الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سقراط يناقش أرسطو

داود روفائيل خشبة

2014 / 10 / 7
الادب والفن




كرّمتنى الدورية الإلكترونية الفلسفية Philosophy Pathways بأن خصّصت العدد رقم 188(1) لعملى. حين أبلغنى د. چيفرى كليمپنر، مدير برناج الدراسات الفلسقية عن بعد ورئيس تحرير الدورية بتخصيص عدد لعملى اعتزمت كتابة ثلاثة موضوعات جديدة لكنى سرعان ما وجدت أن ذلك يتجاوز مدى حالتى الصحية وعلى الأخص حالة بضرى المتردية التى جعلت من القراءة والكتابة عناء كبيرا. فاكتفيت بكتابة موضوع واحد جديد، "لغز الـ پارمنيديس"، قدمت فيه رؤية جديدة لهذه المحاورة الأفلاطونية التى يراها الكثيرون من دارسى الغلسفة لغوا محيّرا، ثم اخترت موضوعين من كتبى التى سبق تشرها، الأول هو الفصل السابع عشر من كتابى Quest of Reality، ويتناول مفهوم الأزل الخلاق وهو مفهوم محورى فى فلسفتى، والموضوع الآخر فصل من كتابى "يوميات سقراط فى السجن" يصوّر لقاء تخيّليا بين سقراط وأرسطو (الذى لم يولد إلا بعد خمسة عشر غاما من موت سقراط)، حبث جعلت سقراظ يناقش انتقادات أرسطو لفلسفة سقراط الأخلاقية. وهذا الفصل هو ما أقدّمه هنا لقارئ الحوار المتمدّن فى الترجمة العربية النى صدرت عت المركز القومى للترجمة. أرجو أن يجده القارئ مسةتحِثـّا للتفكير، فقيمة الفلسفة ليست فى أن تعطينا إجابات جاهزة، بل أن تهيّى لنا أن نفكر بأتفستا ولأنفسنا.
اليوم الخامس والعشرون (2)
ليلة الأمس رأيت حلما غريبا. رأيت نفسى جالسا مع أصدقاء فى الـ لوكيون وإذا برجل حسن الهيئة، لم أكن أعرفه، يتّجه مباشرة نحونا. وبينما كان يقترب سمعت أحدهم ينعته برجل ستاجيرا الحكيم. حيّانا وقال أنه يودّ أن يشاركنا نقاشنا. رحبنا به وسألناه أن يتفضّل بالجلوس.
على الفور، وكأنما كان قد جاء ليؤدى مهمّة أوكلت إليه، قال لى: "أيا سقراط، إنى أقرّ عن طيب خاطر بأن ما تقوله بصورة عامة عن الفضيلة وعما هو حسن لجنس الإنسان هو أحسن من تعليم فيثاغورس. ومع ذلك فإنى أعرف أنك – حيث أنك تحب الحقّ – لن تغضب منى حين أقول إننى أعتقد أنك تخطئ حين تجعل الفضائل صورا من المعرفة."
قلت: "إنى مدين لك بالكثير من العرفان لتصويبك خطئى. ولكن، اصنع بى معروفا بأن تشرح لى بمزيد من الجلاء أىّ خطأ تجده فى وجهة النظر التى تعزوها إلىّ."
قال الـ ستاجيرى: "إنك حين تجعل الفضائل علوما تغفل عن الجزء غير العاقل من الروح. إن صديقك الوفى أفلاطون – فى وقت ما بعد رحيلك إلى العالم الآخر – قسم الروح إلى جزء له قوّة العقل، وجزء له قوّة الحميّة، وجزء له قوّة الرغبة، وكلا هذين الجزئين الأخيرين غير عاقل لكن الحميّة أقرب للعقل بينما الرغبة أكثر بعدا عن العقل."
قلت: "أيها الصديق الكريم، إنك إذ تقول أنى أجعل الفضائل علوما تجعلنى أكثر حكمة مما أعرف عن نفسى. لكننا قد نعود لهذه النقطة فيما بعد. بشأن أجزاء الروح، فإننى توقّعت فعلا أن يُدخل أفلاطون الكثير من التحسين على الأفكار التى طوّرها وقت أن كان يلازمنى. لكنى من الغباء بحيث أنى لا أستطيع أن أرى فيمَ يفيدنا هذا التقسيم للروح. إذا كان جزء الحميّة وجزء الرغبة منفصلان عن جزء العقل، فكيف يختلف فعلهما عن – إذا جاز أن نتحدّث عن مثل هذه الأشياء – أنْ يعطس الشخص أو أن يسقط فى غيبوبة إذا ضُرب على رأسه؟ الفعل عندئذ – إذا جاز لنا أن نسميه فعلا – ليس فعلا للإنسان من حيث هو إنسان. لكن إذا كان هذان الجزءان ليسا حقّا منفصلين وإنما هما على نحو ما متصلان بالجزء العاقل، عندئذ فإنه بقدر ما يحيا الإنسان حقّا كإنسان، تندمج النوازع والميول التى تأتى من هذين الجزءين فى منظومة الغايات والقيم التى ينظّمها ويناغم بينها العقل، والتى منها تصدر كل أفعال إنسان يعمل حقّا كإنسان."
شعرت بالحرج للطريقة التى جرفنى بها الحماس. قدّرت أن الغريب يكون له كل الحق إن قال أن حديثى يقدّم نموذجا جيّدا لفعل تقوده القوة الغاضبة ولا يحكمه العقل. لحسن حظى، يبدو أن الـ ستاجيرى وجد ما قلت أكثر خواءً من أن يستحق التعقيب.
بدلا من أن يعلق على ما قلت مضى يقول: "إذن أنت تظن أنه، حيث أن المعرفة شىء نبيل وخير ما يمكن أن يحكم الكائنات الإنسانية، فعليه، إذا عرف شخص ما، ما هو حسن وما هو ردىء، فإن ذلك الشخص لن يقهره أى شىء بحيث يجعله يعمل بما يخالف ما تمليه المعرفة، لكون العقل هو كل ما يلزم من دعم للسلوك الصحيح."
قلت: "نعم، ذلك ما أعتقد."
رغم طبيعته الدمثة وسلوكه المهذّب فإنه ردّ بحدّة: "لكنّ هذا تناقضه الوقائع تماما."
شُدهت لكنى بذلت جهدا حتى تماسكت واستطعت بطريقة ما أن أقول: "أعرف أن الناس يفعلون أشياء سيّئة يقولون عنها هم أنفسهم أنها سيّئة، لكن هل هم عندئذ يعرفون ما هو حسن وما هو ردىء؟ ما يسمّيه الناس رديئا، حتى حين يكون فى الواقع رديئا، هم يسمّونه كذلك لغير السبب الصحيح. لو أنّ الناس عرفوا أنْ لا شىء غير ما تزدهر به الروح هو حسن ولا شىء غير ما يؤذى الروح هو ردىء، لما كان أحد عندئذ يفعل راضيا ما يلحق الضرر بكنزه الداخلى."
استغرق الـ ستاجيرى فى التفكير قليلا ثم قال: "إن كنت تؤكد أن الناس حين يكونون أشرارا فإنما يكونون كذلك بفعل الجهل وليس بإرادتهم، فسيكون عليك أن تؤكد أيضا أنهم حين يكونون أخيارا، فإنهم كذلك ليس بإرادتهم يكونون أخيارا."
أربكنى ذلك ولبعض الوقت لم يسعفنى الفكر. لا بدّ أن فى الأمر فخّا. ثم خطر لى أنى لمحت أين تكمن المعضلة. قلت: "ثمة سؤالان مختلطان هنا. هذان يجب أن يُفصلا إن كان لنا أن نفكر تفكيرا سليما. هناك أولا مسألة كيف نصبح أشخاصا خيّرين أو سيّئين. وهناك بعد ذلك مسألة كيف نقوم بأفعال حسنة أو رديئة. مسألة كيف نصبح أشخاصا خيّرين أو سيّئين مسألة شديدة التشابك وإن حاولنا أن نعالجها الآن فستأخذنا بعيدا عن المشكلات التى نحن بصدد مناقشتها. فيما يتعلّق بمسألة القيام بأفعال حسنة أو رديئة، القول بأنه إن كان من يعرف الخير يفعل الخير بالضرورة فإنه بالتالى لا يعمل بإرادته، هذه مماحكة لفظيّة. أو، إذا نظرنا من زاوية أخرى، فها هنا أيضا نجد لدينا خلطا بين سؤالين مختلفين. علينا أن نفصل بين الإرادة والاختيار. نحن نختار بين بدائل، نزِن مصلحة أكبر مقابل مصلحة أقلّ أو خسارة أكبر مقابل خسارة أقلّ. لكن حين نكون بإزاء أن نفعل فعلا حسنا أو فعلا رديئا فإن فكرة الاختيار لا تكون واردة. الأم لا تختار أن تُرضع وليدها وذلك لا ينتقص من حريتها. إننى لا أقول إنها لا خيار لها، إنما أقول إنها لا تواجَه بالحاجة لأن تختار.
جعجعتى اللفظية أسخطت الغريب؛ كثيرا ما خبِرت بنفسى ذلك الشعور. قال: "دعنا نرجع إلى النقطة التى قلتَ أننا قد نعود إليها لاحقا. أنت تعتقد أن كل الفضائل ألوان من المعرفة، بحيث أن من يعرف ما العدل، يكُن عادلا."
أجبته: "أيها الصديق العزيز، لو كان ذلك هو اعتقادى، لفقدت كلّ أمل فى أن أعثر على شخص واحد عادل. فلا أحد يعرف ما العدل. لكنى أعتقد أننا إن محصنا بجدّية معنى العدل وتأملنا فكرة العدل المتأصّلة فى عقلنا، فإننا نغذّى ونقوّى فضيلة أو قوّة العدل التى هى – لن أقول "فى روحنا"، إنما أقول – التى، على نحوٍ ما، هى روحنا. نحن لا نتّسم بالعدل بأن نعرف ما العدل – بأن نعرف عدلا منفصلا عنا وغيرًا لنا – بل بأن نكتشف، نكشف، العدل الذى هو فينا."
على ما يبدو، لم تعجب إجابتى الغريب. قال: "يا سقراط، أعرف أن معرفة الفضيلة هى ما سعيت إليه طوال حياتك، لكن ما نريده ليس أن نعرف ما الشجاعة، بل أن نكون شجعانا؛ لا نريد أن نعرف ما العدل، بل أن نكون عادلين."
قلت: "يا صديقى العزيز، أؤكد لك أن رفاقى الذين أوعزوا إليك بأن مسعاى كان لمعرفة ما الفضيلة فاتهم أن يفهمونى، وقد ضللوك. إننى كما قلت لتوّى، لم أنتظر منهم ولا أردت منهم أن يعثروا على معنى العدل أو الشجاعة أو التقوى فى أى مكان خارج أنفسهم، وبكل تأكيد ليس فى أى صيغة لفظية، بل أن يعثروا عليها فى أنفسهم بأن يتأملوا حقيقتهم الذاتية الداخلية. وأؤكد لك أننى كنت دوما مقتنعا بأننا لا نتحلّى بالشجاعة بأن نكتسب معرفة عن الشجاعة بل بأن نعرف أى التوجهات وأى الأفعال فيها سلامة وعافية روحنا وأيها تضرّ بها، وهكذا بالنسبة لكل الفضيلة، نحن لا نكتسب الفضيلة بأن نعرف عن الفضيلة بل بأن تكون لنا رؤية واضحة، ودائمة الحيوية، لما يُكسب روحنا الصحة والجمال وما يضرّها ويشوّهها."
عند هذه النقطة علا ضجيج آتٍ من خارج السجن فأقلق نومى وقطع علىّ حلمى. كانت الاعتراضات التى أبداها الغريب على آرائى فى الحلم كلها مألوفة لى مما كنت أسمعه من أصدقائى ومن غيرهم، لكن على نحوٍ ما شعرت بأن الحلم يتعلّق بزمن يتجاوز الزمن الحاضر. ولست أزعم بأنى أعرف ما عسى أن يعنيه ذلك.
هوامش تفسيرية (نقلا عن الحواشى الواردة فى الكناب فى طبعته العربية)
1- "رجل ستاجيرا الحكيم": هو أرسطو بالطبع. وقد وُلد أرسطو بعد موت سقراط بخمسة عشر عاما. التحق بأكاديمية أفلاطون فى عام 367 ق.م. حينما كان فى السابعة عشرة وبقى بها عشرين عاما، حتى موت أفلاطون. كان لاعتراضات أرسطو على آراء سقراط فى الفلسفة الأخلاقية وكذلك كان لتصويره للحوار السقراطى على أنه سعى للوصول إلى تعريفات للمفاهيم، أثر بعيد فى مسار الفكر الفلسفى اللاحق، بحيث رسخت آراء أرسطو تلك كمسلّمات يتلقّاها دارسو الفلسفة دون مساءلة أو نقاش، مما ألحق أبلغ الضرر، فى تقديرى، لا بفهمنا لسقراط فحسب، بل وأيضا بفهمنا لطبيعة التفكير الفلسفى، مما دعانى لأن أحمل، فى كثير من كتاباتى، على فهم، أو سوء فهم، أرسطو لسقراط ولأستاذه أفلاطون. إننى لا أجهل قدر أرسطو كواحد من أنبه وأخصب العقول التى أنبتتها البشرية، لكن هذا لا يمنع أن نتنبّه لخطأ التوجّه الذى أرساه فى التفكير الفلسفى. انتقادات أرسطو لأفكار سقراط فى الأخلاق منبثة فى كتبه الثلاثة فى الأخلاق: Nichomachean Ethics, Eudemian Ethics, Magna Moralia ولما وجدت هذه الانتقاداتت مجموعة بصورة مريحة فى موقع واحد – فى مقدّمة A. D. Lindsay لـ Socratic Discourses, Plato & Xenophon, Everyman’s Library – خطر لى أن أجعل سقراط يردّ على هذه الانتقادات فى موقع واحد أيضا.
2- الإرادة والاختيار: انظر “Free Will as Creativity” فى The Sphinx and the Phoenix (2009), pp.106-147
3- فضيلة: كلمة aretê اليونانية أوسع مدلولا من كلمة فضيلة، فهى تدلّ على ما يتميّز به الشىء – أى شىء – من فعالية، أو لنقل أنها تدل على الفضل الذى يفضل به الشىء كل شىء سواه.
4- قوّة: كلمة dunamis تعنى أساسا القوّة أو القدرة، وفى عديد من المواضع يعطيها أفلاطون معنى المَلَكة أو الاستعداد لأداء وظيفة معيّنة.
القاهرة، 7 أكتوبر 2014
(1) http://www.philosophypathways.com/newsletter/current.html
(2) من "يوميات شقراط فى السجن"، تأليف وترجمة داود روفائيل خشبة، صدرت الترجمة العربية عن المركز القومى للترجمة، القاهرة، عام 2010، وكان الأصل الإنجليوى قد صدر عام 2006 بعنوان Socrates’ Prison Journal.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/