الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علمنة القضاء والعدالة

الحايل عبد الفتاح

2014 / 11 / 5
دراسات وابحاث قانونية


عـلــمــنــة القـــضاء والعدالة
لسنا بمقالنا هذا في حاجة لتعريف العلم ولا لتعريف العلوم الحقيقية التجريبية ولا العلوم الإنسانية. كما أننا لسنا بهذا البحث في خضم تبيان الفرق بين العلوم الحقيقية التجريبية والعلوم الإنسانية.
المهم في موضوعنا هو إثارة انتباه بعض رجال القانون إلى ظاهرة مافتئت تتجلى مع مرور الزمان ألا وهي أن العلوم التجريبية أصبحت تغزوا كل الميادين...نذكر من هذه الميادين ميدان القانون والقضاء.
من جهة أخرى، لا ندعي في هذا البحث المستسرع أننا سنحيط بهذه الظاهرة من كل جوانبها ولا ادعاء كل ما يحيط بها من نتائج آنية أو مستقبلية...المهم في موضوعنا هو توضيح التأثير الواضح والمتصاعد الذي تمارسه بعض العلوم التجريبية على العلوم الإنسانية وخاصة علم القانون . وهذا التأثير، بغض النظر عن سلبياته أو إيجابياته، يتجلى في كون القضاء أصبح في بعض الأحيان يحكم وفق معايير ومقاييس وأدلة علمية مستوحاة ومستقاة من العلوم التجريبية.
وقبل أن نفصل القول في ذلك يجب القول بأن الهوة الشاسعة والواسعة بين العلوم الإنسانية والعلوم الحقيقية ظلت قائمة إلى حدود النصف الثاني من القرن العشرين...وأن الإهتمام بالعلوم الإنسانية لما لها من نتائج عملية لم يبدأ إلا مؤخرا نسبيا...
هذه الملاحظات الأولية لن تنسينا أن تطور العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية تختلف من دولة لأخرى ومن شعب لآخر...فالعلوم الإنسانية لدى الغربيين قطعت أشواطا في تطورها بالمقارنة مع نظيراتها في الدول السائرة في طريق النمو...والأهمية التي يعطيها الغرب للعلوم الإنسانية ( علم القانون وعلم الإقتصاد وعلم السياسة وعلم الإجتماع وعلم النفس...) وكذا العلوم التجريبية لا تجد لها نفس المقام والمستوى في دول أخرى وذلك لأسباب متعددة لا مجال لجردها وذكرها في هذا البحث المقتضب...
بعد هذه التوطئة سنحاول ذكر بعض أسباب تخلف العلوم الإنسانية بالمقارنة مع العلوم التجريبية مع سياقة بعض الأمثلة، ثم نتطرق لكيفية تأثر علم القانون بالعلوم التجريبية.
أسباب تخلف العلوم الإنسانية :
إن تقدم العلوم التجريبية بطريقة سريعة بالمقارنة مع للعلوم الإنسانية يعود لعدة أسباب نذكر من أهمها :
أ‌) فالعلوم الإنسانية لم تظهر إلا في القرن 19 ، أما العلوم التجريبية فقد كانت قائمة منذ القدم لدى الفنيقيين والمصريين والإغريقية والرومان ولدى العرب المسلمين القدماء...
ب‌) كما أن سبب تخلف العلوم الإنسانية هو صعوبة تحديد علاقة الذات بالموضوع، خاصة أن الإنسان هو الذات الباحثة وفي الوقت نفسه موضوع البحث...
ت‌) كما أن مجال الحرية في العلوم الإنسانية هو أضيق منه في مجال العلوم التجريبية، لأن رجال الدين والكهنة والحكام كانوا خلال قرون متعددة يرفضون ويمنعون مناقشة مواضيع معينة ماسة بحضوتهم ومكانتهم ومناصبهم...
ث‌) وأن البحث في العلوم الإنسانية لم يحضى باهتمام المسؤولين والقائمين على تسيير الشعوب ...مما أدى إلى عدم تخصيص ميزانية لها أو تخصيصها بصفة ضئيلة...
ج‌) كما أن الناس كانوا يعتقدون بأن العلوم الإنسانية لم تكن في الماضي تفضي لنتائج آنية موحدة تفيد الإنسان في معاشه وحياته اليومية كما هو الحال بالمقارنة مع العلوم التجريبية...
ح‌) كما أن العلوم الإنسانية كانت تفضي لنتائج نسبية تتغير بحسب الموقع الجغرافي والتاريخي، أما العلوم التجريبية فتعطي نتائج ثابتة وقارة وقابلة للتفسير وللتعميم.
ومن ثم ظلت الهوة شاسعة واسعة لعدة قرون بين سرعة تطور المعلومات في العلوم الإنسانية بالمقارنة مع سرعة تطور المعلومات الواردة من العلوم التجريبية...
لكن مند النصف الثاني من القرن العشرين أصبحت الهوة بين العلوم الإنسانية والعلوم الحقيقية التجريبية تتقلص يوما بعد يوم. وأصبحت العلوم الإنسانية تستعمل الكثير من المعايير والمقاييس والمبادئ المستعملة في العلوم الحقيقية والتجريبية...
والسبب في ذلك هو أن بعض الشعوب ( وليس كل الشعوب) منذ أزيد من نصف قرن دخلت مرحلة علمية وعقلية لا مثيل لها في تاريخها، وهي مرحلة أصبح فيها العلم والعقل غازيا لكل ميادين الحياة وبالخصوص العلوم الإنسانية.
فسرعة تراكم المعرفة وتداولها أصبح يفرض نوعا خاصا من التعامل معها...
فإلى عهد قريب كانت العلوم اإنسانية تعتمد في طرق دراستها واستدلالاتها ومناهج بحثها ومستنتجاتها على مبادئ شخصية أو آراء مختلفة وغير قارة ...مثلا في علم النفس والتحليل النفسي كانت آراء علماء النفس وأطباء الأمراض العقلية متضاربة حول تعريف وسبب الحمق أو التخلف العقلي. مثلا، فمنهم من يقول بأنه بلوة جني، والبعض الآخر كان يقول بأنه عضوي وراثي أو أووو...لكن علم النفس الحديث أثبت أن هناك أسبابا كثيرة للحمق (بحسب الحالة المعروضة) نذكر منها : الإنهيار العصبي، المخدرات، حوادث السير المأثرة على طبيعة الدماغ...
لكن كما، قلنا سابق، ففي عصرنا الحالي، فالملاحظ هو أن العلوم الإنسانية أصبحت لها أهمية كبيرة في حياة الناس ( علم النفس وعلم الإجتماع ) وأهمية في طرق إدارة شؤون البلاد وتوزيع خيراتها ( علم القانون وعلم الإقتصاد وعلم الإدارة)...كما أن الشعوب وحكامهم أدركوا الأهمية العملية والتطبيقية للعديد من فروع العلوم الإنسانية المؤدية، مثلا : لتنمية قدرات العقل ولتهذيب الذوق لتكوين المواطن الصالح ولتفادي الأمراض النفسية والجرائم...
ونحن هنا لن نسلط الضوء على كل علم على حدة من العلوم الإنسانية لمعرفة مدى تأثير العلوم التجريبية عليها، بل سنخصص هذا البحث في مدى تأثير العلوم التجريبية في علم القانون وبالخصوص في ميدان القضاء...
تأثر علم القانون بالعلوم التجريبية
فعلا، ففي مادة القانون كعلم من العلوم الإنسانية يلاحظ أن أنها مادة أصبحت تستعمل باستمرار واضطراد مبادئ وقواعد وطرق واستنتاجات علمية تجريبية وعقلية ثابتة تنتهي بأحكام وقرارات مقنعة ومحققة لمستوى عالي من العدالة...
فعلم القانون أصبح منذ القرن الماضي يميل في مبادئه لمناهج البحث المستعملة في العلوم الحقيقية التجريبية...وسنعطي بعض الأمثلة لإثبات هذا التأثير الشديد والمستمر من العلوم التجريبية على القانون بكل فروعه.
تأثير العلوم التجريبية في السلطة التشريعية :
فالمشرع أصبح يعتمد على معطيات علمية لفرض نصوص تشريعية معينة... فعلم الإحصاء يمكن المشرع من تتبع أسباب حوادث الســيــر...فهو بهذا المنظور أصبح يعتمد على عدة علوم إحصائيات، وطبية، وجينية، وبيولوجية...لفرض تجريم أو منع فعل أو تصرف معين...
- مثلا يحدد المشرع نسبة الدبدبات اللإكترمغنطيسية لمنع نوع من الضرر على صحة المواطنين بسبب تثبيت هوائي...فلولا البحث الثقني والتجريبي للدبدبات اللإكترمغنطيسية لما حدد المشرع مستوى معين للمنع أو الإباحة...وهكذا دواليك في حديد نسبة معينة من مادة كميائية معينة في منتوج استلاكي ...لمنع ترويجها أو التعامل بها لأنها تشكل خطرا على الصحة العامة...مثال آخر يتجلى في منع اصطياد نوع معين من الحيوانات للمحافظة عليها من الإنقراض...وذلك بعد ملاحظة ودراسة إحصائيات علمية تجريبية لتقلص في عدد من أنواع الحيوانات...
تأثير العلوم التجريبية في السلطة القضائية :
ففي نظرنا فعمل القاضي مر تاريخيا بأربعة مراحل : مرحلة السلطة التقديرية المطلقة، ومرحلة السلطة التقديرية المبنية على الدين ومرحلة السلطة المبنية على مجرد العقل، وأخيرا السلطة المبنية على العلم...
ولا يهمنافي بحثنا هذا بالنظر لهذه المراحل سوى مرحلة السلطة المبنية على العلم...
- فالقاضي مثلا في ميدان تقويم ما يسمى بالأصل التجاري ( حين الإفراغ أو التفويت) أصبح قائما على قواعد علمية وعقلية تفضي إلى نفس النتائج التي تفضي لها كل القضايا المتعلقة بتقويم الأصل التجاري. فتقويم الأصل التجاري أصبح يعتمد على ثقنية العلوم المحاسبية لتحديد رقم المعاملات والأرباح والخسائر ووو...
- وفي ميدان تحديد التعويض عن الضرر الناتج عن حادثة سير أو مسؤولية تقصيرية أصبحت قياسات ومبادئ تحديد التعويض المستحق للمضرور خاضعا لقواعد علمية وعقلية مستعملة في غالبية العلوم الحقيقية...
- وأنه من المسلمات أن القضايا المتعلقة بالأمراض المهنية تعتمد على التحليل الطبي وخاصة علم الكيمياء والبيوولوجية وعلم العضام ووو كلها علوم أصبحت تفيد القاضي من التيقن من أن مرض شخص سببه العمل بمعمل كربون أو معمل سكر أو معمل بلاستيك أو حديد...أو أو أو
- كما أن القانون الجنائي أصبح يعتمد على عدة علوم حقيقية للبحث في موضوع الجريمة والتجريم وإيقاع العقوبة. فالقانون الجنائي أصبح يعتمد مثلا على علم الجينات في تحديد جينات الجاني والمجني عليه...ففي الميدان الجنائي عامة أصبح إثبات التجريم قائما على أدلة في غالبيتها علمية.. فتطور الجريمة أدى إلى تطور البحث فيها وفي ومرتكبها... وما دامت الجرائم أصبحت ترتكب في غيبة الجاني كما هو الحال عبر استعمال جهاز كمبيوتر أو الهاتف المحمول، فقد ظهرت علوم حسابية وإلكترونية تبين مكان الجاني ووسائل الجريمة ووو...
والقانون الجنائي أصبح يعتمد أيضا على علم البيولوجية...مثلا حين يريد القاضي أن يصل إلى الجاني فهو يطلب من المختص في التحليلات الطبية تحليل نقطة الدم التي وجدت بجانب المجني عليه أو شعيرة من شعر الجاني... فتحليل الدم أو الشعيرة يمكن مثلا من معرفة فصيلتها ومقارنتها بدم أو شعر الضنين أو الأضناء...
- كما أنه في العديد من النزاعات المتعلقة بإثبات النسب في القضايا الشرعية أصبح اللجوء للعلوم الحقيقية وسيلة ومنهجا لفض النزاع. فعلم الجينات أصبح يمكن القاضي من التتبث من نسبة طفل لشخص معين بطريقة يقينية لا مفترضة...فقد كان هذا الموضوع من قبل يعتمد على مجرد تخمينات أو على مجرد مبدأ " الولد للفراش" ...أما الآن فالقاضي مضطر للحكم بما أسفرت عنه التحبليلات الطبية المختبرية...
- وفي القانون العقاري لا يمكن للقاضي أن يقوم بتوزيع "عادل" نسبيا إلا بعد تعيين خبير هندسي يحدد مساحة العقار وإمكانية توزيعه. فالقانون هنا لا يمكن أن يستغني عن علم الهندسة...والقاضي لا يمكنه أن يبث إلا بواسطة عالم هندسة...
والأمثلة كثيرة ومتعددة ولا حصر لها...وما ذكرناه ليس إلا بعض الأمثلة.
فاختصار شديد فالقاضي أصبح يخضع في عمله لرقابة المنطق والعلم التجريبي، وأصبحت وغالبية أحكامه أو قراراته أصبحت مستوحاة من رجل العلم التجريبي...
هكذا أصبحت المعرفة في العديد من العلوم الإنسانية تعتمد على العديد من المعلومات العلمية التجربية والعقلية الثابتة أو ما يعرف لدى محمد أركون ب "العلوم العصرية".
وتبعا لذلك فالقاضي أصبح مفترضا فيه التمكن من معلومات علمية لا فقط قانونية...
وتبعا لهذا المنطق فمن غير المستبعد أن يصبح العلماء savants، في القرون المقبلة، هم رجال القضاء والقانون. وسيصبح القضاة متخصصين في علم معين من العلوم الحقيقية قبل تخصصهم في لم القانون الذي هو علم من العلوم الإنسانية...
ونتيجة ذلك فالقضاة مطالبون بتعلم اللغات الأجنبية للتطلع على ما وصل له العلم والبحث العلمي ليس فقط في مجال علم القانون بل في مجال العلوم التجريبية المرتبطة بتخصصاتهم...
الحايل عبد الفتاح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بسبب خلاف ضريبي.. مساعدات الأمم المتحدة عالقة في جنوب السودا


.. نعمت شفيق.. رئيسة جامعة كولومبيا التي أبلغت الشرطة لاعتقال د




.. في قضية ترحيل النازحين السوريين... لبنان ليس طرفًا في اتفاقي


.. اعتقال مناهضين لحرب إسرائيل على غزة بجامعة جنوب كاليفورنيا




.. بينهم نتنياهو.. مذكرات اعتقال دولية بحق قادة إسرائيل بسبب حر