زبون أو أكثر من زبون ينتظر أن ينتهى المعلم ماهر من تركيب نعل أو رتق قطع بحذاء للزبون. لكن حين يخلو المحل من الزبائن ويسود الهدوء ينطلق الحديث ويتشعّب. لم يكن أبدا حديثهما يدور حول مشاغل الحياة اليومية ومتاعبها. كان حديثا فى الأدب والشعر والفلسفة.
كان عبد الرحيم يسترجع لماهر ذكرى صديق صباه أيام المدرسة، فوقتها أيضا كان له صديق حميم واحد هو على الدسوقى الذى رحل مع والديه إلى أستراليا. مع على أيضا كان الحديث كله حول الأدب والشعز. كان الأستاذ رياض أستاذ الرياضيات يستقبل فى بيته فى شارع طوسون نخبة من تلاميذه يومى الأحد والخميس من كل أسبوع. لم يكن يذاكر لهم دروس الرياضة، فقد كان ألأستاذ رياض يحرص على أن يخرج تلاميذه من الفصل وقد استوعبوا المادة تماما، ولم يكن طاعون الدروس الخصوصية قد استشرى بعد. كان الأستاذ رياض يحدث التلاميذ عن كتاب قرأه، أو يتلو عليهم قصيدة. كان أول ما سمعوا باسم الشابّى من الأستاذ رياض، وعنه حفظوا "إذا الشعب يوما أراد الحياة". كان ماهر وعلى يداومان الحضور لندوات الأستاذ رياض وفى نهاية الندوة يخرجان معا، فيسيران من طوسون إلى جزيرة بدران حيث بيت على، فيصلان حتى عتبة البيت ويكون الحديث لا يزال متـّصلا فيتجهان إلى خلوصى بدوران شبرا حيث بيت ماهر، ويصلان ولا يزال الحديث متـّصلا، فيعاودان السير إلى جزيرة بدران. يكرّران هذا مرة ومرتين وثلاثا، حتى يتصادف أن يتزامن وصولهما عند بيت أحدهما مع وصول الحديث إلى نقطة يصلح الوقوف عندها، فيقول الواحد للآخر "تصبح على خير" ويرد الآخر "وأنت من أهله". فى العطلات، وفى كل فرصة سانخة، كانا يأخذان الترام إلى العتة فيتوجهان إلى سور الأزبكية بجوار الأوپيرا، وكم كانت سعادتهما حين يعودان بكنوز قيّمة اشترياها بقروش قليلة.
كان ماهر فى إجازات الصيف يذهب إلى دكانة أبيه يعاونه فى إصلاح الأحذية والحقائب الجلدية. ولم يكن أبوه فى بادئ الأمر يرى ضيرا فى ذلك، لكنه حين استشفّ أن ماهر يعتزم أن يمارس المهنة حاول أن يثنيه عن ذلك، لكن ماهر كان قد عقد العزم على ما يريد، ولما توفى المعلم جرجس إذ فاجأته أزمة قلبية، حُسم الأمر وحل ماهر محل أبيه. كان ينزل إلى المحل صباحا ولا يغادره إلا بعد أن يغلق المحل ليلا. كانت أمه، على مدى السنتين اللتين عاشتهما بعد وفاة زوجها ترسل لماهر غداءه مع صبى من أولاد الجيران. وطوال تلك الفترة كان ماهر يصحب أمه يوم الأحد إلى الكنيسة ثم ينتظرها فى الخارج ليعود بها إلى البيت.
بعد أن توفيت والدته صار يوم الأحد هو يوم حجّه إلى مزاره القديم، سور الأزبيكية العتيد. وفى إحدى تلك الجولات بين الكتب العتيقة تعرّف على صديق ختام العمر عبد الرحيم طه، وعرف أنه بدوره من سكان شبرا. من يومها اعتاد عبد الرحيم التردد على دكانه الإسكافى، تلك الدكانة التى أصبحت جدرانها تردّد أسماء أفلاطون و وردزورث وصلاح عبد الصبور، حتى كان ذلك اليوم إذ جاء عبد الرحيم إلى خلوصى واتجه إلى دكانة الإسكافى فإذا الباب موصد وعلى الباب ورقة تنعى المعلم ماهر.
لحق عبد الرحيم بموعد الجنازة. دخل الكنيسة واتخذ مكانه. أكمل القس قداس الجنازة ثم صعد المنبر. وقف حائرا. ماذا يقول؟ إنه لم يكن أبدا يرى ماهر فى الكنيسة، وحين كان يمرّ بدكانته ويحييه ثم يسأله "لماذا لا نراك فى الكنيسة؟" كان ماهر يغمغم بكلمات اعتذار لا تفصح عن شىء. وقف القس حائرا، ثم رأى رجلا فى وسط الصف الثانى من الحضور يرفع يده، فلما التفت إليه القس أشار بسبابته إلى صدره. فهم القس أن الرجل يريد أن يقول كلمة. أومأ برأسه موافقا. نهض الرجل وتوجه إلى المنبر فتنحى له القس. تكلم الرجل: "اسمى عبد الرحيم طه." اتسعت حدقات وفغرت أفواه. واصل عبد الرحيم كلامه: "عرفت الفقيد من سنين. لم أعرف أبدا إنسانا فى مثل طيبته ونقاء قلبه. كان يحب كل الناس ويحب الخير لكل الناس. كان يقول دائما: لو أن الناس أخذوا بجدّية موعظة الجبل لعاشوا جميعا فى سلام. لذا أحب أن أقرأ الآن الآيات الأولى من موعظة الجبل." سارع القس ففتح الكتاب المقدس على موضع الإصحاح الخامس من إنجيل متى وناول الكتاب لعبد الرحيم. همس عبد الرحيم بكلمة شكر وأخذ الكتاب فوضعه مفتوحا أمامه وأخذ يقرأ. لكن الحضور لاحظوا أنه لم يخفض بصره ولو مرة واحدة ليقرأ من الكناب. كان ينظر أمامه. لم يكن ينظر للحضور بل ينظر بعيدا إلى لاشىء. كان يقرأ من الذاكرة:
"طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ماكوت السموات.
"طوبى للحزانى،لأنهم يتعزون.
"طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض.
"طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يُشبعون.
"طوبى للرحماء لأنهم يرحمون.
طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله.
""طوبى لصانعى السلام، لأنهم أبناء الله يدعون."
أحنى عبد الرحيم رأسه قليلا ثم نزل فى هدوء وعاد لمكانه بوسط الصف الثانى.
القاهرة، 3 سبتمبر 2014
http://khashaba.blogspot.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في