الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موسى وجولييت الفصل الثاني والثلاثون

أفنان القاسم

2014 / 9 / 21
الادب والفن



هم أسباب أوجاعها، يغوصون في أعماقها كالسمك الجامح، ويزحفون حياتٍ تتقنُ النهش حتى كبدها. ألم يجعلوها تحبل، ابنتها أسماء؟ تأخذ العمة زليخة رأسها بين يديها، وتصرخ من الوجع. هؤلاء الإرهابيون هم سبب الفاجعة. هم الدموع والشقاء. وهم نهاية راحتها. هؤلاء الإرهابيون هم شرفها الجريح. ألم ينفخوا في بطن أسماء لقيطًا لن يحمل اسم أبيه؟ تصححها أسماء، ليس لقيطًا، لقيطة! فيمسك الولد الرديء بيدي أسماء، ويصبغ شفتيها بألوان الوفاء والصفاء، ويقول لها: لتخرجي أسماء من قفص الكآبة وأزمان العِداء! وكم سلاحك المنتظر يسقط في الصرامة! تراءت له كل الوجوه التي كان يعرفها في حيهم قبل أن يُحَصِّبوا أرضه، ويفضوا بكارتها. وطلب من أسماء الدخول إلى زمنه، فلا تخرج منه إلا بنضارة الوردة. أرشدها الولد البرقاوي إلى الطريق التي ضربت فيها الكآبة والصرامة بعصا الجرح السحرية والموت المبتسم. ولما ذكرته بأحزان الأرامل والثواكل، قال هذا شأنٌ من شؤونِ غيرِنا الذين نتركهم من بعدنا، وهي أحزانٌ محرضة. الطريق التي تذهب إلى أمك، يا أسماء، وتخرج من هذا النفق الذي عَهْدُنَا به معتمًا منذ جيل مضى ستواجهين فيها الكثير من الزلازل التي سببها زعل القمر وتحرك الأرض تحت أقدامنا، ولك أحلف، يا أسماء، إني لن أُنزل علمًا عن سلك كهرباء ولا عن مئذنة، ولن أجمع حجارةً رشقها خلاني في الطريق لأزيل للجنود حجر عثرة، ولن أُطفئ الإطارات المحترقة، لأني أحب الفوضى والدخانَ الأسودَ المُعْمِيَ للعين الجاعلَ من النهار ليلاً والأعلامَ المرفرفة. فقال موسى: هكذا يُنفخ الأولاد في بطون الحَبَلات، وتصير الحَبَلاتُ لي حدودا، وتصير لي أمة. وقال الولد الرديء: ستنتهي الفاجعة عندما يقتل جنودهم اليهود ممن يموتون لأجلنا. وتبكي أسماء على الموتى، أيًا كان الموتى، ومن أين يأتون، أيًا كان الشعب الذي ينتمون إليه، تبكي على الزمن الطويل لهذه الطامة الكبرى، الأطول من ساقي أريحا وساقي غزة المدينتين الأسطوريتين، تبكي على الزمن الباقي لنا ولهم في العذاب. وتقول عن البرقاوي ما هو إلا ولد، وعندما يكبر سيفهم أن الزمن الباقي يقصر بفضله. مسحت دمعها، وابتسمت فجأة، وفي عينيها أمارات اللَّذة. تعلو صرخة الريح. ينطفئ الضوء. ويكبل الصمت العمة زليخة، أُم أسماء. لا تستطيع الذهاب صوب صورتها. والمرآة ضخمة. فيها العالم يتحرك. وتصرخ التجعدات على وجهها، ولا تنام في الليل من فظيع الوجع، وخاصةً في الهزيعِ الأخير.
لينبثق إذن فجر دمهم! ولتقهقه شمس الشيطان في احتفال الموت! أتتحقق الأمنية الغالية على قلبها؟ هكذا تنتقم لشرفها العمة زليخة، ولا يغدو شرفها عقابها. العقاب طفل الرغبات، وهي، ما صنعت حياتها إلا مما هو حلال ومستقيم. ما صنعت حياتها إلا مما هو واجبها القديم. تحب الوطن كالآخرين. وقيمة الوطن لديها لا تقدر بثمن. الوطن لديها من ذهب. وتغوص أصابعها في صندوق جواهرها، وقد نسيت وجعها وصداعها. وتصرخ كعجوز تفاجئها اللَّذة المستحيلة، فتفتح الباب عليها أسماء، وزليخة أمها تطرح ذات السؤال:
- أهذه أنت، أيتها العاق؟
- هذه أنا، أسماء!
- يا عار أمك! لولاك لما استمر النزاع! لولاك لكنا نأكل فولاً في عكا! أيكون هذا الحاكم منهم أسوأ من ذاك الحاكم منا؟ مع الواحد ومع الواحد كلنا في الهم سواء! وهاءنذا أعيد عليك القول: لن ينسحبوا! ولن يصفوا المستوطنات! ولن يوافقوا على دولة ككل الدولات! قال دولة قال ومؤتمر دولي وكوميديا فاشلة لممثلين من برة وممثلين من جوه للتمكيك وإكمال المجزرة. وكل هذا لأجل شقفة أرض تُعطى لأولئك الجهلة والسراقين أبناء مخيمات بيروت وفنادق تونس ومناخير المرسى، إن لم يكن مواخير المرسى، فرائحتهم العطنة تملأ الدنيا أينما حطوا وأينما بطوا! صاروا وزراءَ وحكامًا ومتسلطين على ريحة دولة، فكيف لما تصير لهم دولة على أرض وقمع وضرب وجمع وشفط ولهط مثل كل ناسنا؟ أبو فلان يشخر وأبو علان يجحر وأبو ذل الأبناء في أندونيسيا أو الجزائر يجلس على كرسي مريحة ومن طرف لسانه يقول لك بلهجة غبية وانتهازية: كل شيء للانتفاضة! وهو لا علاقة له بالانتفاضة لا من بعيد ولا من قريب، ولا يعرف عنها إلا بالاسم. وبالطبع، كل شيء للانتفاضة بالكلام ما عدا معلق ثدي حرمه المصون المترهل أدامه الله!
أوقفتها أسماء، وهي ترفع إصبعًا مهددةً أمام وجهها:
- ما أتيت لأسمع منك ولكن لأنذرك.
- تنذرين أمك؟!
- أنذر زليخة.
انفجرت العمة زليخة باكية، وهي تلطم، وتولول، وفجأة، كفت عن ضرب وجهها وكفكفت دمعها:
- آه، كيف أضاعت زليخة أسماء! أهو موسى الذي يحرضك عليّ؟ أتسمعين له بعد كل ما فعله فيك على رؤوس الأشهاد؟ أََوَ صرت له عاشقة؟ لو كنت مكانك لذهبت وجلست بدون قيد أو شرط، وضمنت ألا يذبحوا الأطفال كالأغنام وأنت تنظرين وترين ولا تفعلين شيئا! أن تكوني اعترفتِ لا يعني هذا أن تنتظري منهم اعترافًا كاملا، فهم لن يعترفوا بك إلا كما يخططون لك الاعتراف ما داموا هم الأقوى! قالوا باي باي لبندقيتك، إذن مع السلامة، واتركي الباقي لنا نحن الذين بقينا، فهو أمرنا معهم، نحن الذين صرنا نعرفهم، وهم الذين صاروا يعرفوننا، منذ اثنتي وعشرين سنة ونحن متفاهمون لبن على عسل ليأتي بعض الأولاد الطائشين الذين يريدون أن يفعلوا بكمشة حجارة ما عجز ربهم عن فعله! ربهم ما استطاع مع الذين لهم رأس أقوى من كل الحجارة وكل الدنيا شيئا! فكرتهم في الحل هي التي ستمشي، في حل مسألتهم ومسألتنا، خذي هذا الرأي من إنسانة تعرفهم، وقولي أمي قالت. اليوم زمن اللاجدوى، لا شيء يجدي نفعا، إنه الزمن الرديء الذي هم أسياده! فكم نحن صغار أمام الكبار، وكم نحن ضعاف أمام الأقوياء! لهذا احفظوا عليكم ضحاياكم، وصونوا لشبابكم دمًا تهدرونه في الأرض باطلا، فما ذنبكم إذا كنتم تعجزون اليوم عن حل يرضيكم؟ اتركوا الحل للأجيال القادمة، فلربما كانت أذكى منكم وأقوى وأغنى، أما إذا عاندتم طويلا، فلن يكون إلا الترانسفير حلا، فتمعنون في تشريد بقية شعبنا، وتمزيقه، وتعذيبه. آهٍ لهذه الأرض التي هي جنة والتي هي جحيمان!
نبرت أسماء:
- اسمعي، يا زليخة، الأرض التي بعتها تحترق كجهنم الآنَ، وهناك من سيأتيك ليأخذ منك الثمن.
- حريق! ثمن! أي حريق؟ وأي ثمن؟ عمّ تتكلمين؟ ماذا تقصدين؟
- ثمن الأرض التي بعتها بالذهب ثمنا.
- ذهب! أي ذهب؟
- ما قبضته من ذهب مقابل الأرض التي بعتها ليقيموا عليها مستوطنة.
دقتها في قلبها:
- أيتها الفتاة العديمة الشرف! لو لم أبعها لصادروها بالقوة. اخرجي من هنا، يا غبية! لقد بعتِ نفسك للشيطان، فاذهبي لترتمي في أحضانه، ولتبتعدي عني أنت وشيطانك ونسلك الدميم، وإلا كانت نهايتك على يدي! هكذا أريح الدنيا بأسرها من شرك، وأقلع غرورك كشجرة من الجذور! صحيح، المال والمال زينة الحياة الدنيا والبنون شجن وهموم!
أخذ الولد الرديء يد أسماء لما خرجت تبكي من عند أمها، وقال لها لا تبكي، فأنت كل أهلي في هذه الحياة الدنيا، لا أعترف إلا بك أُمًا. مسح لها دمعها، ثم التحق معها بجنازةِ بنتٍ في السابعة من عمرها قُتلت بالرصاص الحي الذي يميت. قال لها لا أحد سيبكي اليوم، موتانا اليوم يبتسمون ونحن نبتسم وإياهم. حمّلها باقاتِ وردٍ أحمرَ، وحمل معها باقاتِ وردٍ أخضرَ وأسود، وجعل من النعش حديقة. ضايق جنود الاحتلال ألا يبكي أحدٌ في الجنازة، حتى ولا أم القتيلة الصغيرة، فأتوا جماعاتٍ من مترو شارون إلى مقبرةِ نابُلُسَ حيث العصافير تغرد والتوت الطعام المفضل للحبالى، وأطلقوا الرصاص ليقتلوا سبعةً على قبورهِمِ المفتوحةِ لمراكبِ الملح. توقف الناس عن الابتسام، وأخذوا يبكون.


يتبع الفصل الثالث والثلاثون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع