الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعض ملامح التناص في رواية -الرجل المحطّم- لطاهر بن جلون

أدهم مسعود القاق

2014 / 10 / 10
الادب والفن


أدهم مسعود القاق، باحث دكتوراه في جامعة الإسكندرية
تتوضح مقاصد الكاتب المتعلقة بكشف الفساد منذ الصفحات الأولى للرواية، ويذكر طرق الرشوة مثل سند تمليك لقطعة أرض أو خروفين كبيرين يوم وقفة العيد، أوصندوق ويسكي جوني ووكر، دعوة للعشاء في مطاعم فخمة وإرسال امرأة جميلة لمرافقة المدعو، أوبطاقة سفر لأداء العمرة، وهدايا للزوجة والأولاد، وهذه الطرق هي الإغراءات التي تعرض لها (مراد) الرجل المحطم بفعل الفساد، الذي استمر برفض الولوج فيه ليبقى محافظاً على كرامته وشرفه، إلى أن قبل الرشوة فتحول إلى حطام إنسان ينتظر من يلملم حطامه ويبنيه من جديد.
أتناول في هذا البحث مسألة التناص في هذه الرواية باعتباره أحد المفاهيم النقدية التي تجعل القارئ يتلغلغل في أعماق النصّ، ويكشف عن المصادر المضمرة المتوارية خلف أسطره، التي تتمدد في ذاكرة المتلقي، بصفته الطرف الأهمّ في العملية الابداعية حيث لايدخل النصّ الأدبيّ مجال الإبداع والقطب الجمالي ما لم يتلقاه متلق يتفاعل معه ويعيد إنتاجه قيماً معرفية وجمالية وسلوكاً حياتياً.
لم تكثر الرواية الكلاسيكية من استخدام التناص الذي يحتاج إلى انغلاق النص على مضمرات تناصية تستدعي من المتلقي قراءة مفتوحة تأويلية ليكتمل النص بانسجام واتساق مع تلقياته، أمّا الرواية الجديدة فقد استخدمت المؤثرات التناصية المتنوعة، وهذا مانجده عند بن جلون في روايته الرجل المحطم فقد أكثر من استخدام التناص الذي يمثل جزءا فاعلا ضمن سياق أحداث الرواية في بعض نواحيه، ويدعّم الأفكار في بنية النص السردية ليخدم الموضوع المعالج، ومن آليات التناص التي وظّفها: الشواهد والاقتباسات والعبارات المسكوكة والتضمين والإحالة وإلخ...
وزّع بن جلون الآليات التناصية في الحقل الفلسفي في عدة مناح بحسب الوظيفة المبتغاة من التناص ومنها العنوان" الرجل المحطم" الذي شكّل المبتدأ للرواية، وخبره أحداث جرت مع مراد المحطم، الذي من الممكن إعادة تشكيل حطامه أمام هذه الحياة التي تستلزم من المرء استمراراً بالكفاح بمواجهة كل ما يعيق ممارسة إنسانيته، ولمّا كان الفساد يمثل عائقاً أمام أيّ طامح لعيش شرطه الإنساني، فتعدّ مواجهته تجسّيداً لفعل حياتيّ لأن الإنسان لايمكن"أن يموت اذا لم يستسلم" كما علّمنا شيخ إرنست همنغواي، والإحالة هنا لرواية الشيخ والبحر الذي تحوّل بطلها الشيخ الصياد حطاماً، وبقي يقاوم سمك القرش حتى أثبت أنّ " الإنسان لم يخلق للهزيمة، قد يحطم ولكنه لايهزم" وهذه أول آلية تناصية اعتمدت مبدأ الإحالة لرمز الشيخ المكافح في رواية همنغواي. ثم يشير بن جلون إلى رواية الغريب لألبير كامو الصادرة منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي، عندما ذكر صديقه العائد من امريكا البعيد الآن عن حاضر المغرب كما هو مراد بعيد وغريب أيضاً، وذلك من خلال الإشارة لبطلها مورسو العبثي والمتمرد والذي لم يتوان عن قتل رجل عربي نتيجة لمعان سكين بيد الضحية التي شكّلت له قلقاً أدى به لقتل نفس بريئة، فيقول تماهياً مع شخصية مورسو: الغريب عن عمله، وعن واجبه وعن ضميره وذاته، وغريب عن كل شىء، ويكمل: "أن يكون المرء غريباً عن ذاته، فهذا أمر سهل جداً. وكما فعل " الغريب" الآخر، ربما استطعت أن أرتكب جريمة في وضح النهار دون أن يسىء لي ذلك بشىء أو يعكّر صفوي"(1)، ولكن مراد يعود من هذياناته ليعيش واقع مدينة فاس المغربية ذات الجسم المشوّه والروح المتعبة التي قضى فيها طفولته، والتي لازال يعيش بها غريباً. وفي السياق ذاته يتم ذكر كتاب جان بول سارتر"الوجود والعدم" المرتبط بالناس الذين يألفون العادة ويستمرأون الإلفة مع الخمول والغفلة، ويتحوّلون من كونهم كائنات موجودة بالفعل نتيجة إبداعهم وإدهاشهم مستندين لملكة الخيال التي تميز بني البشر عن الكائنات الأخرى إلى حالة العدم المقترنة بالقيام بحركات يومية اعتيادية مملة، لقد اشترى مراد هذا الكاتب بسعر منخفض من حي القصبة في مدينة فاس، مدينة العدم التي يتحول فيها الكتاب إلى شىء لاقيمة له، يباع في أسواق الخردة والأشياء العتيقة وهاهو يقول: "أعرف أننا لو قلبنا العنوان، وانتقلنا من العدم إلى الوجود، فإنّ ذلك الكتاب سيعنيني أنا.."(2) ولكنه يستدرك أنّه بلغ الأربعين من العمر ويصعب عليه أن يتغير باتجاه الوجود، لذلك فهو معني بتغيير نفسه من الوجود المرتبط بقدرته على الصمود لعشرين عاما بمواجهة الرشوة والفساد، إلى العدم المرتبط بالفساد وبتغيير المظاهر التي تجعله جزءا من عالم يقوم على أساس التضليل والكذب والفساد وإلخ .. سيغيّر مشيته ويرتدي بزّات وأحذية جميلة ويقلع عن التدخين ويمضي العطلة على شاطئ البحر أو في الجبل، ويشتري خزانة حديدية ليخبىء فيها نقود الرشوة وإلخ.. ولكنه مع تذكره لناجية الطاهرة يعود من العدم إلى الوجود ويقرر أن يقدم لها باقة زهر.. إن التناص مع كتاب سارتر يقوم على أساس الحوارية معه، وربطها مع واقع اجتماعي معيش يختلف عن مجتمع سارتر المتحضّر، تماما كما لاحظنا في حوارية مراد مع فكر كامو العبثي في رواية الغريب التي تنتهي بشوارع فاس وليس على شواطىء فرنسا. ثم نجده يذكر "كتاب نيتشه " هكذا تكلم زرادشت"(3) وأخذه معه إلى جانب كتاب الوجود والعدم لسارتر ليقرأ بهما أثناء رحلته مع ابنته كريمة وقال: "لأنّ زرادشت رفيق جيد، وعندما أقرأه، عندما أصغي إليه، أشعر بتحسن بمعنوياتي وبحالتي النفسية"(4)، ويذكر بنفس السياق اصطحاب ابنته كريمة كتاب كليلة ودمنة، إن استدعائه لكتاب نيتشة ولكتاب كليلة ودمنة، ربما كان للدلالة على اهتمام مراد بالكتاب وبانتمائه للفئة المثقفة، ولكنه لم يضف جديداً على بنية النص الدرامية، وبدا الأمر كأنه خارج البنية السردية، إنما خدم تمطيط النص بأفكار جديدة، على الرغم أنّه منحنا القدرة على تصور شخصية مراد الذي قال عندما وصل إلى الفندق مع ابنته "أسرعت كريمة إلى الغطس في المسبح، بينما أخذت، أنا، أقرأ زرادشت"(5) وذلك ليقدم لها أفضل مايمكن تقديمه. ثم يذكر شوبنهاور ضمن الحقل التناصي الفلسفي، بسياق منسجم مع السرد حيث كان مراد يتحدث عن الأمور الغريبة التي تحدث بين الآلة الكاتبة أوليفتي وقاموس لاروس، هذه الغرابة التي يجب أن يتلقاها من دون سعي للتفسير وقال" أعلم ان الذكاء هو عدم فهم العالم، وأن التعقيد لايفسر الظلمة والغموض" ثم ".. أخذت أفكر وأحلم بهذا العالم لعدم إمكانية تغييره"(6) والكاتب، هنا، يحيل القارئ إلى فكرة ماركس الذي عدّ الفلاسفة من قبله مفسرين للعالم، أما هو فيريد تغييره، فعكس بن جلون الفكرة على لسان مراد كإشارة لعجز واقعنا في التطور فلا يبقى للمرء إلّا الحلم أمام واقع لايتغير مخالفاً رؤية ماركس عن وظيفة الفلسفة. ويستمر في استدعاء شوبنهور الذي "تبدو له الحياة صفحات كتاب واحد، وقراءة هذه الصفحات بترتيب ونظام هي العيش في الحياة، وقراءتها بشكل مشوش وفوضوي هي الحلم والاستسلام للأحلام"(7) ثم يعود لشرح حالة أخرى بالإتكاء على فكر شوبنهاور عندما تحدث عن زوجته التي تركته وحيداً مع أوهامه وخيباته على الرغم أنه قرأ لها أفكاراً لشوبنهور" اللذة والمسرة قشرة رقيقة على خزان عميق يطفح بالحثالة المرّة، والسرور يشوبه السم الزعاف، وأفضل العواطف والمشاعر تخفي وراءها ديداناً بشعة. ونقص وسائل المعيشة صوم قاسٍ، والمجد استشهاد، والظلام آفة وبليّة، والعادة طاعون لايمكن تحاشيه، يثلم أية منعة ولكنه يشحذ ويسمم سنان الألم"(8) ولكن حليمة زوجته كانت تقهقه وهي تعلن أفكار أمها لتدافع عن نفسها الطامعة بالولوج في عالم المال والغنى والفساد، إن آلية التناص المستخدمة هنا تقوم على نسخ العبارة النصية كما وردت عند صاحبها.
وفي منحى ثقافي آخر نجد في سياق الرواية تناصا موسيقياً، حين ذكر الكاتب فيفالدي( 1678-1741) ليدلل على اهتمام مراد بالموسيقا العالمية، والتي تنم عن ذائقته الفنية المتحضّرة، لاسيما عندما تذكر موسيقا فيفالدي أثناء بداية حياته و " أحلام مراهقته بالرحيل مع صاحبة الوجه الصبوح ناجية إلى بلد أجنبي، فيلتصقا مع بعضهما ويتدفأا على إيقاع موسيقا فيفالدي"(9). ثم ذكر تناصاً موسيقياً آخراً عبر صورة محمد عبد الوهاب المعلقة على حائط غرفة ناديا التي مارس مراد معها الجنس بشكل ناجح، التي تومىء لاهتمام الطالبة الشابة بالمطرب عبد الوهاب الرامز للميل إلى الاتزان والجدية والتوق لحياة تتسم بالهدوء والرومانسية، وكون عبد الوهاب يمثل موسيقا الكلاسيك فذكره يدلل إلى ميل محبيه لحياة مستقرة بعيدة عن صخب جيل الثمانينيات باستماعه لموسيقا الروك والجاز و.. أما مراد فاعتبر صورة عبد الوهاب " دليلاً على الرفعة والرقي"(10) وليس كما يجأر أحد المطربين "بأعلى صوته بالتلفزيون أو الراديو، معلناً الأسى واليأس لكونه وحيداً"(11). ومن التناص الفني الأفلام والمسلسلات العربية التي تذكرها مراد عندما وقفت زوجته حليمة لمنعه من الخروج مع ابنته كريمة، وهي تهدد بابتلاع حبوب منومة و" أخذت تصرخ معلنة كراهيتها وشاكية شقاءها ومتاعبها، كما كان يعرض على شاشة التلفاز مسلسل مصري، تبدو فيه امرأة تصرخ بكل قواها، بعد ان هجرها زوجها..."(12) فاختلط عليه الأمر بين واقعه والمسلسل. كما تذكر مراد فيلم "مورنو" "الأخير بين الرجال" عندما أدمته زوجته وطردته وهي تصرخ بأقذع الشتائم له، ومنها يا من تكون الأخير بين الرجال، فتذكر"الممثل إميل جانينغس الذي كان يعمل مدرساً في الملاك الأزرق. كان هذا الرجل بواباً في فندق كبير. وذات يوم طرد من عمله لسبب مجهول. فقد ظل يرتدي لباسه الرسمي، ويخرج صباح كلّ يوم. كما كان يفعل سابقاً ويذهب إلى جوار الفندق ويتأمل الشخص الذي حلّ محلّه وهو يعمل"(13) حفاظا على كرامته، وتمنى مراد أن لايصل إلى "هذا الدرك من السقوط والانحطاط حتى لايكون الأخير بين الرجال"(14). وأيضاً ذكر فيلم لبناني بعنوان "الله ليس دائماً إلى جانب الفقراء " الذي يمكن أن يكون عنواناً لقصته كما قال مراد(15). ومن الممكن ذكر" ألف ليلة وليلة" عندما استدعاها الكاتب على لسان سائق يعرض عليه فتيات وإحداهن شهرزاد وليدة ألف ليلة، فابتسم مراد للمبالغة التي يتسم بها أبناء مجتمعه تساوقاً مع الخيال الجامح في أهم كتاب سردي لدى المسلمين، حيث وصف السائق الفتاة "عينان بسعة البحر، نهدان بثقل السماء، شعر طويل طويل إلخ ..."(16)
وعلى مستوى التناص السياسي فقد ذكر الكاتب الإخوان المسلمين الذين يمثلون طيفاً سياسياً عريضاً، ويُعرَفون بإبرازهم مظاهر التقى والتدين الزائف كالمسبحة والمصحف المعلق بأحد الأركان، والمداومة على سماع القرآن الكريم، والذين يحملون نظرات قاتمة، ويطلقون لحاهم التي تبعث على الخوف، وقد ربط الكاتب قوتهم بالفساد حين قال أستاذ الفلسفة في المركز الثقافي الفرنسي" إنهم وليدو الفساد، وهذا يعني أنّه كلما ازداد المواطنون فساداً، ازداد الإسلاميون بإيجاد المبررات لوجودهم ولنضالهم"(17)، وبالمقابل وفي موقع آخر من سياق الرواية يذكر أحد المناضلين الاشتراكيين السابقين الذي تنكّر لماضيه وشبّه الرشوة بالوباء ولكنها تشكل" اقتصاداً موازياً" تدور عجلته في الخفاء"(18) ليبرر انغماسه مع أقرانه في الفساد، تماماً كما برر مدير مراد الفاسد قبوله بالرشوة قائلاً لمراد "هذا الذي تنظر إليه من زاوية أخلاقية وتسميه فساداً، أنا أسميه" الاقتصاد الموازي" وهو ليس خفياً، بل يبدو أنّه ضروري، ... ويجب الكف عن الخلط بين التعويض والسرقة"(19)، ثم يذكر هذا الفاسد فرنسا وإيطاليا واليابان المليئة بفضائح الفساد، وتعدّ هذه الآلية التناصية محاكاة للواقع السياسي الذي ينقله كما هو، دون أن يبدع فيه، ليكشف عجز التحوّل في الواقع الذي تسيطر على مقدراته انظمة الحكم السياسية بعد الاستقلال عن الأجنبي، وقوى سياسية منفصلة عن الواقع كالأخوان المسلمين، أو التقدميين المتنكرين لأفكارهم السابقة والمنغمسين في فساد لاينوا عن تبريره بأساليب مضللة. وفي السياسة أيضاً استخدم التناص عندما ذكر صدام حسين الذي دافع عنه مساعده "حاج حميد" الفاسد بأعلى صوته " صدام: هذا هو الرجل"(20) فشعر مراد بضرورة الرد عليه ليذكره بجريمة حلبجة بمواجهة معارضيه، وبعد ذلك يذكر فريق المفتشين الفاسدين" جميعهم ذوو شوارب، وذلك، على الأرجح تكريماً لبطلهم صدام حسين"(21) لأنه عندما حدّثهم عن قرية حلبجة التي أبادها صدام بالغازات السامة أبدوا عدم رغبتهم بالسماع، لقد أراد بن جلون أن يحاكي الواقع تناصياً ليدفع المتلقي للكشف عن العلاقة بين الفساد المنتشر واستبداد أنظمة الحكم الفاسدة والمتغولة والمتحكّمة بالبلاد.
كما أن بن جلون استخدم التناص الديني التراثي بمواقع متعددة، ليحقق وظائف متنوعة، ومنها ذكره لكتاب "الروض العاطر" للشيخ النفزاوي الذي يتحدث عن أوضاع الجماع الاسلامية وعددها تسعة وعشرين، ويقول مراد أنّه بعد أن مارسها مع زوجته حليمة كلّها، كما وردت في كتاب الروض العاطر الذي بقي تحت ناظريهما أثناء ممارسة الجنس، طلبت منه يوم حيضها أن يطأها من الخلف على الرغم ان الشيخ النفزاوي كان يحذّر الاقتراب من المرأة في أيام حيضها، وعندما رفض قالت له "أنت لست رجلاً" فصغر عضوه ثم شعر بالانكسار لعدم قدرته على رد الإهانة عنه وقال" سوف تتحول حياتي شيئاً فشيئاً خلال زمن وجيز لتصبح شبيهة بالجحيم"(22) وهنا لابد أن نشير اتكاء بن جلون تناصياً غير مباشر على علم النفس الذي أرجع مؤسسه سيجموند فرويد سلوك البشر لرواسب في لاوعيهم نتيجة النكوص في العلاقات الجنسية مع الجنس الآخر، وها هي الزوجة التي تميل للفساد والراغبة أن يتحول زوجها إلى مرتشٍ راغبة أيضاً بممارسة الشذوذ الجنسي معه، وأبدت حاجتها لتلقي العنف من رجلها الذي ربطته بمعنى الرجولة، ثم نجدها تحمل وتطلب من زوجها مراد عدم الاقتراب منها أثناء فترة الحمل، ولعل ذلك يذكّر بأنثى الغنم أو البقر التي تبقى بعيدة عن ذكرها أثناء حملها، مما جعل مراد يلجأ للتفكير والحلم بناجية ابنة خالته، لقد أجاد بن جلون في استخدام التناص مع هذا الكتاب التراثي، وجعل محتواه جزءاً منصهراً بسياق الرواية، ولم يبد غريباً عن بنيتها السردية. ومن التناص الديني، أيضاً، استخدام الكاتب لقصة النبي ابراهيم الذي همّ بذبح ابنه عندما هبط ملاك من السماء وبين يديه خروف، كما وردت قصته في الكتاب المقدس، العهد القديم، فالصورة التي تجمع بين تراث اليهود والتراث الإسلامي معلقة على حائط بيت أهله عندما كان طفلاً، يتذكرها ويستغرب ذلك المشهد للرجل العجيب الخارق للعادة "السوبر مان"(23). وأيضاً نجد أن بن جلون أوحى تناصياً بعبارة السيد المسيح "دع الموتى يدفنون موتاهم" عندما ردّ على أحد حواريه الذي طلب منه المساهمة في جنازة أبيه، فالمسيح اعتبر الناس في الواقع الفاسد جثثاً وموتى، حتى يلبوا بشارته للحق والخير والمحبة التي جاء لنشرها بين العباد، فيقول بن جلون" ...وخوفاً من الانضمام إلى مجموعة من الجثث قضمت أكفانها الجرذ، وأخذت تنتظر إلى مالا نهاية يوم الحساب. يرون انفسهم وقد ألقى بعضهم فوق البعض الآخر كما تلقى أكياس الطحين، وقد فقدوا أرواحهم، ولكن عيونهم وآذانهم مفتوحة. لذلك فهم يعطون ويتمتمون ببعض الأدعية وهم يتابعون طريقهم. وأنا أنظر إليهم وحسب. فأرى وراء ماهو باد للعيان، أحياناً أتنبأ وأحذر. أتصوّر وأتخيّل، وقليلاً ما ألفق وأخترع."(24) فسيرة السيد المسيح ورؤاه المناهضة للظلم والجريمة تشكل طبقة تطفو أحياناً كثيرة فوق سطح نص الرواية المتكئ في بنائه على ماقبله من التراث الانساني. ثم نلاحظ اقتباسه من القرآن الكريم وذلك عندما كان يعيش حالة تماوت مع صراعه الداخلي في قصته مع الفساد، فيسمع سورة التغابن التي تمايز بين كافر ومؤمن "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تملكون بصير" و"الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير"(25) ثم يتساءل إن كان مقيماً في "وبئس المصير". كما نجده يستدعي رؤية الإسلام عن الإنتحار"فالمنتحر ملعون، رجيم، وعقوبته ليست جهنم وحسب، بل إعادة وتكرار انتحاره إلى مالا نهاية"(26). ثم يمشي وحيداً ويشعر بالغربة، ويقول" هذا أمر قاس ينمّ عن السرور المصطنع، فأنا لم أعد معنياً بما يحدث. وكالزهاد الصوفيين أشعر أني في خلوة. فأنا أطير أختفي. لم أعد أنتمي إلى هذا العالم الفظّ والتافه"(27)، يستدعي من التراث تجربة الصوفيين الذين يسعون لاتقاء شرور العالم بالحفاظ على نقاء القلب وتوحده مع الله ومع السماء وهاهو مراد يقول" رجلاي لم تعودا تمسّان الأرض، ورأسي أصبح بين السّحاب. أما جسمي فتحمله الرياح، محاطاً بالكلمات وبالمقاطع. أشعر أنّي في أمن وسلام ولا حاجة بي للهبوط على الأرض"(28)
أخيرا وليس آخراً فإنّ رسالة الأدب تحمل في طياتها تأملات المتلقين في مصائرهم، وهذا يستدعي من النص الروائي أن يخيب أفق انتظار المتلقي بترك مسافة جمالية تربك القارئ وتغيظه بغية دفعه للتساؤل والبحث عن التقنيات والآليات والمعطيات الموظّفة في النص، وهذا ما وجدناه في رواية الرجل المحطم للطاهر بن جلون، حيث الغنى بالرموز الدالة والشيفرات والعلامات التي تومئ إلى طبقات تشكلت فوق بعضها البعض وأعطتنا نصّاً تناصياً جديراً بالدراسة والبحث، والتأمل بقصة الحب بين لاروس وأوليفتي المرسومة بلغة الطلاسم والعفاريت شبيهة بلغة زمن الأحداث المروية، تحيل إلى مساهمة المتلقي في إنتاج النص والتشارك معه في نوسانه بين أسئلة يولدها، واحتمالية أجوبة تتعلق بحال الاستعصاء التي يعيشها مراد المحطم بظل ظروف الفساد كما هم جموع المتلقين للنصّ. وتبين في متن الدراسة أن بن جلون تمكّن من كسر الإيهام الروائي من خلال تداخل الأزمنة والتنقّل في استخدام الضمائر( الغائبة والمخاطبة والمتكلم)، وتداخل المحكيات وتجاورها مع بعضها البعض بتناغم مدروس. كما لابد ان ننوه إلى أن الكاتب استخدم، أحياناً، لغة شعرية خلقت هوة فصلت بين الأحداث المروية وبين لغة الخطاب الروائي لاسيما عندما استدعى التراث الديني على ما أسلفنا، حيث استخدم صيغاً وعبارات تخلو من تمثّل الأحداث فبدا الأمر على شكل توقف لتدفق حركة الصراع الدرامي. ونلمس انقطاعاً في الفعل الدراميّ عند مشهد ظهور شك وظنون مراد من ادعاء زوجته المتبرجة حصولها على نقود من جارتها مقابل خياطة فستان لها على غير العادة"(29)، وأيضا في مشهد ناجية ومراد حيث أمضيا معاً ليلة كاملة من دون استمرار في الفعل الدرامي المحتمل إذ يقول، أمضينا تلك الليلة على الأريكة. ولم أنم خلالها إلّا قليلاً، وكان جسمها الذي يسترخي شيئاً فشيئاً ملتصقاً بجسمي، وكانت تعتريه رعشة من وقت لآخر،( انقطاع....) وعند الفجر نهضت وذهبت إلى المكتب"(30)، ومن المشاهد غير المنسجمة مع السياق السردي إحالة ما يفعله مراد إلى شىء مقدّر ومحتوم، ولايمكن تغييره أبداً على الرغم أن أحداث الرواية ومقولاتها مبنية على أساس المبدأ السببي(31). إنّ النص لم ينغلق في نهايته بل جعله الكاتب مفتوحاً لخيارات لامتناهية تبدأ من ضياع مراد في أوهامه وهواجسه التي انبنت نتيجة الصراع بين تمسكه بالشرف والفضيلة، وإذعانه للرشوة والدخول عالم المال والفساد المهيمن على الوجود والواقع المجتمعي، ولا تنتهي أمام حلمه الصوفي في التوجّه إلى السماء ليغتسل بروح الله والسماء، دالّاً على استعصاء محاربة الفساد وسط فكر سياسي بائس.
أدهم مسعود القاق، باحث في جامعة الإسكندرية
المراجع:
1- الطاهر بن جلون، الرجل المحطم، ترجمة علي باشا ( دار ورد للطباعة: سوريا، ط1، 1998م) ص131
2- -المصدر ذاتــــه ص51
3- ----------------ص55
4- ----------------ص62
5- ----------------ص64
6- ----------------ص41
7- ----------------ص141
8- ----------------ص144
9- ----------------ص27
10- ----------------ص81
11- ----------------ص108
12- ----------------ص68
13- ----------------ص153
14- ----------------ص154
15- ----------------ص108
16- ----------------ص155
17- ----------------ص74
18- ----------------ص87
19- ----------------ص23
20- ----------------ص9
21- ---------------ص101
22- ---------------ص17و ص18
23- ---------------ص142
24- ---------------ص138
25- ---------------ص150
26- ---------------ص151
27- ---------------ص156
28- ---------------ص156
29- ---------------ص28
30- --------------ص57
31- --------------ص83









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب


.. شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً




.. عوام في بحر الكلام - الفن والتجارة .. أبنة الشاعر حسين السيد