الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-روديو أنغولا-

وليد الحلبي

2014 / 10 / 22
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


وأنا جالس على مدرج حلبة الروديو، كان نظري يراوح بين مشهدين: واحد أمامي أتمعن فيه، والآخر في الذاكرة أحاول أن أستدعيه. الذي أمامي هو سيارة إسعاف في "سجن أنغولا"، مفتوح بابها الخلفي، والنقالة مبسوطة أمامه مع طاقم طبي متأهب استعداداً لنقل أي مصاب، أما الذي في الذاكرة، فهو مشهد عربة تجرها أربعة خيول مطهمة، تدخل من بوابة حلبة مصارعة الثيران في "مدريد" لكي تجر إلى خارج الحلبة ثوراً قتل للتو طعناً بسيف مصارع. العربة الأولى مخصصة لمساعدة رجل قد يصيبه أذى، والثانية مخصصة لنقل ثور قتيل.
عندما دعاني إلى مرافقته لحضور عرض للروديو في أنغولا، اعتقدت بأن صديقي هذا مخبول يغامر بالذهاب إلى أفريقيا دون أن يكترث بخطر انتشار وباء إيبولا، فلفتُّ نظره إلى أنه ذاهب إلى الموت بقدميه، غير أنه قابل تحفظي بضحكة مجلجلة: أنغولا يا صديقي اسم سجن في ولاية لويزيانا، يبعد عن خليج المكسيك شمالاً مسيرة حوالي ساعتين بالسيارة، وقد أطلق عليه هذا الاسم لأن معظم السود الذين استقدموا كعبيد للعمل هذه المنطقة كانوا من أنغولا الأفريقية. حَرَمُ السجن عبارة عن ثمانية عشر هكتاراً من الأرض المنبسطة، تغطيها طبقة من عشب أخضر يانع، وعليها تقوم مرافق السجن من مبانٍ للسجناء، وملاعب رياضية، وورش للحرف اليدوية من نجارة وصياغة، إلى جانب مسرح للنشاطات الفنية بأنواعها كالموسيقى والتمثيل والخطابة، وكذلك مساكن ومرافق لعائلات الموظفين (عدد السجناء حوالي 6300 سجين، وعدد الموظفين حوالي 1800 عنصر، أي بواقع عنصر لكل أربعة سجناء تقريباً)، تحيط بالسجن – كباقي سجون الدنيا - أسلاك شائكة وأبراج عالية للمراقبة ، ويحده نهر الميسيسيبي من جهات ثلاث، أما من الجهة الشرقية فتحده أراضي ولاية الميسيسبي، وقد بدأ استخدام مرافق هذه الأرض كسجن للمحكوم عليهم في هذه الولاية منذ عام 1901، وبعد احتجاجات واسعة على سوء معاملة السجناء، وبحصول السود على حقوقهم المدنية – إذ أن غالبية السجناء منهم - ، تغيرت معاملة إدارة السجن لنزلائه، فبدأت تقيم لهم أنشطة رياضية وفنية ومهنية، وتقدم لهم برامج تعليمية وتربوية، حتى أنه أصبح للسجن الآن قناة تلفزيونية ومحطة إذاعة محلية ومجلة تصدر كل شهرين، جميع تلك الأنشطة يقوم بها السجناء أنفسهم. غير أن اللطيف في الأمر أن سجن أنغولا هذا كان قد بدأ منذ العام 1964، وفي أيام الأحد في شهر أكتوبر من كل سنة، بإقامة واحد من أشهر عروض الروديو في الولايات المتحدة، وهي الرياضة – إن جازت تسميتها رياضة – التي يقوم فيها اللاعبون بامتطاء الخيول والثيران الغير المروضة، وكذلك استعراض مهاراتهم في صيد العجول وتكتيفها، إلى غيرها من مسابقات الفروسية والعروض الهزلية، ويحضر هواة مشاهدة هذه الرياضة من جميع الولايات الأمريكية، وربما من الخارج أيضاً. هنا على مدرج هذه الحلبة أجلس متأملاً سيارة الاسعاف التي تستعد بطاقمها لإسعاف من قد يصيبه مكروه من اللاعبين نتيجة سقوطه عن ظهر حصان أو جرحه بقرن ثور، مع أن اللاعبين يرتدون أثناء قيامهم بالألعاب سترات واقية، وخوذات على الرأس تحميهم من أي أذى قد يصيبهم، والذي إن حصل، فسيتم إسعاف المصاب به خلال لحظات.
لكن الألطف في الموضوع أن معظم المشاركين في هذا النشاط – إن لم يكونوا جميعهم - هم السجناء أنفسهم، وقد ارتدوا بدلات السجن المميزة بخطوطها البيضاء والسوداء، والتي تحمل أسماءهم وأرقامهم على ظهورهم، وبين الجمهور الذي يصل عدده إلى عشرة آلاف متفرج، يجلس أقارب هؤلاء السجناء، يشاهدون أحباءهم من المساجين وهم يلهون ويضحكون أثناء ممارسة هذه الألعاب الممتعة،،، يشجعون أحدهم عندما يمكث فترة طويلة على ظهر ثور أو حصان هائج، أو يهتفون لآخر تمكن من بطح ثور وإمساكه من قرونه، وكذلك التصفيق بحرارة لمن يفشل في محاولته، تشجيعاً له ورفعاً لمعنوياته، وحراس السجن من ضباط وأفراد يمازحون اللاعبين من المساجين ويختلطون بهم اختلاط الصديق بصديقه دون تمييز بين سجين وحارسه،،، هو مهرجان من مشاعر المحبة والتعاطف والإلفة يستدعي دموع الفرح والإعجاب، قل أن ترى نظيراً له في غير هذا المكان. خارج الحلبة وعلى محيطها اصطفت عشرات المطاعم والمحلات التي يقوم بالإشراف عليها السجناء أنفسهم، وفيها يبيعون المأكولات والمشروبات، إلى جانب عدد هائل من المصنوعات الخشبية من كراسٍ وطاولات وقطع أثاث مختلفة، وقطع حلي صنعت من الفضة أو سواها من المعادن، إلى جانب لوحات ورسومات رغم بدائيتها، إلا أنها تعبر عن مكنونات السجناء، خاصة توقهم إلى الحرية وشوقهم إلى الأحبة، وفرق لموسيقى الجاز أو البلوز تعزف وتغني أغانٍ تثير إعجاب الزوار، فيصفقون للفنانين المساجين بحرارة منقطعة النظير،،، جميع هذه المشغولات والمحلات والمهرجانات الموسيقية تتربع على مساحة هائلة من الأرض المحيطة بحلبة الروديو، يتجول فيها الزوار بالآلاف قبل وبعد عرض الروديو، ويدفعون فيها عشرات آلاف الدولارات ثمناً لما قد يشترونه طعام ومشروبات، أو مما صنعه السجناء في الورش الملحقة بالسجن، أما ريع المهرجان (والذي قدر في العام الماضي بأربعمئة وخمسين ألف دولار) فيذهب إلى صندوق تعليم ورعاية السجناء، والإنفاق على تحسين ظروف معيشتهم داخل السجن.
كان واحداً من أجمل الأيام في حياتي، هذا الذي قضيته في ذلك السجن!، ليس لما فيه من بهاء الطقس والاستمتاع بمشاهدة هذا المهرجان الرائع، بل للتعرف على ما يمكن للعقل البشري أن يفعله في سبيل تحسين وتطوير الحياة الإنسانية، خاصة بالنسبة للسجناء، ولا يملك الذهن سوى الشرود إلى الحالة البائسة في سجون البلاد العربية والعالم الثالث، حيث ليست للسجين أية حقوق أو قيمة إنسانية تذكر، ناهيك عن التعذيب لانتزاع الاعترافات، خاصة من المساجين السياسيين، – هذا إن حفظت حياة السجين من الهلاك على أيدي سجانيه -، حيث يعتبر من يدخل تلك السجون مفقوداً، ومن يخرج منها مولوداً.
هناك، في إسبانيا، يفتك المصارع بالثور، فتجر الخيول الثور القتيل خارجها، وهنا في أمريكا، لا تصاب الخيول والثيران بأي أذى، بل يقف رجال الإسعاف على قدم وساق استعداداً لإسعاف أي مصاب،،، حتى ولو كان سجيناً،،، هما عالمان مختلفان: عالم قديم، وعالم جديد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية