الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كل رجال الباشا... عن الباشا والسلطة والخداع..

يوسف نبيل

2014 / 10 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


تلك الصدمة التي تحرك الفكر هى أهم ما يميز تلك التجربة الفريدة... كل رجال الباشا محاولة لإعادة رواية التاريخ من وجهة نظر الطرف الأضعف... الطرف المختفي دائمًا... إنه ليس تاريخ الباشا، بل رجاله الذين لا نسمع لهم صوتًا طوال الوقت سوى فى تجليات قصيرة تلتقطها العين البصيرة، ولكنها محاولة هائلة الجهد والأهمية، ولن يمكنني الحديث هنا عنها بمفردها ولن أكتف بمجرد تقديم للكتاب ولكنى ساتجاوز هذا لعرض أفكار أخرى ومقارنة الأوضاع التاريخية والسياسية بعضها ببعض على ضوء ثروة قدمها لنا د. خالد فهمي.
عن محمد على وبناء جيش مصر الحديثة يحدثنا ذلك الكتاب فى سبعة فصول متتالية تعمل عملها كالمطرقة بلا هوادة على الأفكار الشائعة والمغلوطة. ولكن تلك الفصول السبعة بقدر ما نجد فيها من الخطاب التاريخي المؤسس على الوثائق والأدلة، بقدر ما نجد أنفسنا أمام نظريات فلسفية يحاول الكاتب تطبيقها على تجربة تاريخية ربما تعد الأخطر فى تاريخ مصر الحديثة. صرح الكاتب د. خالد فهمي من البداية بمحاولته تطبيق نظريات فوكو عن السلطة وأساليب المراقبة الحديثة على بناء جيش مصر إبان محمد على ويقول الكاتب عن التجربة:
"ليس هذا الكتاب إذًا دراسة فى كيفية نجاح الخطابات والمؤسسات السلطوية الحديثة فى التوصل إلى إحكام قبضتها بشكل غير مسبوق على الجسم من خلال القبض عليه وعزله ومراقبته، وإنما هو بالأحرى دراسة للحوار القائم باستمرار بين السلطة والمقاومة، وموضوعه الرئيسى هو الجيش الذي نجح محمد على فى إقامته فى مصر فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو مؤسسة تمثل التصورات الحديثة عن السلطة بأنقى شكل يمكن أن توجد عليه."
يرصد خالد فهمي بدقة محاولات السلطة المستميتة للسيطرة على الأجسام والعقول فى أدق التفاصيل لبناء ذلك الجيش والتي بدأت من مراقبة الجسم وعزله فى أماكن معينة وتدريبه وتطويعه حتى التحكم فى نشاط رجاله الجنسي.... ذلك الجيش الذي نجح محمد على بواسطته أن ينتزع حكم وراثي له ولأسرته فى مصر طوال مدة زمنية طويلة، وهدد السلطان العثماني وهزمه في عدة معارك متتالية. واستخدم الكاتب فى ذلك نظريات فوكو عن أشكال السلطة الحديثة. ولكن فى نفس الوقت يحطم خالد فهمى بقسوة عدة أوهام تناقلتها الروايات التاريخية عن تلك الفترة.. تلك الخطابات التي تتحدث عن تجربة محمد على الوطنية فى تكوين الجيش، وأن المصريين شعروا لأول مرة بالقومية عند حملهم السلاح لأول مرة فى التاريخ الحديث، وأن القوى الأوروبية حطمت محاولات الباشا لبناء دولة قومية وطنية. الغريب ما الذي أورثنا إذن هذه الخطابات الخادعة؟
أظن أنى مررت بنفس التجربة عندما قرأت مذكرات د. جلال أمين" ماذا علمتنى الحياة" عن حركة الضباط الأحرار وإبعاد محمد نجيب وواقعة التعدي على السنهورى واعتصام الطلبة بجامعة القاهرة مقاومة لحركة عبد الناصر الاستبدادية... إننا نقتات على أوهام تصدرها لنا أجهزة دعائية ضخمة تستخدمها السلطة طوال الوقت للسيطرة على العقول، ودون الوعي بتلك النقطة ربما لن نعرف شيئًا. نعود إلى خالد فهمي مرة أخرى متحدثًا عن مواجهة الباشا مشاكل ضخمة مع بدء انشاء دولته الاستبدادية المقيتة والتي وصف الكاتب أحوالها باختصار فى تلك الفقرة:
- " كانت الخدمة فى جيش محمد على إذن تجربة مروعة. لقد كان جيش الباشا جيشًا يُجر إليه الجنود جرًا ضد رغبتهم وباستخدام حد متدن من الإقناع. كان جيشًا يجندون فيه عمليًا مدى الحياة ويجبرون على القتال فى حروب تكاد تكون بلا معنى بالنسبة لهم. كان جيشًا يهانون فيه بلا انقطاع ويعيشون فى معسكراته فى شروط حياة مقززة. كانوا يهانون وتساء معاملتهم ويذلون من قبل هيئة من الضباط تختلف عنهم إثنيًا ولغويًا واجتماعيًا، ولا يكاد يوجد شىء مشترك يجمعهم به. كانوا فوق لك يعانون سوء التغذية ورثاثة ملابسهم وقلة أجورهم. كان جيشًا لم يعترف بالتضحية التى قدمها هؤلاء الذين جرحوا أثناء الخدمة فيه، وفوق ذلك كله، كان جيشًا لا يحترم موتاه."
ومنذ بدء الكتاب يأخذنا الكاتب فى رحلة محاولات محمد على فى التأثير على ضيوفه الوافدين من الغرب ومحاولة خلق جو من الرهبة والغموض حول شخصيته باستخدام تقنيات عصره، والتي انخدع بها أغلب المؤرخين حين وصفوا زيارتهم لمصر. يمكن رصد فعل المصريين تجاه حركة التجنيد البشعة التي قام بها محمد على من أجل نفوذه الخاص فى تلك الفقرة البديعة:
"برغم كل الأوامر والمراسيم، وبرغم المراقبة الشديدة التى فرضت على الجنود، وبرغم العقوبات البالغة الشدة التى كانت توقع على المقبوض عليهم، استمر الفلاحون يتسحبون فى تيار مستمر، ولم ينجح كل ما فعلته السلطات فى إيقافهم عن ذلك. بعد ست سنوات من الحملة السورية تسلم محمد على تقريرًا عن المتسحبين كان مفزعًا للغاية... فقد ورد به أن عددًا يصل إلى 60 ألف رجل قد نقصوا من الجيش بالإضافة إلى 20 ألفًا من الأسطول. فإذا تذكرنا أن الجيش لم يكن عدده يزيد بأى حال عن 130 ألف رجل، فإن هذا يعنى أنه من بين كل ثلاثة من المجندين نجح جندى فى التسحب"
نفس تلك الرواية رواها بعض المؤرخين بأن المصريين شعروا بجذورهم القومية فى حروب الباشا. وبعيدًا عن كتاب فهمي فإن هذا يذكرني بنفس خطابات القومية الناصرية والتي عمدت فى النهاية لتأسيس الدولة العسكرية فى مصر والتى ما زلنا نعيش فى كنفها حتى الآن. ذلك الخطاب الذي نجح أحيانًا فى تحريك الشعب المصري وخداعه، ولم يحمه من الصدمة حينما حارب ليسترد أرضه المحتلة فى سيناء، ليفاجىء بايقاف الحرب وابرام معاهدة سلام مع عدو الأمس والارتماء الكامل فى أحضان الولايات المتحدة وتنفيذ دور مصر المرسوم لها بدقة فى تلك الفترة والتي أطلق عليها جلال أمين " العصر الأمريكي". تلك الصدمة يحاول دائمًا المؤرخين تزييفها واخفاءها كما فعلوا إبان دولة الباشا، ويتم استخدام المؤسسة الدينية دائمًا فى محاولة تزييف الوعي، وكمال قال محمد على نفسه فى إحدى خطاباته:
" نظرًا لأن الفلاحين ليسوا معتادين على الخدمة العسكرية، فيجب ألا يسحبوا إلى الجيش بالقوة، فعلينا أن نرغبهم به... ويمكن تحقيق ذلك بتعيين بعض الوعاظ والفقهاء الذين يجب أن يقنعوا الفلاحين بأن الخدمة العسكرية ليست كالسخرة."
تحولات أشكال السلطة جعلتها أشد مكرًا وأكثر دهاءً.. إنها تسيطر على العقول من الداخل بدلا من السيطرة العنيفة كما السابق... إنها تعمل على تزييف الوعى عبر الإعلام والمؤسسات الدينية... إنها توحي لنا دائمًا بالسكون وتطلب منا الخضوع، بل وتمجيد الاستبداد والقناعة به وشكر المستبد وتعظيمه وتمجيد مصائبه القومية... إنها تؤسس دائمًا فى النهاية لمؤسسات عسكرية تلم بذمام الأمور طبقًا للمصالح المالية فى الأول والآخر. وكما نجح محمد علي رغم المقاومة الشديدة فى توريث أسرته السلطة نجحت المؤسسة العسكرية فى فعل ذلك بداية من عبد الناصر وحتى الآن مستخدمة نفس الأساليب للسيطرة والخداع والتضليل. إن الحرب الآن تتجلى فى ذلك الصراع الدائر بين السلطة والمقاومة. وفى كتاب استعمار مصر الذي أشار إليه د. خالد أكثر من مرة نجد هذا الإستشهاد الذي يصف هدف السلطة بصورة واضحة:
- " الشىء الجوهري بالفعل هو أن نجمع فى مجموعات هذا الشعب الموجود فى كل مكان وليس فى أى مكان، الشىء الجوهري هو أن نجعل منهم شيئًا يمكن أن نحكم قبضتنا عليه. وحين نملكهم فى أيدينا، سيكون باستطاعتنا عندئذ أن نصنع العديد من الأشياء المستحيلة تمامًا بالنسبة لنا اليوم والتى ربما سمحت لنا بأن نأسر عقولهم بعد أن أسرنا أجسامهم" ضابط فرنسى فى الجزائر بعد انتفاضة 1845 – 1846 ص 169.
والمقاومة هى رد فعل الإنسان، وحين يُقتل الدافع للمقاومة سيقتل الإنسان نفسه. يحدثنا فوكو بأن تلك الممارسات السلطوية هي ثمن تدفعه كل دولة من أجل التحديث، وبغض النظر عن صحة الرأى أم عدمه فإن تحليل أشكال السلطة والمقاومة سوف يجعل كل المهتمين بالمقاومة على وعى بوسائل السلطة الحديثة فى السيطرة. أتذكر بقوة وعيي الكامل بهذا إبان فترة تجنيدي ومحاولة غسل الأدمغة التي يقابلها الغالبية بالقبول استفادة بثمار التكيف وهروبًا من الثمن الفادح للمقاومة. تلك الفكرة وصفها المؤلف فى كتابه حين رصد غسل أدمغة الجنود المصريين فى جيش محمد على إلى درجة: " وفى نهاية المطاف هاجم عثمان بك ميرالاى الآلاى الأول على رأس قوته المشكلة من 500 فارس و3 آلاف من المشاة مركز التمرد بالقرب من قنا ، وفى مدة لا تتجاوز أسبوعين تم سحق التمرد الذي أسفر عن أكثر من 4 آلا قتيل، ولم تتردد تلك القوات فى قتل المتمردين الذين كانوا أحيانًا من جيران الجنود وأقاربهم". هل يختلف هذا كثيرًا عما حدث ابان حكم المجلس العسكري ومازال يحدث؟ هل ذلك الجندي المصري الذي يتلقى أوامرًا بسحل المتظاهرين وقتلهم واغتصاب النساء والتعذيب... إلخ يختلف كثيرًا عما ذكره فهمي فى كتابه؟ لقد قاوم الكثيرون تلك السلطة الغاشمة لمحمد علي لدرجة أن المصريين حاولوا فى النهاية ابطال الإنجاب والكف عن الزواج كما ظهر فى إحدى خطابات محمد علي التي وثقها المؤلف لكى لا يتم تجنيد أبنائهم فى ذلك الجيش الغاشم. إنى لا أرى فرقًا كبيرًا الآن سوى تضخم حجم الخداع بوسائل اعلامية أكثر حقارة ومهارة، ورغبة الكثيرين فى التخلي عن المقاومة تجنبًا للثمن الفادح. ولكن ربما ما لا نعلمه أن ذلك الاستقرار المزعوم سيؤدى إلى ثمن أفدح.
دولة الباشا مازالت تحيا... هل مازالت المقاومة أيضًا؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي