الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السريالية والفن

عدنان محسن

2014 / 9 / 27
الادب والفن


السريالية والفن-
جيرار لوكران
إذا حاول المرء، بادئ ذي بدء، أن يصرف النظر عن تأثير السريالية، بالمعنى الحصري، على الفن في القرن العشرين ، فإنّ تفردها فيه سيبدو أكثر وضوحا. ومنذ البيان الأول للسريالية، أشار بروتون إلى أنها ليست معنية بما يحدث تحت ذريعة الفن أو ضده، كما أنها ليست منشغلة بالوقوف لا بجانب الفن ولا بحياله.ورغم هذا ، إنّ عددا من الفنانين آمنوا بها ووجدوا أنفسهم فيها وانضموا إليها واعترف السرياليون بهم وبدورهم، حيث ساهموا في تطوير خصوصيات مشتركة بينهم ، يمكن تلخيصها بإخضاعهم القيم التشكيلية إلى الهاجس الشعري.
ومفهوم الرسم كجزء من الشعر ليس بالجديد : إنّ قسما كبيرا من صالونات ديدرو – وكذلك بودلير- كان مكرّسا لإشاعة هذا المفهوم والدفاع عنه.غير أنّ المهمة التي ألقاها السرياليون على عاتقهم في تخليص الشعر من شوائبه، وضعت الرسامين أمام مخاطر سوء الفهم : فهم متهمون بخلط الشعر بالأدب، في وقت بدأ الأول يفلت من الثاني، وفي وقت كان عليه أن يعلن استقلاله عن موضوعه، كالانتقال من الانطباعية إلى التجريدية، على سبيل المثال.
وعل طوال تاريخ السريالية كحركة منظمة، نجد فنانين يعلنون انتمائهم إليها عن استحقاق لا غبار عليه، ولا شأن لهذه السطور- بطبيعة الحال- أن تلقي الضوء على هذا الاستحقاق أو تورد النوادر للبرهنة على صحته.
هل الفن السريالي ممكنا؟



إنّ نقطة البداية للفن السريالي مزدوجة. فمن جانب ثمّة السياق التاريخي العام، ومن جانب آخر ثمة اهتمامات أندريه بروتون الفنية وأولوياته
وكان السياق التاريخي محكوما بثلاث ظواهر:
الظاهرة الأولى هي الرؤية الجديدة التي كانت التكعيبية قد باشرت في خلقها، رؤية متحررة من الإرث التشكيلي التقليدي ( المسافة على ثلاثة أبعاد مثلا ).
والظاهرة الثانية تتعلق بما آلت إليه الدادائية في ابتكار مجال الموضوعية الرومانتيكية ( القراءات المتطرفة والساخرة مثلا ). أمّا الظاهرة الثالثة فهي عابرة وتفضي إلى ضياع، لكنها أغوت ابولينير وبيكاسو اللذان شجّعا بحوث شيريكو في بداياته في الرسم الميتافيزيقي.
ولم ينقطع الرسم الميتافيزيقي عن دور مخصّب وكاشف داخل الحركة، وهو دور مطابق لكينونته، فوجد هذا الرسم عند السرياليين، روادا لتأويلات لم تكن مكتملة تماما في تلك الفترة.
أمّا أولويات أندريه بروتون فكانت من العوامل الحاسمة والمعقدة في آن واحد. فعندما نرجع للبيان السريالي نجد بروتون قد وضع قائمة بأسماء من أطلق عليهم رواد السريالية: في الكتابة، فلان سريالي لأنّه....إلخ واستطرد قائلا: ويمكن إدراج عدد من الفلاسفة وبعض الرسامين، ومن هؤلاء ذكر فقط: أوجلو،سورا، غوستاف مورو، ماتيس- بسبب الموسيقى- دوران، بيكاسو، الأكثر نقاءا، براك، شيريكو، كلي، مان ريه. وتعكس هذه القائمة ذوق بروتون المنظر والشاعر الشاب آنذاك. غير أنّ بعض الأسماء سرعان ما اختفت، ومنها على سبيل المثل كلي الذي كان يقول عنّه بروتون في أحاديثه الشخصية: أعماله ليست سوى تقليد محض ناجمة عن وصفات جاهزة الصنع.
ومن جهة أخرى، إنّ وجود بعض الأسماء في هذه القائمة لا يُبرر إلّا جزئيا. أجولو مثلا، لم يكن بروتون يعرف من فنّه سوى رسمة على كارت بوستال بعنوان: انتهاك قبر الضحية، ومن الجائز أن يكون العنوان وراء إعجابه به.
أمّا عن غوستاف مورو فانّ مؤسس السريالية أشار إلى أنّ مفهومه عن المرأة تبلور نهائيا أيام مراهقته بفضل تلك الزيارات التي كان يقوم بها إلى متحف روشفوكو المفتتح في العام 1904. وهذه إشارة إلى أنّ الأيروتيكية تمثل عنصرا فاعلا في الفن السريالي وجوهره.
وبما أنّ الغالبية العظمى من الفنانين السرياليين طالعوا علم التحليل النفسي كما كان معروفا في فرنسا بين 1920 و 1960 فإنّ من الخطأ أن نرى في أعمالهم تنفيسا عن اندفاعاتهم الجنسية.
وتستحق الأسماء الأخيرة عناية خاصة لأنّهم فتحوا أعينهم على الحداثة قبيل ظهور السريالية، وأعتبرهم التكعيبيون من الخارجين على " الأصولية" في الفن، بيكابيا على وجه التحديد.
وكان بروتون مسحورا بمارسيل دوشان بسب صمته وسلبيته أيضا، علاوة على أعماله الجاهزة الصنع التي أنجزها في العام 1914.وكذلك لوحته الشهيرة ( العروس تعرّت من قبل عزّابها أنفسهم)، إضافة إلى نصوصه القصيرة.
ثمّ وجدت السريالية ضالتها لاحقا فيما أطلق عليه بروتون( الاتجاه الملكي)، وهو اتجاه عبّرت عنه أعمال كرافيكية لبوش، كارون، فوزلي وآخرين.
وكان السرياليون يرتابون من أي نمط فني. ومن هنا كان تحفظهم على أشدّه على أعمال ذات الرؤية الخرافية ، وكانوا ينظرون بعين الريبة أيضا إلى أعمال رودن، لسطحية بعض جوانبها على حد تعبيرهم.وراقت لهم بعض الجوانب في الانطباعية ولفتت أنظارهم أعمال أدوارد مونش، وكوكان وحتى كادنسكي. وكان بروتون يحرص على دعوة كادنسكي كضيف شرف في المعرض الذي أقامه السرياليون في صالون ( فوق المتحررين)، حال استقراره في باريس. وفي الحقيقة، كان كادنسكي رائدا للأوتوماتيكية الحركية منذ العام 1914، وكان يحلو له أن يحيل أي بريق إلى كوكبة، بعمل دؤوب يشبه عمل العصافير عندما تبتني أعشاشها.
وثمة ظواهر متعاقبة تتعلق بتكيف السريالية وفق تطورها الخاص، ولم يخلط بروتون أبدا بين بحثه عن المدهش وبين المفاجأة من أجل المفاجأة. وينبغي أن يُفهم، حسب هذا المنطلق، ما سببه تنصل شيريكو المفاجئ عن السريالية من غضب وخيبة وهما بمستوى الأمل الذي كانت تضعه السريالية في الرسم الميتافيزيقي، إذ كانت آفاقه تفضي إلى فعل سحري وهي آفاق تنبؤية خالية من أي ضرب من ضروب الباطنية.
إنّ اشتراطات السريالية الفكرية والأخلاقية من الصرامة بحيث أنّهم رفضوا في البدايات الأولى فكرة ( الفن السريالي ) نفسه.
وليس من المصادفة أن يكون العنوان الذي كتبه بروتون في ردّه على بيير نافيل هو ( السريالية والرسم) . وكان نافيل كتب مقالا في مجلة ( الثورة السريالية)، ذهب فيه إلى ما يلي : لا وجود للفن السريالي، فلا لجرّة القلم التي تخترعها الصدفة ولا لتلك التخطيطات التي ترسم الحلم كافية كي تمثل فنّا سرياليا .
وبشكل عام، كان بروتون يقرّ بوجود عناصر معينة في عدد من اللوحات تقرّبها من الروح السريالية وفكرها، لكنه في نفس الوقت كان يتحاشى نقد وسائل البحث التي يعتمدها الرسامون، وكان من النادر أن يعلّق على أعمالهم ولم يشأ أن يصنفهم في مراتب، غير أنّه لم يخف إعجابه بعدد منهم. فكان شديد الإعجاب بلوحة ( توجد العين في الحالة الخام) التي تذكرنا ببدايات بيكاسو ولوحاته الزيتية ذات اللون الواحد، وكذلك الحال بالنسبة إلى هانس آرب بسبب ولع بالحرية ولحسه الشعري ولاستخدامه الخشب المقصوص، وكان آرب الأقرب إلى السريالية، لكنه لم ينضم إليها أبدا.
ولأسباب شبيهة احتفى بروتون بمان ريه و خاصة لوحته ( سيدات العصر الراهن ) المنشورة في المجلة المصورة وكذلك ب ( النحوت المدارية) لماريا مارتن عام 1945 .
وفي نوفمبر عام 1925 أقيم في كاليري بيير المعرض الأول للمجموعة السريالية، وشارك فيه : شيريكو ، ماسون، أرنست، كلي، بيكاسو، وكانت مشاركة كلي بصفة معنوية، كما شاركت أسماء أخرى لها باع طويل مثل دوشان وبيكابيا وبنفس الصفة. ورغم توقف دوشان عن الرسم لكنّه كان يشارك في جميع المعارض الجماعية التي تقييمها المجموعة السريالية.
تطور الفن السريالي:


إنّ القوتين الدافعتين الأساسيتين للحركة السريالية هما ماسون وأرنست. وكان ماسون في بداياته في الرسم ولم يشترك في الحركة الدادائية وكان يسعى إلى العثور على معادل للكتابة الآلية عن طريق الرسم وأستعمل الرمل في لوحاته ونفذ رسوما بسرعة فائقة.
ورغم ما اتسمت هذه التجارب بسمات تعو إلى الحلم وحرية التعبير، لكنها سرعان ما انحرفت عن مسارها الأول فاتحة الطريق أمام باب الاعتداد على مصراعيه في الأقوال والأفعال.
أما ظهور ماكس أرنست عام 1936 فمصدره عوامل خارجية، سياسية على وجه الخصوص.. فعلى النقيض من ماسون كان أرنست يرى أن التماهي مع الكتابة الآلية يحدث عن طريق القياس وليس عن طريق الاستنساخ. فمنذ الفترة الدادائية كان أرنست يستخدم الكولاج لتمثيل شخوص وحالات ذات قدر كبير من العابة والإثارة الآلية ، وحال انضمامه للحركة السريالية سار بذات المسار محاولا الاستفادة من السياق الميتافيزيقي في الرسم. وأستخدم ارنست ( الرواية- الكولاج) وقلبت أعماله : ك ( المرأة ذات المائة رأس) و (أسبوع من اللطف) مفهوم الكتاب المزيّن بالتخطيطات رأسا على عقب. ورغم سطو البعض على البعض على أعماله وانتحالهم لها فإنها باقية مثل التحف، لا نظير لها.وفي هذه الفترة من ولادة الفن السريالي، لابد من الإشارة إلى تأثير شيريكو وإلى استعماله الكولاج أيضا خاصة في ( الطبيعة الميتة)، كما ينبغي التنويه إلى الدور الذي لعبة أرنست في تطوير الكولاج وإضفاءه عليه طابعا شعريا حقيقيا. وعندما أشار ماكس أرنست إلى اختراعه الكولاج ( ينبغي أن نتذكر أنّ التكعيبية استخدمت الورق الملصوق لأسباب تتعلق بالتجديد والجمال فقط)، أستشهد بمقارنة لوتريامون الشهيرة: جميل مثل لقاء عرضي على طاولة تشريح بين ماكنة للخياطة وواقية للمطر. وكان يريد أن يقول إنّ سطوة الانفعال تبقى على حالها ، وهي أبعد من التحليل الفرويدي في نظر الشعراء. وكان أرنست شديد التعلق بالبحث عن وسائل عن وسائل جديدة لشحذ المخيلة، وقد تصور فيما بعد طريقة الصقل دون أن يغفل التذكير بما ل بيير ودي كوزيمو وليونارد دو فنشي من أسبقية في وضع الخطوات الأولى لهذا المنحى.
حالة ميرو المثالية :
كان من الطبيعي أن يفضي الرسم السريالي إلى بزوغ ظاهرة خوان ميرو. ووجدت السريالية فيه نقطة البداية الجذرية. وخوان ميرو رسام فطري، بدأ حياته كفنان برسم معالم ريفه الكتالاني وإبراز كلّ ما هو خارق فيه وغير متوقع. وما مضت سوى بضع سنوات حتى أنتقل من تدوين الواقع إلى تدوين الحركات، وكان يكثر أحيانا من هذه الحركات، بينما يتركها هائمة في الفراغ في أحيانا أخرى.
إنّ أثر ميرو منغلق على نفسه، مثل عالم الطفولة، فهو لا يأبه بسطوة العالم الخارجي، وقادته فكرتا ( اللوحة- القصيدة) و(المادة) إلى السيراميك والنحت، إلا أنّه عاد إلى الواقعية في السنوات 1935-1939، وقد تكون ظروف الحرب التراجيدية وراء هذه العودة.
جيل ثان: من الرسم إلى السينما إلى ( المادة):
وبفضل الأسماء التي ذكرناها للتو، صارت الطريق ممهدة لتطوير فنّ سريالي واتضحت شروط الانتماء إليه. فالرؤية التي نجدها في لوحة شيريكو ( مخ الطفل) على سبيل المثال، أعلنت عن استقلال بحثه وتفرده مقارنة بابتكارات ماركريت وتانغي الذي أخترع ( ديكورا صحراويا تنعكس فيه سماوات بحرية). وإنّ أعمال ماكس أرنست وراء ظهور سلفادور دالي المجلجل.
وسرعان ما وجدت السريالية، بسبب طبيعتها العالمية، أصداءا في بلدان أخرى . ومنذ عام 1931 وجدت السريالية نفسها أمام مخاطر عديدة بسبب رفضها التسويات الأدبية والأدبية المضادة، وكان على ارتيابها من الحركة الثورية كمؤسسة أن يتحول رفضا واضحا.ومن هذه المخاطر، إنّها مهددة في وسائل تعبيرها من جهة، ومن إتساع ووفرة النتاجات الفنية التي تتبنى السريالية كنمط من التعبير الفني. إنّها الفترة التي انضم فيها سلفادور دالي إلى السريالية، وكذلك المجموعة البلجيكية التي كان ماركريت أحد أهم ممثليها، وشهدت هذه الفترة أيضا انضمام السينمائي بونويل.
وبالتعاون مع دالي، أخرج بونويل فيلمين سينمائيين. وكانت أفلامه مصدرا لضروب لا حصر لها من الاستفزاز، مثيرة فضائح لا مثيل لها. فعند عرض فيلم ( العصر الذهبي)، أُثيرت فضيحة كبرى، هدّم البعض على أثرها شاشة العرض وأُتلفت اللوحات ونودي على البوليس. وبطبيعة الحال، وقف السرياليون إلى جانب بونويل، وصار فيلم ( العصر الذهبي) بهذا الشكل أو ذاك إعلانا عن عمل مشترك في حقول لم تكن،لأسباب عديدة، مألوفة لعدد كبير من المجموعة السريالية.
وفي تلك الفترة، أتسع البحث السريالي على نحو استشرافي، سواء في المجال الفردي أم الجماعي. ففي عدد خاص من مجلة ( كاييه دار)، عرض بروتون إلى جانب التحف الفنية السريالية ، مجموعة من المواد، كان اختيارها ليس فقط لتغيير الحساسية الفنية ( وهذا يُسجل للسريالية) ، وإنّما لتغيير ما يُحيط بها من شرط إنساني. ولم تُنسى حتى المواد التي يمكن أن نطلق عليها حسابية ( موديل يطوّر داخل الفراغ عناصر جبرية). إنّ هذا المنحى القاضي بتغيير الحساسية يجد جذوره في دعوة رامبو إلى تغيير الحياة. وبفضل عدد من المعماريين الزائغين مثل شوفان وكوادي كان بالإمكان الشروع به. وينبغي القول إنّ من وضع نظرية بروتون حول الجمال السريالي موضع التطبيق، هو النحات جياكوميتي، بإنجازه بعض التحف ذات الطابع الرمزي.
إنّ الاتجاه القاضي بوضع الشيء في المرتبة الأولى مقارنة بموضوعه في الرسم، وهذا هو جوهر الرسم السريالي، أفضى إلى إلغاء الحدود بين طرق التعبير المختلفة. وينبغي أن لا ننسى، إنّ أجمل الكولاج كان من صنع الشعراء السرياليين، وبروتون نفسه تخيّل ( القصيدة – اللوحة)، التي تقلب رأسا على عقب، إنّ صحّ القول، مفهوم اللوحة.ويمكن الإشارة أيضا لاستعمال المادة في الكولاج كما فعل ميريه في ( قدح من الفرو) وكذلك برونيه في ( الذئب والطاولة)، وشهدت هذه الفترة، بالمقابل، بدايات بيكاسو في الشعر، قصائده المتدفقة كالسيل الجارف، وفي الكتابة الآلية.كما أنّها الفترة التي جدد فيها ثلاثة رسامون، بالان، مارغريت، برونيه، الفن السريالي.
منعطف الحرب:
ورغم بعد رينيه ماركريت عن المجموعة السريالية الباريسية، ولكن يعود له الفضل، وبشكل لا نظير له، في ابتكار طريقة تصويرية ( ليست خالية من الدعابة والألغاز المحيرة )، تكون الوسيط بين حقيقة التمثيل بالرسم وبين الأكار السارية المفعول.
ويمكن القول إنّ أعمال مارغريت، شأنها شأن أعمال أرنست، الذي من أجله كُتبت هذه العبارة : هي أعمال فيلسوف تخلّى عن مهمته في الكتابة وصار يعبر عن أكاره بالرسم وحسب.
أما فولفغانغ فأمره مختلف فكانت تجديده للأوتوماتيزم منبثق عن اختراعه طريقة التبخير في الرسم. وثمة رسامون آخرون اعتمدت أبحاثهم على لصق الأجزاء الممزقة من الإعلانات وتجريب الصور الخالية من أي دلالة. وتخلّى هؤلاء عن هذا الاتجاه،غير أنّهم عادوا،فيما بعد، ليمجدوا مناقبه بعد عشرين أو خمس وعشرين سنة.
وعندما وصل برونيه إلى باريس، كان سوداويا وسلبيا، ولم تمنعه انطوائيته عن زج نفسه في خضم تلك الصراعات أبّان تلك الفترة المشحونة بالكهرباء.وهكذا أنجز برونية ( الحالة الغريبة ل ك م)، وهي صورة منحوتة ومأخوذة بهلوسات كافكاوية، تمثل أي دكتاتور، يشبه إلى هذا الحد أو ذاك الأب ( أبو) في مسرحية الفريد جاري. وفي دراسة شهيرة لبيير مابيل نُشرت في مجلة ( مينوتور)، أشار فيها إلى قدرة برونيه على التنبؤ: ففي بعض لوحاته نجد لمعانا يُنذر بحادثة سيتعرض لها في العام 1939 ويفقد عينه على أثرها.
وعند إندلاع الحرب العالمية الثانية، هاجر من هاجر من السرياليين واستقر عدد منهم في المنطقة الحرة في مرسيليا في العام 1940 . ومن هناك ابتكروا، بعد الجثة الشهية، آخر مبتكراتهم الجماعية. وهو عبارة عن لعبة ورق حيث بقي التركيب السريالي على حاله، لكن الصور استبدلت أو أُعيد رسمها. كما أنّ هجرة عدد من الفنانيين السرياليين إلى الولايات المتحدة الأمريكية لعبت دورا أكثر أهمية لتاريخ الفن السريالي مقارنة بالفن السريالي نفسه.ولم يجد الجمهور الأمريكي فرقا كبيرا بين فضائح دالي العلنية وبين تلك كان يثيرها خفية دوشان وبروتون وأرنست. وفي هذا الصدد، موضوع الفضائح، ينبغي أن نضع روبيرتو ماتا في مقدمة هؤلاء جميعا.
ولم تلبث السريالية، في أوج هذه الفوضى، أن تؤثر على ما سيطلق عليه ( المدرسة الأطلسية )، وهي مدرسة انطباعية تجريدية تنحى منحا غنائيا. كما إنّها أثرت على مدرسة ( أكشن بنتنك) لجاكسون بولاك.
وفي حقيقة الأمر ، إنّ هذه الفترة كانت موضع مخاوف نوّه عنها بروتون حال عودته إلى فرنسا، خلاصة هذه المخاوف هي تكريس أصولية فنية تُضاف إلى تلك التي جابهها السرياليون ووقفوا ضدها.
وكان سوء الفهم على أشده بين الجمهور وبين السرياليين في العام 1947، يشهد عليه فشل المعرض الذي أقامه بيكابيا ( خمسون عام من المتعة) ، وكذلك فشل معرض ماكس أرنست الذي أقامه في كاليري دوران في العام 1949.
ولا يُعزى هذا الفشل إلى العشر سنوات التي تفصل هذا المعرض عن آخر معرض أقامه السرياليون، وكما أنّه لا يُعزى إلى التغييرات التي طرأت على الحساسية الفنية في الفترة اللاحقة للحرب، إنّما يُعزى، على وجه التحديد، إلى أنّ السريالية لم تأخذ بعين الاعتبار النمط السائد في تلك الحقبة ( كانت البؤسوية تمر وكأنها ترجمة مصوّرة للوجودية).
وبدلا من أن تفهم السريالية هذا الوضع، راحت تسوق كلّ ما توفر لديها وتطرقه في ثيمات عن قصج لتضليل من يجها بأصول الفن. ونجمت عن كل هذا حالات استبطانية تظهر بأوضاع مختلفة تصل، حسب طبيعة الفنان، إلى حد التناقض.
الانتشار والتجمع:
كان فيكتور برونيه يسعى إلى جعل منزلة الفنان بمستوى منزلة الساحر وبمنزلة مزاول الكيمياء، بالمعنى الحصري للكلمة، فأعاد الحياة إلى تقنية كانت منسية وهي الرسم على الشمع، وكان مولعا بماكنة الرموز والشعارات التي تحيطه.وفي الفترة القصيرة التي أمضاها جاك هيرولد مع السرياليين، جرّب التشكيل من خلال استخدام الكريستال,
وقد ضمّت المجموعة التي تشكلت بعد الحرب عناصر نيزيكية، لعبت دورا في إثارة القلاقل كسيمون هانتي في العام 1953، كما أنّها ضمّت عناصر أخرى حاولت الإبقاء على التقليد السريالي مثل تواين الذي بعد أن انضمم إلى مجموعة براغ في العام 1935 استقر في باريس في العام 1947، وكانت أعماله لا مثيل لها، وهي أعمال لم تحتكم إلى حساسية ما بل إلى جماليات مستغرقة في الحلم وفي اليقظة الحالمة في آن واحد.
وعلى هامش هذا النشاط الجماعي، نجد أيضا ويفريد لاما الذي لم يكن معروفا، غير أنّ لوحاته المنجزة قبل عام 1940 أقامت جسرا بين حكايات خرافية ( ليلة مكتظة بالحشرات والأوثان) وبين الرسم الأوربي في أعلى تجلياته التي يجسدها بيكاسو( لم يفلت بيكاسو من التأثير السريالي بين 1930-1935 وخاصة في لوحته المستحمات) فضلا عن العديد من أعماله المنحوتة؟
ومن إفرازات هذه المرحلة وهي أنّ الرسم السريالي ، بالمعنى الحصري، وجد نفسه متمثلا بنوعين من الرسامين: ثمة رسامون لا علاقة لهم بالسريالية، ولكنهم استثمروا طرقها إلى أقصى الحدود، وآخرون ربطتهم بالحركة وشائج روحية غير مباشرة، لكنهم منشغلين بتفرد يقترب من الانشغالات السريالية . إنّها حالة بعض الرسامين الذين بحثوا في التجريدية الغنائية والذين رفضوا في العام 1953 العودة إلى الفن التصويري، بطلب من بعض النقاد، ورفضوا العودة إلأى التجريبية الهندسية واعتبروها عقيمة. ورغم سوء الفهم بين هؤلاء وبين السرياليين، كان التوافق بنهم ممكنا، وقد تجدد هذا التوافق ثانية في العام 1958 (مجموعة فسيز). إنّها المرّة الأولى التي يجد السرياليون أنفسهم ممثلين بنشاط تشكيلي معاصر ولد من خارج المجموعة السريالية.
وحقيقة الأمر، إنّ التعبير التلقائي والوحشي كانا موضع اهتمام السرياليين، بشكل غير منقطع،ز هذا يُفسر اهتمامهم بالفن الفطري وما يقوم به المتخلفون عقليا وحتى الأطفال، وكل هذا في إطار جمالي، وبالنسبة لهم إنّ التواطؤ الشعري، على وجه الخصوص، الذي يتجاوز المعايير التقليدية في الأحكام التشكيلية، والرغبة في معرفة الإنسان بعمق، لا يتعارضان البتة.
خلاصة ملتبسة بالضرورة:
إنّ العلاقة بين السريالية والفن السريالي، منظورا إليها من الداخل، مثلما هي العلاقة بين هذا الفن والعالم الخارجي في تطوره التاريخي، لابد أن تكون ملتبسة بالضرورة. ومن يقول ( ملتبسا ) لا يقول بالضرورة ( مزدوج المعنى) أو ( متناوبا) .
إنّ الفن السريالي جزء لا يتجزأ من الشعر من الشعر ( بمعنى الشعر الحديث حصرا، وبمعنى أنّ الحداثة تطورت بما فيه الكفاية فصارت مرجعا) ولن يكون سوى مغامرة، بعيدا كل البعد عن أي ضرب من ضروب الاستهواء حتى لو جلب هذا الأخير اهتماما عالميا، بل حتى، يقول بروتون لو قاد إلى حدائق منزوما ذات الأحجار الثمينة.
وما سبق يُفسر رفض السرياليين لنشاطات دالي الذي حولّ طريقته ( البارنويا- النقدية) المستوحاة من انشغالات سريالية محضة، ، إلى مجرد وسيلة للعودة ، عن طريق ميسونية، إلى الرسم الأكثر أكاديمية. ويفسر هذا أيضا إدانة السرياليين التي لا رجعة فيها لجميع أنواع الرسم الموجهة إلى خدمة قضايا محددة، كقضايا الدعاية السياسية، تلك التي تدّعي الواقعية الاشتراكية على وجه الخصوص. وعبّر عن هذا البيان الذي كتبه بروتون وتروتسكي ( من أجل فن ثوري ومستقل) في العام 1938. (...) ونعرف أنّ بروتون كتب ( كل الحرية للفن الّا ضد الثورة البروليتارية) كما أننا نعرف أن تروتسكي هو من شطب الجزء الأخير من العبارة، ولعله كان لا يرغب بفتح باب جديد لالتباسات جديدة.
ولم تؤثر المكانة التي وصل إليها السرياليون الّا بشكل عرضي على مفاهيمهم. ففي مقابلة صحفية أعلن بروتون في العام 1952: إنّ الفنانيين والشعراء المعاصرين لا يبحثوا عن الجمال، وما يريده السرياليون، بشكل خاص، هو ليس خلق الجمال، إنّما التعبير بحرية كاملة.
وفي نفس المقابلة، كان بروتون يرفض الفكرة التي تقول إنّ التطور العلمي ينعكس على الرؤية الفنيّة. مذّكرا ، بطريقة لا تخلو من التشفي، أنّ الكثير من أصدقاءه الرسامين القدامى والحاليين( باستثناء ماتا ويالين) كانت مراجعهم علمية ويمكن وصفها، إذا جاز القول، بالملعونة والميتة. وفي نهاية المطاف، بروتون لا يعيد الفنان إلا إلى ملامسة الطبيعة ، وهو تماس يرافقه انكفاء، قد تطول مدته كما نشاء، على الذات.
وفي عام 1960، شهد الفن السريالي تطورا جديدا يتعلق بالمنحى الفني ووسائل التعبير من جهة ، وبالعناية الفائقة التي أبداها الجمهور من جهة أخرى.
ويمكن أن نذكر هنا جان بونوا في ( الملابس المتكلفة) وجيرفيه وتيليماك وآخرين.، إنّ أحدا من هؤلاء لم ينجر إلى ما جاءت به الواقعية الجديدة، كما أنّهم رفضوا التخلي عن الغنائية وتشبثوا بالمظاهر الموضوعية ولكن لنسفها من الداخل.
ويتضح مما سبق أنّ تأثيرات دوشان، شيريكو، أرنست، ماكريت، ميرو، تانغي، لا حدود لها. إنّ النهاية التاريخية للسريالية جعلت من الصعب مواكبة مسارها اللاحق، وتبدو هذه الصعوبة أكثر وضوحا في الرسم منها في الشعر.
ومن البداهة القول إنّ النشاط التشكيلي يجد انفتاحه على العالم وفي نفس الوقت خطر موته، عندما يكون الفن سلعة وعندما تتضخم ذات الفنان، بينما الشعر يعبر عن نفسه بطرق أقل استعراضية، فاحتفظ منذ البداية بمناعة ضد أي تأثير خارجي.
إنّ دراسة الفن السريالي لم تخرج من طور البدايات، بعدما حجبته وستظل تحجبه آراء غاليا ما كانت استعلائية، ويمكن المراهنة أن تُقام دراسات شاملة، خالية من الأحكام المسبقة،تضع على المحك الصورة التي خلقها المؤرخون عن الفن السريالي,








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا